موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

فصل

في صلاة المسافر

لا إشكال في وجوب القصر على المسافر مع اجتماع الشرائط الآتية (١)

______________________________________________________

(١) لا إشكال كما لا خلاف بين المسلمين في مشروعية التقصير للمسافر لدى استجماع الشرائط الآتية في الجملة ، وإن وقع النقاش من بعضهم في بعض الخصوصيات.

كما لا إشكال ولا خلاف أيضاً بين الخاصّة في وجوب ذلك مع مراعاة تلك الشرائط على إجمالها ، وأنّ التشريع على سبيل العزيمة لا الترخيص.

ويدلّ على ذلك مضافاً إلى الإجماع بل الضرورة النصوص الكثيرة المتظافرة جدّاً ، التي لا يبعد دعوى بلوغها حدّ التواتر كما لا يخفى على من لاحظها (١).

وربما يستدلّ له بالكتاب العزيز ، قال تعالى (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) الآية (٢).

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٥١ / أبواب صلاة القصر ب ١ ، ٢ وغيرهما.

(٢) النِّساء ٤ : ١٠١.

١

.................................................................................................

______________________________________________________

وفيه : أنّها غير دالّة على المشروعيّة فضلاً عن الوجوب ، فإنّها ناظرة إلى صلاة الخوف والمطاردة بقرينة التقييد بقوله تعالى (إِنْ خِفْتُمْ) وما ورد في الآية الأُخرى المتّصلة بها من بيان كيفيّة هذه الصّلاة ، فالمراد من الضّرب في الأرض الضّرب إلى القتال والحركة نحو العدو ، ولا مساس لها بالضّرب لأجل السّفر. فهي أجنبيّة عن صلاة المسافر بالكلِّيّة.

ومع الغضّ عن ذلك وتسليم كونها ناظرة إلى صلاة المسافر فغايته الدلالة على أصل المشروعيّة ، لمكان التعبير بنفي الجناح ، دون الوجوب.

نعم ، طبّق الإمام (عليه السّلام) هذه الآية المباركة على صلاة المسافر في صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم ، وبيّن أنّ المراد بها الوجوب مستشهداً بنفي الجناح الوارد في آية السّعي ، قالا «قلنا لأبي جعفر (عليه السّلام) : ما تقول في الصلاة في السّفر كيف هي؟ وكم هي؟ فقال : إنّ الله عزّ وجلّ يقول (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) فصار التقصير في السّفر واجباً كوجوب التمام في الحضر ، قالا قلنا له : قال الله عزّ وجلّ (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ولم يقل افعلوا ، فكيف أوجَبَ ذلك؟ فقال : أوَلَيْسَ قد قال الله عزّ وجلّ في الصّفا والمروة (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ألا ترون أنّ الطّواف بهما واجب مفروض ، لأنّ الله عزّ وجلّ ذكره في كتابه وصنعه نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) وكذلك التقصير في السّفر شي‌ء صنعه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) وذكره الله تعالى في كتابه ...» إلخ (١).

ولعلّ التعبير بنفي الجناح في الموردين لأجل وقوعه موقع توهّم الحظر ، حيث إنّ أهل الجاهلية كانوا يعبدون ما على الصفا والمروة من الأصنام ، ولأجله قد

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٥١٧ / أبواب صلاة المسافر ب ٢٢ ح ٢.

٢

بإسقاط الركعتين الأخيرتين من الرباعيات ، وأمّا الصبح والمغرب فلا قصر فيهما (١).

______________________________________________________

يتوهّم الحظر في الطواف بهما. كما أنّ الصلاة الواجبة على الحاضر أربع ركعات فربما يتوهّم الحظر في تقصير المسافر ، فدفعاً للتوهّمين عبّر بنفي الجناح.

وكيف ما كان ، فالآية في حدّ نفسها مع قطع النظر عن الروايات غير ظاهرة في الوجوب فيما نحن فيه كما ذكرناه ، وإن كان الحكم مسلّماً ، بل ضرورياً بمقتضى النصوص المتظافرة ، بل المتواترة كما مرّ.

(١) لا إشكال كما لا خلاف في أنّ المراد بالتقصير الوارد في الكتاب والسنّة هو إسقاط الركعتين الأخيرتين من الرباعيات ، دون غيرها من المغرب والفجر كما نطقت به النصوص الكثيرة الواردة في المسافر.

وتدلّ عليه صريحاً صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال : «عشر ركعات ركعتان من الظهر ، وركعتان من العصر ، وركعتا الصبح ، وركعتا المغرب ، وركعتا العشاء الأخيرة لا يجوز فيهنّ الوهم إلى أن قال : فرضها الله عزّ وجلّ إلى أن قال : فزاد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في صلاة المقيم غير المسافر ركعتين في الظهر والعصر والعشاء الآخرة ، وركعة في المغرب للمقيم والمسافر» (١).

حيث دلّت على أنّ الفرض الأوّلي في جميع الصلوات ركعتان ، وأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) زاد للمقيم فقط ركعتين في الظهر والعصر والعشاء وله وللمسافر ركعة في المغرب.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٤٩ / أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ب ١٣ ح ١٢.

٣

وأمّا شروط القصر فأُمور : الأوّل : المسافة ، وهي ثمانية فراسخ امتدادية ذهاباً أو إياباً (١)

______________________________________________________

ومنه يظهر أنّ الوجه في إطلاق القصر على صلاة المسافر هو الاقتصار في صلاته على الفرض الأوّلي الإلهي والاكتفاء بتلك الركعتين ، وإلّا فلم يفسَّر القصر صريحاً في مورد وأنّ المراد به التقليل في الركعة أو الركعتين أو جزء معيّن.

ويدلّ عليه أيضاً الروايات الواردة في اقتداء الحاضر بالمسافر أو العكس وأنّه عند كون الإمام مسافراً يسلِّم على الركعتين ويقدِّم أحد المأمومين مكانه ويستنيبونه عنه (١). مضافاً إلى المعهودية الخارجية والتسالم المقطوع به في كيفية التقصير. هذا كلّه في أصل وجوب التقصير على المسافر ، وأمّا شروطه فأُمور حسب ما ذكره في المتن.

(١) لا إشكال كما لا خلاف بين المسلمين إلّا من شذّ من العامّة (٢) في اعتبار المسافة وأنّها ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر حدّا.

والنصوص بها متكاثرة ، بل لعلّها متواترة ولو إجمالاً ، وفيها الصحاح والموثّقات على اختلاف ألسنتها من التعبير بثمانية فراسخ أو بريدين وكلّ بريد أربع فراسخ أو أربعة وعشرين ميلاً وكلّ فرسخ ثلاثة أميال أو السير في بياض النهار المنطبق في السير العادي على ثمانية فراسخ.

ففي موثّقة سماعة : «عن المسافر في كم يقصّر الصلاة؟ فقال : في مسيرة يوم

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٣٣٠ / أبواب صلاة الجماعة ب ١٨ ح ٦ وغيره.

(٢) وهو قول داود ، راجع المجموع ٤ : ٣٢٥ ٣٢٦ ، حلية العلماء ٢ : ٢٢٦ ، رحمة الأُمّة ١ : ٧٤.

٤

أو ملفّقة من الذهاب والإياب (١)

______________________________________________________

وذلك بريدان ، وهما ثمانية فراسخ» (١).

وصحيح أبي أيوب : «سألته عن التقصير ، قال فقال : في بريدين أو بياض يوم» (٢).

وفي صحيح ابن الحجاج : «ثمّ أومأ بيده أربعة وعشرين ميلاً ، يكون ثمانية فراسخ» (٣).

وفي رواية الفضل : «إنّما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر» (٤) وغيرها.

(١) كما عليه المشهور ، للنصوص الكثيرة الدالّة على إلحاق المسافة التلفيقية بالامتدادية ، وأنّ الثمانية فراسخ التي هي موضوع لوجوب التقصير يراد منها ما يشمل التلفيق من بريد ذاهباً وبريد جائياً ، كصحيحة معاوية بن وهب : «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : أدنى ما يقصّر فيه المسافر الصلاة؟ فقال (عليه السلام) : بريد ذاهباً وبريد جائياً» (٥) ونحوها غيرها.

ولم ينسب الخلاف إلّا إلى الكليني من الاكتفاء بالأربعة الامتدادية مطلقاً (٦) ولكنّه ضعيف جدّاً محجوج عليه بتلك النصوص.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٥٣ / أبواب صلاة المسافر ب ١ ح ٨.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٥٣ / أبواب صلاة المسافر ب ١ ح ٧.

(٣) الوسائل ٨ : ٤٥٥ / أبواب صلاة المسافر ب ١ ح ١٥.

(٤) الوسائل ٨ : ٤٥١ / أبواب صلاة المسافر ب ١ ح ١.

(٥) الوسائل ٨ : ٤٥٦ / أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ٢.

(٦) [حكاه عنه في الحدائق ١١ : ٣١٦ عن بعض المشايخ من متأخِّري المتأخِّرين مستظهراً ذلك من اقتصاره في الكافي على أحاديث الأربعة فراسخ].

٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا يبعد أن يكون مراده (قدس سره) بيان خط السير الذي يقع فيه الذهاب والإياب ، فيكون من القائلين بالثمانية الملفّقة ، ويرتفع الخلاف في المسألة.

كما أنّ الإطلاق في بعض النصوص المتضمّن للاكتفاء بمطلق الأربعة مقيّد بذلك أيضاً ، عملاً بصناعة الإطلاق والتقييد. وهذا في الجملة ممّا لا غبار عليه.

وإنّما الكلام يقع في جهات :

الجهة الأُولى : هل التقصير في الفرض المزبور ثابت على سبيل الوجوب التعييني ، أو أنّه مخيّر بينه وبين التمام؟

المشهور كما في الجواهر هو الأوّل (١) ، بل عن الصدوق نسبته إلى دين الإمامية فيما إذا كان من قصده الرجوع ليومه (٢). وعن الشيخ في كتابي الأخبار التهذيب والاستبصار القول بالتخيير (٣). ونسب إلى جماعة التخيير مطلقاً ، أي وإن لم يرجع ليومه.

ولا يخفى أنّ القول بالتخيير وإن كان له وجه غير وجيه فيما إذا لم يكن من قصده الرجوع ليومه كما ستعرف ، إلّا أنّه في قاصد الرجوع ليومه لم يكن له وجه أصلاً ، إذ لم يرد هنا ما يدلّ على التمام كي يكون التخيير مقتضى الجمع بين الأخبار. وظاهر السؤال عن التقصير الوارد في أخبار المقام السؤال عن أصل التقصير لا عن جوازه كما لا يخفى.

وأمّا التعبير بنفي الجناح في الآية المباركة فقد عرفت أنّ الآية في حدّ نفسها غير ظاهرة في صلاة المسافر ، بل ناظرة إلى صلاة الخوف والمطاردة ، فلا تصلح للاستدلال. على أنّها مفسّرة بإرادة الوجوب ، نظير نفي الجناح الوارد في آية

__________________

(١) الجواهر ١٤ : ٢٠٦.

(٢) أمالي الصدوق : ٧٤٣.

(٣) التهذيب ٣ : ٢٠٨ ذيل ح ٤٩٦ ، الاستبصار ١ : ٢٢٤ ذيل ح ٧٩٢.

٦

إذا كان الذهاب أربعة أو أزيد (١) ، بل مطلقاً (*) على الأقوى وإن كان الذهاب فرسخاً والإياب سبعة ، وإن كان الأحوط في صورة كون الذهاب أقل من أربعة مع كون المجموع ثمانية الجمع ،

______________________________________________________

السعي ، ولعل النكتة في هذا التعبير وقوعه موقع توهّم الحظر كما مرّ.

وكيف ما كان ، فلا ينبغي التأمّل في تعيّن التقصير في هذا الفرض.

(١) الجهة الثانية : هل يعتبر في المسافة التلفيقية عدم كون الذهاب أقل من أربعة فراسخ ، فيجب التمام لو كان أقل وإن كان المجموع الملفّق من الذهاب والإياب ثمانية ، كما لو كان الذهاب ثلاثة والإياب خمسة. أو أنّه لا يعتبر ذلك بل يكفي التلفيق كيف ما اتّفق. وكذلك الحال في الإياب فهل يعتبر عدم كونه أقل من الأربعة ، أو يكفي ولو كان ثلاثة والذهاب خمسة مثلاً؟

قد يقال بالثاني وأنّ ذكر الأربعة ذهاباً وإياباً في النصوص من باب المثال وإلّا فالمدار على مطلق الثمانية التلفيقية كيف ما اتّفقت ، وأنّها ملحقة بالثمانية الامتدادية.

ولكنّه لا يتم ، فانّا لو كنّا نحن والأدلّة الأوّلية لاقتصرنا على الثمانية الامتدادية غير أنّ الأدلّة الأُخرى من صحيحة زرارة وغيرها دلّتنا على ثبوت التقصير في بريد ذاهباً وبريد جائياً (١) ، وأنّ المراد من تلك الثمانية ما يعمّ الملفّقة.

إلّا أنّ مورد هذه النصوص تلفيق خاص ، وهو المشتمل على أربعة وأربعة أي بريد في بريد ، فالمسافة المحكومة بالالتحاق بالثمانية الامتدادية هي خصوص

__________________

(*) الأقوى اعتبار كون كل من الذهاب والإياب أربعة فراسخ في تحقّق التلفيق ، وإن كان الأحوط في غير ذلك هو الجمع بين القصر والإتمام.

(١) الوسائل ٨ : ٤٦١ / أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ١٤ ، ٢ ، ٤ وغيرها.

٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الملفّقة من الأربعتين كما يفصح عنه بوضوح صحيح معاوية بن وهب : «أدنى ما يقصّر فيه المسافر؟ فقال (عليه السلام) : بريد ذاهباً وبريد جائياً».

فإنّ التعبير بالأدنى كالصريح في عدم كفاية الأقل من هذا الحد ، ولم يعلّق الحكم في شي‌ء من الأدلّة على عنوان الثمانية التلفيقية كي يتمسّك بالإطلاق ويحكم بكفاية التلفيق كيف ما كان.

وليس في البين ما يتوهّم منه ذلك عدا ما قد يقال من استفادته من قوله (عليه السلام) في ذيل صحيحة ابن مسلم : «إنّه ذهب بريداً ورجع بريداً فقد شغل يومه» (١) بدعوى دلالته على أنّ المدار في التقصير شغل اليوم ، وأنّ كلّ سفر كان شاغلاً ليومه فهو موضوع لوجوب التقصير ، فيعمّ ما لو كان الذهاب أو الإياب أقل من الأربعة بعد أن كان السفر مستوعباً ليومه ، فتدلّ على كفاية الثمانية الملفقة كيف ما تحقّقت.

ولكنّه كما ترى ، إذ ليس مفاد الصحيحة إلّا إلحاق السّفر المتضمِّن لبريد ذاهباً وبريد جائياً بالمسافة الامتدادية وإدراجه في ذلك الموضوع بلسان الحكومة وأنّ هذه المسافة بمثابة تلك في شغل اليوم ، لا أنّ كلّ سفر شاغل لليوم موجب للتقصير.

كيف ولازمه وجوب القصر فيما لو سافر ثلاثة فراسخ ثمّ رجع فرسخين بحيث لا يرجع إلى حدّ الترخّص ثمّ سافر ثلاثة فراسخ اخرى بحيث بلغ المجموع ثمانية واستوعب يومه ، أو لو سافر فرسخاً ورجع إلى ثلاثة أرباع

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٥٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ٩ [الظاهر عدم كونها صحيحة في الاصطلاح ، لورود ابني فضال علي وأحمد في السند ، مضافاً إلى المناقشة في طريق الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضال كما صرّح به في ص ١٧ ، وإن تغيّر رأيه في ذلك كما ذكر في معجم رجال الحديث ١ : ٧٨].

٨

والأقوى عدم اعتبار كون الذهاب والإياب في يوم واحد أو ليلة واحدة (١) ،

______________________________________________________

الفرسخ ثمّ سافر فرسخاً ثمّ عاد وهكذا إلى أن بلغ الثمانية ، مع أنّه واضح الفساد.

وعلى الجملة : ليس شغل اليوم بعنوانه وعلى إطلاقه وسريانه موضوعاً لوجوب التقصير في شي‌ء من الأدلّة ، بل العبرة بالثمانية الامتدادية الملازمة في السير العادي مع المركوب العادي في الوقت العادي مع شغل اليوم ، وقد طبّقها الإمام (عليه السلام) تعبّداً وعلى سبيل الحكومة على الملفّق من الأربعتين.

فليس التعليل المذكور في ذيل الصحيحة إلّا تعليلاً تعبّدياً ناظراً إلى إلحاق صورة خاصّة من التلفيق بالامتداد ، فلا يدلّ بوجه على الاكتفاء بمطلق التلفيق كما لا يخفى ، هذا.

ويظهر من عبارة الماتن (قدس سره) أنّ محلّ الخلاف في اعتبار الأربعة وعدم كفاية الأقل منها إنّما هو في خصوص الذهاب ، وأمّا الإياب فلا إشكال في كفاية الأقل ، وأنّه لو ذهب خمسة ورجع ثلاثة لا كلام حينئذ في وجوب التقصير.

وليس كذلك ، فانّ مناط الإشكال واحد ، إذ الصحيحة الدالّة على عدم كفاية الأقل من الأربعة المشتملة على التعبير بكلمة «أدنى» وهي صحيحة معاوية بن وهب المتقدّمة مشتركة بين الذهاب والإياب.

وقد تحصّل من جميع ما مرّ : أنّ الأظهر اعتبار كون كلّ من الذهاب والإياب أربعة فراسخ فصاعداً ، فلا يجزي الأقل في شي‌ء منهما وإن بلغ المجموع ثمانية فراسخ ملفّقة.

(١) الجهة الثالثة : قد عرفت أنّ الروايات المستفيضة وفيها الصحاح دلّت على أنّ التقصير في الصلاة وكذا الإفطار لا يتوقّف على المسافة الامتدادية ، بل يمكن التلفيق من أربعة وأربعة.

٩

أو في الملفّق منهما مع اتصال إيابه بذهابه ، وعدم قطعه بمبيت ليلة فصاعداً في الأثناء ، بل إذا كان من قصده الذهاب والإياب ولو بعد تسعة أيّام يجب عليه القصر ، فالثمانية الملفّقة كالممتدّة في إيجاب القصر إلّا إذا كان قاصداً للإقامة عشرة أيّام في المقصد أو غيره ، أو حصل أحد القواطع الأُخر ، فكما أنّه إذا بات في أثناء الممتدة ليلة أو ليالي لا يضر في سفره فكذا في الملفّقة فيقصّر ويفطر ، ولكن مع ذلك الجمع بين القصر والتمام والصوم وقضائه في صورة عدم الرجوع ليومه أو ليلته أحوط ، ولو كان من قصده الذهاب والإياب ولكن كان متردِّداً في الإقامة في الأثناء عشرة أيام وعدمها لم يقصّر كما أنّ الأمر في الامتدادية أيضاً كذلك.

______________________________________________________

وهذا فيما إذا كان في يوم واحد أو مع ليلته لا إشكال فيه ، بل ذكر الصدوق في الأمالي أنّ التقصير حينئذ من دين الإمامية كما مرّ (١) ، وأنّ ما نُسِبَ إلى الشيخ وجماعة من القول بالتخيير لم نعرف وجهه كما تقدّم (٢).

وأمّا إذا لم يقصد الرجوع ليومه فلا إشكال في التمام فيما إذا تخلّل في سفره أحد القواطع كإقامة عشرة أيّام ، لعدم تحقّق السفر الشرعي منه حينئذ إلّا بناءً على ما نُسِبَ إلى الكليني من الاكتفاء بالأربعة من غير ضمّ الإياب.

وأمّا إذا لم يتخلّل فكان عازماً على الرجوع قبل العشرة فهل يقصّر حينئذ أو يتمّ ، أو يتخيّر بينهما ، أو يفصّل بين الصوم فلا يفطر وبين الصلاة فيقصّر أو يتخيّر؟ فيه وجوه ، بل أقوال.

__________________

(١) في الجهة الأُولى.

(٢) في الجهة الأُولى.

١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

نسب إلى المشهور كما في الجواهر التخيير (١) ، بل عن الأمالي نسبته إلى دين الإمامية (٢).

وذهب جماعة إلى وجوب التمام ، ومال إليه شيخنا الأنصاري في بعض مؤلّفاته على ما نسبه إليه الهمداني (قدس سره) (٣) ، واختاره الفاضلان (٤) والسيِّد المرتضى (٥) والحلّي (٦) وغيرهم.

والمعروف بين متأخِّري المتأخِّرين تعيّن القصر وأنّ حكمه حكم من يرجع ليومه. وهذا القول منسوب إلى ابن أبي عقيل أيضاً ، رواه صاحب الوسائل عن كتابه نقلاً عن العلّامة وغيره ، وأنّه نسب ذلك إلى آل الرسول (٧).

قال صاحب الوسائل بعد هذه الحكاية ما لفظه : وكلام ابن أبي عقيل هنا حديث مرسل عن آل الرسول ، وهو ثقة جليل ، انتهى. هذه هي حال الأقوال في المسألة.

أمّا القول بالتمام : فقد استدلّ له بأصالة التمام ، وأنّه هو الفرض الأوّلي المجعول في الشريعة المقدّسة من وجوب سبع عشرة ركعة على كلّ مكلّف في كلّ يوم خرجنا عن ذلك بما ثبت من وجوب التقصير على المسافر ، ففي كلّ مورد ثبت

__________________

(١) الجواهر ١٤ : ٢١٦.

(٢) أمالي الصدوق : ٧٤٣.

(٣) مصباح الفقيه (الصلاة) : ٧٢٧ السطر ١٩.

(٤) المعتبر ٢ : ٤٦٨ ، المختلف ٢ : ٥٢٧ / المسألة ٣٩٠.

(٥) حكاه عنه في السرائر ١ : ٣٢٩ ، ويستفاد أيضاً من جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) ٣ : ٤٧.

(٦) السرائر ١ : ٣٢٩.

(٧) الوسائل ٨ : ٤٦٧ / أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ١٤ ، المختلف ٢ : ٥٢٦ / المسألة ٣٩٠.

١١

.................................................................................................

______________________________________________________

القصر فهو ، وأمّا إذا لم يثبت أو تعارض الدليلان ولم يمكن الترجيح فالمرجع بعد التساقط أصالة التمام لا محالة.

هذا ما تقتضيه القاعدة ، وقد وردت هناك روايات دلّت على التقصير في البريد مقيّداً بالرجوع ، أي بريد ذاهباً وبريد جائياً.

فإن قلنا بأنّها منصرفة في حدّ نفسها إلى الرجوع ليومه فلا إشكال ، إذ المقتضي للتقصير في غير مريد الرجوع ليومه قاصر في نفسه ، فلا دليل على القصر فيه ، ومعه يكون المحكّم إطلاقات التمام.

وإن منعنا الانصراف وقلنا بانعقاد الإطلاق فيكفي في التقييد قوله (عليه السلام) في ذيل صحيحة ابن مسلم : «إنّه ذهب بريداً ورجع بريداً فقد شغل يومه» (١).

حيث يظهر منه أنّ المدار على شغل اليوم وأنّ موضوع الحكم هو السفر الشاغل ليومه فعلاً ولو ملفّقاً من الذهاب والإياب ، وأنّ هذا هو حدّ القصر فيختصّ بطبيعة الحال بما إذا رجع ليومه ، فلا تقصير فيما إذا رجع لغير يومه.

وحينئذ فيعارض هذه الأخبار ما دلّ على وجوب القصر حتّى فيما إذا رجع لغير يومه ، وعمدته أخبار عرفات (٢) ، وبعد التعارض والتساقط يرجع إلى أصالة التمام كما ذكرناه.

وفيه : مضافاً إلى أنّ ارتكاب التقييد بإرادة الرجوع ليومه من مجموع هذه الروايات بعيد جدّاً ، وكيف يمكن ذلك في مثل ما رواه الصدوق قال : «وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذا أتى ذباباً قصّر ، وذباب على بريد ، وإنّما فعل ذلك لأنّه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية فراسخ» (٣).

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٥٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ٩ [لاحظ الهامش في ص ٨].

(٢) وسيأتي بعضها في ص ٢٠.

(٣) الوسائل ٨ : ٤٦١ / أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ١٥ ، الفقيه ١ : ٢٨٧ / ١٣٠٤.

١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فانّ التعبير بـ «كان» الذي هو للاستمرار مشعر بأنّ ذلك كان ممّا يفعله (صلّى الله عليه وآله) مستمرّاً ويصدر منه مرّات عديدة ، إذ لم يقل رأيت مثلاً حتّى يقال إنّه اتّفق مرّة واحدة. ومن البعيد جدّاً أنّه (صلّى الله عليه وآله) في جميع أسفاره إلى ذباب كان يرجع ليومه أو ليلته ، بل كان يبيت ثمّة بطبيعة الحال.

أنّ هذه الصحيحة صحيحة ابن مسلم غير صالحة للتقييد في نفسها ، لأنّ شغل اليوم غير موضوع للحكم في شي‌ء من الأخبار ، إذ الأخبار الواردة في مسيرة يوم إنّما وردت في مقام بيان تقدير السّير لا في فعلية المسير في اليوم فليس مفادها الدلالة على اعتبار السير الفعلي ، إذ لا توجد رواية تدلّ على لزوم وقوع ثمانية فراسخ في يوم واحد.

بل لمّا سأل الراوي عن اختلاف سير القوافل وأنّ بعضها تسير عشرة فراسخ بل لعلّ الفرس في حال العدو يسير اثني عشر فرسخاً أجاب (عليه السلام) بأنّ العبرة بثمانية فراسخ المنطبقة في السير العادي مع المركوب العادي على ما يشغل يومه ويستوعب بياض النهار.

فليس مسير اليوم أو بياض النهار أو شغل اليوم بعناوينها موضوعاً للحكم حتّى يطبّقه الإمام (عليه السلام) على المسافة التلفيقية ولو بنحو الحكومة ، بل المراد السفر الذي يكون شاغلاً لليوم ولو شأناً ، المنطبق على ثمانية فراسخ ولو كانت ملفّقة من بريد ذاهباً وبريد جائياً ، سواء وقع ذلك في يوم واحد فكان شاغلاً ليومه فعلاً أم لا.

فليس المدار على الشغل الفعلي ، بل الاعتبار بالسّير الذي يكون محدوداً بكونه شاغلاً لليوم ولو شأناً وفي حدّ طبعه ، المنطبق على ثمانية فراسخ ، ولذا عبّر بثمانية فراسخ بدل شغل اليوم في صحيحة زرارة الواردة في مورد صحيح

١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ابن مسلم المتقدّمة ، أعني بريد ذاهباً وبريد جائياً (١).

فالمراد من صحيحة ابن مسلم أنّه أتى بشي‌ء شاغل ليومه ، وهذا هو الحدّ الموجب للتقصير ، لا أنّه شاغل فعلاً كي يختصّ بمريد الرجوع ليومه ، فلا تكون مقيّدة لتلك الأخبار كي تتحقّق المعارضة بينها وبين أخبار عرفات كما أُفيد حتّى يرجع إلى أصالة التمام. وهذا الوجه هو عمدة المستند لهذا القول ، وقد عرفت ضعفه.

وقد استدلّ أيضاً ببعض الروايات الأُخر :

منها : موثّقة عمار قال : «سألته عن الرجل يخرج في حاجة فيسير خمسة فراسخ أو ستّة فراسخ ويأتي قرية فينزل فيها ، ثمّ يخرج منها فيسير خمسة فراسخ أُخرى أو ستّة فراسخ لا يجوز ذلك أي لا يتعدّى عن هذا المقدار ثمّ ينزل في ذلك الموضع ، قال : لا يكون مسافراً حتّى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ ، فليتمّ الصلاة» (٢).

قالوا : إنّ العادة قاضية برجوع هذا الشخص الخارج لحاجة ما دون العشرة وعدم قصده للإقامة ، ومقتضى الإطلاق لزوم التمام سواء رجع ليومه أم لغير يومه ، والمتيقّن خروجه عن الإطلاق بمقتضى النصوص المتقدّمة هو الأوّل فيبقى الثاني مشمولاً للإطلاق.

وفيه : أنّ الإطلاق وإن كان مسلّماً ، إلّا أنّ ما دلّ على خروج الراجع ليومه بعينه يدلّ على خروج الراجع لغير يومه ، لأنّ دليل المقيّد وهي الروايات الدالّة على التقصير في بريد ذاهباً وبريد جائياً مطلق أيضاً يشمل بإطلاقه كلتا الصورتين ، فلا موجب لرفع اليد عن هذا الإطلاق وتخصيصه بالراجع

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٦١ / أبواب المسافر ب ٢ ح ١٤ ، ١٥.

(٢) الوسائل ٨ : ٣٦٩ / أبواب صلاة المسافر ب ٤ ح ٣.

١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ليومه. وعليه فتحمل الموثّقة القاضية بالتمام على قاصد العشرة أو المتردّد في المسافة.

ومنها : ما رواه الشيخ بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «سألته عن التقصير في الصلاة فقلت له : إنّ لي ضيعة قريبة من الكوفة وهي بمنزلة القادسية من الكوفة ، فربّما عرضت لي حاجة انتفع بها أو يضرني القعود عنها في رمضان فأكره الخروج إليها لأنّي لا أدري أصوم أو أفطر ، فقال لي : فاخرج فأتمّ الصلاة وصم ، فانّي قد رأيت القادسية» (١).

فإنّ المسافة بين القادسية والكوفة خمسة عشر ميلاً ، أي خمسة فراسخ كما هو المعلوم من الخارج المصرّح به في البحار نقلاً عن المغرب كما في الحدائق (٢) ومن البعيد جدّاً أن يريد السائل الرجوع ليومه بأن يقطع عشرة فراسخ ذهاباً وإياباً كما لا يخفى ، وبما أنّ له حاجة فيرجع لا محالة عند قضائها بعد يوم أو يومين ونحو ذلك بطبيعة الحال كما هو الغالب.

فيكون موردها ما إذا خرج إلى ما دون المسافة قاصداً الرجوع لغير يومه وما قبل عشرة أيام كما هو محلّ الكلام ، وقد حكم (عليه السلام) بالتمام فتعارض ما دلّ على لزوم التقصير حينئذ من أخبار عرفات وغيرها ، فيرجع بعد التعارض إلى أصالة التمام. وهذه هي عمدة المستند لهذا القول بعد ما عرفت من الوجه الأوّل.

وفيه أوّلاً : أنّها معارضة في موردها بموثّقة ابن بكير الواردة في نفس هذا الموضوع ، أعني الخروج إلى القادسية ، وقد صرّح فيها بلزوم التقصير ، قال : «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القادسية أخرج إليها ، أُتمّ الصلاة أو

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٩٢ / أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٤ ، التهذيب ٤ : ٢٢٢ / ٦٤٩.

(٢) الحدائق ١١ : ٣١٨.

١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أُقصّر؟ قال : وكم هي؟ قلت : هي التي رأيت ، قال : قصّر» (١).

فإنّهما وردتا في موضوع واحد وهي القادسيّة وما ضاهاها. ومقتضى الإطلاق فيهما عدم الفرق بين ما لو قصد الرجوع ليومه أو لا ، قصد الإقامة عشرة أيام أو لا ، كانت الضيعة أو القادسية وطناً له ولو شرعاً أو لا ، فهما متعارضتان بالإطلاق في مورد واحد.

ولا ينبغي الريب في أنّ مريد الرجوع ليومه خارج عن إطلاق الرواية الأُولى بمقتضى نصوص المسافة التلفيقية الدالّة على لزوم التقصير في بريد ذاهباً وبريد جائياً ، فإنّه القدر المتيقّن منها ، ومقتضى الإطلاق فيها عدم الفرق بين مريد الرجوع ليومه أو لغير يومه كما ذكرناه ، إذ لا موجب للتخصيص بالأوّل.

وعليه فتكون هذه النصوص شاهدة للجمع بين الروايتين ، فتحمل الموثّقة على ما لو قصد الرجوع ليومه أو غير يومه. ورواية عبد الرحمن على ما لو قصد الإقامة أو كانت الضيعة وطنه الشرعي ، فيرتفع التنافي لتعدّد الموردين.

وعلى الجملة : الاستدلال برواية ابن الحجاج يتوقف على التمسّك بالإطلاق ، فإذا رفعنا اليد عنه لأجل المعارضة مع الموثّقة فلا دلالة لها على التمام في قاصد الرجوع لغير يومه حتّى يتوهّم المعارضة مع أخبار عرفات.

وثانياً : لو سلّمنا دلالة هذه الرواية بل وغيرها على التمام كدلالة أخبار عرفات وغيرها على القصر ، فلا تعارض بينهما لتصل النوبة إلى التساقط والرجوع إلى أصالة التمام ، لإمكان الجمع الدلالي بالحمل على التخيير ، فانّ كلا منهما ظاهر في الوجوب التعييني ، فيرفع اليد عنه ويحمل على التخييري.

وبعبارة اخرى : اتصاف الوجوب بالتعيينية مستفاد من الإطلاق دون اللّفظ

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٥٨ / أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ٧.

١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

كما حرّر في الأُصول (١) ، فكلتاهما تدلّان على الوجوب بالمطابقة ، ولا معارضة بينهما في هذه الدلالة ، وإنّما تتعارضان في الدلالة الالتزامية المستفادة من الإطلاق ، وهي الدلالة على كون الوجوب تعيينياً ، فيرفع اليد عن كلّ منهما من أجل المعارضة ، ونتيجته الحمل على الوجوب التخييري.

وعلى الجملة : فلا تعارض بين نفس الروايتين ليلتزم بالتساقط ويرجع إلى أصالة التمام ، بل بين الإطلاقين ، ومقتضى الصناعة ارتكاب التقييد المستوجب للحمل على التخيير كما عرفت.

وثالثاً : أنّ هذه الرواية رواية عبد الرحمن بن الحجاج ضعيفة السند وإن عبّر عنها بالصحيحة في كلمات غير واحد ، لضعف طريق (٢) الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضال بعلي بن محمد بن الزبير (٣) ، فإنّه لم يوثّق. وكأنّ التعبير المزبور ناشٍ عن ملاحظة ظاهر السند ، حيث إنّه سند عال ، مع الغفلة عن التدقيق في طريق الشيخ إلى ابن فضال ، فانّ الفصل بينهما يقرب من مائتي سنة ، فلا يمكن روايته عنه بلا واسطة ، وفي الطريق من عرفت. فلا جرم تكون الرواية محكومة بالضعف.

فما ذكرناه من المعارضة وسقوط الإطلاقين مبني على تسليم صحّة الرواية وإلّا فهي ضعيفة لا يعتنى بها في نفسها ، فلا تصل النوبة إلى المعارضة ، بل المتبع موثّقة ابن بكير السليمة عن المعارض ، الصريحة في تحتّم التقصير ، الموافقة مع أخبار عرفات.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٢٠١.

(٢) هكذا أفاد (دام ظلّه) سابقاً ، ولكنّه بنى أخيراً على صحّته لوجود طريق آخر معتبر للنجاشي بعد فرض وحدة الشيخ حسبما أوعز إليه في معجم رجال الحديث ١ : ٧٨.

(٣) الفهرست : ٩٢ / ٣٨١.

١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

والمتحصّل من جميع ما قدّمناه : أنّه لم توجد هناك رواية معتبرة تدلّ على التمام في محلّ الكلام ، لتقع المعارضة بينها وبين أخبار عرفات وغيرها ممّا دلّ على لزوم التقصير ليتصدّى للعلاج. فالصحيح أنّ القول بالتمام ممّا لا أساس له بل الأمر دائر بين التقصير أو التخيير.

بقي شي‌ء وهو أنّ القائل بالتمام قد يدّعي أنّ أخبار عرفات معرض عنها بين الأصحاب ، لعدم التزامهم بمضمونها من الحكم بالقصر ، فتسقط عن الحجّية فتبقى أخبار التمام سليمة عن المعارض.

وفيه أوّلاً : أنّ الإعراض لا يوجب سقوط الصحيح عن الحجّية كما حقّقناه في محلّه (١) ولا سيما في مثل المقام ، فانّ تلك الأخبار كثيرة صحاح متظافرة ، بل ادّعى بعضهم تواترها إجمالاً بحيث يقطع بصدور بعضها عن المعصوم (عليه السلام).

وثانياً : أنّ الأصحاب لم يعرضوا عن تلك الأخبار ، بل حملوها على الوجوب التخييري ، لزعم المعارضة بينها وبين أخبار التمام كما ذكرناه ، فرفعوا اليد عن إطلاقها لا عن أصلها كما لا يخفى.

وأمّا القول بالتخيير : فمبني على أحد أمرين على سبيل منع الخلو :

أحدهما : دعوى تمامية الروايات المستدلّ بها على التمام ومعارضتها مع أخبار عرفات ، والجمع بينها بالحمل على التخيير بعد سقوط الإطلاق من الطرفين كما مرّ.

ولكنّه مبني على وجود رواية معتبرة دالّة على التمام في قاصد الرجوع لغير يومه ، وهي مفقودة كما عرفت. فأخبار عرفات لا معارض لها.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٢٠٣.

١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ثانيهما : أن يقال إنّ الأخبار الدالّة على ثبوت التقصير في المسافة التلفيقية وإن رجع لغير يومه كأخبار عرفات وغيرها معارضة بما دلّ من الأخبار الكثيرة على تحديد التقصير بثمانية فراسخ امتدادية لا أقل من ذلك ، فإنّها ظاهرة في اختصاص لزوم التقصير بالثمانية الامتدادية وعدم ثبوته فيما دونها ، كما أنّ تلك ظاهرة في تعيّن التقصير لدى التلفيق ، فيرفع اليد عن هذا الظهور ، وتحمل نصوص التلفيق على التخيير وأنّ المراد بها جواز القصر لا تعينه ، بقرينة نصوص الامتداد النافية للزوم القصر عمّا دون الثمانية. وبذلك يتمّ التخيير المنسوب إلى المشهور.

وفيه أوّلاً : أنّه لا معارضة بين الطائفتين ليتصدّى للعلاج ، فانّ نصوص التلفيق حاكمة على أخبار الامتداد وشارحة للمراد من الثمانية وأنّها أعمّ من التلفيقية ، كما يكشف عنه بوضوح قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة : «وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إذا أتى ذباباً قصّر ، وذباب على بريد وإنّما فعل ذلك لأنّه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية فراسخ» (١).

فإنّها دالّة على تحقّق الثمانية بالتلفيق ، وأنّ نصوصها وإن كانت ظاهرة في السّير الامتدادي إلّا أنّ موضوع الحكم أعمّ منه ومن التلفيق ، ومعه فلا موجب لرفع اليد عن ظهور الوجوب في التعييني. إذ لا تعارض بين الحاكم والمحكوم ليحتاج إلى الجمع كما هو ظاهر جدّاً.

وثانياً : أنّ هذا الوجه لو تمّ لعمّ وكان سنداً لما نسب إلى الشيخ في التهذيب والاستبصار (٢) والمبسوط (٣) من الحكم بالتخيير حتّى لو رجع ليومه ، الذي قلنا

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٦١ / أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ١٥.

(٢) تقدّم مصدرهما في ص ٦.

(٣) المبسوط ١ : ١٤١.

١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

سابقاً (١) أنّه لا وجه له ، فيحكم بالتخيير في التلفيق مطلقاً رجع ليومه أو لا فيبقى التفصيل المنسوب إلى المشهور من تعيّن التقصير في من رجع ليومه والتخيير في غير يومه عارياً عن الشاهد ، فانّ هذه الأخبار مطلقة من حيث الرجوع ليومه أو غير يومه كما هو ظاهر ، فكيف يمكن التفكيك بينهما.

وعلى الجملة : هذا التقرير إنّما يصحّ وجهاً لكلام الشيخ لا لمقالة المشهور من التفصيل المزبور كما هو واضح.

وثالثاً : أنّ الروايات الواردة في من رجع لغير يومه وعمدتها أخبار عرفات آبية عن الحمل على التخيير جدّاً ، فإنّها كالصريح في تعيّن القصر ، وقد عرفت أنّها غير معرض عنها عند الأصحاب ، بل اعتمدوا عليها وحملوها بزعمهم على التخيير ، مع إباء ألسنتها عن الحمل عليه كما عرفت ، فلا يكون من الجمع العرفي في شي‌ء ، وهذه الأخبار كثيرة :

منها : صحيحة معاوية بن عمار : «أنّه قال لأبي عبد الله (عليه السلام) : إنّ أهل مكّة يتمّون الصلاة بعرفات ، فقال : ويلهم أو ويحهم ، وأيّ سفر أشدّ منه لا تتم» (٢) فانّ التعبير بالويل أو الويح لا يستقيم مع التخيير.

ودعوى أنّ الويل راجع إلى التزامهم بالتمام لعلّه خلاف صريح الرواية لظهورها في رجوعه إلى نفس العمل أي لا تعمل كعملهم ، لا إلى شي‌ء آخر خارج عنه.

ومنها : صحيحة زرارة المشتملة على قصّة عثمان وأمره علياً (عليه السلام) أن يصلّي بالناس بمنى تماماً ، وامتناعه (عليه السلام) عن ذلك أشدّ الامتناع إلّا

__________________

(١) في ص ٦.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٦٣ / أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ١.

٢٠