الأول : قطعه بأنّ تلك الأشياء لا تبيد أبدا.
والثاني : إنكار البعث.
فإن قيل : هب أنّه شكّ في القيامة ، فكيف قال : ما أظنّ أن تبيد هذه أبدا ، مع أنّ الحسّ يدلّ على أنّ أحوال الدنيا بأسرها ذاهبة غير باقية؟.
فالجواب : مراده أنّها لا تبيد مدّة حياته ، ثم قال : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) أي مرجعا وعاقبة ، وانتصابه على التّمييز ، ونظيره قوله تعالى : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت : ٥٠].
وقوله : (لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً).
فإن قيل : كيف قال : ولئن رددت إلى ربي وهو ينكر البعث (١)؟.
فالجواب : معناه : ولئن رددت إلى ربّي على زعمك ، يعطيني هنالك خيرا منها.
والسّبب في وقوعه في هذه الشّبهة أنّه تعالى لمّا أعطاه المال والجاه في الدنيا ، ظنّ أنه إنّما أعطاه ذلك ؛ لكونه مستحقّا له ، والاستحقاق باق بعد الموت ؛ فوجب حصول الإعطاء ، والمقدّمة الأولى كاذبة ؛ فإن فتح باب الدنيا على الإنسان ، يكون في أكثر الأمر للاستدراج (٢).
وقرأ (٣) أبو عمرو والكوفيون «منها» بالإفراد ؛ نظرا إلى أقرب مذكور ، وهو قوله : «جنّته» وهي في مصاحف العراق ، دون ميم ، والباقون «منهما» بالتثنية ؛ نظرا إلى الأصل في قوله : «جنّتين» و (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ) ورسمت في مصاحف الحرمين والشّام بالميم ، فكل قد وافق رسم مصحفه.
قوله : (قالَ لَهُ صاحِبُهُ) أي المسلم.
قوله : (وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) أي : خلق أصلك من تراب ، وهذا يدلّ على أنّ الشاكّ في البعث كافر.
ووجه الاستدلال أنّه ، لمّا قدر على [الابتداء](٤) ، وجب أن يقدر على الإعادة.
وأيضا : فإنّه تعالى ، لمّا خلقك هكذا ، فلم يخلقك عبثا ، وإنّما خلقك للعبودية ، وإذا خلقك لهذا المعنى ، وجب أن يحصل للمطيع ثواب ، وللمذنب عقاب ؛ ويدلّ على هذا قوله : (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) أي : هيّأك تهيئة تعقل وتصلح أنت للتكليف ، فهل يحصل للعاقل مع هذه الآية إهمال أمرك؟!.
__________________
(١) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٦٢.
(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٠٧.
(٣) ينظر : السبعة ٣٩٠ ، والتيسير ١٤٣ ، والنشر ٢ / ٣١١ ، والحجة ٤١٧ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٤٤ ، والقرطبي ١٠ / ٢٦٢ ، والبحر ٦ / ١٢٠.
(٤) في أ: البدأة.