الأمور ، بل كانت مبنية على الأسباب الحقيقية الواقعة في نفس الأمر ، وذلك لأنّ الظاهر في أموال النّاس ، وفي أرواحهم في المسألة الأولى والثانية من غير سبب ظاهر لا يبيح ذلك التصرف ؛ لأنّ تخريق السفينة تنقيص لملك الغير من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرّف ، والإقدام على قتل الغلام إلحاق بضرر القتل به من غير سبب ظاهر ، والإقدام على إقامة الجدار المائل تحمل للتّعب والمشقّة من غير سبب ظاهر ، فهذه المسائل الثلاثة ليس حكم ذلك العالم فيها مبنيّا على الأسباب الظاهرة ، بل كان مبنيّا على أسباب معتبرة في نفس الأمر ، وهذا يدلّ على أنّ ذلك العالم كان قد آتاه الله قوة عقلية يقدر بها أن يشرف على بواطن الأمور ، ويطّلع بها على حقائق الأشياء ، فكانت مرتبة موسى ـ عليهالسلام ـ في معرفة شرائع الأحكام بناء على الظواهر ، وهذا العالم مرتبته الوقوف على بواطن الأشياء وحقائقها ، فلهذا كانت مرتبته في العلم فوق مرتبة موسى. إذا عرف هذا ؛ فنقول : هذه المسائل الثلاثة مبنية على حرف واحد ، وهو أنه : إذا تعارض ضرران يجب تحمل الأولى ، لدفع الأعلى ، فهذا هو الأصل المعتبر في المسائل الثلاثة ، أمّا الأولى : فلأنّ ذلك العالم علم أنّه لو لم يعب السفينة بالتخريق ، لغصبها ذلك الملك ، وفاتت منافعها بالكلّية على ملّاكها ، فوقع التعارض بين أن يخرقها ويعيبها ، ويبقى مع ذلك العيب على ملّاكها وبين ألّا يخرقها ، فيغصبها الملك ، وتفوت منافعها على ملاكها بالكلّية ، ولا شكّ أن الضرر الأوّل أقلّ ؛ فوجب تحمّله ؛ لدفع الضرر الثاني ؛ لكونه أعظم ضررا.
وأمّا المسألة الثانية فكذلك ؛ لأنّ بقاء ذلك الغلام كان مفسدة للوالدين في دينهم ، وفي أبنائهم ، ولعلّه علم بالوحي أن المضار الناشئة من قتل ذلك الغلام أقل من المضار الناشئة بسبب حصول تلك المفاسد للأبوين ؛ فلهذا السّبب أقدم على قتله.
والمسألة الثالثة ـ أيضا ـ كذلك ؛ لأنّ المشقة الحاصلة بسبب الإقدام على بناء الجدار المائل أسهل من المضارّ الحاصلة بسبب ترك إقامته ، لأنّ ذلك الجدار لو سقط ، لضاع مال أولئك الأيتام ، وفيه ضرر شديد ، فالحاصل أنّ ذلك العالم كان مخصوصا
__________________
ـ يقضي بالظاهر ، وأن أمر السرائر إلى الله ، والظاهر كما قال شيخنا رحمهالله ، أن بعض من لا يميز ظن هذا حديثا آخر منفصلا عن حديث أمّ سلمة فنقله كذلك ثم قلده من بعده ، ولأجل هذا يوجد في كتب كثير من أصحاب الشافعي دون غيرهم ، حتى أورده الرافعي في القضاء ، ثم رأيت في الأم بعد ذلك ، قال الشافعي : روي أنه صلىاللهعليهوسلم ، قال : تولى الله منكم السرائر ، ودرأ عنكم بالبينات ، وكذا قال ابن عبد البر في التمهيد : أجمعوا أن أحكام الدنيا على الظاهر وأن أمر السرائر إلى الله. وأغرب إسماعيل بن علي بن إبراهيم بن أبي القاسم الجنزوي في كتابه إدارة الأحكام ، فقال ـ فيما نقل عنه مغلطاي مما وقف عليه ـ : إن هذا الحديث ورد في قصة الكندي والحضرمي اللذين اختصما في الأرض ؛ فقال المقضي عليه قضيت عليّ والحق لي ، فقال صلىاللهعليهوسلم : إنما أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر ، قال الحافظ ابن حجر : ولم أقف على هذا الكتاب ولا أدري أساق له إسماعيل المذكور إسنادا أم لا. المقاصد [٩٦ ـ ٩٧].