«مشكورا» :
وقد ألمحنا آنفا إلى أن الله سبحانه قد اعتبر نفس سعي الإنسان في سبيل الخير مهما كان مستوى نتائجه وحجمها ـ اعتبره ـ ذا قيمة على كل حال .. بل هو قد رفع من مستواه إلى حد أنه اعتبره بمثابة هدية له تعالى ، وبلغ الأمر حدا بحيث انفصلت عوائد وفوائد ذلك العمل عن العامل ، ولحقت به تبارك وتعالى ، فاستحق ذلك العامل الشكر بإزاء هذا الذي تخلى عنه ليصبح لغيره ، وهذا الغير هو الله سبحانه ، الغني ، والخالق ، والمالك ..
وهذا غاية التكريم من الله سبحانه لعبده المؤمن ، فإنه ـ وهو المالك ، والمعطي له كل القدرات ، وكل الهدايات ـ قد ملكه عمله ، وجعل نفعه يعود عليه ، ثم أعطاه عليه جزاء ، ثم زاده أن اعتبر نفع ذلك العمل يعود عليه هو سبحانه ، ووعده عليه بالشكر ، بل وشكره عليه بالفعل ، بل كان له منه الشكر الدائم والمستمر ..
وإثبات المشكورية لسعي الأبرار ، يؤكد أن إثبات الجزاء عليه كان بسبب الاستحقاق ، لأن الشكر يتضمن اعتبار سعي الأبرار الذي يفترض كونه لهم ـ اعتباره ـ لغيرهم ، وأنهم قد استحقوا الشكر عليه ، لتخلّيهم عنه لصالح ذلك الغير ، حسبما بيّناه ..
ولكن ذلك كله إنما هو في مقام التصوير ، الذي يسهم في إدراك المقاصد العالية ، وليس على نحو الحقيقة .. ولكن الجزاء والكرامة التي يتجسد معنى الشكر فيها ، هي تلك الحقيقة التي يراد الإرشاد إليها ..
ولا بد أن يدرك الأبرار هذه المعاني ، وأن تكون من أسباب نعيمهم وبهجتهم بهذا الكرم الإلهي الغامر ، وهذا الفضل العميم ..