المادّي في الخارج أوّلا ثمّ يصير متخيّلا ثمّ يصير معقولا ففي المجرّدات على عكس ذلك ـ أي : يعقل ذات المجرّد أوّلا ثمّ يتخيّل ثمّ يصير مرئيا ـ. وكما أنّ المادّي بعد صيرورته معقولا لا يكون قائما بذاته ـ بل يكون قائما بالنفس العاقلة ـ فكذلك المجرّد بعد صيرورته محسوسا لا يكون قائما بذاته ـ بل يكون قائما بالحسّ المشترك ـ ، فالملك المنزل ينزل أوّلا على قلب النبيّ ـ أعني : نفسه الناطقة القدسية ـ ثمّ على خياله ثمّ يدرك بحسّه الظاهر.
وكذلك الحال في كلامه ـ سبحانه ـ ، فانّه يلقي المعاني أوّلا على قلب النبيّ ثمّ تصير متخيلة ثمّ تصير الفاظا مسموعة بالسمع الظاهر ؛ وكلام المخلوق بعكس ذلك ، فانّه يسمع الألفاظ أوّلا بالسمع الظاهر ثمّ تصير متخيّلة ثمّ تصير معانيها معلومة للنفس. وإلى ما ذكرنا يشير ما ذكره الحكماء في القوّة المتخيلة حيث قالوا : « وممّا يتعلّق بهذه القوّة مشاهدة الوحي للأنبياء ـ عليهمالسلام ـ في اليقظة ، فانّهم لقوّة انفسهم وانجذابهم إلى الملكوت وقدرتهم على قوّتي الوهم والخيال يحصل لهم في اليقظة ما يحصل لغيرهم في المنام من ادراك الأمور الغيبية ، فيدركون الشيء بحاله أو بمثاله ويتمثّل لهم شبح حامل الوحى من جبرائيل ـ عليهالسلام ـ أو غيره من الملائكة المقرّبين ، فيشاهدونه ويتمثّل لهم ما يدركونه من المعانى ، فيسمعون منه خطابا بألفاظ مسموعة مقروءة ، وهذه نبوّة مختصّة بالقوّة المتخيّلة ؛ وهاهنا نبوات أخرى متعلقة بالقوة العقلية » ؛ انتهى.
إذا عرفت ذلك فاعلم! : أنّ المراد من المعنى الثاني الّذي ذكره الغزالي لسماع الكلام بلا صوت وحرف ـ أعني : المعنى الّذي هو المقصود بالذات بإلقاء اللفظ الدالّ عليه هو الوحى على ما هو الظاهر ـ ففيه : أنّ الوحي حاصل لجميع الرسل ، فلا وجه لتخصيص موسى ـ عليهالسلام ـ بكونه كليم الله لقضية الطور والشجرة ؛ اللهم إلاّ أن يقال : كلّ رسول كليم الله إلاّ أنّه اطّرد لوجه التسمية وشيوعها.
وهو كما ترى!. مع أنّ المعنى الثاني ـ على ما ذكره ـ هو مجرّد القاء المعاني في الروع من دون حرف وصوت أصلا ، وهو الّذي ذكرنا أنّه يسمّى بالالهام ؛ والوحى ـ على ما ذكره الحكماء ـ لا ينفكّ عن اللفظ والصوت. وإن كان المراد منه مجرّد ما نفهمه من ظاهره ـ أعني : القاء المعاني من دون حصول شروط الوحى فيه وكان الوحى عنده