أحدها : أنه وقع التحدّي بكلّ القرآن ؛ كما في هذه الآية ، ووقع التحدّي بسورة واحدة ؛ كما في قوله : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) [الطور : ٣٤] فقوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يحتمل أن يكون المراد منه التحدّي ؛ كما شرحناه ، ثم إنهم مع ظهور عجزهم عن جميع هذه المراتب ، صاروا مصرّين على كفرهم.
وثانيها : أن يكون المراد من «من كلّ مثل» : أنّا أخبرناهم بأنّ الذين بقوا مصرّين على الكفر ؛ مثل قوم نوح ، وعاد ، وثمود ـ ابتلاهم الله بأنواع البلاء ـ وشرحنا هذه الطريقة مرارا ـ ثم إنّ هؤلاء الأقوام ـ يعني أهل مكّة ـ لم ينتفعوا بهذا البيان ، بل أصرّوا على الكفر.
وثالثها : أن يكون المراد من «من كلّ مثل» : من كلّ وجه من العبر ، والأحكام ، والوعد ، والوعيد ، وغيرها.
ورابعها : أن يكون المراد ذكر دلائل التوحيد ، ونفي الشركاء في هذا القرآن مرارا كثيرة ، وذكر شبهات منكري النبوّة ، والمعاد ؛ وأجاب عنها ، ثمّ أردفها بذكر الدّلائل القاطعة على صحّة النبوة ، والمعاد ، ثم إنّ هؤلاء الكفّار لم ينتفعوا بسماعها ، بل بقوا مصرّين على الشّرك ، وإنكار النبوّة.
قوله : «إلّا كفورا» مفعول به ، وهو استثناء مفرّغ ؛ لأنّه في قوة : لم يفعلوا إلّا الكفور.
والمعنى : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ) يعني : أهل مكّة ، (إِلَّا كُفُوراً) أي : جحودا للحقّ.
فإن قيل : كيف جاز : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) ولا يجوز أن يقال : ضربت إلا زيدا؟.
فالجواب : إنّ لفظة : «أبى» تفيد النّفي ؛ كأنه قيل : فلم يؤمنوا إلّا كفورا.
قوله : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) الآية.
قرأ الكوفيّون (١) [«تفجر»] بفتح التّاء ، وسكون الفاء ، وضم الجيم خفيفة ، مضارع «فجر» واختاره أبو حاتم ؛ قالوا : لأنّ الينبوع واحد ، والباقون ، بضمّ التّاء ، وفتح الفاء ، وكسر الجيم شديدة ، مضارع «فجّر» للتكثير ، ولم يختلفوا في الثانية : أنّها بالتثقيل ؛ للتصريح بمصدرها ، وقرأ الأعمش «تفجر» بضمّ التاء ، وسكون الفاء ، وكسر الجيم خفيفة ، مضارع «أفجر» بمعنى «فجر» فليس التضعيف ، ولا الهمزة معدّيين.
فمن ثقّل ، أراد كثيرة الانفجار من الينبوع ، وهو وإن كان واحدا ، فلكثرة الانفجار فيه يحسن أن يثقّل ؛ كما تقول : ضرّب زيد ، إذا كثر الضّرب منه ؛ لكثرة فعله ، وإن كان الفاعل واحدا ، ومن خفّف ؛ فلأن الينبوع واحد.
__________________
(١) ينظر : السبعة ٣٨٤ ، والنشر ٢ / ٣٠٨ ، والتيسير ١٤١ ، والإتحاف ٢ / ٢٠٤ ، والحجة ٤٠٩ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١١٨ ، والقرطبي ١٠ / ٢١٤ ، والبحر ٦ / ٧٧ ، والدر المصون ٤ / ٤١٨.