موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

حينئذ هو العمل بالعام ، لكونه دليلاً اجتهادياً ، والاستصحاب أصلاً عملياً ، فتكون النتيجة تقديم النسخ على التخصيص.

والانصاف عدم ورود هذا الاشكال على صاحب الكفاية قدس‌سره لما ذكرناه في البحث عن استصحاب بقاء أحكام الشرائع السابقة (١) من أنّ النسخ الحقيقي في الأحكام الشرعية غير متصور ، لاستلزامه البداء المستحيل في حقه تعالى ، فالشك في النسخ راجع إلى الشك في تخصيص الحكم المجعول من جهة الزمان ، فلا مانع من التمسك باطلاق دليله ، بلا احتياج إلى الاستصحاب ، إذ الدليل يثبت الحكم للطبيعة ، فيشمل أفرادها العرضية والطولية ، وليس استمرار الحكم إلاّعبارة عن ثبوته للأفراد الطولية للطبيعة.

نعم ، يرد عليه إشكال آخر ، وهو أن شمول الحكم للأفراد الطولية إنّما هو بالاطلاق المتوقف على جريان مقدمات الحكمة ، وشمول العام لجميع الأفراد إنّما هو بالوضع ، وقد تقدّم (٢) أنّه إذا دار الأمر بين العموم والاطلاق يقدّم العموم على الاطلاق ، ولازمه في المقام تقديم النسخ على التخصيص.

وذكر المحقق النائيني (٣) قدس‌سره وجهاً آخر لتقديم التخصيص على النسخ ، وهو أن دلالة ألفاظ العموم على شمول الحكم لجميع الأفراد متوقفة على جريان مقدمات الحكمة في مدخولها ، والخاص مانع عنها لكونه بياناً.

وهذا الكلام مأخوذ مما ذكره صاحب الكفاية في بحث العام والخاص (٤) من أن

__________________

(١) راجع ص ١٧٥.

(٢) في ص ٤٥٣.

(٣) أجود التقريرات ٤ : ٢٩٤ ، راجع أيضاً فوائد الاصول ٤ : ٧٣٨ و ٧٤٠.

(٤) كفاية الاصول : ٢١٧.

٤٦١

لفظ كل في قولنا : أكرم كل عالم مثلاً ، لا يدل على شمول الحكم لجميع أفراد العالم إلاّبجريان مقدمات الحكمة في مدخوله ، فانّ كلمة «كل» إنّما تفيد شمول الحكم لجميع أفراد ما اريد من المدخول ، فإن كان المراد منه في المثال خصوص العالم العادل ، فلا يدل لفظ الكل إلاّعلى شمول الحكم لجميع أفراد العالم العادل ، وإن كان المراد منه هو العالم باطلاقه ، فيدل لفظ «كل» على ثبوت الحكم لجميع أفراد العالم مطلقاً.

ويرد عليه ما ذكرناه في ذلك البحث (١) من أن ألفاظ العموم بنفسها متكفلة لبيان شمول الحكم لجميع الأفراد بلا احتياج إلى جريان مقدمات الحكمة ، فان كلمة «كل» بوضعها تدل على سريان الحكم لجميع أفراد مدخولها ، فمفاد قولنا : أكرم كل عالم ، هو وجوب إكرام جميع أفراد العالم من العادل وغيره ، بلا احتياج إلى مقدمات الحكمة.

والمتحصّل مما ذكرناه : أنّ جميع الوجوه التي ذكروها لتقديم التخصيص على النسخ غير تام.

والصحيح في وجهه أمران :

الأوّل : أنّ الخاص المقدّم على العام على ما هو محل الكلام مانع عن انعقاد الظهور للعام من أوّل الأمر ، فيكون الخاص بياناً للمراد من العام بحسب فهم العرف ، فانّه إذا قال المولى : لا تكرم زيداً ثمّ قال : أكرم العلماء ، يكون قوله : لا تكرم زيداً قرينةً على المراد من قوله : أكرم العلماء ، ومانعاً من انعقاد ظهوره بالنسبة إلى زيد من أوّل الأمر ، وليس فيه إلاّتقديم البيان على وقت الحاجة

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٣٠٥ وما بعدها.

٤٦٢

ولا قبح فيه أصلاً ، بخلاف تأخيره عنه ، فانّه محل خلاف بينهم ، ولذا اختلفوا فيما إذا ورد الخاص بعد العام فذهب بعضهم إلى كونه مخصصاً مطلقاً ، واختار آخرون كونه مخصصاً إن كان وروده قبل وقت العمل ، وناسخاً إن كان بعده لقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة.

الثاني : وهو الأوضح من سابقه ، أنّ كون العام ناسخاً متوقف على دلالته على ثبوت حكمه من حين وروده ، إذ لو دل على ثبوته في أوّل الاسلام لا يكون ناسخاً البتة ، فلا يحتمل النسخ في الأخبار التي بأيدينا الواردة عن الأئمة المعصومين عليهم‌السلام لأن ظاهرها بيان الأحكام التي كانت مجعولة في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ الأئمة عليهم‌السلام مبيّنون لتلك الأحكام لا مشرّعون ، إلاّأن تنصب قرينة على أنّ هذا الحكم مجعول من الآن ، فاذا ورد عن الباقر عليه‌السلام : أنّ الطحال مثلاً حرام ، وورد عن الصادق عليه‌السلام : أنّ جميع أجزاء الذبيحة حلال ، لا يحتمل كونه ناسخاً للخاص المتقدم ، لأن ظاهره أن أجزاء الذبيحة حلال في دين الاسلام من زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا أنّها حلال من الآن ليكون ناسخاً لما ورد عن الباقر عليه‌السلام. ولا فرق في ذلك بين الخاص والعام ، فلا يحتمل النسخ في الخاص الوارد بعد العام ، لعين ما ذكرناه في العام الوارد بعد الخاص.

وبالجملة : الحكم المذكور في الأخبار المروية عن الأئمة عليهم‌السلام مقدّم بحسب مقام الثبوت وإن كان مؤخراً بحسب مقام الاثبات ، فتكون الأحكام الصادرة عن الأئمة سابقهم ولاحقهم عليهم‌السلام بمنزلة الأحكام الصادرة عن شخص واحد ، فلا يكون الحكم الصادر عن اللاحق ناسخاً لما صدر عن السابق ، لكون الجميع حاكياً عن ثبوت الحكم في زمان النبي (صلّى

٤٦٣

الله عليه وآله). نعم ، لو ورد خاص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ ورد عام منه صلى‌الله‌عليه‌وآله يحتمل كونه ناسخاً للخاص ، لكنّه لم يتحقق. ولعله لما ذكرناه من عدم احتمال النسخ في الأخبار المروية عن الأئمة عليهم‌السلام لم يلتزم أحد من الفقهاء فيما نعلم بكون العام فيها ناسخاً للخاص أو الخاص فيها ناسخاً للعام ، هذا تمام الكلام في التعارض بين الدليلين.

[انقلاب النسبة]

أمّا إذا وقع التعارض بين أكثر من دليلين ، فهل تلاحظ الظهورات الأوّلية ، أو لا بدّ من ملاحظة الاثنين منها ، وعلاج التعارض بينهما ، ثمّ تلاحظ النسبة بين أحدهما والثالث المعارض له ، فقد تنقلب النسبة من العموم من وجه إلى العموم المطلق ، أو بالعكس على ما سيذكر إن شاء الله تعالى؟ اختار الشيخ (١) وصاحب الكفاية (٢) قدس‌سره عدم انقلاب النسبة ، وأ نّه يلاحظ التعارض باعتبار الظهورات الأوّلية ، بدعوى أنّه لا وجه لسبق ملاحظة أحد الدليلين مع الآخر على الثالث.

ولكنّ الصحيح هو انقلاب النسبة ، وتحقيق هذا البحث يقتضي ذكر مقدمتين :

المقدمة الاولى : أنّ لكل لفظ دلالات ثلاث :

الدلالة الاولى : كون اللفظ موجباً لانتقال الذهن إلى المعنى ، وهذه الدلالة لا تتوقف على إرادة اللافظ ، بل اللفظ بنفسه يوجب انتقال الذهن إلى المعنى

__________________

(١) لاحظ فرائد الاصول ٢.

(٢) كفايه الاصول ٤٥٢.

٤٦٤

ولو مع العلم بعدم إرادة المتكلم ، كما إذا كان نائماً أو سكراناً ، أو نصب قرينةً على إرادة غير هذا المعنى ، كما في قولنا : رأيت أسداً يرمي ، فانّ ذهن المخاطب ينتقل إلى الحيوان المفترس بمجرد سماع كلمة الأسد ، وإن كان يعلم أنّ مراد المتكلم هو الرجل الشجاع ، بل هذه الدلالة لا تحتاج إلى متكلم ذي إدراك وشعور ، فانّ اللفظ الصادر من غير لافظ شاعر أيضاً يوجب انتقال الذهن إلى المعنى.

وبالجملة : هذه الدلالة بعد العلم بالوضع غير منفكة عن اللفظ أبداً ، ولا تحتاج إلى شيء من الأشياء ، وهي التي تسمى عند القوم بالدلالة الوضعية ، باعتبار أنّ الوضع عبارة عن جعل العلقة بين اللفظ والمعنى ، بأن ينتقل الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ ، وإن كان المختار كون الدلالة الوضعية غيرها ، فانّ هذه الدلالة لا تكون غرضاً من الوضع لتكون وضعية.

والأنسب تسميتها بالدلالة الانسية ، فانّ منشأها انس الذهن بالمعنى لكثرة استعمال اللفظ فيه لا الوضع ، لما ذكرناه في محلّه (١) : من أنّ الوضع عبارة عن تعهد الواضع والتزامه بأ نّه متى تكلم باللفظ الخاص فهو يريد المعنى الفلاني ، وعليه فلا يكون خطوره إلى الذهن عند سماعه من غير شاعر مستنداً إلى تعهده بل إلى انس الذهن به ، وقد تقدم الكلام في تحقيقها في بحث الوضع.

الدلالة الثانية : دلالة اللفظ على كون المعنى مراداً للمتكلم بالارادة الاستعمالية ، أي دلالة اللفظ على أنّ المتكلم أراد تفهيم هذا المعنى واستعمله فيه ، وهذه الدلالة تسمّى عند القوم بالدلالة التصديقية ، وعندنا بالدلالة الوضعية كما عرفت.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٤٨ وما بعدها.

٤٦٥

وكيف كان ، فهذه الدلالة تحتاج إلى إحراز كون المتكلم بصدد التفهيم ومريداً له ، فمع الشك فيه ليست للفظ هذه الدلالة ، فضلاً عما إذا علم بعدم الارادة له ، كما إذا علم كونه نائماً ، بل هذه الدلالة متوقفة على عدم نصب قرينة على الخلاف متصلة بالكلام ، إذ مع ذكر كلمة «يرمي» في قوله : رأيت أسداً يرمي مثلاً ، لا تكون كلمة أسد دالةً على أنّ المتكلم أراد تفهيم الحيوان المفترس كما هو ظاهر.

الدلالة الثالثة : دلالة اللفظ على كون المعنى مراداً للمتكلم بالارادة الجدية ، وهي التي تسمى عندنا بالدلالة التصديقية ، وقسم آخر من الدلالة التصديقية عند القوم. وهي موضوع الحجية ببناء العقلاء المعبّر عنها بأصالة الجد تارةً وأصالة الجهة اخرى. وهذه الدلالة متوقفة ـ مضافاً إلى عدم نصب قرينة متصلة ـ على عدم قيام قرينة منفصلة على الخلاف أيضاً ، فانّ القرينة المنفصلة وإن لم تكن مانعة عن تعلق الارادة الاستعمالية كالقرينة المتصلة ، إلاّأ نّها كاشفة عن عدم تعلق الارادة الجدية ، فكما أنّ الاستثناء في قوله : أكرم العلماء إلاّالفساق قرينة على عدم كون المولى بصدد تفهيم جميع الأفراد في هذا الاستعمال ، فكذا قوله : لا تكرم العالم الفاسق كاشف عن عدم تعلق الارادة الجدية من المولى باكرام جميع أفراد العلماء في قوله : أكرم العلماء. وبالجملة : هذه الدلالة متوقفة على عدم نصب القرينة المتصلة والمنفصلة.

المقدمة الثانية : أنّ التعارض بين دليلين لا يتحقق إلاّباعتبار كون كل منهما حجة ودليلاً في نفسه لولا المعارضة ، إذ لا معنى لوقوع التعارض بين ما هو حجة وما ليس بحجة.

وبضم هذه المقدمة إلى المقدمة الاولى يستنتج صحة القول بانقلاب النسبة ، فانّه إذا قام دليل عام ثمّ ورد دليل مخصص لذلك العام ، وقام دليل آخر

٤٦٦

معارض للعام ، فلا بدّ من ملاحظة النسبة بين العام ومعارضه بعد إخراج ما يشمله المخصص ، لأنّ العام لا يكون حجةً بالنسبة إلى ما خرج منه بالمخصص ، فالتصديق بانقلاب النسبة لا يحتاج إلى أزيد من تصوره ، وحيث إنّ بحث انقلاب النسبة كثير الابتلاء في الفقه ، لأنّ التعارض في كثير من أبواب الفقه بين أكثر من دليلين ، فلا بدّ لنا من التعرض لصور انقلاب النسبة ، وتمييزها عن الصور التي لا تنقلب النسبة فيها ، فنقول :

التعارض بين أكثر من دليلين على أنواع :

النوع الأوّل : ما إذا قام دليل عام ومخصصان منفصلان. وهذا النوع يتصور بصور ثلاث : لأنّ النسبة بين المخصصين إمّا أن تكون هي التباين ، أو العموم من وجه ، أو العموم المطلق. مثال الصورة الاولى : قوله تعالى : (... وَحَرَّمَ الرِّبا ...)(١) بملاحظة ما يدل على أنّه لا ربا بين الوالد والولد ، وما يدل على أنّه لا ربا بين الزوج وزوجته ، وكذا بين السيد ومملوكه (٢). ومثال الصورة الثانية : ما إذا قال المولى : أكرم العلماء ثمّ قال : لا تكرم العالم الفاسق ، وقال أيضاً : لا تكرم العالم الشاعر. ومثال الصورة الثالثة : ما إذا قال المولى : أكرم العلماء ثمّ قال : لا تكرم العالم العاصي لله سبحانه ، وقال أيضاً : لا تكرم العالم المرتكب للكبائر.

أمّا الصورة الاولى : فلا إشكال في وجوب تخصيص العام بكلا المخصصين فيها ، بلا فرق بين القول بانقلاب النسبة والقول بعدمه ، إذ لا يفترق الحال بين لحاظ العام مع كلا المخصصين في عرض واحد ، وبين لحاظه مع أحدهما بعد

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٣٥ ـ ١٣٦ / أبواب الربا ب ٧.

٤٦٧

لحاظه مع الآخر ، لأن نسبة العام إلى كل من المخصصين هي العموم المطلق على كل تقدير ، فيجب تخصيص العام بكلا المخصصين ، والحكم بعدم حرمة الربا بين الوالد وولده ، وبين الزوج وزوجته ، وبين السيد ومملوكه.

هذا فيما إذالم يستلزم تخصيص العام بكليهما التخصيص المستهجن ، أو بقاء العام بلا مورد. وأمّا إذا استلزم ذلك كما إذا قام دليل على استحباب إكرام العلماء ، وقام دليل على وجوب إكرام العالم العادل ، وقام دليل آخر على حرمة إكرام العالم الفاسق ، فانّه إن خصصنا دليل الاستحباب بكلٍ من دليلي الوجوب والحرمة ، يبقى دليل الاستحباب بلا مورد على القول بعدم الواسطة بين العدالة والفسق ، بأن تكون العدالة عبارة عن ترك الكبائر ، ويلزم حمله على الفرد النادر على القول بثبوت الواسطة بينهما ، بأن تكون العدالة عبارة عن الملكة ، فمن لم يرتكب الكبائر ولم تحصل له الملكة ـ كما قد يتفق للانسان في أوّل بلوغه ـ فهو لا يكون عادلاً ولا فاسقاً.

فلا يمكن الالتزام بتخصيص العام بكل من المخصصين في مثل ذلك ، بل يقع التعارض بين العام والمخصصين ، للعلم بكذب أحد هذه الأدلة الثلاثة ، فلا بدّ من الرجوع إلى المرجحات السندية ، ولا يخلو الأمر من صور ست :

١ ـ أن يكون العام راجحاً على كلا الخاصين.

٢ ـ أن يكون مرجوحاً بالنسبة إلى كليهما.

٣ ـ أن يكون مساوياً لكليهما.

٤ ـ أن يكون راجحاً على أحدهما ومساوياً للآخر.

٥ ـ أن يكون مرجوحاً بالنسبة إلى أحدهما ومساوياً للآخر.

٦ ـ أن يكون راجحاً على أحدهما ومرجوحاً بالنسبة إلى الآخر.

٤٦٨

أمّا إن كان العام مرجوحاً بالنسبة إلى كلا الخاصين ، فلا إشكال في طرحه والعمل بهما.

وأمّا إن كان راجحاً على كليهما فالمعروف بينهم طرحهما لوقوع التعارض بين العام ومجموع الخاصين ، وحيث إنّ العام أرجح من كليهما فيجب طرحهما والأخذ بالعام ، ولكنّه غير صحيح ، لعدم وقوع التعارض بين العام ومجموع الخاصين فقط ، بل التعارض إنّما هو بين أحد هذه الثلاثة وبين الآخرين ، لأنّ المعلوم إنّما هو كذب أحدها لا غير ، فبعد الأخذ بالعام لرجحانه على كلا الخاصين ، لا وجه لطرحهما معاً ، لانحصار العلم بكذب أحدهما ، فيقع التعارض العرضي بينهما.

فان كان أحد الخاصين راجحاً على الآخر ، يجب الأخذ بالراجح وطرح المرجوح.

وإن كانا متساويين ، يجب الأخذ بأحدهما تخييراً وطرح الآخر ، فتكون النتيجة هو الأخذ بالعام وبأحد الخاصين تعييناً أو تخييراً ، وطرح الخاص الآخر لا طرح كلا الخاصين.

ولا يخفى أنّ ما ذكرناه ـ من التخيير في هذا الفرض وما سنذكره في الفروض الآتية ـ مبني على تمامية الأخبار الدالة على التخيير ، وأمّا بناءً على عدم تماميتها كما سنذكره (١) إن شاء الله تعالى ، فالمتعيّن طرح كلا المتعارضين والرجوع إلى الاصول العملية.

وأمّا إن كان العام راجحاً على أحد الخاصين ومساوياً للآخر ، وجب الأخذ

__________________

(١) في ص ٥٠٨ ـ ٥١٢.

٤٦٩

بالعام والخاص المساوي ، وطرح الخاص المرجوح ، وظهر وجهه ما ذكرناه. وظهر الحكم أيضاً فيما إذا كان العام مرجوحاً بالنسبة إلى أحدهما ومساوياً للآخر ، فانّه يجب الأخذ بالخاص الراجح ، ويتخير بين الأخذ بالعام والأخذ بالخاص المساوي له.

وأمّا إن كان العام راجحاً على أحدهما ومرجوحاً بالنسبة إلى الآخر ، فالمكلف مخير بين الأخذ بالعام وطرح كلا الخاصين ، وبين الأخذ بكلا الخاصين وطرح العام على ما ذكره صاحب الكفاية (١) قدس‌سره لأنّ التعارض إنّما هو بين العام ومجموع الخاصين ، وبعد كون أحد الخاصين راجحاً على العام والآخر مرجوحاً ، تكون النتيجة بعد الكسر والانكسار تساوي العام مع مجموع الخاصين ، فيكون المكلف مخيراً بين الأخذ بالعام وطرح كلا الخاصين ، وبين الأخذ بكلا الخاصين وطرح العام ، انتهى ملخّصاً.

وظهر فساده مما ذكرناه آنفاً من عدم المعارضة بين العام ومجموع الخاصين ، لعدم العلم الاجمالي بكذب العام أو مجموع الخاصين ، بل العلم إنّما هو بكذب أحد هذه الثلاثة ، فلا بدّ من الأخذ بالعام والخاص الراجح وطرح الخاص المرجوح.

وظهر بما ذكرناه أيضاً حكم ما إذا كان العام مساوياً لكلا الخاصين ، فانّه بعد العلم بكذب أحد الثلاثة وعدم الترجيح بينها ، يتخير بين طرح العام والأخذ بكلا الخاصين ، والأخذ بالعام مع أحد الخاصين وطرح الخاص الآخر.

وظهر مما ذكرناه حكم التعارض بالعرض إذا كان بين أكثر من دليلين ، كما

__________________

(١) ذكر قدس‌سره ذلك في حاشية الفرائد : ٤٦٦.

٤٧٠

إذا دل دليل على وجوب شيء ، ودل دليل على حرمة شيء آخر ، ودل دليل ثالث على استحباب شيء ثالث ، وعلمنا من الخارج بكذب أحد هذه الأدلة الثلاثة ، فتجري الصور السابقة بعينها ويعلم حكمها مما تقدم ، فلا حاجة إلى الاعادة ، ومجمل القول أنّه يطرح أحد هذه الأدلة الثلاثة على التعيين أو التخيير ، ويؤخذ بالآخرين ، هذا كله حكم الصورة الاولى.

وأمّا الصورة الثانية : وهي ما إذا كانت النسبة بين الخاصين العموم من وجه ، كما إذا قال المولى : أكرم العلماء ثمّ قال : لا تكرم العالم الفاسق ، وقال أيضاً : لا تكرم العالم الشاعر ، فالحكم في هذه الصورة هو ما ذكرناه في الصورة السابقة ، من تخصيص العام بكلا المخصصين إذالم يستلزم التخصيص المستهجن وبقاء العام بلا مورد ، كما في المثال المذكور فانّه بعد إخراج العالم الفاسق والعالم الشاعر من عموم دليل وجوب إكرام العلماء ، تبقى تحت العام أفراد كثيرة.

وأمّا إذا استلزم أحد المحذورين المذكورين ، فيقع التعارض لا محالة ، فتتصور بالصور السابقة ، ويعرف حكمها مما تقدم بلا حاجة إلى الاعادة.

وربّما يتوهّم في المقام انقلاب النسبة ، وعدم جواز تخصيص العام بكلا المخصصين ـ ولو لم يكن فيه محذور ـ فيما إذا تقدم أحد الخاصين زماناً على الآخر ، كما إذا صدر العام من أمير المؤمنين عليه‌السلام وأحد الخاصين من الباقر عليه‌السلام والخاص الآخر من الصادق عليه‌السلام فانّه يخصص العام بالخاص الصادر من الباقر عليه‌السلام أوّلاً إذ به يكشف عدم تعلق الارادة الجدية من لفظ العام بالمقدار المشمول له ، فلا يكون العام حجةً بالنسبة إليه ، ثمّ تلاحظ النسبة بين العام والخاص الصادر من الصادق عليه‌السلام وهي العموم من وجه حينئذ ، ففي المثال المذكور ـ بعد خروج العالم الفاسق من قوله : أكرم العلماء ـ يكون المراد منه العلماء العدول ، والنسبة بينهم وبين العالم

٤٧١

الشاعر هي العموم من وجه ، لاجتماعهما في العالم العادل الشاعر ، وافتراقهما في العالم العادل غير الشاعر ، والعالم الشاعر غير العادل. وهذا هو الفارق بين هذه الصورة والصورة الاولى ، فانّ النسبة بين العام وأحد الخاصين بعد تخصيص العام بالخاص الآخر هي النسبة بينهما قبله في الصورة الاولى ، فلا تنقلب النسبة أصلاً ، بخلاف الصورة الثانية كما عرفت.

وهذا التوهّم مدفوع بما ذكرناه سابقاً (١) من أنّ الأئمة عليهم‌السلام كلهم بمنزلة متكلم واحد ، فانّهم يخبرون عن الأحكام المجعولة في الشريعة المقدسة في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولهذا يخصص العام الصادر من أحدهم بالخاص الصادر من الآخر منهم عليهم‌السلام فانّه لولا أنّ كلهم بمنزلة متكلم واحد لا وجه لتخصيص العام في كلام أحدٍ بالخاص الصادر من شخص آخر ، فاذن يكون الخاص الصادر من الصادق عليه‌السلام مقارناً مع العام الصادر من أمير المؤمنين عليه‌السلام بحسب مقام الثبوت ، وإن كان متأخراً عنه بحسب مقام الاثبات. وكذا الخاص الصادر من الباقر عليه‌السلام فكما أنّ الخاص المقدّم زماناً يكشف عن عدم تعلق الارادة الجدية من لفظ العام بالمقدار المشمول له ، كذلك الخاص المتأخر أيضاً يكشف عن عدم تعلق الارادة الجدية من لفظ العام بالمقدار الذي يكون مشمولاً له ، وكلاهما في مرتبة واحدة.

ويتضح ما ذكرناه بالمراجعة إلى الأوامر العرفية ، فانّه لو صدر من المولى عام وخاصان في زمان واحد مع كون النسبة بين الخاصين عموماً من وجه ، فأرسل الخاصين إلى العبد في زمان واحد بتوسط شخصين ، فوصل أحدهما إلى العبد قبل وصول الآخر ، لا يكون وصول أحدهما قبل الآخر موجباً

__________________

(١) في ص ٤٦٣.

٤٧٢

لانقلاب النسبة بين العام والخاص المتأخر ، مع صدورهما من المولى في رتبة واحدة ، بل لا بدّ من تخصيص العام بكليهما ، كما هو واضح.

وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما إذا كانت النسبة بين الخاصين العموم المطلق ، فهل يجب تخصيص العام بالأخص أوّلاً ثمّ ملاحظة النسبة بين العام والخاص ، فتنقلب النسبة من العموم المطلق إلى العموم من وجه ، أو يخصص العام بكلا الخاصين؟

الظاهر هو الثاني ، إذ بعد فرض كون نسبة الخاصين إلى العام على حد سواء ، لا وجه لتخصيص العام بأحدهما أوّلاً ثمّ ملاحظة النسبة بين العام والخاص الآخر. ولا منافاة بين الخاص والأخص حتى يتقيد الأوّل بالثاني.

فاذا ورد في رواية أنّه يجب إكرام العلماء ، وفي رواية اخرى أنّه لا يجوز إكرام العالم العاصي ، وفي رواية ثالثة أنّه لا يجوز إكرام العالم المرتكب للكبائر ، يخصص العام بكلا المخصصين ، ويحكم بحرمة إكرام خصوص العالم المرتكب للكبائر ، وحرمة إكرام العالم العاصي بقولٍ مطلق. ولا منافاة بين حرمة إكرام خصوص العالم المرتكب للكبائر وحرمة إكرام مطلق العالم العاصي حتى يقيّد العالم العاصي بالمرتكب للكبائر ، فان توهم المنافاة بينهما مبني على المفهوم ، وقد ذكرنا في محلّه (١) عدم حجية مفهوم الوصف واللقب.

وتوهم لغوية تخصيص العام بالأخص في عرض تخصيص العام بالخاص ـ فانّ تخصيص قوله يجب إكرام العلماء بقوله : لا يجوز إكرام العالم العاصي يغني عن تخصيصه بقوله : لا يجوز إكرام العالم المرتكب للكبائر ـ مدفوع بأ نّه يمكن أن يكون تخصيص العام بالأخص مع تخصيصه بالخاص لغرض من الأغراض ،

__________________

(١) لاحظ محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٢٧٨ ـ ٢٨١.

٤٧٣

كما إذا كان السؤال عن الأخص ، أو كان محل الحاجة ، أو لأجل الأهمية ، أو لكونه الغالب ، أو غير ذلك من الأغراض الموجبة لذكر الأخص فقط ، وقد ورد في الروايات ما يدل على عدم جواز الصلاة خلف شارب الخمر (١) ، وورد أيضاً ما يدل على عدم جواز الصلاة خلف الفاسق (٢) ، فقوله عليه‌السلام : «لا تصلّ خلف الفاسق» لا يوجب لغوية قوله عليه‌السلام : «لاتصل خلف شارب الخمر» ولا منافاة بينهما ، غاية الأمر أنّه يكون تخصيص شارب الخمر بالذكر في قوله : «لا تصلّ خلف شارب الخمر» لغرض من الأغراض ، فكذا في المقام. هذا كله فيما إذا كان كلا الخاصين منفصلاً عن العام.

وأمّا إذا كان الأخص منهما متصلاً بالعام ، كما إذا ورد في رواية أنّه يجب إكرام العلماء إلاّالعالم المرتكب للكبائر ، وفي رواية اخرى أنّه يحرم إكرام العالم العاصي ، فتكون النسبة بين العام المخصص بالمتصل والخاص المنفصل العموم من وجه ، فان اتصال الأخص بالعام كاشف عن عدم تعلق الارادة الاستعمالية بالنسبة إلى ما يشمله الأخص ، فلا ينعقد للعام ظهور بالنسبة إليه من أوّل الأمر ، فتكون النسبة بين العام والخاص المنفصل العموم من وجه ، لاجتماعهما في العالم العاصي غير المرتكب للكبائر ، وافتراقهما في العالم العادل والعالم المرتكب للكبائر ، فتقع المعارضة بينهما في مادة الاجتماع ، ويعامل معهما معاملة المتعارضين ، وهذا هو الفارق بين المخصص المتصل والمخصص المنفصل.

بقي شيء : وهو أنّه بعد ما عرفت أنّ الحكم فيما إذا كان كلا الخاصين منفصلاً عن العام عدم انقلاب النسبة وتخصيص العام بكليهما ، وفيما إذا كان أخص الخاصين متصلاً بالعام هو انقلاب النسبة ، لو فرض وجود عام لم يتصل به

__________________

(١) ، (٢) راجع الوسائل ٨ : ٣١٣ / أبواب صلاة الجماعة ب ١١.

٤٧٤

مخصص أصلاً وعام آخر اتصل به أخص الخاصين ، كما إذا ورد في رواية أنّه يجب إكرام العلماء ، وفي رواية اخرى أنّه يجب إكرام العلماء إلاّالعالم المرتكب للكبائر ، وفي ثالثة أنّه يحرم إكرام العالم العاصي ، فهل يعامل معاملة المخصص المنفصل وتخصيص العام بكلا المخصصين باعتبار انفصالهما عن العام الأوّل ، أو يعامل معاملة المخصص المتصل باعتبار اتصال أخص الخاصين بالعام الثاني ، فيخصص العام الأوّل بالمخصص المتصل بالعام الثاني ، ثمّ تلاحظ النسبة بينه وبين المخصص المنفصل ، وهي العموم من وجه ، فتقع المعارضة بينهما في مادة الاجتماع ، فيعامل معهما معاملة المتعارضين؟

اختار المحقق النائيني قدس‌سره (١) الثاني ، لوجهين :

الوجه الأوّل : أنّ العام الأوّل قد تخصص بالمخصص المتصل بالعام الثاني يقيناً ، لعدم المعارضة بين الخاصين بالنسبة إلى المقدار المشمول للأخص منهما ، فيكون مفاد العام الأوّل عين مفاد العام الثاني المتصل به أخص الخاصين ، ومن الظاهر أنّ النسبة بينه وبين الخاص الآخر المنفصل العموم من وجه.

الوجه الثاني : أنّ الخاص المنفصل بنفسه مبتلىً بالمعارض وهو العام الثاني المتصل به أصل الخاصين ، فلا يكون صالحاً لتخصيص العام الأوّل ، انتهى ملخص كلامه قدس‌سره.

أقول : أمّا الوجه الأوّل ، فقد ظهر ما فيه مما تقدم من أنّه لا وجه لتخصيص العام بأحد المخصصين أوّلاً ثمّ ملاحظة النسبة بينه وبين الخاص الآخر على ما تقدم. وأمّا الوجه الثاني فهو وإن كان صحيحاً ، إلاّأ نّه لا ينتج التعارض بين العام الأوّل والخاص المنفصل ، فانّه بعد ابتلاء الخاص المنفصل

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ، فوائد الاصول ٤ : ٧٤٤ ـ ٧٤٥.

٤٧٥

بالمعارض ، لا بدّ من معالجة التعارض بينهما ثمّ ملاحظة العام الأوّل ، فان قلنا بالتساقط ، فلا مانع من الرجوع إلى العام ، وإن قلنا بالرجوع إلى المرجحات وإلى التخيير مع فقدها ، فان أخذنا بالعام المتصل به أخص الخاصين للترجيح أو التخيير ، يطرح الخاص المنفصل ، فيبقى العام الأوّل بلا معارض أيضاً. وإن أخذنا بالخاص المنفصل للترجيح أو التخيير ، يخصص به العام الأوّل ، لكونه أخص مطلقاً بالنسبة إليه ، فلا يكون بين العام الأوّل والمخصص المنفصل تعارض على كل حال.

ثمّ إنّه لا بأس بالاشارة إلى الجمع بين الأدلة الواردة في ضمان العارية ، فنقول : الأخبار الواردة في ذلك الباب على طوائف :

منها : ما يدل على نفي الضمان في العارية بقول مطلق (١).

ومنها : ما يدل على نفي الضمان مع عدم الاشتراط ، وإثباته معه (٢).

ومنها : ما يدل على نفي الضمان في غير عارية الدراهم ، وإثباته فيها (٣).

ومنها : ما يدل على نفي الضمان في غير عارية الدنانير وإثباته فيها (٤).

ومنها : ما يدل على نفي الضمان في غير عارية الذهب والفضة وإثباته في عاريتهما (٥).

أمّا ما يدل على ثبوت الضمان مع الاشتراط ، فنسبته مع سائر المخصصات العموم من وجه ، إذ ربّما يكون الاشتراط في غير عارية الدرهم والدينار ، وربّما

__________________

(١) الوسائل ١٩ : ٩٢ / كتاب العارية ب ١ ح ٣ وغيره.

(٢) الوسائل ١٩ : ٩١ / كتاب العارية ب ١ ح ١.

(٣) ، (٤) ، (٥) الوسائل ١٩ : ٩٦ و ٩٧ / كتاب العارية ب ٣ [والأحاديث الواردة في الباب مصرِّحة بضمان المذكورات إشترط أو لم يشترط].

٤٧٦

يكون الاشتراط في عاريتهما ، وربّما تكون عارية الدرهم أو الدينار بلا اشتراط. وكذا الحال بالنسبة إلى ما يدل على الضمان في عارية الذهب والفضة ، فانّ النسبة بينه وبين ما يدل على الضمان مع الاشتراط أيضاً العموم من وجه ، فمقتضى القاعدة هو تخصيص العام بجميع هذه المخصصات ، لما ذكرناه سابقاً (١) : من أنّه إذا كانت النسبة بين المخصصات العموم من وجه ، يخصص العام بجميعها.

وأمّا ما يدل على نفي الضمان في غير عارية الدرهم وإثباته فيها ، وما يدل على نفي الضمان في غير عارية الدينار وإثباته فيها ، فهما بمنزلة رواية واحدة دالة على نفي الضمان في غير عارية الدرهم والدينار وإثباته في عاريتهما ، إذ الأوّل منهما يدل على نفي الضمان في عارية الدنانير بالاطلاق ، وعلى إثباته في عارية الدرهم بالتصريح ، والثاني منهما يدل على نفي الضمان في عارية الدرهم بالاطلاق ، وعلى إثباته في عارية الدينار بالتصريح ، وبين إطلاق السلب في كل منهما والايجاب في الآخر جمع عرفي بتقييد إطلاق السلب في كل منهما بالايجاب في الآخر ، فيجمع بينهما على النحو المزبور. ويصير حاصل مضمونهما نفي الضمان في غير عارية الدرهم والدينار وإثباته في عاريتهما ، وتقع المعارضة بينهما وبين ما يدل على نفي الضمان في غير عارية الذهب والفضة وإثباته في عاريتهما ، أي العقد السلبي من الروايتين معارض بالايجاب فيما يدل على نفي الضمان في غير عارية الذهب والفضة وإثباته في عاريتهما ، والنسبة بينهما هي العموم من وجه ، لاختصاص العقد السلبي منهما بنفي الضمان في مثل عارية الكتب ، واختصاص الايجاب في هذه الرواية باثبات الضمان في عارية الدرهم والدينار ، ويجتمعان في

__________________

(١) في ص ٤٧١.

٤٧٧

عارية الذهب والفضة غير المسكوكين كالحلي ، ومقتضى القاعدة تساقطهما فيه والرجوع إلى العام الفوق الذي يدل على نفي الضمان بقول مطلق ، إلاّأنّ في المقام خصوصية تقتضي تقديم الايجاب في هذه الرواية على السلب فيهما.

بيان ذلك : أنّه سيجيء ـ عند التكلم عن المرجحات (١) ـ أنّه إذا كان تقييد أحد المتعارضين بالعموم من وجه في مادة الاجتماع مستلزماً لاستهجانه دون العكس ، تقدم الآخر حذراً من الاستهجان ، والمقام كذلك فانّ حمل ما يدل على ثبوت الضمان في عارية الذهب والفضة على خصوص الدرهم والدينار حمل للمطلق على الفرد النادر ، فانّ استعارة الدرهم والدينار نادر جداً لو لم يكن منتفياً رأساً ، لأن استيفاء المنفعة المقصودة منهما غالباً لا يمكن إلاّ بالتصرف في عينهما ، والمعتبر في العارية إمكان الانتفاع مع بقاء العين كما هو الحال في الوقف ، ومن ثمّ ذهب بعض إلى عدم صحة وقفهما ، وهذا بخلاف مثل الحلي فانّ عاريته أمر متعارف ، فاذن يؤخذ بايجاب ما يدل على ثبوت الضمان في عارية الذهب والفضة ، ويخصص به العام الفوق وهو ما يدل على عدم الضمان بقول مطلق ، ويحكم بالضمان في مطلق الذهب والفضة.

النوع الثاني من التعارض بين أكثر من دليلين : ما إذا وقع التعارض بين عامين من وجه مع ورود مخصص ما. وهذا النوع أيضاً يتصور على صور ثلاث :

الصورة الاولى : ما إذا وقع التعارض بين عامين من وجه وورد مخصص على مورد الاجتماع. ولا محالة يكون المخصص المذكور أخص مطلقاً بالنسبة إلى كلا المتعارضين فيقدّم عليهما ، وبه يرتفع التعارض ، مثلاً إذا دلّ دليل على

__________________

(١) [لم نعثر عليه].

٤٧٨

وجوب إكرام العلماء ، ودل دليل آخر على حرمة إكرام الفساق ، ودل دليل ثالث على كراهة إكرام العالم الفاسق ، فيقع التعارض بين الأوّلين في مادة الاجتماع ، وهو العالم الفاسق ، والثالث أخص منهما فيقدّم عليهما ، وبتقدمه يرتفع التعارض ، وتصير النتيجة وجوب إكرام العالم العادل ، وكراهة إكرام العالم الفاسق ، وحرمة إكرام الفاسق الجاهل.

الصورة الثانية : ما إذا وقع التعارض بين عامين من وجه ، وورد مخصص على أحدهما ـ أي على مورد الافتراق من أحدهما ـ فيقدّم الخاص على العام ، فتنقلب النسبة بين العامين من وجه إلى العموم المطلق لا محالة. وهذا أحد موارد انقلاب النسبة ، فيقدّم العام ـ الذي خرج منه مادة الافتراق ـ على العام الآخر ، إذ بعد خروج مادة الافتراق من العام الأوّل يكون أخص مطلقاً من العام الثاني ، مثلاً إذا دل دليل على استحباب إكرام العلماء ، ودل دليل آخر على حرمة إكرام الفساق ، ودل دليل ثالث على وجوب إكرام العالم العادل ، يقع التعارض بين الأوّل والثاني في مورد الاجتماع وهو العالم الفاسق ، وبعد تخصيص دليل الاستحباب بدليل الوجوب وإخراج العالم العادل عنه ، ينحصر مورده بالعالم الفاسق ، فيكون أخص مطلقاً من دليل الحرمة فيقدّم عليه لا محالة ، فتكون النتيجة وجوب إكرام العالم العادل ، واستحباب إكرام العالم الفاسق ، وحرمة إكرام الفاسق الجاهل.

هذا إن كان التخصيص وارداً على مادة الافتراق بتمامها كما مثلناه. وأمّا إن كان التخصيص وارداً على بعضها ، كما إذا دلّ الدليل الثالث في المثال السابق على وجوب إكرام العالم العادل الهاشمي ، فيبقى التعارض بحاله ولا بدّ من علاجه ، لأنّ النسبة التي كانت بين المتعارضين ـ وهي العموم من وجه ـ لم تنقلب عما كانت عليه ، بل هي باقية بحالها بعد تخصيص أحدهما أيضاً.

٤٧٩

الصورة الثالثة : ما إذا وقع التعارض بين عامين من وجه ، وورد المخصص على مادة الافتراق في كل منهما ، كما إذا دل دليل على استحباب إكرام العلماء ، ودل دليل آخر على كراهة إكرام الفساق ، ودل دليل ثالث على وجوب إكرام العالم العادل ودل دليل رابع على حرمة إكرام الفاسق الجاهل ، فيقع التعارض بين دليل الاستحباب ودليل الكراهة في مادة الاجتماع ـ وهي العالم الفاسق ـ وبعد تخصيص دليل الاستحباب بدليل الوجوب لكونه أخص منه ، يكون مورد دليل الاستحباب منحصراً في العالم الفاسق. وكذا الحال في دليل الكراهة ، إذ بعد تخصيصه بدليل الحرمة ينحصر مورده أيضاً في العالم الفاسق ، فتكون النسبة بينهما بعد تخصيصهما هو التباين ، لدلالة أحدهما على استحباب إكرام خصوص العالم الفاسق ، والآخر على كراهته ، فلا بدّ من الرجوع إلى المرجحات أو الحكم بالتخيير على ما سيجيء إن شاء الله تعالى.

وهل يلاحظ الترجيح أو التخيير بين العامين فقط ، أو بين الأدلة الأربعة؟ ذهب المحقق النائيني (١) قدس‌سره إلى الأوّل ، لأنّه بعد تخصيص كل من العامين بالنسبة إلى مادة الافتراق ينحصر مفادهما في مادة الاجتماع ، فيقع التعارض بينهما فيها بالتباين ، فلا بدّ من ترجيح أحدهما على الآخر ، أو الحكم بالتخيير بينهما.

والتحقيق هو الثاني ، لما ذكرناه سابقاً (٢) من أنّ منشأ التعارض في أمثال هذه المقامات إنّما هو العلم الاجمالي بعدم صدور أحد المتعارضين ، وفي المقام ليس لنا علم إجمالي بعدم صدور خصوص أحد العامين من وجه ، بل لنا علم

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٣٠٤.

(٢) في ص ٤٦٩.

٤٨٠