فصل
هذه الآية كما دلّت على وجود الإله العالم القادر الفاعل المختار ، فهي أيضا تدلّ على صحّة البعث والقيامة ؛ لأن الإنسان كان معدوما محضا ، ثمّ أوجده الله ، ثم أعدمه مرّة ثانية ، فدلّ على أنّه لمّا كان معدوما في المرة الأولى ، وكان عوده إلى العدم في المرّة الثانية جائزا ؛ فلذلك لمّا صار موجودا ثم عدم ، وجب أن يكون عوده إلى الوجود في المرّة الثانية جائزا ، وأيضا : كان ميّتا حين كان نطفة ، ثم صار حيّا ، ثمّ مات فلما كان الموت الأوّل جائزا ، كان عود الموت جائزا ؛ وكذلك لمّا كانت الحياة الأولى جائزة ، وجب أن يكون عود الحياة جائزا في المرّة الثانية ، وأيضا الإنسان في أول طفولته جاهل لا يعرف شيئا ، ثم صار عالما عاقلا ، فلما بلغ أرذل العمر ، عاد إلى ما كان عليه في زمان الطفولة ؛ وهو عدم العقل والفهم فعدم العقل والفهم في المرة الأولى عاد بعينه في آخر العمر ، فكذلك العقل الذي حصل ثمّ زال ، وجب أن يكون جائز العود في المرّة الثانية ، وإذا ثبتت هذه الجملة ، ثبت أنّ الذي مات وعدم فإنه يجوز عود وجوده ، وعود حياته ، وعود عقله مرّة أخرى ، ومتى كان الأمر كذلك ، ثبت أن القول بالبعث والحشر والنّشر حقّ.
قوله : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) الآية هذا اعتبار بحال أخرى من أحوال الإنسان ؛ لأنّا نرى أكيس النّاس وأكثرهم عقلا يفني عمره في طلب القدر القليل من الدنيا ولا يتيسّر له ذلك ، ونرى أجلاف النّاس وأقلهم عقلا وفهما ينفتح عليه أبواب الدنيا ، وكلّ شيء خطر بباله أو دار في خياله ، فإنه يحصل له في الحال ، ولو كان السّبب هو جهد الإنسان وعقله ، لوجب أن يكون العاقل أفضل في هذه الأحوال ، فلمّا رأينا أن الأعقل الأفضل أقلّ نصيبا ، والأجهل الأخس أوفر نصيبا ـ علمنا أنّ ذلك بسبب قسمة القسام ؛ كما قال ـ تعالى ـ : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [الزخرف : ٣٢] وهذا التفاوت غير مختصّ بالمال ، بل حاصل في الذّكاء والبلادة ، والحسن والقبح ، والعقل والحمق والصحة والسقم وغير ذلك.
قوله : (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) فيه قولان :
الأول : أنّ المراد من هذا الكلام تقرير ما تقدّم من أن السّعادة والنّحوسة لا يحصلان إلا من الله ـ تعالى ـ ، والمعنى : إنا رزقنا الموالي والمماليك جميعا ، فهم في رزقي سواء ، فلا يحسبنّ الموالي أنّهم يرزقون مماليكهم من عندهم شيئا ، وإنما ذلك رزقي أجريته على أيديهم إلى مماليكهم.
والحاصل : أن الرّزاق هو الله ـ تعالى ـ ، وأن المالك لا يرزق العبد ؛ وتحقيق القول فيه : أنه ربما كان العبد أكمل عقلا ، وأقوى جسما ، وأكثر وقوفا على المصالح والمفاسد من المولى ؛ وذلك يدلّ على أن ذلّة العبد وعزة ذلك المولى من الله ؛ كما قال ـ