والحروف ، وهي مترتبة الأجزاء ، وكل ما هو كذلك فهو حادث على ما سبق ، وحيث إنّ قيام الحوادث بذاته الأقدس لا يجوز فقالوا : إن معنى التكلم إيجاد الكلام ولو في الحجر والشجر والهواء وأمثال ذلك.
والحنابلة والكرَّامية أيضاً قالوا بحدوث الكلام ، إلّا أنّ الحنابلة قالوا بكون الكلام صفة قائمة بذاته مع كونه مركَّباً من الأصوات ، وهي حادثة ؛ لتجويزهم قيام الحوادث بذاته تعالى. والكرّامية أنكروا كبرى القياس (١).
ولعمري إنّ نزاع كون القرآن قديماً أو مخلوقاً كان له أهمية تامة في زمان أوائل الخلفاء العباسية ، وكان هارون الرشيد يرى كونه قديماً غير مخلوق ، ولكن المأمون اعتقد بكونه مخلوقاً ودعى الناس إليه ، حتى أنه أمر بإحضار أحمد بن حنبل من القائلين بالقدم ، وقبل وصوله إليه توفّي المأمون ، وحسب وصيته إلى أخيه المعتصم هو أيضاً دعا الناس إلى القول بمخلوقية القرآن ، وأحضر أحمد بن حنبل ، وعقد مجلساً لمناظرته مع العلماء في هذه المسألة ، ولم يلتزم بالحدوث ، فأمر بحبسه على ما في حياة الحيوان في أحوال المعتصم ، وفيه : إن أحمد في ضمن مذاكراته قال : «لو جئتموني بآية من القرآن لأجبتكم وقلتُ بحدوثه» (٢).
أقول : ومما يقضي منه العجب أن مثل أحمد بن حنبل ـ واحد من الأئمة الأربعة ـ يقنع بآية واحدة في حدوث القرآن ، والعلماء الحاضرون يفتون بقتله تارة وبسوطه اُخرى (٣) ولا يأتون بما رامه! ليتني كنت في هذا المجلس كي أقطع النزاع ، وأحسم مادة الجدل بذكر آية من آيات القرآن في أوائل سورة الشعراء ؛ قال تعالى : (وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَـٰنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (٤).
فإنّ الذكر قد اُطلق في القرآن كثيراً على كلام الله تعالى ؛ قال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (٥) ، وقال : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ) (٦) إلى غير ذلك من الآيات.
__________________
١. البيان في تفسير القرآن ، ص ٤١١ ـ ٤١٥ ؛ المستصفى ، ص ٨٠ ـ ٨١.
٢. حياة الحيوان ، ج ١ ، ص ٧٣ (دار إحياء التراث العربي ـ بيروت).
٣. أي بضربه بالسوط.
٤. سورة الشعراء ، الآيتان ٥ و ٦.
٥. سورة الحجر ، الآية ٩.
٦. سورة الزخرف ، الآية ٤٤.