وثالثها ـ وهو الحقّ المختار ـ : انّ علمه ـ تعالى ـ ليس زمانيا ، فانّه ـ تعالى ـ لتعاليه عن الزمان واحاطته به يكون جميع أجزاء الزمان عنده متساوية ولا يكون بالنسبة إليه قبل وبعد ومقارنة وكان ويكون ؛ قال بعض الفضلاء : قال الحكماء : علمه ـ تعالى ـ ليس زمانيا ـ أي : واقعا في الزمان ـ كعلم أحدنا بالحوادث المختصّة بأزمنة معيّنة ، فانّه واقع في زمان مخصوص ، فما حدث منها في ذلك الزمان كان واقعا في الحال وما حدث قبله أو بعده كان واقعا في الماضي أو المستقبل. وامّا علمه ـ تعالى ـ فلا اختصاص له بزمان أصلا ، فلا يكون ثمّة حال ولا ماض ولا مستقبل ، فانّ هذه صفات عارضة للزمان بالقياس إلى ما يختصّ بجزء منه ـ إذ الحال معناه زمان حكمي هذا والماضي زمان قبل زمان حكمي هذا والمستقبل زمان بعد زمان حكمي هذا ـ ، فمن كان علمه ازليا محيطا بالزمان غير محتاج في وجوده إليه وغير مختصّ بجزء معيّن من أجزائه لا يتصوّر في حقّه حال ولا ماض ولا مستقبل ، فالله ـ سبحانه ـ عالم عندهم بجميع الحوادث الجزئية وأزمنتها الواقعة هي فيها. لا من حيث أنّ بعضها واقع الآن وبعضها في الماضى وبعضها في المستقبل ، بل يعلمها علما شاملا متعاليا منزّها عن الدخول تحت الازمنة ثابتا أبد الدهر.
وتوضيحه : انه ـ تعالى ـ كما لم يكن مكانيا فكان نسبته إلى جميع الامكنة على السواء ـ فليس فيها بالقياس إليه قريب وبعيد ومتوسط ـ ، كذلك لمّا لم يكن هو وصفاته الحقيقية زمانيا لم يتصف الزمان مقيسا إليه بالمضيّ والاستقبال والحضور ، بل كان نسبته إلى جميع الأزمنة على سواء ، فالموجودات من الأزل إلى الأبد معلومة له كلّ في وقته ، وليس في علمه كان وكائن وسيكون ، بل هي حاضرة عنده في أوقاتها. فهو عالم بخصوصيات الجزئيات وأحكامها ، لكن لا من حيث دخول الزمان فيها بحسب / ١٦٩ DA / أوصافها الثلاثة ـ إذ لا تحقّق لها بالنسبة إليه تعالى ـ. ومثل هذا العلم يكون ثابتا مستمرّا لا يتغيّر أصلا كالعلم بالكلّيات.
قال بعض الفضلاء : وهذا معنى قولهم : انّه ـ تعالى ـ يعلم الجزئيات على وجه كلّي لا ما توهّمه بعضهم من أنّ علمه محيط بطبائع الجزئيات وأحكامها دون خصوصياتها وما يتعلّق بها من الأحوال ، كيف وما ذهبوا إليه من أنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول