موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

على اعتبار خصوصية الوضوء في عدم جواز نقض اليقين بالشك ، بل ذكر المتعلق إنّما هو لعدم تمامية الكلام بدونه ، وذكر خصوص الوضوء إنّما هو لكون مورد السؤال والجواب هو الوضوء ، فبعد كون ذكر الوضوء لما ذكرنا لا لاعتبار الخصوصية ، يكون إطلاق قوله عليه‌السلام «ولا ينقض اليقين بالشك» هو المتبع ، فلا اختصاص للاستصحاب بباب الوضوء.

ثانيها : نفس لفظ النقض في قوله عليه‌السلام : «ولا ينقض اليقين بالشك» فانّه يدل على أنّ العبرة باليقين إنّما هو باعتبار أنّ اليقين أمر مبرم مستحكم ، والشك تحير وغير مبرم ، ولا يجوز نقض المبرم بأمر غير مبرم بلا اعتبار خصوصية الوضوء.

ثالثها : قوله عليه‌السلام : «أبداً» فانّه إشارة إلى أنّ عدم جواز نقض اليقين بالشك قاعدة كلّية ارتكازية لا اختصاص لها بموردٍ دون مورد ، وتكون هذه الكلمة في الصحيحة بمنزلة لا ينبغي في روايةٍ اخرى (١) ، كما يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

وربّما يتوهّم أنّ كون هذه القاعدة ارتكازية ينافي ما ذكرنا سابقاً من عدم تحقق السيرة العقلائية على العمل بالاستصحاب ، وأنّ عملهم مبني على الاطمئنان أو الاحتياط أو الغفلة.

وهو مدفوع : بأنّ قاعدة عدم جواز نقض اليقين بالشك قاعدة ارتكازية مسلّمة ، فانّ اليقين والشك بمنزلة طريقين يكون أحدهما مأموناً من الضرر والآخر محتمل الضرر ، فاذا دار الأمر بينهما ، لا إشكال في أنّ المرتكز هو اختيار الطريق المأمون. وما أنكرناه سابقاً إنّما هو تطبيق هذه الكبرى الكلية

__________________

(١) وهي صحيحة زرارة الثانية ويأتي ذكرها في ص ٥٧.

٢١

على الاستصحاب ، لعدم صدق نقض اليقين بالشك عرفاً ، لأنّ اليقين متعلق بالحدوث فقط ، والشك متعلق بالبقاء ، فلم يتعلق اليقين بما تعلق به الشك حتى لا يجوز نقض اليقين بالشك فلا يصدق نقض اليقين بالشك عرفاً.

فتطبيق هذه الكبرى الارتكازية على الاستصحاب إنّما هو بالتعبد الشرعي لأجل هذه الصحيحة وغيرها من الروايات الآتية. ولا مانع من كون الكبرى مسلّمةً ارتكازية مع كون بعض الصغريات غير واضحة ، فان اجتماع الضدّين مما لا إشكال ولا خلاف في كونه محالاً ، مع أنّه وقع الخلاف بينهم في جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد من جهة أنّه هل يكون اجتماعهما من قبيل اجتماع الضدّين أم لا.

فتحصّل مما ذكرنا : أنّ الصحيحة تدل باطلاقها على حجية الاستصحاب مطلقاً ، بلا فرق بين الأحكام الكلّية والجزئية ، والموضوعات الخارجية ، فانّها باطلاقها تدل على عدم جواز نقض اليقين بالشك سواء كان متعلق اليقين هو الحكم الكلّي أو الجزئي ، أو الموضوع الخارجي ، ولا يلزم استعمال اللفظ في معنيين أصلاً. وقد ذكرنا (١) نظير ذلك في حديث الرفع من أنّه باطلاقه شامل للشبهة الحكمية والموضوعية ، ولا يلزم استعمال اللفظ في معنيين على ما نقله الشيخ قدس‌سره (٢) عن بعضهم ، فانّه يدل على أنّ الحكم المجهول مرفوع ، سواء كان سبب الجهل عدم تمامية البيان من قبل الشارع كما في الشبهات الحكمية ، أو كان سبب الجهل هي الامور الخارجية. وما نختاره من عدم حجية الاستصحاب في الأحكام الكلية إنّما هو للمانع الخارجي كما سنتعرّض له (٣) إن

__________________

(١) في الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ٣٠٤.

(٢) نقله الشيخ في ذيل الاستدلال برواية الحِل ، فرائد الاصول ١ : ٣٧٢.

(٣) في ص ٤٢.

٢٢

شاء الله ، لا من جهة عدم شمول الصحيحة له.

ثمّ إنّ الكلام في ذيل هذه الصحيحة يتم ببيان امور :

الأوّل (١) قد أشرنا (٢) إلى الاختلاف في حجية الاستصحاب بين الاثبات مطلقاً ، والنفي مطلقاً ، والتفصيلات الكثيرة التي أطال الكلام في بيانها الشيخ قدس‌سره واختار التفصيل في مقامين الأوّل : التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع. والثاني : التفصيل بين الدليل العقلي والشرعي فيما إذا كان المستصحب حكماً شرعياً ، فأنكر حجية الاستصحاب في الأوّل في المقامين ووافقه المحقق النائيني قدس‌سره (٣) في التفصيل الأوّل دون الثاني.

ونحن نقتصر على التكلم في التفصيلين المذكورين ، والتفصيل بين الحكم الكلّي الإلهي وغيره ـ كما هو المختار ـ وبعض التفصيلات المهمّة ، ونعرض عن كثير من التفصيلات ، لوضوح فسادها ، فنقول : أمّا التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع ، فيقع الكلام فيه [في] مقامين الأوّل : في تعيين مراد الشيخ قدس‌سره من المقتضي. والثاني : في صحة التفصيل المذكور وفساده من حيث الدليل.

أمّا الكلام في تعيين مراد الشيخ قدس‌سره ، ففيه احتمالات :

الأوّل : أن يكون المراد من المقتضي هو المقتضي التكويني الذي يعبّر عنه بالسبب ويكون جزءاً للعلة التامة ، فانّ العلة مركبة في اصطلاحهم من امور ثلاثة : السبب والشرط وعدم المانع. والسبب هو المؤثر ، والشرط عبارة عما

__________________

(١) [لم يتعرض للُامور الاخرى تحت عنوان الثاني والثالث وهكذا].

(٢) في ص ١٠.

(٣) أجود التقريرات ٤ : ٢٩ و ٦٧ ، فوائد الاصول ٤ : ٣٢٠ و ٣٧٢.

٢٣

يكون له دخل في فعلية التأثير وإن لم يكن هو منشأً للأثر ، والمانع عبارة عما يزاحم المؤثر في التأثير ويمنعه عنه ، فالنار سبب للاحراق ، ومماستها شرط لكونها دخيلةً في فعلية الاحراق ، والرطوبة مانعة عنه.

وهذا المعنى ليس مراد الشيخ قدس‌سره قطعاً ، لأنّه قائل بجريان الاستصحاب في العدميات (١) والعدم لا مقتضي له. وأيضاً هو قائل به في الأحكام الشرعية (٢) ، ولا يكون لها مقتضٍ تكويني ، فانّ الأحكام عبارة عن اعتبارات وضعها ورفعها بيد الشارع.

الثاني : أن يكون مراد الشيخ قدس‌سره من المقتضي هو الموضوع ، فانّه ثبت اصطلاح من الفقهاء بالتعبير عن الموضوع بالمقتضي ، وعن كل قيد اعتبر وجوده في الموضوع بالشرط في باب التكليف ، وبالسبب في باب الوضع ، وعن كل قيد اعتبر عدمه في الموضوع بالمانع ، فيقولون إنّ المقتضي لوجوب الحج هو المكلف والاستطاعة شرط لوجوبه ، هذا في باب التكليف. وفي باب الوضع يقولون إنّ البيع وموت المورّث سببٌ للملكية ، وكذا يقولون إنّ الحيض مانع عن وجوب الصلاة ، وتعبيرهم عن القيد الوجودي بالشرط في باب التكليف وبالسبب في باب الوضع مجرد اصطلاح لا نعرف له وجهاً ومأخذاً ، لعدم الفرق بينهما أصلاً كما ترى ، ولا نعرف مبدأ هذا الاصطلاح. وبالجملة : يحتمل أن يكون مراد الشيخ قدس‌سره من المقتضي هو الموضوع ، ففي موارد الشك في وجود الموضوع لا يجري الاستصحاب ، وفي موارد الشك في رافع الحكم مع العلم بوجود الموضوع لا مانع من جريانه.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٥٨٨.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٥٩٥ وما بعدها.

٢٤

ولا يمكن أن يكون هذا المعنى أيضاً مراد الشيخ قدس‌سره لأنّه وإن كان صحيحاً في نفسه ، إذ لا بدّ في جريان الاستصحاب من إحراز الموضوع كما سنذكره (١) إن شاء الله تعالى ، إلاّأ نّه لا يكون تفصيلاً في حجية الاستصحاب ، فان إثبات الحكم لموضوع مع العلم بكونه غير الموضوع الذي كان الحكم ثابتاً له قياس لا تقول به الإمامية ، ومع احتمال كونه غيره احتمال للقياس ، فلا مجال للأخذ بالاستصحاب إلاّمع إحراز الموضوع حتى يصدق في تركه نقض اليقين بالشك ، فانّه إنّما يصدق فيما كانت القضية المتيقنة والمشكوكة متحدة. والشيخ أيضاً يصرّح في مواضع من كلامه بأنّ الاستصحاب لا يجري إلاّمع إحراز الموضوع (٢) ومع ذلك يقول بالتفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع ، فلا يمكن أن يكون مراده من المقتضي هو الموضوع.

الثالث : أن يكون مراده من المقتضي هو ملاكات الأحكام من المصالح والمفاسد ، ففي موارد الشك في بقاء الملاك لا يجري الاستصحاب ، وفي موارد الشك في وجود ما يزاحم الملاك في التأثير المسمى بالرافع لا مانع من جريان الاستصحاب.

ولا يكون هذا المعنى أيضاً مراد الشيخ قدس‌سره لأنّه قائل بالاستصحاب في الموضوعات الخارجية (٣) ، ولا يتصور لها ملاك حتى يقال بالاستصحاب مع العلم ببقائه ، بل هذا المعنى من التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع سدٌّ لباب الاستصحاب ، لعدم العلم ببقاء الملاك لغير علاّم الغيوب إلاّفي بعض

__________________

(١) في التنبيه الخامس عشر من تنبيهات الاستصحاب ص ٢٧١ وما بعدها.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٦٩١.

(٣) فرائد الاصول ٢ : ٥٩٢ ـ ٥٩٤.

٢٥

موارد نادرة لأدلة خاصّة. والشيخ يقول باستصحاب الملكية في المعاطاة بعد رجوع أحد المتعاملين ، ويصرّح بكون الشك فيه شكاً في الرافع (١) ، وينكر الاستصحاب في بقاء الخيار في خيار الغبن لكون الشك فيه شكاً في المقتضي (٢) ، فمن أين علم الشيخ قدس‌سره ببقاء الملاك في الأوّل دون الثاني ، فهذا المعنى ليس مراده قطعاً.

ولعلّ السيد الطباطبائي قدس‌سره حمل المقتضي على هذا المعنى ، حيث ردّ استصحاب الملكية في المعاطاة بأ نّه من موارد الشك في المقتضي لعدم العلم ببقاء الملاك (٣) ، مضافاً إلى أنّ التفصيل بين الشك في المقتضي بمعنى الملاك في الأحكام التكليفية إنّما يتصور على ما هو المشهور من مذهب الامامية من كونها تابعةً للمصالح والمفاسد التي تكون في متعلقاتها ، وأمّا على القول بكونها تابعةً للمصالح التي تكون في نفس الأحكام التكليفية ، كالأحكام الوضعية التي تكون تابعةً للمصلحة في نفس الجعل والاعتبار ، كالملكية والزوجية دون المتعلق ، فلا معنى للتفصيل المذكور ، لأنّ الشك في الحكم يلازم الشك في الملاك بلا فرق بين الأحكام التكليفية والوضعية ، فيكون الشك في الحكم الشرعي شكاً في المقتضي دائماً ولم يبق مورد للشك في الرافع ، فيكون حاصل التفصيل المذكور إنكاراً للاستصحاب في الأحكام الشرعية بقول مطلق.

فتحصّل مما ذكرنا : أنّه ليس مراد الشيخ قدس‌سره من المقتضي هو السبب أو الموضوع أو الملاك على ما توهموه ونسبوه إليه ، ومنشأ الوقوع في

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٥١.

(٢) المكاسب ٥ : ٢١٠.

(٣) لاحظ حاشية المكاسب : ٧٣.

٢٦

هذه الامور توهم أنّ مراد الشيخ قدس‌سره من المقتضي هو المقتضي للمتيقن ، فذكر بعضهم أنّ المراد منه السبب ، وبعضهم أنّ المراد منه الموضوع ، وبعضهم أنّ المراد منه الملاك.

والظاهر أنّ مراد الشيخ قدس‌سره ليس المقتضي للمتيقن ، بل مراده من المقتضي هو المقتضي للجري العملي على طبق المتيقن ، فالمراد من المقتضي نفس المتيقن الذي يقتضي الجري العملي على طبقه ، فحق التعبير أن يقال : الشك من جهة المقتضي لا الشك في المقتضي.

وملخّص الكلام في بيان الميزان الفارق بين موارد الشك في المقتضي والشك في الرافع : أنّ الأشياء تارةً تكون لها قابلية البقاء في عمود الزمان إلى الأبد لو لم يطرأ رافع لها كالملكية والزوجية الدائمة والطهارة والنجاسة ، فانّها باقية ببقاء الدهر ما لم يطرأ رافع لها كالبيع والهبة وموت المالك في الملكية والطلاق في الزوجية ، وكذا الطهارة والنجاسة. فلو كان المتيقن من هذا القبيل ، فهو مقتضٍ للجري العملي على طبقه ما لم يطرأ طارئ ، فاذا شك في بقاء هذا المتيقن ، فلا محالة يكون الشك مستنداً إلى احتمال وجود الرافع له ، وإلاّ كان باقياً دائماً فهذا من موارد الشك في الرافع ، فيكون الاستصحاب فيه حجة.

واخرى لا تكون لها قابلية البقاء بنفسها ، كالزوجية المنقطعة مثلاً ، فانّها منقضية بنفسها بلا استناد إلى الرافع ، فلو كان المتيقن من هذا القبيل وشك في بقائه ، فلا يستند الشك فيه إلى احتمال وجود الرافع ، بل الشك في استعداده للبقاء بنفسه ، فيكون الشك في أنّ هذا المتيقن هل له استعداد البقاء بحيث يقتضي الجري العملي على طبقه أم لا؟ فهذا من موارد الشك في المقتضي فلا يكون الاستصحاب حجةً فيه. وهذا المعنى هو مراد الشيخ قدس‌سره من الشك في المقتضي والشك في الرافع ، ولذا جعل الشك في بقاء الملكية بعد رجوع

٢٧

أحد المتبائعين في المعاطاة من قبيل الشك في الرافع ، فتمسك بالاستصحاب وجعل الشك في بقاء الخيار في الآن الثاني من ظهور الغبن من قبيل الشك في المقتضي لاحتمال كون الخيار مجعولاً في الآن الأوّل فقط ، فلا يكون له استعداد البقاء بنفسه ، فلم يتمسك فيه بالاستصحاب.

وظهر بما ذكرنا من مراد الشيخ من الشك في المقتضي أنّ إشكال السيد الطباطبائي على الشيخ قدس‌سره في التمسك بالاستصحاب في المعاطاة بأنّ الشك فيها من قبيل الشك في المقتضي ، فلا يكون الاستصحاب حجةً فيه على مسلك الشيخ قدس‌سره في غير محلّه ، لأنّ الشك في بقاء الملكية في المعاطاة ليس من قبيل الشك في المقتضي بالمعنى الذي ذكرناه ، وكذا غير المعاطاة من الموارد التي تمسك فيها الشيخ قدس‌سره بالاستصحاب واستشكل عليه السيد قدس‌سره.

ولنذكر لتوضيح المقام أمثلة فنقول : إنّ الأحكام على ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يكون الحكم معلوم الدوام في نفسه لو لم يطرأ رافع له ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب مع الشك في بقاء هذا النوع من الحكم كالشك في بقاء الملكية لاحتمال زوالها بناقل.

الثاني : أن يكون الحكم مغيىً بغاية.

الثالث : أن يكون الحكم مشكوكاً من هذه الجهة ، كما إذا تحققت زوجية بين رجل وامرأة ولم يعلم كونها دائمة أو منقطعة.

أمّا القسم الثالث فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه على مسلك الشيخ قدس‌سره لكون الشك فيه شكاً في المقتضي ، وأمّا القسم الثاني فمع الشك في البقاء قبل تحقق الغاية لاحتمال وجود الرافع يجري الاستصحاب بلا إشكال ،

٢٨

وبعد تحقق الغاية ينقضي بنفسه.

وأمّا إذا شك في تحقق الغاية فتارةً يكون الشك من جهة الشبهة الحكمية ، كما إذا شك في أنّ الغاية لوجوب صلاة المغرب والعشاء مع الغفلة هي نصف الليل أو طلوع الفجر وإن كان عدم جواز التأخير عن نصف الليل مع العمد والالتفات مسلّماً. واخرى يكون الشك من جهة الشبهة المفهومية ، كما إذا شك في أنّ الغروب الذي جعل غايةً لصلاة الظهرين هل هو استتار القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية.

وثالثةً يكون الشك من جهة الشبهة الموضوعية ، كما إذا شك في طلوع الشمس الذي جعل غاية لوجوب صلاة الصبح.

ففي الأوّلين يكون الشك من موارد الشك في المقتضي فلايجري الاستصحاب فيهما ، والثالث وإن لم يكن من الشك في الرافع حقيقةً لأنّ الرافع لا يكون نفس الزمان بل لا بدّ من أن يكون زمانياً وليس في المقام إلاّالزمان ، لكنّه في حكم الشك في الرافع عرفاً ، فيجري فيه الاستصحاب.

فتحصّل مما ذكرنا : أنّ مراد الشيخ قدس‌سره من المقتضي كون الشيء ذا استعداد للبقاء ما لم يطرأ رافع له من الانقلابات الكونية من الوجود إلى العدم أو العكس ، فكلّما شك في بقاء شيء لاحتمال طروء هذه الانقلابات ، فهو شك في الرافع ، وكلّما شك فيه مع العلم بعدم طروء شيء من الأشياء ، فهو شك في المقتضي ، فمسألة انتقاض التيمم بوجدان الماء في أثناء الصلاة من موارد الشك في الرافع ، فانّ الطهارة من الحدث التي تحققت بالتيمم باقية ما لم يطرأ وجدان الماء. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل ، وهو تعيين مراد الشيخ قدس‌سره من المقتضي.

٢٩

الكلام في المقام الثاني ، وهو ذكر الدليل للتفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع في حجية الاستصحاب ، فنقول : الوجه في هذا التفصيل ـ على ما يستفاد من ظاهر كلام الشيخ (١) قدس‌سره كما فهمه صاحب الكفاية (٢) وغيره ـ أنّ المراد من اليقين في قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» هو المتيقن ، ففي موردٍ يكون المتيقن مما له دوام في نفسه يكون أمراً مبرماً مستحكماً ويصح إسناد النقض إليه ، وفي موردٍ لا يكون المتيقن كذلك لا يصح إسناد النقض إليه ، لأنّ النقض حلّ شيء مبرم مستحكم ، كما في قوله تعالى : (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً)(٣) فلا يكون مشمولاً لقوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك».

ويرد عليه : ما في الكفاية من أنّه لا وجه لارتكاب المجاز بارادة المتيقن من لفظ اليقين مع صحة إرادة نفس اليقين وصحة إسناد النقض إليه بما له من الابرام والاستحكام ، ولكن يمكن أن يكون مراد الشيخ قدس‌سره ما نذكره ـ وإن كان ظاهر عبارته قاصراً عنه ـ وهو أنّ المراد من لفظ اليقين هو نفس اليقين لا المتيقن ، لما فيه من الابرام والاستحكام كما في الكفاية ، فانّ اليقين بمعنى الثابت من اليقن بمعنى الثبوت ، فيصح إسناد النقض إليه دون العلم والقطع ، وإن كان الجميع حاكياً عن شيء واحد وهو الصورة الحاصلة من الشيء في النفس ، إلاّأنّ العلم يطلق باعتبار انكشاف هذا الشيء في قبال الجهل ، والقطع يطلق باعتبار الجزم القاطع للتردد والحيرة ، واليقين يطلق باعتبار كون هذا

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٥٧٤ و ٥٧٥.

(٢) كفاية الاصول : ٣٩٠.

(٣) النحل ١٦ : ٩٢.

٣٠

الانكشاف له الثبات والدوام بعد ما لم يكن بهذه المرتبة. ولعلّه لما ذكرنا لايطلق القاطع والمتيقن عليه تعالى لاستحالة الحيرة وعدم ثبات الانكشاف في حقّه تعالى. ويطلق عليه العالم لكون الأشياء مكنشفةً لديه ، فالمراد من اليقين هو نفسه لا المتيقن ، إلاّأنّ إسناد النقض إلى اليقين ليس باعتبار صفة اليقين ولا باعتبار الآثار المترتبة على نفس اليقين.

أمّا الأوّل : فلأنّ اليقين من الصفات الخارجية وقد انتقض بنفس الشك إن اخذ متعلقه مجرداً عن الزمان ، ولا يمكن نقضه إن اخذ مقيداً بالزمان ، فإنّا إذا علمنا بعدالة زيد يوم الجمعة مثلاً ثمّ شككنا في بقائها يوم السبت ، فإن اخذ اليقين بعدالة زيد مجرّداً عن التقييد بيوم الجمعة ، فقد انتقض هذا اليقين بالشك ، فلا معنى للنهي عنه ، وإن اخذ مقيداً بيوم الجمعة فهو باقٍ ، فطلب عدم نقضه طلب للحاصل.

وأمّا الثاني : فلعدم ترتب حكم شرعي على وصف اليقين من حيث هو ، ولو فرض فهو يقين موضوعي خارج من مورد أخبار الاستصحاب ، إذ من المعلوم أنّ موردها القطع الطريقي ، لعدم ترتب الحكم المأخوذ في موضوعه صفة اليقين على الشك قطعاً ، فلا بدّ من أن يكون المراد من عدم نقض اليقين هو ترتيب آثار المتيقن والجري العملي بمقتضاه ، على ما تقدّم (١) في أوّل بحث القطع من أنّه بنفسه طريق إلى المتيقن وموجب للجري العملي وترتيب آثار المتيقن ، فيكون رفع اليد عن ترتيب الآثار على المتيقن نقضاً لليقين وقد نهى الشارع عنه.

هذا فيما إذا كان المتيقن مما له الدوام والثبات في نفسه لولا الرافع ، وأمّا إذالم

__________________

(١) في الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ١٣ ـ ١٦.

٣١

يكن المتيقن بنفسه مقتضياً للجري العملي لاحتمال كونه محدوداً بزمان معيّن ، فلايكون عدم ترتيب الآثار عليه نقضاً لليقين ، فلا يشمله قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» هذا هو الوجه في التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع.

وقد يقال في المقام رداً على الشيخ قدس‌سره في التفصيل المذكور : إنّ دليل الاستصحاب غير منحصر في الأخبار المشتملة على لفظ النقض حتى يختص بالشك في الرافع ، بل هناك خبران آخران لا يشتملان على لفظ النقض ، فيعمّان موارد الشك في المقتضي أيضاً ، الأوّل : رواية عبدالله بن سنان الواردة في من يعير ثوبه للذمي وهو يعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، قال : فهل عليَّ أن أغسله؟ فقال عليه‌السلام : لا ، لأنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنّه نجّسه (١). الثاني : خبر محمّد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام «من كان على يقين فشك فليمض على يقينه فانّ اليقين لا يدفع بالشك» (٢).

والجواب عنهما واضح ، أمّا الأوّل : فمورده هو الشك في الرافع ، لأنّ الطهارة مما له دوام في نفسه لولا الرافع ، فلا وجه للتعدي عنه إلى الشك في المقتضي. وأمّا التعدي عن خصوصية الثوب إلى غيره وعن خصوصية الذمي إلى نجاسة اخرى وعن خصوصية الطهارة المتيقنة إلى غيرها ، فإنّما هو للقطع بعدم دخل هذه الخصوصيات في الحكم ، ولكنّ التعدي عن الشك في الرافع إلى الشك في المقتضي يكون بلا دليل.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٥٢١ / أبواب النجاسات ب ٧٤ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ٢٤٦ و ٢٤٧ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ٦ وفيه : «فانّ الشك لا ينقض اليقين» ومستدرك الوسائل ١ : ٢٢٨ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ٤.

٣٢

وأمّا الثاني : ففيه الأمر بالامضاء وهو مساوق للنهي عن النقض ، لأنّ الامضاء هو الجري فيما له ثبات ودوام ، ويشهد له ما في ذيل الخبر من أنّ اليقين لا يدفع بالشك ، لأنّ الدفع إنّما يكون في شيء يكون له الاقتضاء. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب مراد الشيخ قدس‌سره.

وللنظر فيه مجال واسع ، تارةً بالنقض واخرى بالحل.

أمّا النقض فبامور :

الأوّل : استصحاب عدم النسخ في الحكم الشرعي فانّ الشيخ قائل به (١) ، بل ادعي عليه الاجماع حتى من المنكرين لحجية الاستصحاب ، بل هو من ضرورة الدين على ما ذكره المحدث الاسترابادي (٢) ، مع أنّ الشك فيه من قبيل الشك في المقتضي ، لأنّه لم يحرز فيه من الأوّل جعل الحكم مستمراً أو محدوداً إلى غاية ، فانّ النسخ في الحقيقة انتهاء أمد الحكم ، وإلاّ لزم البداء المستحيل في حقّه تعالى.

الثاني : الاستصحاب في الموضوعات ، فانّه قائل به مفصّلاً بين الشك في المقتضي والشك في الرافع كما ذكره في أوّل تنبيهات الاستصحاب (٣) ومثَّل للشك في الرافع بالشك في كون الحدث أكبر أو أصغر ، فتوضأ فيكون الشك شكاً في الرافع ، فيجري استصحاب الحدث. ومثَّل للشك في المقتضي بالشك في كون حيوان من جنس الحيوان الفلاني الذي يعيش خمسين سنة أو من جنس الحيوان الفلاني الذي يموت بعد ثلاثة أيّام مثلاً ، مع أنّه يلزم من تفصيله عدم

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٥٥.

(٢) الفوائد المدنية : ١٤٣.

(٣) لاحظ فرائد الاصول ٢ : ٦٣٨.

٣٣

حجية الاستصحاب في الموضوعات كحياة زيد وعدالة عمرو مثلاً ، فان إحراز استعداد أفراد الموضوعات الخارجية مما لا سبيل لنا إليه ، وإن اخذ مقدار استعداد الموضوع المشكوك بقاؤه من استعداد الجنس البعيد أو القريب ، فتكون أنواعه مختلفة الاستعداد ، وكيف يمكن إحراز مقدار استعداد الانسان من استعداد الجسم المطلق أو الحيوان مثلاً ، وإن اخذ من الصنف فأفراده مختلفة باعتبار الأمزجة والأمكنة وسائر جهات الاختلاف ، فيلزم الهرج والمرج. وهذا هو الاشكال الذي أورده (١) على المحقق القمي بعينه ، وحاصله عدم جريان الاستصحاب في الموضوعات لكون الشك فيها شكاً في المقتضي ، لعدم إحراز الاستعداد فيها.

الثالث : استصحاب عدم الغاية ولو من جهة الشبهة الموضوعية ، كما إذا شك في ظهور هلال شوال أو في طلوع الشمس ، فانّ الشك فيه من قبيل الشك في المقتضي ، لأنّ الشك ـ في ظهور هلال شوال ـ في الحقيقة شكٌ في أنّ شهر رمضان كان تسعة وعشرين يوماً أو لا ، فلم يحرز المقتضي من أوّل الأمر ، وكذا الشك في طلوع الشمس شك في أنّ ما بين الطلوعين ساعة ونصف حتى تنقضي بنفسها أو أكثر فلم يحرز المقتضي ، مع أنّ الشيخ قائل بجريان الاستصحاب فيه (٢) ، بل الاستصحاب مع الشك في هلال شوال منصوص بناءً على دلالة قوله عليه‌السلام : «صُم للرؤية وأفطر للرؤية» (٣) على الاستصحاب.

وأمّا الحل : فبيانه أنّه إن لوحظ متعلق اليقين والشك بالنظر الدقي ، فلا

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٤٠.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٦٤٥.

(٣) الوسائل ١٠ : ٢٥٥ و ٢٥٦ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٣ ح ١٣.

٣٤

يصدق نقض اليقين بالشك حتى في موارد الشك في الرافع ، لأن متعلق اليقين إنّما هو حدوث الشيء والمشكوك هو بقاؤه ، لأنّه مع وحدة زمان المتيقن والمشكوك لا يمكن أن يكون متعلق الشك هو متعلق اليقين ، إلاّبنحو الشك الساري الذي هو خارج عن محل الكلام ، فبعد كون متعلق الشك غير متعلق اليقين لا يكون عدم ترتيب الأثر على المشكوك نقضاً لليقين بالشك ، ففي مثل الملكية وغيرها من أمثلة الشك في الرافع متعلق اليقين هو حدوث الملكية ، ولا يقين ببقائها بعد رجوع أحد المتبائعين في المعاطاة ، فعدم ترتيب آثار الملكية بعد رجوع أحدهما لا يكون نقضاً لليقين بالشك ، وهكذا سائر أمثلة الشك في الرافع.

وإن لوحظ متعلق اليقين والشك بالنظر المسامحي العرفي وإلغاء خصوصية الزمان بالتعبد الشرعي على ما أشرنا إليه سابقاً (١) من أنّ تطبيق نقض اليقين بالشك على مورد الاستصحاب إنّما هو بالتعبد الشرعي ، وإن كان أصل القاعدة من ارتكازيات العقلاء ، فيصدق نقض اليقين بالشك حتى في موارد الشك في المقتضي ، فانّ خيار الغبن كان متيقناً حين ظهور الغبن وهو متعلق الشك بعد إلغاء الخصوصية ، فعدم ترتيب الأثر عليه في ظرف الشك نقض لليقين بالشك ، وحيث إنّ الصحيح هو الثاني لأن متعلق اليقين والشك ملحوظ بنظر العرف ، والخصوصية من حيث الزمان ملغاة بالتعبد الشرعي ، فتستفاد من قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» حجية الاستصحاب مطلقاً ، بلا فرق بين موارد الشك في المقتضي وموارد الشك في الرافع. هذا ملخّص الكلام في التفصيل الأوّل الذي اختاره الشيخ قدس‌سره تبعاً للمحقق الخوانساري

__________________

(١) في ص ٢٢.

٣٥

(قدس‌سره) (١).

وأمّا التفصيل الثاني : الذي تفرَّد به الشيخ (٢) قدس‌سره فهو التفصيل بين الحكم الثابت بالدليل الشرعي كالكتاب والسنّة والاجماع ، والحكم الثابت بالدليل العقلي ، فأنكر حجية الاستصحاب في الثاني. والوجه في هذا التفصيل ـ على ما ذكره الشيخ قدس‌سره بتوضيح منّا ـ أنّه لا بدّ في جريان الاستصحاب من اتحاد الموضوع في القضيتين ، فانّه لولا اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة ، لا يصدق نقض اليقين بالشك ، وحيث إنّه مع بقاء الموضوع بجميع خصوصياته وعدم عروض التغير فيه أصلاً لا يمكن عروض الشك في الحكم ، فلا بدّ من حدوث تغير ما بحيث يوجب الشك في الحكم ، فانّه مع بقاء التغير في الماء المتنجس بالتغير وعدم حدوث شيء يحتمل كونه مطهراً له كتتميمه كراً لا يمكن الشك في طهارته ، وهذا التغير الذي أوجب الشك في الحكم تارةً يوجب تعدد الموضوع في القضية المتيقنة والمشكوكة ، فلا يجري الاستصحاب فيه ، واخرى لا يوجبه ، فلا مانع من جريانه.

فإن كان الحكم ثابتاً بالدليل الشرعي ، فالمرجع في اتحاد الموضوع في القضيتين وصدق نقض اليقين بالشك هو العرف. ففي موردٍ حكم العرف بتعدد الموضوع لا يصدق نقض اليقين بالشك ، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه ، وفي موردٍ حكم العرف بوحدة الموضوع في القضيتين وصدق النقض يجري فيه الاستصحاب ، ونظر العرف في ذلك مختلف ، فربّما يحكم بكون وصفٍ تمام

__________________

(١) مشارق الشموس : ٧٥ ـ ٧٧.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٥٥٤ ، راجع أيضاً التنبيه الثالث من تنبيهات الاستصحاب ص ٦٥٠.

٣٦

الموضوع للحكم وإن لم يوجد في الخارج إلاّفي الموصوف ، فبعد زواله لا يمكن جريان الاستصحاب ، كما في العدالة التي هي الموضوع لقبول الشهادة ، والاجتهاد الذي هو الموضوع لجواز التقليد ، فلو كان زيد عادلاً ثمّ صار فاسقاً لا يمكن جريان الاستصحاب في قبول شهادته ، لأنّ العرف يرى العدالة تمام الموضوع لقبول الشهادة ، والفسق موضوع آخر في نظرهم ، فعدم ترتيب هذا الأثر ـ أي قبول الشهادة ـ لا يكون نقضاً لليقين بالشك ، وكذا الاجتهاد بالنسبة إلى جواز التقليد ، فالوصف تمام الموضوع للحكم في نظر العرف وإن لم يوجد في الخارج إلاّمتعلقاً بموصوف.

وإن شئت قلت : إنّ الوصف بالنسبة إلى ثبوت الحكم للموصوف من قبيل الواسطة في العروض ، ففي الحقيقة نفس الوصف موضوع للحكم ، ولأجله يعرض الحكم للموصوف بالعرض. وقد يحكم العرف بأنّ الوصف دخيل في ثبوت الحكم للموصوف ويكون الموصوف هو الموضوع فالوصف من قبيل الواسطة في الثبوت كالتغير للماء ، فانّه واسطة لثبوت النجاسة للماء والموضوع هو الماء لا التغير ، فانّه يقال في العرف إنّ الماء تنجس لتغيره ، ولا يقال إنّ المتغير تنجس. ففي مثل ذلك لا إشكال في جريان الاستصحاب فيحكم بنجاسة الماء بعد زوال التغير.

وقد يشك في كون الوصف من القسم الأوّل لئلاّ يجري الاستصحاب أو من القسم الثاني ليجري الاستصحاب ، كما في المسافر الذي كان مسافراً في أوّل الوقت وبلغ إلى وطنه آخره ، فمع قطع النظر عن النصوص الواردة في المقام نشك في أنّ الواجب عليه التمام أو القصر ، فيحتمل كون وصف السفر تمام الموضوع لوجوب القصر ، فلا يجري الاستصحاب ، وكونه من قبيل الواسطة في الثبوت لوجوب القصر فيستصحب وجوبه. ففي مثل ذلك لا يمكن جريان

٣٧

الاستصحاب أيضاً ، لعدم إحراز صدق النقض فيه ، فيكون التمسك بقوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية. هذا كلّه فيما إذا ثبت الحكم بالدليل الشرعي.

وأمّا إذا ثبت الحكم بالدليل العقلي والعقل لا يحكم بحكم للموضوع المهمل ، لأنّ الاهمال في مقام الثبوت لا يتصور من الحاكم ، فلا بدّ في حكم العقل من إدراك الموضوع بجميع قيوده ، فلا يحكم العقل بحكم إلاّللموضوع المقيد بقيود لها دخل في الحكم ، فمع عدم انتفاء شيء من هذه القيود لايمكن الشك في الحكم ، ومع انتفاء أحدها ينتفي الحكم العقلي يقيناً. والمفروض أنّ الحكم الشرعي في المقام مستفاد من الحكم العقلي بقاعدة الملازمة ، فبانتفاء الحكم العقلي ينتفي الحكم الشرعي لا محالة ، فلا يبقى لنا شك في بقاء الحكم الشرعي حتى نرجع إلى الاستصحاب ، بل هو مقطوع العدم. نعم ، يحتمل ثبوت الحكم الشرعي للموضوع المذكور بعد انتفاء أحد القيود بجعل جديد من الشارع ، لكنّه شك في حدوث الحكم لا في بقائه ، ومجرى الاستصحاب إنّما هو الشك في البقاء لا الشك في الحدوث ، وجريان الاستصحاب ـ في الحكم الشرعي الأعم من الحادث والباقي ـ متوقف على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلّي الذي لا نقول به. هذا توضيح مرام الشيخ في هذا التفصيل.

فتحصّل : أن إنكاره جريان الاستصحاب في الحكم الثابت بالدليل العقلي مبتنٍ على مقدّمتين : الاولى : أنّ الاهمال في حكم العقل لا يتصور. والثانية : أنّ حكم الشارع تابع له وينتفي بانتفائه. وقد أورد المحقق النائيني (١) قدس‌سره عليه في المقدمة الاولى مرّةً ، وفي المقدمة الثانية اخرى ، واكتفى صاحب

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢٠ و ١١٤ ، فوائد الاصول ٤ : ٣٢٠ و ٤٤٩.

٣٨

الكفاية (١) قدس‌سره بالايراد على الثانية.

أمّا إشكاله على المقدمة الاولى : فهو أن حكم العقل على قسمين : الأوّل : أن يحكم على نحو القضية الشرطية ذات المفهوم ، بأن يحكم بثبوت الحكم للموضوع مع وجود القيد ، وبعدمه مع انتفاء القيد. والثاني : أن يحكم بحكم لموضوع من باب القدر المتيقن فليس له مفهوم حينئذ ، فيحكم بثبوت حكم لموضوع مع اجتماع قيوده ، ولا يحكم بعدم الحكم مع انتفاء أحدها ، لاحتمال بقاء الملاك ، فلا إهمال في حكم العقل بحسب مقام الاثبات لادراكه وجود الملاك ، إنّما الاهمال بحسب مقام الثبوت لعدم إحاطته بجميع ما له دخل في الحكم ، فحيث لا يحكم العقل بعدم الحكم مع انتفاء أحد القيود ، يحتمل بقاء الحكم الشرعي ، فيكون مورداً لجريان الاستصحاب. هذا ملخص الاشكال على المقدمة الاولى.

أقول : إن كان مراد الشيخ قدس‌سره من الحكم العقلي المستفاد منه الحكم الشرعي حكم العقل بوجود الملاك ، بأن كان مراده أنّ العقل إذا حكم بوجود الملاك في موضوع ـ أي المصلحة الملزمة غير المزاحمة بشيء من الموانع ، أو المفسدة كذلك ـ فلا محالة يترتب عليه الحكم الشرعي على ما هو المشهور من مذهب العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، فبعد إدراك العقل وجود الملاك يترتب الحكم الشرعي ، لكون الصغرى وجدانية والكبرى برهانية ، فيقال هذا الشيء مما له المصلحة الملزمة ، وكلّما كان كذلك فهو واجب.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٨٦.

٣٩

فما أورده المحقق النائيني قدس‌سره عليه حق لا مجال لانكاره ، لامكان أن يحكم العقل بوجود الملاك من باب القدر المتيقن ، فبعد انتفاء أحد القيود لا يحكم العقل بانتفاء الحكم ، لاحتمال بقاء الملاك ، فيكون مورداً للاستصحاب ، إلاّ أنّ هذا مجرد فرض ، لأنّا لم نجد إلى الآن مورداً حكم فيه العقل بوجود الملاك ، وأنى للعقل هذا الادراك ، وقد ذكرنا في بحث القطع (١) أنّ الأخبار الدالة على أنّ دين الله لا يصاب بالعقول وأ نّه ليس شيء أبعد عن دين الله من عقول الرجال ، ناظرة إلى هذا المعنى ، وهو استكشاف الحكم الشرعي من حكم العقل بوجود الملاك ، وإن كان الحكم الشرعي مترتباً لا محالة لو فرض القطع بوجود الملاك بادراك العقل ، لكنّه مجرد فرض كما ذكرنا.

وإن كان مراد الشيخ قدس‌سره من الحكم العقلي المستكشف به الحكم الشرعي حكمه بالحسن أو القبح على ما هو محل الخلاف ، فذهب الأشاعرة إلى أنّ الحسن والقبح بيد الشارع ، فما حسّنه فهو حسن ، وما قبّحه فهو قبيح ، ولا سبيل للعقل إلى إدراك الحسن والقبح أبداً ، وذهب أهل الحق والمعتزلة إلى أنّ العقل يدرك الحسن والقبح ، فيرى الظلم قبيحاً ولو لم يكن شرع ، والعدل حسناً كذلك حتى بالنسبة إلى أفعال الله سبحانه ، فيرى العقل أنّ الظلم قبيح لا يصدر منه تعالى وأنّ العدل حسن لا يتركه ، فكما أنّ العقل يدرك الواقعيات ويسمى عند أهل المعقول بالعقل النظري ، فكذلك يدرك ما يتعلق بالنظام من قبح الظلم وحسن العدل ويسمى بالعقل العملي ، فلا يرد عليه إشكال المحقق النائيني ، لأن حكم العقل بالحسن أو القبح لا يمكن أن يكون مهملاً ، فانّ العقل لا يحكم بحسن شيء إلاّمع تشخيصه بجميع قيوده ، وكذلك القبح. والظاهر أنّ مراد

__________________

(١) راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ٥٩.

٤٠