موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

بعدم صدور أحد هذه الأدلة الأربعة ، إذ لو لم يصدر أحد العامين أو أحد الخاصين لم يكن تنافٍ بين الثلاثة الباقية. أمّا لو لم يصدر أحد العامين فواضح ، وأمّا لو لم يصدر أحد الخاصين فلأ نّه بعد تخصيص أحد العامين يصير أخص من العام الآخر فيخصص به. فاذن لابدّ من ملاحظة الترجيح بين الأدلة الأربعة ، وطرح أحدها والأخذ بالثلاثة الباقية ومع فقد المرجح والحكم بالتخيير ، يتخير بين الأدلة الأربعة بطرح أحدها والأخذ بالباقي.

النوع الثالث من التعارض بين أكثر من دليلين : ما إذا وقع التعارض بين الدليلين بالتباين وورد مخصص مّا ، وهذا أيضاً يتصور على صور ثلاث :

الصورة الاولى : ما إذا ورد المخصص على أحدهما فيخصص به ، وتنقلب النسبة من التباين إلى العموم المطلق ، فيقدّم الخاص على العام ويرتفع التعارض ، مثلاً إذا دل دليل على وجوب إكرام العلماء ، ودل دليل آخر على عدم وجوب إكرام العلماء ، ودل دليل ثالث على وجوب إكرام العالم العادل ، تكون النسبة بين الأوّلين التباين ، وبعد تخصيص الثاني بالثالث باخراج العالم العادل منه تنقلب النسبة بين الأوّل والثاني من التباين إلى العموم المطلق ، ويكون الثاني أخص مطلقاً بالنسبة إلى الأوّل.

ومن هذا القبيل الأدلة الواردة في إرث الزوجة من العقار ، فمنها ما يدل على أنّها لا ترث من العقار بقول مطلق (١). ومنها ما يدل على أنّها ترثها كذلك (٢). ومنها ما يدل على أنّها ترثها إذا كانت ام ولد (٣).

الصورة الثانية : ما إذا وقع التعارض بين الدليلين بالتباين ، وورد المخصص

__________________

(١) الوسائل ٢٦ : ٢٠٥ / أبواب ميراث الأزواج ب ٦.

(٢) ، (٣) الوسائل ٢٦ : ٢١٢ / أبواب ميراث الأزواج ب ٧ ح ١ و ٢.

٤٨١

على كل واحد منهما مع عدم التنافي بين المخصصين في أنفسهما أصلاً ، فتنقلب النسبة من التباين إلى العموم من وجه ، ويتعارضان في مادة الاجتماع ، ويرجع إلى الترجيح أو التخيير ، مثلاً إذا دل دليل على كفاية الغسل مرة واحدة في ارتفاع النجاسة وعدم اعتبار التعدد في حصول الطهارة ، ودل دليل آخر على عدم كفايتها واعتبار التعدد ، ودل دليل ثالث على اعتبار التعدد في الغسل بالماء القليل ، وهو المخصص لما يدل على عدم اعتبار التعدد مطلقاً ، ودل دليل رابع على عدم اعتبار التعدد في الغسل بالماء الجاري ، وهو المخصص لما يدل على اعتبار التعدد مطلقاً ، فيقع التعارض بين الأوّلين بالتباين ، وبعد تخصيص كل واحد منهما تنقلب النسبة إلى العموم من وجه ، ويتعارضان في مادة الاجتماع ـ وهو الغسل بالكر ـ فان مقتضى ما يدل على اعتبار التعدد إلاّفي الغسل بالماء الجاري هو اعتباره في الغسل بالكر ، ومقتضى ما يدل على عدم اعتبار التعدد إلاّ في الغسل بالقليل هو عدم اعتباره في الغسل بالكر ، فيعامل معهما معاملة المتعارضين من الترجيح أو التخيير.

الصورة الثالثة : ما إذا وقع التعارض بين دليلين بالتباين ، وورد المخصص على كل منهما مع التنافي بين المخصصين أيضاً بالعموم من وجه ، كما إذا دل دليل على وجوب إكرام العلماء ، ودل دليل آخر على عدم وجوب إكرامهم ، ودل دليل ثالث على وجوب إكرام العالم العادل ، ودل دليل رابع على عدم وجوب إكرام العالم النحوي. ولا أثر للقول بانقلاب النسبة والقول بعدمه في هذه الصورة.

إذ على القول بانقلاب النسبة ، كانت النسبة ـ بين دليل وجوب إكرام العلماء ودليل عدم وجوب إكرامهم بعد خروج العالم النحوي من الأوّل وخروج العالم العادل من الثاني ـ العموم من وجه ، حيث يجتمعان في العالم العادل النحوي ،

٤٨٢

ويفترقان في العالم العادل غير النحوي وفي العالم الفاسق النحوي ، فيحكم بوجوب إكرام العالم العادل غير النحوي ، وبعدم وجوب إكرام العالم الفاسق النحوي ، ويرجع إلى الاصول العملية أو الترجيح أو التخيير في إكرام العالم العادل النحوي.

وأمّا على القول بانكار الانقلاب يسقط العامان عن الاعتبار رأساً ، ويؤخذ بالخاصين ، وحيث إنّ بينهما العموم من وجه ، يعمل بهما في مورد افتراقهما ، ويرجع إلى الاصول العملية أو الترجيح أو التخيير في مورد الاجتماع ـ وهو العالم العادل النحوي ـ فتكون النتيجة عين نتيجة القول بانقلاب النسبة.

هذا تمام الكلام في بيان صور التعارض بين أكثر من دليلين. ولو فرض التعارض بين أكثر من دليلين ـ سوى ما ذكرناه من الصور ـ يعلم حكمه مما ذكرناه.

الكلام في علاج التعارض : اعلم أنّ الدليلين المتعارضين إمّا أن يكون كلاهما قطعي الصدور ، أو يكون كلاهما ظني الصدور ، أو يكون أحدهما قطعياً والآخر ظنياً.

أمّا إن كان كلاهما قطعي الصدور ، كما إذا وقع التعارض بين ظاهر آيتين ، أو بين ظاهر آية وظاهر خبر متواتر أو محفوف بالقرينة القطعية ، فلا بدّ من رفع اليد عن الظهورين وفرض الدليلين كالعدم في الرجوع إلى دليل آخر أو أصل عملي ، لما ذكرناه من عدم شمول دليل الحجية للمتعارضين على ما تقدّم (١). وما ذكره الشيخ قدس‌سره (٢) من أنّه يجب تأويلهما والعمل على

__________________

(١) في ص ٤٤٠ ـ ٤٤١.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٧٥٤ ـ ٧٥٥.

٤٨٣

المعنى المؤول إليه غريب منه ، فانّه لا دليل على وجوب التأويل والعمل على المعنى المؤول إليه ، مع احتمال أن يكون المراد منهما غير ما أوّلناهما إليه.

وأمّا إن كان أحدهما قطعي الصدور والآخر ظنياً ، كما إذا وقع التعارض بين ظاهر آية والخبر الواحد المظنون صدوره ، أو وقع التعارض بين خبر متواتر والخبر المظنون صدوره ، فلا بدّ من الأخذ بظاهر الآية أو ظاهر الخبر المقطوع صدوره ، وطرح خبر الواحد بمقتضى الأخبار الكثيرة الدالة على طرح الخبر المخالف للكتاب أو السنّة ، وليس ذلك من جهة ترجيح ظاهر الكتاب أو السنّة على الخبر الواحد المخالف لهما ، بل من جهة أنّ الخبر الواحد ـ المخالف لهما بنحو لا يمكن الجمع بينه وبينهما ـ لا يكون حجة بمقتضى قوله عليه‌السلام : «إنّه زخرف وباطل ، أو لم نقله ، أو فاضربوه على الجدار» (١) إلى غير ذلك من العبارات الدالة على عدم حجية الخبر المذكور ، سواء جاء به عادل أم فاسق ، ولذا ذكرنا (٢) في بحث حجية الأخبار : أنّ من شرائط حجية الخبر الواحد عدم مخالفته للكتاب والسنّة.

وأمّا إن كان كلاهما ظني الصدور ، فهذا هو الذي انعقد له بحث التعادل والترجيح ، ومقتضى القاعدة في مثل ذلك وإن كان هو التساقط على ما ذكرناه (٣) ، إلاّأ نّه وردت نصوص كثيرة دالة على الأخذ بأحدهما تعييناً أو تخييراً على ما سنتكلم فيه إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ المعارضة بين الدليلين قد تكون على نحو التباين ، وقد تكون على نحو

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١١٠ ـ ١١١ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١٢ ، ١٤ ، ١٥ ، ٤٨.

(٢) [لم نعثر عليه].

(٣) في ص ٤٤٠ ـ ٤٤١.

٤٨٤

العموم من وجه. فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : في المتباينين كما إذا دلّ أحدهما على وجوب شيء ، والآخر على عدم وجوبه.

وذكر صاحب الكفاية (١) أنّ الأخبار الواردة في تعارض الخبرين على طوائف : منها ما يدل على التوقف. ومنها ما يدل على الأخذ بما يوافق الاحتياط. ومنها ما يدل على التخيير على الاطلاق. ومنها ما يدل على الترجيح بالمرجحات المذكورة في الروايات.

أقول : أمّا التوقف ، فليس في المقام ما يدل عليه ، سوى روايتين : إحداهما : مقبولة عمر بن حنظلة (٢). والاخرى : خبر سماعة بن مهران (٣). أمّا المقبولة ، فقد ورد فيها بعد فرض الراوي تساوي الحديثين من حيث موافقة القوم ومخالفتهم «فارجئه حتى تلقى إمامك ...» وأمّا خبر سماعة فقد ورد فيه بعد ما قال الراوي يرد علينا حديثان : واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا عنه أنّه قال عليه‌السلام : «لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله. قال الراوي : قلت : لا بدّ أن نعمل بواحد منهما ، قال عليه‌السلام : خذ بما فيه خلاف العامة».

والتحقيق أنّه لا يصح الاستدلال بهما على الحكم بالتوقف. أمّا المقبولة ، فلأ نّها ـ مع الغض عن سندها ـ وردت في مورد التخاصم ، ومن الظاهر أنّ فصل التخاصم لا يمكن بالحكم بتخيير المتخاصمين ، إذ كل منهما يختار ما فيه

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٤٢ ـ ٤٤٣.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٠٦ و ١٠٧ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٢.

٤٨٥

نفعه فتبقى المخاصمة بحالها. مضافاً إلى أنّ موردها صورة التمكن من لقاء الإمام عليه‌السلام.

وأمّا خبر سماعة فلأ نّه ضعيف السند ، فلا يصح الاعتماد عليه. مضافاً إلى كونه معارضاً بالمقبولة ، حيث حكم فيها بالتوقف بعد فقد المرجح لإحدى الروايتين. وهذا الخبر يدل على وجوب التوقف من أوّل الأمر والأخذ بما فيه الترجيح عند عدم إمكان التوقف. على أنّ مورده أيضاً صورة التمكن من لقاء الإمام عليه‌السلام كما في المقبولة.

وأمّا الروايات العامة الدالة على التوقف عند الشبهة (١) ، فهي وإن كانت كثيرة ، إلاّأ نّه على تقدير تمامية دلالتها مخصصة بما دل على الأخذ بأحد الخبرين المتعارضين تعييناً أو تخييراً ، بل مع تمامية دلالة الدليل على التخيير أو الترجيح لا يكون الأخذ بأحد المتعارضين ارتكاباً للشبهة ، فيكون خارجاً من تلك الروايات موضوعاً.

وأمّا الاحتياط ، فلم يدل عليه دليل سوى مرفوعة زرارة التي رواها ابن أبي جمهور الاحسائي في كتاب عوالي اللآلي عن العلامة قدس‌سره مرفوعاً إلى زرارة (٢) ، والمستفاد منها لزوم الأخذ بما يوافق الاحتياط عند تساوي الخبرين المتعارضين ، حيث يقول عليه‌السلام بعد فرض الراوي تساوي الحديثين : «إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر» ولكن لا يمكن الاعتماد على هذه الرواية ، فانّه ـ مضافاً إلى أنّها لم توجد في كتب العلامة قدس‌سره ولم تثبت وثاقة راويها ، بل طعن فيه وفي كتابه من ليس دأبه الخدشة في سند

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٥٤ / أبواب صفات القاضي ب ١٢.

(٢) المستدرك ١٧ : ٣٠٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢.

٤٨٦

الرواية كالمحدث البحراني قدس‌سره (١) ـ أنّها مرفوعة ساقطة عن مقام الحجية.

فتبقى في المقام طائفتان من الأخبار : إحداهما : ما يدل على التخيير. والاخرى : ما يدل على الترجيح. وذهب صاحب الكفاية (٢) قدس‌سره إلى التخيير ، وأنكر لزوم الترجيح ، حيث حمل الأخبار الدالة على الترجيح على الاستحباب ، وأصرّ عليه ، ونسبه إلى الكليني قدس‌سره في الكافي (٣) ، وذكر في وجه ما ذهب إليه وجوهاً :

الأوّل : أنّ الأخبار الدالة على الأخذ بما يوافق الكتاب وطرح ما يخالفه ، أو الأخذ بما يخالف القوم وطرح ما يوافقهم ليست واردة في مقام الترجيح ، بل في مقام تمييز الحجة عن اللا حجة بشهادة ما ورد من قوله عليه‌السلام : «أنّه زخرف وباطل أو لم نقله أو اضربوه على الجدار» (٤) إلى غير ذلك من التعبيرات الدالة على عدم حجية الخبر المذكور. وكذا الأمر في الأخبار الدالة على الأخذ بما يخالف القوم وطرح ما يوافقهم ، فانّ الوثوق بصدور الخبر المخالف للقوم يوجب اطمئنان النفس بأنّ الخبر الموافق لهم إمّا غير صادر من المعصوم عليه‌السلام أو صدر تقية ، فيكون الخبر المخالف للكتاب أو الموافق للقوم غير مشمول لأدلة الحجية.

ثمّ ذكر أنّه لو سلّم أنّ الأخبار الآمرة بالأخذ بموافق الكتاب أو بمخالف

__________________

(١) الحدائق ١ : ٩٩.

(٢) كفاية الاصول : ٤٤٣ ـ ٤٤٥.

(٣) [سيأتي التعرض له في ص ٤٩٤].

(٤) تقدّمت مصادرها في ص ٤٨٤.

٤٨٧

القوم ظاهرة في بيان المرجح لأحد المتعارضين ، فلا مناص من حملها على خلاف ظاهرها ، وأ نّها صدرت في مقام تمييز الحجة عن اللا حجة ، أو على الاستحباب ، لأن حملها على الترجيح يوجب تقييدها ، وهي آبية عنه ، وكيف يمكن تقييد مثل قوله عليه‌السلام : «ما خالف قول ربّنا لم نقله أو زخرف أو باطل».

بيان ذلك : أنّ موافقة الكتاب ومخالفته ـ على تقدير كونهما من المرجحات ـ متأخرتان عن الترجيح بالشهرة ، كما هو مفاد المقبولة ، وعليه فيقدّم الخبر المشهور ـ ولو كان مخالفاً للكتاب ـ على الشاذ النادر ولو كان موافقاً له ، ويخرج مثل هذه الصورة عن قوله عليه‌السلام : «لم نقله أو زخرف أو باطل» مع كونه آبياً عن التخصيص كما عرفت ، وهذا بخلاف حملها على التمييز ، فانّه بناءً عليه لا بدّ من طرح الخبر المشهور في الفرض المذكور ، لأنّه غير حجة في نفسه كما لا يخفى.

وفيه : أنّ الأخبار الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب والسنّة على طائفتين :

الطائفة الاولى : ما ذكره قدس‌سره من الأخبار الدالة على أنّ مخالف الكتاب زخرف أو باطل أو اضربوه على الجدار ، إلى غير ذلك من التعبيرات الدالة على عدم الحجية ، وأنّ حجية الأخبار مشروطة بعدم كونها مخالفة للكتاب والسنّة ، والمراد من المخالفة هي المخالفة بنحو لا يكون بينها وبين الكتاب والسنّة جمع عرفي ، كما إذا كان خبر مخالفاً للكتاب أو السنّة على نحو التباين أو العموم من وجه. وأمّا الأخبار المخالفة للكتاب أو السنّة بالتخصيص أو التقييد ، فليست مشمولة لهذه الأخبار ، للعلم بصدور المخصص لعمومات الكتاب والسنّة والمقيد لاطلاقاتهما عنهم عليهم‌السلام فانّه لم يذكر في الكتاب

٤٨٨

إلاّ أساس الأحكام ، كقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)(١) وأمّا تفصيل الأحكام وموضوعاتها وتخصيص عموماتها وتقييد مطلقاتها ، فهو مذكور في الأخبار المروية عنهم عليهم‌السلام.

وإن شئت قلت : ليس المراد من المخالفة في هذه الطائفة هي المخالفة بالتخصيص والتقييد ، وإلاّ لزم تخصيصها بموارد العلم بتخصيص الكتاب فيها ، مع أنّها آبية عن التخصيص كما تقدّم. وبالجملة : الأخبار المخصصة لعمومات الكتاب أو المقيدة لاطلاقاته لا تكون مخالفة له في نظر العرف ، بل قرينة على المراد منه.

الطائفة الثانية : الأخبار الواردة في مقام ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الآخر ، كقوله عليه‌السلام : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان ، فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردّوه ...» إلخ (٢) وحيث إنّ هذه الطائفة من الأخبار واردة في بيان المرجح لأحد الخبرين المتعارضين على الآخر ، قدّم الإمام عليه‌السلام في المقبولة الترجيح بالشهرة على الترجيح بموافقة الكتاب ، وإلاّ لم يكن وجه للتقديم ، إذ لو كان المراد بيان المميّز للحجة عن اللا حجة ، لكان الخبر المشهور المخالف لعموم الكتاب غير حجة في نفسه ، فكيف قدّمه عليه‌السلام على الشاذ الموافق لعموم الكتاب ، كما هو مقتضى إطلاق المقبولة.

والمراد من المخالفة في هذه الطائفة هي المخالفة بنحو التخصيص والتقييد ، فمفادها أنّه إذا ورد خبران متعارضان وكان أحدهما موافقاً لعمومات الكتاب

__________________

(١) البقرة ٢ : ٤٣.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١١٨ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢٩.

٤٨٩

أو إطلاقاته وكان الآخر مخالفاً لها ، يجب ترجيح الخبر الموافق على الخبر المخالف.

وأمّا ما ذكره ـ من أنّ الخبر الموافق للقوم لا يكون حجة مع وجود الخبر المخالف لهم ، إذ معه يطمئن النفس بأنّ الخبر الموافق لهم إمّا غير صادر أو صدر عن تقية ، فيخرج عن دائرة اعتبار السند أو الظهور ـ ففيه : أنّ مجرد وجود الخبر المخالف للقوم لا يوجب حصول الاطمئنان المذكور ، لأنّ الأحكام المتفق فيها الفريقان في نفسها كثيرة جداً ، فيحتمل أن يكون مضمون الخبر الموافق لهم هو الحكم الواقعي ، والخبر المخالف لم يصدر أو صدر بغير داعي الجد.

فظهر أنّ ذكر موافقة القوم ومخالفتهم إنّما هو لترجيح أحد المتعارضين على الآخر لا لتمييز الحجة عن اللا حجة. ويشهد لما ذكرناه أنّه ذكر مخالفة العامة في المقبولة متأخرة عن الشهرة ، ولازم ذلك وجوب الأخذ بالمشهور ولو كان موافقاً لهم ، ولو كان المراد تمييز الحجة عن اللا حجة لم يكن وجه لذلك ، إذ الخبر الموافق لهم لا يكون حجة حينئذ ، فكيف أمر عليه‌السلام بالأخذ بالمشهور ولو كان موافقاً للعامة كما هو مقتضى الاطلاق.

الثاني : أنّ أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الأخبار هو المقبولة والمرفوعة ، ولا يمكن الاستدلال بهما على لزوم الترجيح بين المتعارضين ، لأنّ موردهما هي الحكومة وفصل الخصومة ، ولا وجه للتعدي منه إلى غيره. ومجرد مناسبة الترجيح لمقام الفتوى لايوجب ظهورهما في وجوب الترجيح ولو في غير مورد الحكومة ، هذا. مضافاً إلى اختلافهما في أنفسهما ، حيث قدّم الترجيح بالشهرة على الترجيح بالأوثقية والأعدلية في المرفوعة ، ولم يذكر فيها الترجيح بموافقة الكتاب ، بخلاف المقبولة فانّه قدّم فيها الترجيح بالأوثقية والأعدلية على الترجيح بالشهرة ، وجعل موافقة الكتاب مرجّحة قبل الترجيح بمخالفة العامة.

٤٩٠

وإلى ضعف سند المرفوعة جداً ، انتهى ملخّصاً.

وفيه : أنّ الأخبار الدالة على الترجيح ليست منحصرة في المقبولة والمرفوعة ، بل هناك روايات اخر وجملة منها صحاح لا إشكال في سندها ولا في دلالتها ، وقد تقدمت الاشارة إلى بعضها (١) ، وسيجيء ذكره قريباً إن شاء الله تعالى.

أمّا المرفوعة فقد عرفت حالها من حيث السند عند التكلم في أدلة الاحتياط (٢). ودعوى انجبار ضعفها بعمل المشهور ممنوعة بما ذكرناه في محلّه (٣) : من عدم صحة ذلك ، على أنّه لم يثبت عمل المشهور بها ، فانّا لم نجد من عمل بما في آخرها من الأمر بالأخذ بما فيه الحائطة. ومع الغض عن ضعف سندها ليس موردها الحكومة على ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره فراجع.

وأمّا المقبولة فسندها وإن كان محل خدشة ، إذ لم يذكر في كتب الرجال لعمر ابن حنظلة توثيق ، ولايمكن إثبات وثاقته مما رواه (٤) في الوسائل في باب الوقت عن الكليني قدس‌سره في الكافي الدال على توثيق الإمام عليه‌السلام له ، لكونه ضعيف السند بنفسه ، فلا يمكن إثبات وثاقة عمر بن حنظلة به ، ولكنّه يقال : إنّ الأصحاب تلقّوها بالقبول ، وعملوا بها قديماً وحديثاً ، ويعلم استنادهم إليها من الافتاء بمضمون ما ورد فيها من قوله عليه‌السلام : «وما يحكم له

__________________

(١) تقدّم في ص ٤٨٩ وسيجيء في ص ٤٩٨.

(٢) في ص ٤٨٦.

(٣) راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ٢٣٥ ، ٢٧٩.

(٤) نقل في الوسائل عن الكليني في الكافي عن علي بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس عن يزيد بن خليفة ، قال : «قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : إنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت ، فقال أبو عبدالله عليه‌السلام : إذن لا يكذب علينا» [الوسائل ٢٧ : ٨٥ / أبواب صفات القاضي ب ٨ ح ٣٠].

٤٩١

فانّما يأخذه سحتاً وإن كان حقه ثابتاً» حيث إنّ هذه الجملة لم ترد في سائر أخبار باب القضاء ، فراجع.

وأمّا دلالتها ، فلا ينبغي الاشكال في تماميتها ، فان صدرها من الترجيح بالأفقهية والأعدلية والأصدقية وإن كان ناظراً إلى ترجيح أحد الحكمين على الآخر عند الاختلاف ، إلاّأنّ ظاهر ذيلها هو ترجيح إحدى الروايتين على الاخرى ، إذ الترجيح بكون الرواية مجمعاً عليها بين الأصحاب وبموافقة الكتاب والسنّة وبمخالفة العامة ، قد اعتبر فيها بعد فرض سقوط حكم الحكمين بالمعارضة ، فمفادها أنّه بعد سقوط الحكم يرجع إلى الروايتين ويؤخذ بالراجح منهما.

الثالث : أنّه لو تمت دلالة الأخبار على لزوم الترجيح بين المتعارضين حتى في مقام الافتاء ، لا بدّ من رفع اليد عن ظاهرها وحملها على الاستحباب لوجهين :

أحدهما : أنّ الأخذ بظاهرها يوجب حمل إطلاقات أخبار التخيير على الفرد النادر ، إذ مورد تساوي الخبرين المتعارضين قليل جداً ، وشمول المطلق لفرده النادر وإن كان بلا محذور ، إلاّأنّ في اختصاصه به محذوراً على ما ذكر في محلّه.

ثانيهما : أنّ ترك الاستفصال عن التعادل والتفاضل في مقام الجواب عن سؤال حكم المتعارضين في أخبار التخيير قرينة على الاستحباب ، إذ على تقدير وجوب الترجيح يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فانّ الحكم باختصاص التخيير بصورة فقد المرجح مستفاد من دليل منفصل ، وهو أخبار الترجيح.

٤٩٢

وفيه : أنّ ما ذكره ـ من أنّ الأخذ بظواهر أخبار الترجيح يوجب حمل إطلاقات أخبار التخيير على الفرد النادر ـ إنّما يتم على القول بالتعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها كما ذهب إليه الشيخ (١) قدس‌سره وتبعه بعضهم ، فان تساوي الخبرين المتعارضين من جميع الجهات لو لم يكن مجرد فرض غير متحقق فلا خفاء في ندرته. وأمّا على القول بالاقتصار على المرجحات المنصوصة كما هو الصحيح فلا يلزم المحذور المذكور ، إذ المرجح المنصوص منحصر في موافقة الكتاب والسنّة ومخالفة العامة على ما سنتكلم فيه (٢) إن شاء الله تعالى ، وموارد تساوي الخبرين المتعارضين من حيث موافقة الكتاب وعدمها كثيرة جداً ، فانّه لم يذكر في الكتاب الكريم من الأحكام إلاّ عدّة قليلة ، فيمكن أن لا يكون الحكم الذي تعارض فيه الخبران مذكوراً في الكتاب أصلاً ، وكذا موارد تساوي الخبرين المتعارضين من حيث مخالفة العامة أيضاً في غاية الكثرة ، إذ يمكن أن يكون أحدهما موافقاً لطائفة ، والآخر موافقاً لطائفة اخرى منهم ، وكذا يمكن أن يكون الحكم الذي تعارض فيه الخبران غير مذكور في كتبهم ، فانّ فقه العامة ليس على بساطة فقه الخاصة ، وكذا أخبارهم.

وأمّا ما ذكره من لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة ففيه : أنّه لا مانع من تأخير البيان عن وقت الحاجة ، لجواز أن يكون فيه مصلحة على ما ذكر في محلّه (٣) ، ولذا يكون تقييد الاطلاقات بالأدلة المنفصلة في أبواب الفقه في غاية

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٧٨٠ ـ ٧٨١.

(٢) في ص ٤٩٥ ـ ٤٩٩.

(٣) محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٤٨١ ـ ٤٨٢.

٤٩٣

الكثرة. هذا وستسمع (١) إن شاء الله تعالى أنّ الأخبار الواردة لا تنهض لاثبات التخيير أصلاً فانتظر قليلاً.

ثمّ لايخفى أنّ هذا الوجه لو تم لزم الالتزام باستحباب الترجيح بالمرجحات ، بخلاف الوجهين المتقدمين ، فان نتيجتهما تعيّن التخيير وعدم رعاية الترجيح لا لزوماً ولا استحباباً.

بقي الكلام فيما نسبه إلى الكليني من القول بالتخيير مطلقاً ، وعدم لزوم الترجيح ، ومراجعة الكافي تشهد بعدم صحة هذه النسبة ، فانّه قدس‌سره قال في ديباجة الكافي : إعلم يا أخي أنّه لا يسع لأحد تمييز شيء مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء عليهم‌السلام برأيه ، إلاّما اطلقه العالم عليه‌السلام بقوله : «فاعرضوهما على كتاب الله (عزّ وجلّ) فما وافق الكتاب فخذوه ، وما خالف الكتاب فردّوه» وقوله عليه‌السلام : «دعوا ما وافق القوم فانّ الرشد في خلافهم» وقوله عليه‌السلام : «خذوا بالمجمع عليه ، فانّ المجمع عليه لا ريب فيه» ونحن لا نعرف من ذلك إلاّأقله ، ولا نجد شيئاً أحوط وأوسع من ردّ علم ذلك كله إلى العالم عليه‌السلام وقبول ما وسع الأمر فيه لقوله عليه‌السلام : «وأ يّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم» (٢) وأنت ترى أنّ ظاهر هذا الكلام لزوم رعاية المرجحات والتخيير مع فقدها ، فان ظاهر قوله قدس‌سره : نحن لا نعرف ... أنّه سلّم الترجيح بالاجماع وموافقة الكتاب ومخالفة القوم ، ولكن ذكر قلّة الموارد التي نعرف فيها وجود تلك المرجحات ، فلا بدّ من ردّ علم كلها إلى العالم عليه‌السلام وقبول التخيير.

__________________

(١) في ص ٥٠٨ ـ ٥١١.

(٢) الكافي ١ : ٨ ـ ٩.

٤٩٤

فتحصّل مما ذكرناه في المقام : لزوم الترجيح بالمرجحات والتخيير مع فقدها.

بقي الكلام في تعيين المرجحات المنصوصة وترتيبها فنقول :

أمّا الشهرة : فالظاهر عدم كونها من المرجحات ، فانّ المذكور في المقبولة هو الأخذ بالمجمع عليه ، والمراد به الخبر الذي أجمع الأصحاب على صدوره من المعصومين عليهم‌السلام فالمراد به الخبر المعلوم صدوره من المعصوم عليه‌السلام بقرينة قوله عليه‌السلام بعد الأمر بالأخذ بالمجمع عليه : «فانّ المجمع عليه لا ريب فيه» وقوله عليه‌السلام بعد ذلك : «إنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتبع ، وأمر بيّن غيه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله ...» إلخ فانّ الإمام عليه‌السلام طبّق الأمر البيّن رشده على الخبر المجمع عليه ، فيكون الخبر المعارض له ساقطاً عن الحجية ، لما دلّ على طرح الخبر المخالف للكتاب والسنّة ، فانّ المراد بالسنّة هو مطلق الخبر المقطوع صدوره عن المعصوم عليه‌السلام لا خصوص النبوي كما هو ظاهر. ولا ينافي ما ذكرناه فرض الراوي الشهرة في كلتا الروايتين بعد أمره عليه‌السلام بالأخذ بالمجمع عليه ، فانّ الشهرة بمعنى الوضوح ، ومنه قولهم : شهر فلان سيفه ، وسيف شاهر ، فمعنى كون الروايتين مشهورتين أنّهما بحيث قد رواهما جميع الأصحاب ، وعلم صدورهما عن المعصوم عليه‌السلام.

وظهر بما ذكرناه عدم صحة الاستدلال بما في المرفوعة من قوله عليه‌السلام : «خذ بما اشتهر بين أصحابك» على الترجيح بالشهرة الاصطلاحية ، إذ فرض الشهرة في إحدى الروايتين بالمعنى الذي ذكرناه يوجب دخولها تحت عنوان السنة القطعية ، فتكون الرواية الاخرى خارجة عن دائرة دليل الحجية

٤٩٥

طبعاً ، بمقتضى ما دل على طرح الخبر المخالف للكتاب والسنّة على ما تقدّم (١). مضافاً إلى ما عرفت من عدم حجية المرفوعة لضعف سندها. وليس في غير المقبولة والمرفوعة من الأخبار العلاجية ذكر من الترجيح بالشهرة أصلاً ، فلم يثبت كون الشهرة الاصطلاحية من المرجحات.

وظهر بما ذكرناه : أنّه لا يمكن الاستدلال بالمقبولة ولا بالمرفوعة على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، لكون موردهما الخبرين المشهورين أي المقطوع صدورهما ، فلا تدلان على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة فيما إذا كان الخبران مظنوني الصدور كما هو محل الكلام. وما اشتهر من أنّ المورد لا يكون مخصصاً مسلّم فيما إذا كان في كلام المعصوم إطلاق أو عموم ، فيؤخذ بالاطلاق أو العموم ولو كان المورد خاصاً ، وليس في المقبولة والمرفوعة عموم أو إطلاق بالنسبة إلى الخبر الظني ، فانّ الإمام عليه‌السلام أمر بالأخذ بما وافق الكتاب وخالف العامة من الخبرين اللذين فرض في كلام الراوي كون كليهما مشهورين.

وأمّا الترجيح بصفات الراوي كالأعدلية والأفقهية والأصدقية : فلم يدل عليه دليل أيضاً ، إذ لم يذكر الترجيح بها [إلاّ] في المقبولة والمرفوعة من الأخبار العلاجية ، أمّا المرفوعة فقد عرفت حالها من عدم الحجية. وأمّا المقبولة فالترجيح بالصفات وإن كان قد ذكر فيها ، إلاّأ نّها قد جعلت من مرجحات الحكمين لا من مرجحات الروايتين ، حيث قال عليه‌السلام : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما ..» إلخ ولذالم يذكرها الكليني (قدس‌سره)

__________________

(١) في ص ٤٨٣ ـ ٤٨٤.

٤٩٦

في جملة المرجحات ، فراجع كلامه الذي نقلناه.

وما ذكره الشيخ قدس‌سره (١) من أن عدم ذكره الصفات المذكورة من المرجحات إنّما هو لوضوح كونها منها غريب منه ، فانّ الترجيح بها ليس بأوضح من الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة. مع أنّ الوضوح لا يوجب إلغاء الشيء في مقام العداد.

وما حكي عن بعض الأخباريين من أنّ الوجه في عدم ذكره الأوصاف أنّه يرى جميع روايات كتابه مقطوعة من حيث السند أغرب من سابقه ، فانّه مع وضوح فساده لا يستلزم تساوي رواة جميع روايات الكافي من حيث الصفات ، فانّ تساوي رواة جميع روايات الكافي من حيث الأعدلية والأفقهية والأصدقية غير محتمل ، فضلاً عن أن يقطع به.

وظهر بما ذكرناه ـ من عدم كون الصفات من المرجحات ـ أنّ ما وقع في كلام المتأخرين من ترجيح الصحيحة على الموثقة ليس له وجه.

وأمّا موافقة الكتاب ومخالفة العامة : فلا ينبغي الاشكال في أنّ كلاً منهما مرجح مستقل. وتوهم كون مجموعهما مرجحاً واحداً حيث جمع الإمام عليه‌السلام بينهما في المقبولة بقوله عليه‌السلام : «ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف الكتاب والسنّة ووافق العامة» فأمر بالأخذ بالخبر الجامع لكليهما ، مدفوع بأنّ المذكور في ذيل المقبولة الترجيح بمخالفة العامة بنفسها ، حيث قال عليه‌السلام بعد فرض الراوي تساوي الخبرين من حيث موافقة الكتاب والسنّة : «ما خالف العامة

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٧٧٩.

٤٩٧

ففيه الرشاد» فاذا كانت مخالفة العامة بنفسها من المرجحات بلا احتياج إلى انضمام موافقة الكتاب إليه ، كانت موافقة الكتاب أيضاً مرجّحة مستقلة ، فانّه لو لم تكن موافقة الكتاب مرجحة مستقلة ، لكان انضمامها إلى مخالفة العامة من باب ضم الحجر إلى جنب الانسان ، غاية الأمر أنّ الإمام عليه‌السلام فرض أحد الخبرين جامعاً لكلا المرجحين ، والآخر فاقداً لهما ، وأمر بالأخذ بالجامع وطرح الفاقد ، وبعد سؤال الراوي عن الواجد لأحد المرجحين أمر بالأخذ به أيضاً.

ثمّ إنّه لم يذكر في المقبولة حكم الخبرين المتعارضين إذا كان أحدهما موافقاً للكتاب والآخر مخالفاً للعامة ، إذ المذكور فيها حكم الواجد والفاقد لكلا المرجحين والواجد والفاقد لأحد المرجحين ، وأمّا إن كان أحدهما واجداً لمرجح والآخر واجداً للمرجح الآخر ، كما إذا كان أحد الخبرين موافقاً للكتاب والعامة ، والآخر مخالفاً للكتاب والعامة ، فلم يذكر حكمه في المقبولة ، إلاّأنّ حكمه يعلم من خبر صحيح رواه الراوندي بسنده عن الصادق عليه‌السلام أنّه عليه‌السلام قال : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان ، فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردّوه ، فان لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة ، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه» (١) فبمقتضى هذه الصحيحة يحكم بتقديم الخبر الموافق للكتاب وإن كان موافقاً للعامة ، وطرح الخبر المخالف للكتاب وإن كان مخالفاً للعامة.

فالذي تحصّل مما ذكرناه : أنّ المرجّح المنصوص منحصر في موافقة الكتاب

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١١٨ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢٩.

٤٩٨

ومخالفة العامة ، وأ نّه لا بدّ في مقام الترجيح من ملاحظة موافقة الكتاب أوّلاً ، ومع عدمها يعتبر الترجيح بمخالفة العامة ، ولو لم يكن في أحد المتعارضين شيء من المرجحين يؤخذ بأحدهما تخييراً لو تمت دلالة أخبار التخيير على ما سنتكلم فيها (١) إن شاء الله تعالى ، وإلاّ فيحكم بتساقطهما ويرجع إلى دليل آخر أو أصل عملي.

وينبغي التنبيه على امور :

الأمر الأوّل : أنّه قد ورد في بعض الروايات ما ربّما يستظهر منه أنّه لو تعارض الخبر المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والخبر المروي عن الإمام عليه‌السلام فالترجيح للثاني ، وهو موثقة محمّد بن مسلم نقله في الكافي عن العدة عن أحمد بن محمّد عن عثمان بن عيسى عن أبي أيوب الخزاز عن محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : «قلت له : فما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يتهمون بالكذب ، فيجيء منكم خلافه؟ قال عليه‌السلام : إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن» (٢).

وكذلك ورد في بعض روايات اخر ما يستظهر منه أنّه لو وقع التعارض بين الخبر المتقدم زماناً والخبر المتأخر بحسب الزمان فالترجيح للثاني ، كصحيحة أبي عمرو الكناني رواها الكليني قدس‌سره عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسين بن محبوب عن هشام بن سالم عن أبي عمرو الكناني قال : «قال لي أبو عبدالله عليه‌السلام : يا أبا عمرو ، أرأيتك لو

__________________

(١) في ص ٥٠٨ ـ ٥١١.

(٢) الكافي ١ : ٦٤ / باب اختلاف الحديث ح ٢ ، الوسائل ٢٧ : ١٠٨ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤.

٤٩٩

حدثتك بحديثٍ العام ثمّ جئتني بعد ذلك فتسألني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك ، أو أفتيتك بخلاف ذلك ، بأ يّهما كنت تأخذ؟ قلت : بأحدثهما وأدع الآخر ، فقال عليه‌السلام : قد أصبت يا أبا عمرو ، أبى الله إلاّأن يعبد سراً ، أما والله لئن فعلتم ذلك إنّه لخير لي ولكم ، أبى الله (عزّ وجلّ) لنا في دينه إلاّ التقية» (١).

أقول : أمّا الرواية الاولى ، فلا يصح التمسك بها للترجيح ، إذ لو كان المراد من النسخ في هذه الرواية هو النسخ الاصطلاحي ـ بناءً على إمكانه بعد انقطاع الوحي أيضاً ، لكونه بمعنى بيان أمد الحكم لا ارتفاع الحكم المستمر ـ فلا بدّ من أن يكون المراد من الحديث الناسخ للحديث النبوي مقطوع الصدور ، فان ضرورة المذهب قاضية بعدم نسخ الكتّاب والسنّة بالخبر الظني ، بل هذا مما اتفق عليه الفريقان. فاذن لو كان المراد من النسخ هو النسخ الاصطلاحي ، فلا بدّ من أن يكون المراد من الناسخ المقطوع الصدور ، وهو خارج عن محل الكلام. وإن كان المراد من النسخ معناه اللغوي ليشمل التخصيص والتقييد ـ كما قد اطلق عليهما في بعض الأخبار ـ فكان المراد تخصيص العموم المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمخصص المروي عن الإمام عليه‌السلام أو تقييده به ، ولا مانع منه ولكنّه أيضاً خارج عن محل الكلام ، لأنّ الكلام في المتعارضين اللذين لا يكون بينهما جمع عرفي كما تقدّم (٢).

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢١٨ / باب التقية ح ٧ ، الوسائل ٢٧ : ١١٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١٧.

(٢) في بداية بحث التعادل والترجيح فراجع.

٥٠٠