موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

انفصال زمان الشك عن زمان اليقين لا مجال للتمسك بدليل حجية الاستصحاب ، لما عرفت من أنّ الشبهة مصداقية ، هذا ملخص ما ذكره في الكفاية متناً وهامشاً.

والانصاف أنّه لا يرجع إلى محصّل ، لما عرفت سابقاً (١) من أنّه لا يعتبر في الاستصحاب سبق اليقين على الشك ، لصحة جريان الاستصحاب مع حدوثهما معاً ، وإنّما المعتبر تقدم زمان المتيقن على زمان المشكوك فيه ، بأن يكون المتيقن هو الحدوث والمشكوك فيه هو البقاء. وما يستفاد من ظاهر قوله عليه‌السلام : «لأ نّك كنت على يقين من طهارتك فشككت» من حدوث الشك بعد اليقين ، فهو ناظر إلى غلبة الوقوع في الخارج ، لا أنّه معتبر في الاستصحاب. نعم ، فيما إذا كان الشك حادثاً بعد اليقين يعتبر في جريان الاستصحاب فيه اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، بمعنى عدم تخلل يقين آخر بينهما كما في المثال المتقدم ، وإلاّ لم يصدق نقض اليقين بالشك ، بل يصدق نقض اليقين باليقين ، وعليه فلا مانع من جريان الاستصحاب في المقام ، فانّه بعد اليقين بعدم إسلام الولد يوم الخميس نشك في بقائه إلى زمان موت والده ، ولم يتخلل بين اليقين والشك يقين آخر حتى يكون فاصلاً بين اليقين الأوّل والشك.

ولاتتصور الشبهة المصداقية في الامور الوجدانية من اليقين والشك وغيرهما من الادراكات ، فانّه لا معنى للشك في أنّ له يقين أم لا ، أو في أنّ له شك أم لا. نعم ، الشبهة المصداقية متصورة في الامور الخارجية ، كعدالة زيد وفسق عمرو مثلاً ، فلا معنى للشك في أنّ زمان الشك هل هو يوم الجمعة حتى يكون متصلاً بزمان اليقين ، أو يوم السبت فيكون منفصلاً عنه ، بل الشك في حدوث الاسلام

__________________

(١) في ص ٨.

٢٢١

في زمان حدوث الموت موجود يوم السبت ـ مع اليقين بعدم الاسلام يوم الخميس ـ فليس لنا تردد في زمان الشك أصلاً. نعم ، لنا شك في زمان الموت واقعاً لاحتمال كونه يوم الجمعة أو يوم السبت ، فان كان الموت يوم الجمعة ، فلا محالة يكون الاسلام يوم السبت ، وإن كان الموت يوم السبت ، فيكون الاسلام يوم الجمعة ، للعلم الاجمالي بكون أحدهما يوم الجمعة والآخر يوم السبت ، وهذا التردد لا يضر باستصحاب عدم الاسلام حين الموت ، لتمامية أركانه من اليقين والشك بلا تخلل يقين آخر بينهما ، كيف ولو كان مثل هذا التردد مانعاً عن جريان الاستصحاب ، لكان مانعاً عنه في سائر المقامات أيضاً ، كما إذا علمنا بأنّ زيداً إن شرب السم الفلاني فقد مات قطعاً ، وإن لم يشرب فهو حي ، فاحتمال شرب السم وعدمه صار منشأ للشك في بقاء حياته ، ولا يضر باستصحاب حياته ، فكذا التردد في كون الموت يوم الجمعة أو يوم السبت في المقام صار موجباً للشك في حدوث الاسلام حين الموت ، ولايضر بالاستصحاب ، لتمامية أركانه من اليقين والشك.

وربّما يقال في توجيه كلام صاحب الكفاية قدس‌سره : إنّ الشك في المقام لا يعرض إلاّبعد اليقين بالانتقاض ، لأنّ الشك في حدوث الاسلام حين الموت لا يعرض إلاّبعد العلم بالموت ، ولا علم بالموت إلاّفي يوم السبت ، ومعه نعلم بوجود الاسلام أيضاً ، فيكون زمان الشك هو يوم السبت ، وزمان اليقين بعدم الاسلام يوم الخميس ، ويوم الجمعة فاصل بينهما ، فيكون المقام مما انفصل زمان الشك عن زمان اليقين يقيناً ، لا مما يحتمل الانفصال حتى يقال إنّ الشبهة المصداقية غير متصور في الامور الوجدانية.

وهذا التوجيه ـ مع أنّه ليس بمراد لصاحب الكفاية قدس‌سره وإلاّ علل عدم جريان الاستصحاب باحراز الانفصال لا بعدم إحراز الاتصال ـ غير تام

٢٢٢

في نفسه ، لما ذكرناه مراراً من أنّه لا يعتبر في الاستصحاب كون اليقين سابقاً على الشك ، بل يكفي حدوثهما في زمان واحد ، بأن يكون اليقين متعلقاً بالحدوث والشك متعلقاً بالبقاء ، والمقام كذلك ، فانّه في يوم السبت بعد العلم بوجود الموت والاسلام فعلاً لنا يقين بعدم الاسلام وبعدم الموت يوم الخميس ، وشك في حدوث الاسلام حين الموت ، فعدم الاسلام حين الموت متعلق لليقين حدوثاً ، ومتعلق للشك بقاءً ، ومعنى اتصال الشك باليقين عدم تخلل يقين آخر بينهما. وليس في المقام يقين آخر فاصل بين اليقين الأوّل والشك حتى يكون من نقض اليقين باليقين ، لأنّ اليقين الآخر متعلق بوجود الاسلام فعلاً ، وهو ليس بناقض لليقين الأوّل ، لعدم كونه متعلقاً بعين ما تعلق به اليقين الأوّل ، لأن متعلق اليقين الأوّل حدوثاً ومتعلق الشك بقاءً هو عدم الاسلام حين الموت ، ومتعلق هذا اليقين هو وجود الاسلام فعلاً ، فلا يرتبط أحدهما بالآخر.

فتحصّل مما ذكرناه : أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب فيما إذا كان الأثر لأحدهما ، ويسقط للمعارضة فيما إذا كان الأثر لكل واحد منهما كما عليه الشيخ قدس‌سره وجماعة من المحققين.

ثمّ إنّه ربّما يمنع من جريان الاستصحاب في موردين بتوهم أنّهما من الشبهة المصداقية من حيث اعتبار عدم تخلل يقين آخر بين اليقين السابق والشك اللاحق ، ونتعرض لهما بالمناسبة وإن لم يكن لهما دخل بمسألة مجهولي التاريخ :

أحدهما : ما ذكره بعض الأكابر ، وهو ما إذا علمنا بعدالة زيد مثلاً في زمان ، وشككنا في بقائها الآن ، ولكن نحتمل كوننا متيقنين بفسقه بعد اليقين بعدالته ، فلا يجري استصحاب العدالة ، لاحتمال تخلل اليقين بالفسق بين اليقين بالعدالة والشك في بقائها ، فتكون الشبهة مصداقية.

وفيه : ما مرّ مراراً من أنّه لا يعتبر في الاستصحاب سبق اليقين على الشك ،

٢٢٣

بل يكفي حدوثهما معاً ، فمع فرض اليقين الفعلي بحدوث العدالة والشك في بقائها لا يمنع من جريان الاستصحاب احتمال وجود اليقين بفسقه سابقاً ، بل لا يقدح في الاستصحاب اليقين بوجود اليقين بفسقه ، مع احتمال كون اليقين بالفسق مخالفاً للواقع ، فضلاً عن احتمال اليقين بفسقه. فاذا علمنا يوم الجمعة بعدالة زيد ، ثمّ علمنا بفسقه يوم السبت ، ثمّ تبدل اليقين بفسقه بالشك الساري فيه يوم الأحد ، فيوم الأحد نعلم بحدوث عدالته يوم الجمعة ونشك في بقائها الآن ، لاحتمال كون اليقين بفسقه يوم السبت مخالفاً للواقع ، فباعتبار هذا اليقين الفعلي يوم الأحد بحدوث العدالة يوم الجمعة والشك في بقائها يجري الاستصحاب. ولا يقدح فيه اليقين بالفسق بعد تبدله بالشك الساري ، فكيف باحتمال اليقين بالفسق.

مضافاً إلى أنّه لو كان احتمال اليقين مانعاً عن جريان الاستصحاب ، لمنع منه في كثير من الموارد التي لا يلتزم بعدم جريان الاستصحاب فيها أحد ، وهي الموارد التي يكون ارتفاع المتيقن السابق فيها مستلزماً للعلم بالارتفاع ، فيكون احتمال الارتفاع ملازماً لاحتمال العلم بالارتفاع ، كما إذا كان زيد محدثاً وشك في الطهارة من الوضوء أو الغسل ، فانّ احتمال ارتفاع الحدث بالوضوء أو الغسل ملازم لاحتمال العلم ، لأنّ الوضوء والغسل من الامور العبادية التي لا يمكن تحققها إلاّمع العلم والالتفات ، فلا بدّ من القول بعدم جريان الاستصحاب على المبنى المذكور ، لاحتمال العلم بالانتقاض ، ولا يلتزم به أحد.

ثانيهما : ما ذكره المحقق النائيني رداً على السيد قدس‌سره في العروة وبيانه : أنّ السيد قدس‌سره ذكر في العروة (١) أنّه إذا علمنا بنجاسة إناءين

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ١١٥ / فصل في طرق ثبوت التطهير ، المسألة ٢ [٣٩٤].

٢٢٤

مثلاً ، ثمّ علمنا بطهارة أحدهما ، فيتصور ذلك بصور ثلاث : الاولى : أن نعلم بطهارة أحدهما علماً تفصيلياً ، فاشتبه الطاهر المعلوم بالتفصيل بغيره. الثانية : أن نعلم بطهارة أحدهما لا بعينه بحيث لا يكون للطاهر تعيّن وامتياز بوجه من الوجوه ، بل يمكن أن لايكون له في الواقع أيضاً تعيّن ، كما إذا كان كلاهما طاهراً في الواقع. الثالثة : أن نعلم بطهارة أحدهما بعنوان معيّن ونشك في انطباقه ، كما إذا علمنا بطهارة إناء زيد وشككنا في انطباق هذا العنوان على هذا الاناء أو ذاك.

وحكم السيد قدس‌سره بنجاسة الاناءين في جميع هذه الصور الثلاث عملاً بالاستصحاب.

وردّ عليه المحقق النائيني (١) قدس‌سره واختار عدم جريان الاستصحاب في جميعها ، لكن لا بمناط واحد ، بل حكم بعدم جريانه في الصورة الاولى والثالثة ، لكون الشبهة مصداقية ، فانّا نعلم بانتقاض اليقين بالنجاسة باليقين بالطهارة بالنسبة إلى أحد الاناءين ، إمّا باليقين التفصيلي ـ كما في الصورة الاولى ـ وإمّا باليقين المتعلق بعنوان معيّن شككنا في انطباقه ـ كما في الصورة الثالثة ـ فلا مجال لجريان الاستصحاب في شيء من الاناءين ، لأن كل واحد منهما يحتمل أن يكون هو الاناء الذي انتقض العلم بنجاسته بالعلم بطهارته.

وأمّا الصورة الثانية : فحكمه بعدم جريان الاستصحاب فيها ليس مبنياً على احتمال انفصال زمان الشك عن زمان اليقين بيقين آخر ـ كما في الصورة الاولى والثالثة ـ فانّ الشك في بقاء النجاسة في كل منهما متصل باليقين بالنجاسة ، ولم يتخلل بين زمان اليقين وزمان الشك يقين آخر ، والعلم الاجمالي بطهارة أحدهما

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٥٢ ـ ١٥٥ ، فوائد الاصول ٤ : ٥١٣ ـ ٥١٥.

٢٢٥

لا بعينه يكون منشأ للشك في بقاء النجاسة في كل منهما ، بخلاف الصورة الاولى والثالثة ، فان منشأ الشك في بقاء النجاسة فيهما هو اجتماع الاناءين واشتباه الطاهر بالنجس لا العلم بطهارة أحدهما ، فان متعلق العلم كان معلوماً بالتفصيل أو بالعنوان.

فحكمه بعدم جريان الاستصحاب في الصورة الثانية مبني على أنّ العلم الاجمالي بنفسه مانع عن جريان الاستصحاب ولو لم تلزم منه مخالفة عملية قطعية ، كما اختاره الشيخ خلافاً لصاحب الكفاية قدس‌سره. هذا ملخص مرام المحقق النائيني قدس‌سره في المقام.

أقول : أمّا ما ذكره في الصورة الثانية من أنّ العلم الاجمالي بنفسه مانع عن جريان الاستصحاب ـ ولو لم تلزم منه مخالفة عملية ـ فهو وإن كان خارجاً عن محل الكلام فعلاً ، لأنّ الكلام في بيان الشبهة المصداقية المانعة عن جريان الاستصحاب ، إلاّأنّ الصحيح ما ذكره صاحب الكفاية من أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي ما لم تلزم منه مخالفة عملية ، فان مؤدى الاستصحاب هو الحكم بنجاسة كل من الطرفين بخصوصه ، وليس لنا علم بطهارة كل منهما بخصوصه. والمثبت منه لا يكون حجة حتى على القول بكونه من الأمارات ـ كما هو المختار ـ فلا يكون مفاد استصحاب النجاسة في أحدهما بخصوصه هو الطهارة في الطرف الآخر حتى يكون معارضاً لاستصحاب النجاسة في الطرف الآخر ، وسنتعرض لتفصيل ذلك في أواخر بحث الاستصحاب (١) إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) فى ص ٣٠٥ ٣٠٩.

٢٢٦

وأمّا ما ذكره في الصورة الاولى والثالثة من عدم جريان الاستصحاب لكون الشبهة مصداقية ، ففيه : أنّ الشبهة المصداقية غير متصورة في الامور الوجدانية من اليقين والشك ، فانّه إن احتملت الطهارة في كل واحد من الاناءين في المثال المذكور ، فهو شك بالوجدان ، وإن لم تحتمل الطهارة فهو يقين كذلك ، وقد مرّ غير مرة (١) أنّه لايعتبر في الاستصحاب كون اليقين سابقاً على الشك ، بل المعتبر كون المتيقن سابقاً على المشكوك فيه ، فالميزان في جريان الاستصحاب هو اليقين الفعلي بالحدوث والشك الفعلي في البقاء ، وهما موجودان بالنسبة إلى كل واحد من الاناءين بخصوصه.

ولا يقدح في الاستصحاب احتمال كون هذا الاناء متعلقاً لليقين بالطهارة سابقاً ، فانّ الاستصحاب جارٍ باعتبار اليقين الفعلي بحدوث النجاسة مع الشك في بقائها لا باعتبار اليقين السابق ، وقد ذكرنا (٢) أنّ اليقين بكون هذا الاناء متعلقاً لليقين بالطهارة سابقاً لا يقدح في الاستصحاب مع وجود اليقين الفعلي بالنجاسة والشك في بقائها ، فضلاً عن احتمال كون هذا الاناء متعلقاً لليقين السابق بالطهارة. نعم ، اليقين السابق بالطهارة كان مانعاً عن استصحاب النجاسة حين وجوده.

وبالجملة : بعد كون الميزان في الاستصحاب هو اليقين الفعلي بالحدوث والشك الفعلي في البقاء ، لا يضره اليقين السابق علماً أو احتمالاً. نعم ، احتمال وجود اليقين الفعلي بالطهارة قادح في استصحاب النجاسة ، ولكنّه غير متصور ، لكون اليقين من الامور الوجدانية ، فلا يتصور فيه الاحتمال كما تقدم.

__________________

(١) كما في ص ٨.

(٢) في ص ٢٢٤.

٢٢٧

هذا كله فيما إذا كان أحد الاناءين متعلقاً لليقين التفصيلي بالطهارة ثمّ اشتبه مع المتنجس.

ومنه يظهر الكلام فيما إذا كان اليقين متعلقاً بعنوان شك في انطباقه ، فانّ عدم قدح احتمال انطباق عنوان تعلق به اليقين في جريان استصحاب النجاسة أوضح من عدم قدح احتمال اليقين التفصيلي بطهارة أحدهما بعد كون الميزان في الاستصحاب هو اليقين الفعلي لا اليقين السابق ، وقد ذكرنا سابقاً (١) نقضاً في المقام وهو أنّه إذا رأينا جنازة عالم نحتمل انطباق هذا العنوان ـ أي العالم ـ على المقلَّد ، فهل يكون هذا الاحتمال مانعاً عن استصحاب حياة المقلَّد ، ولا أظن أن يلتزم به أحد.

ومن متفرعات هذا الكلام : مسألة دوران الأمر بين كون الدم من المسفوح أو من المتخلف ، بناءً على كون الدم مطلقاً نجساً ولو في الباطن كما هو المعروف ، ولذا يعدّون خروج الدم المتعارف من المطهّرات لكونه مطهّراً للدم المتخلف ، فاذا رأينا دماً في ثوبنا مثلاً ، وشككنا في كونه من المسفوح أو من المتخلف ، فربما يقال بجريان استصحاب النجاسة ، لأنّ الدم كله نجس ولنا يقين بطهارة الدم المتخلف ، ونشك في انطباقه على هذا الدم ، فيجري استصحاب النجاسة. ولا يقدح فيه احتمال انطباق العنوان الذي كان متعلقاً لليقين بالطهارة.

وقد يقال بجريان الاستصحاب الموضوعي ، وهو أصالة عدم خروج هذا الدم من الذبيحة ، فيحكم بطهارته.

وقد منع المحقق النائيني (٢) قدس‌سره جريان كلا الاستصحابين ، لاحتمال

__________________

(١) في ص ١٤٥.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ١٥٥ و ١٥٦ ، فوائد الاصول ٤ : ٥١٦ و ٥١٧.

٢٢٨

انطباق عنوان المسفوح فيكون مانعاً عن جريان الاستصحاب الموضوعي ، ولاحتمال انطباق عنوان المتخلف فيكون مانعاً عن جريان الاستصحاب الحكمي ، أي استصحاب النجاسة.

وقد ظهر مما ذكرناه أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب من هذه الجهة ، إلاّ أنّه مع جريان الاستصحاب الموضوعي لا تصل النوبة إلى الاستصحاب الحكمي ، فيكون الدم المذكور محكوماً بالطهارة ، هذا ملخص الكلام في مجهولي التاريخ.

وأمّا إذا كان أحد الحادثين معلوم التاريخ والآخر مجهول التاريخ ، فقد ذكرنا أنّه يتصور بصور أربعة ، لأنّ الأثر تارةً مترتب على الوجود الخاص من السبق أو اللحوق ، واخرى على العدم. وعلى الأوّل فامّا أن يكون الأثر مترتباً على الوجود المحمولي المعبّر عنه بمفاد كان التامة ، وإمّا أن يكون مترتباً على الوجود النعتي بمعنى الاتصاف بالسبق أو اللحوق المعبّر عنه بمفاد كان الناقصة. وعلى الثاني إمّا أن يكون الأثر مترتباً على العدم المحمولي المعبّر عنه بمفاد ليس التامة وإمّا أن يكون مترتباً على العدم النعتي المعبّر عنه بمفاد ليس الناقصة. وتفسير العدم النعتي بمفاد ليس الناقصة مجرد تعبير ، فان معنى العدم النعتي هو الاتصاف بالعدم ، فيكون مفاده القضية الموجبة معدولة المحمول لا القضية السالبة على نحو مفاد ليس الناقصة.

أمّا إذا كان الأثر مترتباً على الوجود بمفاد كان التامة ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب في نفسه ، إلاّأ نّه يسقط بالمعارضة فيما إذا كان الأثر للطرفين مع العلم الاجمالي بسبق أحدهما على الآخر وعدم احتمال التقارن على ما تقدم بيانه في مجهولي التاريخ (١) ، فلا حاجة إلى الاعادة.

__________________

(١) راجع ص ٢١٥.

٢٢٩

وأمّا إذا كان الأثر مترتباً على الوجود النعتي بمعنى الاتصاف بالسبق أو اللحوق ، أو كان مترتباً على العدم النعتي بمعنى الاتصاف بالعدم ، فقد استشكل صاحب الكفاية (١) قدس‌سره في جريان الاستصحاب فيهما ، لما تقدم منه في مجهولي التاريخ ، من أنّ الاتصاف بالوجود أو العدم ليست له حالة سابقة ، حتى يجري الاستصحاب فيه. وقد تقدم (٢) جوابه من أنّ عدم الاتصاف له حالة سابقة ، فنستصحب عدم الاتصاف ، ونحكم بعدم ترتب أثر الاتصاف على ما تقدم بيانه في مجهولي التاريخ.

وأمّا إن كان الأثر مترتباً على العدم المحمولي المعبّر عنه بمفاد ليس التامة ، بأن كان مترتباً على عدم أحدهما في زمان وجود الآخر ، كمسألة موت المورّث وإسلام الوارث ، فان موضوع الارث مركب من وجود الاسلام وعدم الحياة ، ففصّل الشيخ (٣) وصاحب الكفاية (٤) والمحقق النائيني (٥) قدس‌سرهم بين معلوم التاريخ ومجهوله ، فاختاروا جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ ، وعدمه في معلومه.

أمّا جريانه في مجهول التاريخ فواضح ، لأن عدمه متيقن ، ونشك في انقلابه إلى الوجود في زمان وجود الآخر والأصل بقاؤه.

وأمّا عدم جريانه في معلوم التاريخ ، فقد ذكر صاحب الكفاية (قدس‌سره)

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٢١.

(٢) في ص ٢١٦.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٥٠.

(٤) كفاية الاصول : ٤٢١.

(٥) فوائد الاصول ٤ : ٥٠٨ ، راجع أيضاً أجود التقريرات ٤ : ١٤٦ ـ ١٤٨.

٢٣٠

له وجهاً ، والمحقق النائيني قدس‌سره وجهاً آخر تبعاً للشيخ قدس‌سره.

أمّا ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره فهو ما تقدم منه في مجهولي التاريخ من عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، فتكون الشبهة مصداقية ، فانّا إذا علمنا بعدم الموت وعدم الاسلام يوم الجمعة ، وعلمنا بالموت يوم السبت ، وشككنا يوم الأحد في أنّ الاسلام وقع ليلة السبت حتى يرث أو يوم الأحد حتى لا يرث ، وحيث إنّ الأثر لعدم الموت في زمان وجود الاسلام لا للعدم مطلقاً في عمود الزمان ويكون زمان وجود الاسلام مردداً بين ليلة السبت ويوم الأحد ، لم يحرز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، لأنّه إن كان حدوث الاسلام ليلة السبت ، فزمان الشك متصل بزمان اليقين ، وإن كان حدوث الاسلام يوم الأحد ، فزمان الشك منفصل عن زمان اليقين ، هذا.

وقد تقدم الجواب عنه في مجهولي التاريخ (١) من أنّ الميزان في الاستصحاب هو اليقين الفعلي مع الشك في البقاء ، لا اليقين السابق ، والمراد من اتصال زمان الشك بزمان اليقين عدم تخلل يقين آخر بين المتيقن السابق والمشكوك اللاحق ، وفي المقام كذلك ، فانّ يوم الأحد لنا يقيناً بعدم الموت يوم الجمعة ، ولنا شك في بقائه إلى زمان حدوث الاسلام ، فهذا المتيقن مشكوك البقاء بلا تخلل يقين آخر بينهما ، فلا مانع من جريان الاستصحاب ، فان حدوث الموت يوم السبت وإن كان متيقناً لنا ، إلاّأنّ وجوده حين وجود الاسلام مشكوك فيه ، فالأصل عدم وجوده حين الاسلام ، ومقتضاه عدم الارث.

وأمّا ما ذكره العلامة النائيني قدس‌سره فهو أنّ مفاد الاستصحاب هو الحكم ببقاء ما كان متيقناً في عمود الزمان وجرّه إلى زمان اليقين بالارتفاع ،

__________________

(١) راجع ص ٢٢١.

٢٣١

وليس لنا شك في معلوم التاريخ باعتبار عمود الزمان حتى نجرّه بالتعبد الاستصحابي ، فان عدم الموت متيقن يوم الجمعة وحدوثه معلوم يوم السبت ، وبقاؤه معلوم إلى يوم الأحد ، فليس لنا شك متعلق بالموت حتى نجري الاستصحاب.

وفيه : أنّ الموت وإن كان معلوم الحدوث يوم السبت ، إلاّأنّ الأثر لا يترتب عليه ، فانّ الأثر لعدم حدوث الموت في زمان الاسلام ، وحدوثه حين الاسلام مشكوك فيه ، ولا منافاة بين كونه معلوماً باعتبار ذاته ومشكوكاً فيه باعتبار وجوده حين الاسلام ، فانّه لا تنافي بين كون شيء معلوماً بعنوانٍ ومشكوكاً فيه بعنوانٍ آخر ، كما ذكرنا مثاله سابقاً (١) من أنّا نعلم بموت عالم ونشك في انطباقه على المقلَّد ، فموت العالم بعنوان أنّه عالم معلوم ، وبعنوان أنّه مقلد مشكوك فيه ، فلا مانع من جريان الاستصحاب في المقام ، بلا فرقٍ بين معلوم التاريخ ومجهوله ، غاية الأمر سقوطه بالمعارضة في بعض الصور على ما تقدم تفصيله في مجهولي التاريخ.

بقي الكلام في فرع ذكروه في المقام : وهو أنّه إذا كان الماء قليلاً طاهراً فعلمنا بتتميمه كراً وبملاقاته مع النجاسة ، وشككنا في تقدم الكرية على الملاقاة حتى يكون طاهراً ، أو تقدم الملاقاة على الكرية فيكون نجساً ، بناءً على أنّ تتميم الماء النجس كراً لا يوجب طهارته كما هو الظاهر ، فتارةً : تكون الملاقاة والكرية مجهولتي التاريخ. واخرى : تكون الكرية معلومة التاريخ ، والملاقاة مجهولة التاريخ. وثالثة : تكون الملاقاة معلومة التاريخ والكرية مجهولة ، والأقوال في المسألة ثلاثة :

__________________

(١) في ص ٢٢٨.

٢٣٢

القول الأوّل : هو الحكم بطهارة الماء في جميع الصور الثلاث.

أمّا في صورة الجهل بتاريخ الكرية والملاقاة ، فلعدم جريان الاستصحاب في نفسه ـ كما عليه صاحب الكفاية قدس‌سره ـ أو لسقوطه بالمعارضة ، لكون الأثر مترتباً على الطرفين ـ كما عليه الشيخ قدس‌سره ـ فلا مجال للرجوع إلى الاستصحاب على كل تقدير ، فيرجع إلى قاعدة الطهارة المستفادة من قوله عليه‌السلام : «كل شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر» (١).

وأمّا في صورة العلم بتاريخ إحداهما ، فلما ذكرنا من عدم الفرق بين معلوم التاريخ ومجهوله في جريان الاستصحاب ، فيسقط الاستصحاب للمعارضة ويرجع إلى قاعدة الطهارة.

القول الثاني : هو الحكم بنجاسة الماء في جميع الصور ، وهو الذي اختاره المحقق النائيني قدس‌سره ببيان سنذكره (٢) إن شاء الله تعالى.

القول الثالث : هو الحكم بطهارة الماء في صورتين ، وهما صورة الجهل بتاريخ كل منهما ، وصورة العلم بتاريخ الكرية ، وأمّا في صورة العلم بتاريخ الملاقاة فحكم بالنجاسة.

أمّا في صورة الجهل بتاريخ كل منهما فلتساقط الاستصحابين للمعارضة ، فيكون المرجع قاعدة الطهارة على ما تقدم. وأمّا في صورة العلم بتاريخ الكرية ، فلما بنى عليه سابقاً من عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ ، فلا يجري استصحاب عدم الكرية حين الملاقاة لمعلومية تاريخ الكرية ، ويجري استصحاب عدم الملاقاة حين الكرية فيحكم بالطهارة.

__________________

(١) المستدرك ٢ : ٥٨٣ / أبواب النجاسات ب ٣٠ ح ٤.

(٢) في الصفحة الآتية.

٢٣٣

وأمّا في صورة العلم بتاريخ الملاقاة ، فلا يجري استصحاب عدم الملاقاة حين الكرية ، لمعلومية تاريخ الملاقاة ، ويجري استصحاب عدم الكرية حين الملاقاة ، فيحكم بالنجاسة ، وحيث إنّ مبنى هذا التفصيل هو الفرق بين معلوم التاريخ ومجهوله في جريان الاستصحاب ، فقد تقدم ما فيه من عدم الفرق بينهما في جريان الاستصحاب على ما تقدم بيانه (١) مفصلاً.

أمّا القول الثاني وهو الحكم بنجاسة الماء في جميع الصور ، فاختاره المحقق النائيني (٢) قدس‌سره وذكر لكل واحدة من الصور وجهاً بيانه : أنّه في صورة الجهل بتاريخ كل منهما لا يجري استصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكرية ، لعدم ترتب الأثر الشرعي ـ وهو الحكم بالطهارة عليه ـ لأنّ الحكم بالطهارة مترتب على كون الكرية سابقة على الملاقاة ، لقوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كر لا ينجّسه شيء» (٣) فانّ المستفاد منه أنّه يعتبر في عدم انفعال الماء بالملاقاة كونه كراً قبلها ، ولا يمكن إثبات كون الكرية سابقةً على الملاقاة باستصحاب عدمها إلى حين الكرية ، إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، ويجري استصحاب عدم الكرية حين الملاقاة ، فيحكم بالنجاسة لاحراز الملاقاة بالوجدان ، وعدم الكرية بالأصل.

وأمّا في صورة العلم بتاريخ الملاقاة والجهل بتاريخ الكرية فلا يجري استصحاب عدم الملاقاة ، لمعلومية تاريخها ، ويجري استصحاب عدم الكرية حين الملاقاة فيحكم بالنجاسة ، بل الحكم في هذه الصورة أولى منه في الصورة

__________________

(١) في ص ٢٢٩ ـ ٢٣٢.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ١٦١ ـ ١٦٤ ، فوائد الاصول ٤ : ٥٢٨ ـ ٥٣٠.

(٣) الوسائل ١ : ١٥٨ و ١٥٩ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ و ٢ و ٦.

٢٣٤

السابقة ، لأنّ المانع من جريان استصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكرية في هذه الصورة أمران : الأوّل : كونه مثبتاً على ما تقدم. والثاني : معلومية تاريخ الملاقاة.

وأمّا في صورة العلم بتاريخ الكرية والجهل بتاريخ الملاقاة ، فلا يجري استصحاب عدم الكرية ، لمعلومية تاريخها ، ولا استصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكرية لكونه مثبتاً على ما تقدم بيانه من اعتبار الكرية قبل الملاقاة ، ولذا اختار هو وغيره عدم كفاية التتميم في طهارة الماء القليل الملاقي للنجس ، وبعد عدم جريان كلا الاستصحابين لا يمكن الرجوع إلى قاعدة الطهارة ، وذلك لما أسسه من الأصل ، وهو أنّه إذا استثني من حكم إلزامي عنوانٌ وجودي ، يفهم منه العرف أنّ إحراز هذا العنوان جزء للموضوع ، فلو لم يحرز العنوان المذكور يرجع إلى حكم العام ، فاذا قال المولى لعبده : لا تأذن في الدخول عليَّ إلاّللعالم مثلاً ، يفهم منه العرف أنّ الموضوع لجواز الاذن هو إحراز عنوان العالم.

والمقام من هذا القبيل ، لأنّه حكم في الشريعة المقدسة بوجوب الاجتناب عن الماء الملاقي للنجاسة ، واستثني منه ماء الكر ، فيفهم العرف منه أنّ الموضوع لعدم وجوب الاجتناب هو إحراز الكرية ، وفي صورة عدم إحراز الكرية يرجع إلى حكم العام ، وهو وجوب الاجتناب ، وفرّع على هذا الأصل فروعاً كثيرة :

منها : ما لو علمنا بقلة ماء وكريته ، وشككنا في أنّ المتقدم هو الكرية حتى يحكم بنجاسته فعلاً للملاقاة ، أو القلة حتى يحكم بعدم نجاسته ، فيتعارض استصحاب عدم الكرية حين الملاقاة باستصحاب عدم القلة ، وبعد التساقط لا يمكن الرجوع إلى قاعدة الطهارة ، لما تقدم من الأصل ، فيحكم بالنجاسة. وكذا الكلام في الماء الذي ليس له حالة سابقة كالمخلوق دفعةً فرضاً ، أو الماء الذي لا نعلم حالته السابقة.

٢٣٥

ومنها : ما لو شككنا في كون دمٍ أقل من الدرهم ، فيحكم بوجوب الاجتناب عنه ، لأنّ المستثنى من وجوب الاجتناب عن الدم هو الأقل من الدرهم ، ويفهم منه العرف أنّ المستثنى هو إحراز كونه أقل من الدرهم ، فمع عدم الاحراز يرجع إلى حكم العام ، لا للتمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، بل لأنّ المستثنى هو إحراز كونه أقل من الدرهم بحسب فهم العرف.

ومنها : ما لو شككنا في كون امرأة من المحارم ، فيحكم بحرمة النظر إليها ، لأنّ المستثنى من حرمة النظر هو إحراز كونها من المحارم بحسب فهم العرف ، فمع عدم الاحراز يرجع إلى حكم العام ، انتهى ملخص كلامه قدس‌سره. وفيه مواقع للنظر :

الموقع الأوّل : فيما أسسه من الأصل ، فانّه إن كان مراده أنّ الموضوع للحكم الواقعي هو الاحراز ، فيلزم منه انتفاء الطهارة واقعاً في صورة الشك في الكرية ، لكون موضوع الطهارة الواقعية هو إحراز الكرية على الفرض ، فلو توضأ بماء مشكوك الطهارة مع الغفلة ، يلزم الحكم ببطلان وضوئه ، ولو انكشف بعد الوضوء كونه كراً في الواقع ، وهذا شيء لم يلتزم به أحد.

وإن كان مراده أنّ الموضوع للحكم الظاهري هو إحراز الكرية ، وأنّ الحكم الظاهري مجعول طريقاً إلى الحكم الواقعي نظير وجوب الاحتياط ، وأنّ قوله عليه‌السلام : «إذا بلغ الماء قدر كر ...» إلخ منحل إلى بيان حكمين : أحدهما الحكم الواقعي وموضوعه الكر الواقعي. ثانيهما : الحكم الظاهري الطريقي ، وموضوعه إحراز الكرية ، فكل ما لم تحرز كريته محكوم بالانفعال ظاهراً.

ففيه : أنّ استفادة الحكمين من مثل قوله عليه‌السلام : «إذا بلغ الماء قدر كر ...» دونه خرط القتاد ، فانّا لا نفهم منه بعد مراجعة العرف إلاّحكماً واحداً

٢٣٦

واقعياً ، وهو أنّ الكر لا ينجس بملاقاة شيء من النجاسات ، وبعد عدم تمامية ما ذكره من الأصل وعدم جريان أصالة عدم الملاقاة لكونها من الاصول المثبتة على ما ذكره قدس‌سره وعدم جريان أصالة عدم الكرية لكونها معلومة التاريخ ، لا مانع من الرجوع إلى قاعدة الطهارة ، ولذا ذهب المشهور إلى الحكم بطهارة الماء في هذه الصورة ، أي صورة العلم بتاريخ الكرية والجهل بتاريخ الملاقاة.

وأمّا ما فرّعه على الأصل المذكور من الموارد ، فالحكم فيها وإن كان كما ذكره ، إلاّأ نّه ليس مبنياً على ما ذكره من الأصل ، بل مبني على جريان الأصل الموضوعي ، ففي مثل المرأة المرددة بين الأجنبية والمحرم ، يحكم بحرمة النظر إليها لأصالة عدم كونها من المحارم ، فانّ النسب من الامور الحادثة ، وكذا الكلام في الفروع الاخر ، غاية الأمر أنّ الأصل الموضوعي يختلف باختلاف الموارد ، ففي بعض الموارد يكون من قبيل أصالة العدم الأزلي ـ كما في المرأة المرددة ـ وفي بعض الموارد يكون من قبيل أصالة العدم النعتي كما في المثال المذكور في كلامه من الشك في كون أحدٍ عالماً مع قول المولى لا تأذن في الدخول عليَّ إلاّ للعالم ، فالأصل عدم كونه عالماً ، فانّه حين تولده لم يكن عالماً يقيناً ، والأصل بقاؤه على ما كان.

الموقع الثاني : ما ذكره من عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ ، ففيه ما تقدم (١) من عدم الفرق في جريانه بين معلوم التاريخ ومجهوله ، لأنّ الأثر ليس مترتباً على عدم الحادث في عمود الزمان كي يمنع من جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ ، لعدم الشك فيه بلحاظ عمود الزمان ، بل الأثر مترتب على

__________________

(١) في ص ٢٣٢.

٢٣٧

عدم أحد الحادثين حين وجود الحادث الآخر ، ووجود معلوم التاريخ في زمان وجود الحادث الآخر مشكوك فيه ، لأنّ العلم بتاريخه في عمود الزمان لا ينافي الشك في وجوده حين وجود الحادث الآخر ، فلا مانع من جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ أيضاً ، وقد تقدم تفصيل ذلك.

الموقع الثالث : ما ذكره في مجهولي التاريخ من جريان أصالة عدم الكرية حين الملاقاة ، فيحكم بالنجاسة وعدم جريان أصالة عدم الملاقاة إلى حين الكرية ، لكون الأثر مترتباً على كون الكرية سابقة على الملاقاة ، ولا يمكن إثباته باستصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكرية ، إلاّعلى القول بالأصل المثبت.

وفيه أوّلاً : منع اعتبار كون الكرية سابقة على الملاقاة ، ولا يستفاد ذلك من قوله عليه‌السلام : «إذا بلغ الماء قدر كر ...» بل المستفاد منه اعتبار الكرية حين الملاقاة ، فلا أثر لكريته السابقة على الملاقاة. والحكم بعدم كفاية التتميم كراً في طهارة الماء القليل المتنجس ليس لاعتبار كون الكرية سابقة على الملاقاة ، بل لعدم كونه كراً حين الملاقاة ، فلا فائدة في تتميمه كراً بعد الملاقاة ، بل المستفاد من قوله عليه‌السلام : «إذا بلغ الماء قدر كر ...» هو الحكم بنجاسة هذا الماء المتمم ـ بالكسر ـ فان مفهوم قوله عليه‌السلام : «إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجّسه شيء» أنّه إذالم يبلغ الماء قدر كر ينجسه شيء من النجاسات وهذا الماء المتمم ـ بالكسر ـ لم يكن كراً وقد لاقاه الماء المتنجس ، فلا بدّ من الحكم بنجاسته بمقتضى المفهوم ، فيصير المجموع نجساً. ومقتضى ما ذكرنا ـ من عدم اعتبار كون الكرية سابقة على الملاقاة وكفاية الكرية حين الملاقاة ـ هو الحكم بالطهارة فيما إذا اتحد زمان التتميم والملاقاة بحيث كانت الملاقاة والتتميم في آن واحد ، لكونه كراً حين الملاقاة.

وثانياً : على فرض تسليم ذلك أنّه لا يكون الأصل المذكور مثبتاً ، لأن عدم

٢٣٨

الانفعال وإن كان متوقفاً على كون الكرية سابقة على الملاقاة ، إلاّأنّ الطهارة أعم منه ، فان موضوع عدم الانفعال أمران : الكرية والملاقاة ، لأنّه في صورة عدم الملاقاة لا يكون هناك مقتضٍ للانفعال حتى تكون الكرية مانعة عنه ، فلا يصدق عدم الانفعال إلاّمع الملاقاة والكرية ، بخلاف الطهارة فانّها غير متوقفة على الكرية ولا على الملاقاة ، لامكان أن يكون ماءً قليلاً وطاهراً مع عدم الملاقاة. فاذن لا مانع من جريان استصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكرية فيحكم بالطهارة ، فلا حاجة إلى إثبات عنوان عدم الانفعال حتى يقال إنّه متوقف على كون الكرية سابقة على الملاقاة ، وإثباته باستصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكرية متوقف على القول بالأصل المثبت.

فالذي تحصّل مما ذكرنا : أنّ الأوفق بالقواعد هو الحكم بطهارة الماء في جميع الصور الثلاث ، لتساقط الاستصحاب للمعارضة ، فيكون المرجع أصالة الطهارة. وعلى فرض تسليم عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ ، يكون الصحيح هو القول بالتفصيل (١) على ما تقدم بيانه.

تنبيه

إنّ ما ذكرناه هو الذي ذكره سيدنا الاستاذ (دام ظله) في محاضرته الاصولية ، وعدل عنه (دام ظله) في حاشيته على العروة (٢) وحكم بنجاسة الماء في جميع الصور الثلاث ، والوجه فيه ما ذكره في دراساته الفقهية في خيار العيب على ما في تقريرات بعض أفاضل مقرري بحثه (٣) وحيث إنّه مشتمل على

__________________

(١) وهو القول الثالث في هذه المسألة وقد تقدم بيانه في ص ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

(٢) العروة الوثقى ١ : ٤١ / فصل في الماء الراكد ، المسألة ٨ [١٠٦].

(٣) لاحظ مصباح الفقاهة ٧ : ٢٢٧ ـ ٢٣٦.

٢٣٩

تحقيق أنيق منطبق على موارد كثيرة ، أحببنا أن نذكره بنص عباراته وإليك نصه :

ذكر المحقق الأنصاري ـ في مبحث خيار العيب عند البحث في اختلاف المتبائعين في المسقط ـ أنّه لو اختلفا في تأخر الفسخ عن أوّل الوقت بناءً على فورية الخيار ففي تقديم مدعي التأخير لأصالة بقاء العقد وعدم حدوث الفسخ في أوّل الزمان ، أو مدعي عدمه لأصالة الصحة وجهان ، ثمّ ذكر أنّ هذه المسألة نظير ما لو ادعى الزوج الرجوع في عدة المطلقة الرجعية ، وادعت هي تأخره عنها.

أقول : هذه المسألة سيّالة في كل مورد كان موضوع الحكم أو متعلقه مركباً من جزأين وقد علمنا بتحقق أحدهما ثمّ بتحقق الجزء الآخر وارتفاع الجزء الأوّل ، ولكن لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر ، كما إذا شك في أنّ الفسخ هل وقع قبل التفرق عن مجلس العقد أو بعده ، أو شك في أنّ فسخ المشتري العقد في بيع الحيوان هل وقع قبل انتهاء ثلاثة أيام أو بعده ، أو شك في أنّ القبض في بيع الصرف والسلم هل وقع قبل التفرق عن مجلس العقد أو بعده ، أو شك في أنّ بيع الراهن العين المرهونة هل وقع قبل رجوع المرتهن عن إذنه أو بعده ، أو شك في أنّ ملاقاة النجاسة للماء المسبوق بالقلة هل وقع قبل عروض الكرية أو بعده ، أو شك المتطهر إذا صلى وعلم بصدور حدث منه في تقدم الصلاة على الحدث وتأخرها عنه ، ولم يمكن إجراء قاعدة الفراغ ولو من جهة العلم بغفلة المصلي حين إتيانه بها ، إلى غير ذلك من الموارد ، فنظير ما ذكره المحقق الأنصاري قدس‌سره في خيار العيب من أصالة عدم حدوث الفسخ في أوّل الزمان جارٍ في جميع تلك الموارد.

وذهب بعض المحققين إلى خلاف ما ذهب إليه العلامة الأنصاري ومحصل

٢٤٠