موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

[ كتاب الطّهارة ]

فصل في المياه

فصل في المياه الماء إمّا مطلق أو مضاف كالمعتصر من الأجسام ، أو الممتزج بغيره ممّا يخرجه عن صدق اسم الماء (١).

______________________________________________________

كتاب الطّهارة‌

(١) ينقسم المائع إلى قسمين : قسم يصح سلب عنوان الماء عنه بما له من المعنى ولا يطلق عليه الماء بوجه لا على نحو الحقيقة ولا على نحو المجاز ، وهذا كما في اللبن والدهن والنفط والدبس وغيرها. والقسم الآخر ما يصح إطلاق الماء عليه ، وهو أيضاً قسمان :

أحدهما : ما لا يصح إطلاق لفظ الماء عليه بما له من المعنى على نحو الحقيقة من غير إضافته إلى شي‌ء. نعم ، يصح أن يطلق عليه بإضافته إلى شي‌ء ما كماء الرمّان فإنّ الماء من غير إضافته إلى الرمان لا يطلق عليه حقيقة فلا يقال : إنّه ماء إلاّ على سبيل العناية والمجاز ، وهذا القسم يسمى بالماء المضاف.

ثانيهما : ما يصح إطلاق لفظ الماء عليه على وجه الحقيقة ولو من غير إضافته إلى شي‌ء ، وإن كان ربّما يستعمل مضافاً إلى شي‌ء أيضاً ، إلاّ أن استعماله من غير إضافةٍ أيضاً صحيح وعلى وجه الحقيقة ، وهذا كماء البحر والبئر ونحوهما ، فإن إطلاق الماء عليه من غير إضافته إلى البحر أو البئر إطلاق حقيقي فإنّه ماء ، ويصح أيضاً أن‌

١

والمطلق أقسام : الجاري والنابع غير الجاري والبئر والمطر والكرّ والقليل (١).

______________________________________________________

يستعمل مضافاً إلى البحر فيقال : هذا ماء بحر أو ماء بئر ، وهذا بخلاف القسم السابق فإنّه لا يستعمل مجرّداً ، ولا يصح إطلاقه عليه إلاّ بإضافته إلى شي‌ء ، ويسمّى هذا القسم بالماء المطلق.

ومن هنا يظهر أن تقسيم الماء إلى مطلق ومضاف من قبيل تقسيم الصلاة إلى الصحيحة والفاسدة ، بناء على أن ألفاظ العبادات أسامٍ للصحيحة منها دون الأعم فهو تقسيم لما يستعمل فيه الماء والصلاة ولو مجازاً ، وليس تقسيماً حقيقياً ليدل على أن إطلاق الماء على المضاف إطلاق حقيقي.

وبما ذكرناه تعرف أن أقسام المائع ثلاثة :

أحدها : هو ما لا يمكن إطلاق الماء عليه لا على وجه الحقيقة ولا على وجه المجاز ، ولم ينقل عن أحد دعوى كونه مطهّراً أو غيره من الآثار المترتبة على المياه شرعاً ، فهو خارج عن محل الكلام رأساً.

وثانيها : المضاف وتأتي أحكامه عن قريب إن شاء الله تعالى.

وثالثها : الماء المطلق وهو المقصود بالكلام هنا.

أقسام الماء المطلق‌

(١) المعروف بين الأصحاب تقسيم الماء المطلق إلى أقسام ثلاثة : الجاري وماء البئر والمحقون بكلا قسميه من الكر والقليل ، وكأنهم قدس‌سرهم نظروا في تقسيمهم هذا إلى مياه الأرض ، ولذا لم يعدّوا منها ماء المطر وعنونوه بعنوان آخر مستقل.

وقد قسمة في المتن إلى الجاري والنابع غير الجاري والبئر والكر والقليل ، وهذا هو الصحيح ، لأن النابع غير الجاري مما لا يصدق عليه شي‌ء من عنواني الجاري والبئر ، فهو قسم آخر مستقل ولا وجه لإدراجه تحت أحدهما كما صنعوه ، ومن هنا لا تجري الأحكام الخاصة المترتبة على الجاري والبئر في النابع المذكور ، ككفاية‌

٢

وكل واحد منها مع عدم ملاقاة النجاسة طاهر مطهّر من الحدث والخبث (١)

______________________________________________________

الغسل مرة من البول في الجاري ووجوب نزح الجميع أو سائر المقدرات في البئر ، فإنّه على القول به يختص بالبئر ولا يأتي في النابع بوجه.

وعلى الجملة إن كان نظر المشهور في تقسيمهم هذا ، إلى الأحكام الخاصة المترتبة على كل واحد من الأقسام فلا بدّ من إضافة النابع غير الجاري إلى تقسيمهم فلا يصح الاقتصار على تثليث الأقسام كما عرفت ، وإن كان نظرهم في ذلك إلى خصوص الانفعال وعدمه من الآثار وتقسيم الماء بهذا اللحاظ ، فحينئذٍ لا بدّ من تثليث الأقسام ولكن لا كما ذكروه ، بل بأن يقسّم الماء إلى كر وغير كر ، وغير الكر إلى ما له مادة وما ليس له مادة ، والكر والقليل الذي له مادة لا ينفعلان بملاقاة النجس ، والقليل الذي ليس له مادة ينفعل لا محالة.

وعلى كل تقدير فلا بدّ من إضافة ماء الحمّام أيضاً في كل من تقسيمي المعروف والمتن ، إذ لماء الحمّام مباحث خاصة كما تأتي في محلّه. فإن عدم انفعال الأحواض الصغيرة في الحمّامات إنّما هو من جهة اتصالها بالمادة الجعلية فيها وهي عالية عن سطح الحياض ، مع أن اعتصام السافل بالعالي كاعتصام العالي بالسافل على خلاف المرتكز عند العقلاء ، ويحتاج إلى دليلٍ لاعتبار التساوي بين الماءين في الاعتصام بنظرهم.

وعليه فلا بدّ من تربيع الأقسام بأن يقال : الماء إما كر أو غير كر ، والثاني إما أن يكون له مادة أو لا يكون ، وما له المادة إما أن تكون مادته أصلية وإما أن تكون جعلية.

طهوريّة الماء المطلق‌

(١) قد تسالم المسلمون كافة على طهارة الماء المطلق في نفسه ومطهّريته لغيره من الحدث والخبث ، بجميع أقسامه من ماء البحر والمطر والبئر وغيرها ، ولم ينقل من أحد منهم الخلاف في ذلك إلاّ عن جماعة منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص ، وعبد الله‌

٣

ابن عمر حيث نسب إليهم الخلاف في مطهّرية ماء البحر عن الحدث (١) ، وصحة النسبة وعدمها موكولة إلى غير المقام. وهذا مضافاً إلى التسالم المتقدم ذكره وأن الضرورة قاضية بطهارة الماء في نفسه ومطهّريته لغيره يمكن أن يستدل عليه ببعض الآيات وجملة من الروايات الواردة في المقام.

فمنها قوله تعالى ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) (٢) حيث إنّه سبحانه في مقام الامتنان وبيان نعمائه على البشر ، وقد عدّ منها الماء ووصفه بالطهور ، وظاهر صيغة الطهور هو ما يكون طاهراً في نفسه ومطهّراً لغيره على ما اعترف به جمع كثير.

المناقشات في الاستدلال‌

هذا وقد نوقش في الاستدلال بالآية المباركة من جهات :

الجهة الأُولى : هي ما نقل عن بعض أهل اللغة من أن الطهور بمعنى الطاهر (٣) ، وعليه فلا تدل الآية على مطهرية الماء لغيره. وعن بعض آخر أن الطهور فعول وهو من إحدى صيغ المبالغة كالأكول ومعناه : أن طهارة الماء أشد من طهارة غيره من الأجسام فهو طاهر بطهارة شديدة بخلاف غيره من الأجسام ، فالآية لا دلالة لها على مطهّرية الماء.

وهذان الإيرادان فاسدان.

أمّا الأول : فلأجل أن الطهور غير ظاهر في الطاهر من دون أن يكون مطهراً لغيره ، وإلاّ فلو صحّ إطلاق الطهور على ما هو طاهر في نفسه خاصة لصحّ استعماله في غير الماء من الأجسام أيضاً فيقال : الشجر أو الخشب طهور أو يقال : البواطن طهور وظاهر الحيوانات طهور مع أن الإطلاق المذكور من الأغلاط الفاحشة.

وأمّا الثاني : فلأن الطهور وإن كان فعولاً وهو من صيغ المبالغة بمعنى أنّها ربّما‌

__________________

(١) التذكرة ١ : ١١.

(٢) الفرقان ٢٥ : ٤٨.

(٣) المصباح المنير : ٣٧٩.

٤

يستعمل في المبالغة كما في مثل الأكول ، إلاّ أنّه في المقام ليس بهذا المعنى جزماً. وتوضيح ذلك : أن استعمال الطهور بمعنى أشد طهارة وكونه أنظف من غيره وإن كان صحيحاً ، وربّما يستعمل بدله لفظ أطهر فيقال : إن هذا الشي‌ء أطهر لك كما في قوله تعالى ( هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) (١) أي أوقع في الجهات الشهوية من غيرها. وقوله تعالى ( شَراباً طَهُوراً ) (٢) أي أشد نظافة إلاّ أن ذلك كلّه في الأُمور الخارجية التي لها واقع ، كما في الطهارة الخارجية بمعنى النظافة فيقال : هذا الثوب أطهر من ثوبك أي أشدّ نظافة من ثوبك.

وأمّا في الأُمور الاعتبارية التي لا واقع لها إلاّ حكم الشارع واعتباره كما في الطهارة المبحوث عنها في المقام والملكية والزوجية وغيرها من الأحكام الوضعية التي اعتبرها وجعلها في حق المكلفين ، فهي مما لا يعقل اتصافه بالأشدية والأقوائية كما ذكرناه في بحث الأحكام الوضعية ، فلا يصح أن يقال : إن ملكك بالدار أشدّ من ملكك بالكتاب أو إن حكم الشارع بالطهارة في هذا الشي‌ء أشدّ من حكمه بها في الشي‌ء الآخر ، فإنّ الشارع إن حكم فيهما بالطهارة أو بالملكية فهما على حد سواء ، وإلاّ فلا طهارة ولا ملكية في البين أصلاً ، ففي الأُمور الاعتبارية لا معنى للاتصاف بالشدّة والضعف ، بل الأمر فيها يدور دائماً بين الوجود والعدم والنفي والإثبات ، وعليه فلا يعقل استعمال الطهور في الآية بمعنى المبالغة.

وتوهّم أن شدّة الطهارة في الماء باعتبار أنّه لا ينفعل بملاقاة النجس ما لم يتغير.

يدفعه أولاً : أنّ هذا مما يختص ببعض أفراد المياه ولا يعم جميعها ، مع أن الطهور وصف لطبيعي الماء أين ما سرى.

وثانياً : أنّ استعمال لفظ الطهور لو كان بلحاظ عدم الانفعال بملاقاة النجس لصحّ حمله على البواطن ، بل على ظاهر الحيوان أيضاً على قولٍ مع أنّه من الاغلاط.

__________________

(١) هود ١١ : ٧٨.

(٢) الإنسان ٧٦ : ٢١.

٥

وممّا يدلّنا على ما ذكرناه : ما ورد في الأخبار من أن التراب أحد الطهورين (١) فإنّه لو أُريد من الطهور فيها ما هو طاهر في نفسه لما صحّ هذا الاستعمال قطعاً ، فإن سائر الأجسام أيضاً من الطاهرات كالخشب والمدر فما وجه تخصيصه التراب والماء بذلك؟ كما هو الحال أي لا يصح الاستعمال المذكور فيما لو أُريد منه المبالغة ، لأن التراب نظير غيره من الأجسام ، وليس فيها أشدية في الطهارة كما لا يخفى.

أضف إلى ذلك كلّه ما في بعض الروايات من أن التيمم طهور (٢) فإنّه صريح فيما ادعيناه في المقام من عدم كون هيئة الطهور موضوعة للطاهر أو للمبالغة ، فإن التيمم ليس إلاّ ضربه ومسحة وما معنى كونهما طاهرين أو كونهما أشد طهارة؟ وعليه فلا مجال لهذين الإيرادين بوجه.

وإذا بطل هذان المعنيان تتعين إرادة المعنى الثالث ، وهو كونه بمعنى ما يتطهر به نظير السحور والفطور والحنوط والوضوء والوقود ، بمعنى ما يتسحر به أو ما يفطر به وهكذا غيرهما. وبعبارة اخرى ما يكون منشأ للطهارة أو التسحر والجامع ما يحصل به المبدأ ، وبهذا المعنى استعمل في الخبرين المتقدمين. وعليه فالطهور يدل بالدلالة المطابقية على أن الماء مطهّر لغيره ومنشأ لطهارة كل شي‌ء ، وبالدلالة الالتزامية يدل على طهارة نفسه ، فإن النجس لا يعقل أن يكون منشأ للطهارة في غيره. ولعلّ من فسّره من الفقهاء ومنهم صاحب الجواهر قدس‌سره : بما يكون طاهراً في نفسه ومطهّراً لغيره (٣) ، أراد ما ذكرناه من دلالته على المطهرية بالمطابقة وعلى طهارته بالالتزام ، وإلاّ فلم توضع هيئة الطهور « فعول » للمعنى الجامع بين الطاهر والمطهّر.

ودعوى أن الروايتين وردتا في الطهارة الحدثية ، وهي المراد من مادة الطهور فيهما والكلام في الأعم من الطهارة الحدثية والخبثية.

__________________

(١) كما ورد مضمونه في صحيحة محمد بن حمران ، وجميل بن دراج جميعاً عن أبي عبد الله عليه‌السلام المرويّة في وسائل الشيعة ٣ : ٣٨٥ / أبواب التيمم ب ٢٣ ح ١.

(٢) ورد مضمون ذلك في صحيحتي زرارة المروية في الوسائل ٣ : ٣٨١ / أبواب التيمم ب ٢١ ح ١ ومحمد بن مسلم المروية في الوسائل ٣ : ٣٧٠ / أبواب التيمم ب ١٤ ح ١٥.

(٣) الجواهر ١ : ٦٤.

٦

مندفعة بأنهما وإن وردتا في الحدثية من الطهارة ، إلاّ أن الكلام في المقام إنّما هو في هيئة صيغة الطهور لا في مادتها ، سواء أكانت مادتها بمعنى الخبثية أم كانت بمعنى الحدثية ، فالتكلّم في مادتها أجنبي عمّا هو محط البحث في المقام. وقد عرفت أن الهيئة في الطهور بمعنى ما تنشأ منه الطهارة وما يحصل به المبدأ.

الجهة الثانية من المناقشات : أنّ الآية على تقدير دلالتها فإنّما تدلّ على طهورية الماء المنزل من السماء وهو المطر ، فلا دلالة فيها على طهورية مياه الأرض من ماء البحر والبئر ونحوهما.

وهذه المناقشة لا ترجع إلى محصّل ، وذلك لما ورد في جملة من الآيات وبعض الروايات (١) من أن المياه بأجمعها نازلة من السماء ، إما بمعنى أن الله خلق الماء في السماء فهناك بحار وشطوط ثم أنزله إلى الأرض فتشكّل منه البحار والأنهار والشطوط والآبار ، أو بمعنى أن الله خلق الماء في الأرض إلاّ أنّه بعد ما صار أبخرة باشراق الشمس ونحوه صعد إلى السماء فاجتمع وصار ماء ، ثم نزل إلى الأرض كما هو مذهب الحكماء والفلاسفة ، وهذا المعنى لا ينافي نزول الماء من السماء لأنّه بمعنى نزول أمره من السماء. ويدلُّ عليه قوله تعالى ( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ ) (٢) فإنّه لم يتوهّم أحد ولا ينبغي أن يتوهّم نزول نفس الحديد من السماء.

ومن جملة الآيات الدالّة على ما ادعيناه من نزول المياه بأجمعها من السماء قوله تعالى ( وَإِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (٣) وقوله تعالى ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ) (٤) وقوله تعالى :

__________________

(١) ففي البرهان المجلد ٣ ص ١١٢ عن تفسير علي بن إبراهيم ما هذا نصه : « ثم قال : وعنه ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ ... ) فهي الأنهار والعيون والآبار » ولا يرد عدم اشتمال الرواية على ماء البحر ، فإنّه إنّما يتشكل من الأنهار ، فلا يكون قسماً آخر في مقابلها.

(٢) الحديد ٥٧ : ٢٥.

(٣) الحجر ١٥ : ٢١.

(٤) الزمر ٣٩ : ٢١.

٧

( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ ) (١) إلى غير ذلك من الآيات. فهذه المناقشة ساقطة.

الجهة الثالثة من المناقشات : أن الماء في الآية المباركة نكرة في سياق الإثبات وهي لا تفيد إلاّ أن فرداً من أفراد المياه طهور ، ولا دلالة فيها على العموم.

ويدفعها : أن الله سبحانه في مقام الامتنان على جميع طوائف البشر لا على طائفة دون طائفة ، وهذا يقتضي طهارة جميع المياه. على أن طهورية فرد من أفراد المياه من دون بيانه وتعريفه للناس مما لا نتعقل فيه الامتنان أصلاً ، بل لا يرجع إلى معنى محصل ، فالآية تدل على طهورية كل فرد من أفراد المياه.

ومن جملة الآيات التي يمكن أن يستدل بها على طهورية الماء ، قوله تعالى ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) (٢) وهذه الآية سليمة عن بعض المناقشات التي أوردوها على الآية المتقدمة ، كاحتمال كون الطهور بمعنى الطاهر أو بمعنى المبالغة. نعم ، يرد عليها أيضاً مناقشة الاختصاص بماء السماء ومناقشة عدم دلالتها على العموم لكون الماء نكرة في الآية المباركة ، والجواب عنهما هو الجواب فلا نعيد.

ثم إنّه ربّما تورد على الاستدلال بهذه الآية مناقشة أُخرى كما تعرض لها في الحدائق (٣) وغيره. وملخّصها عدم دلالة الآية على التعميم ، لا لأجل أن الماء نكرة بل لأنّها وردت في طائفة خاصة ، وهم المسلمون الذين كانوا يحاربون الكفّار في وقعة بدر ، ومع اختصاص المورد لا يمكن التعدي عنه.

والجواب عن ذلك : أن هناك روايات دلتنا على أن ورود آية من آيات الكتاب في مورد ، أو تفسيرها بمورد خاص لا يوجب اختصاص الآية بذلك المورد ، لأن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر ، ويشمل جميع الأطوار والأعصار من دون أن يختص‌

__________________

(١) المؤمنون ٢٣ : ١٨.

(٢) الأنفال ٨ : ١١.

(٣) الحدائق ١ : ١٧٢.

٨

بقوم دون قوم ، بل وفي بعض الأخبار أن الآية لو اختصت بقوم تموت بموت ذلك القوم (١) ، وفي رواية (٢) أن الإمام عليه‌السلام طبّق قوله تعالى ( الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) (٣) على أنفسهم وقال : إنها وردت في رحم آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تكون في قرابتك ثم بيّن عليه‌السلام أن مرادنا من ورود الآية في مورد أنّه مصداق وممّا ينطبق عليه تلك الآية ، لا أن الآية مختصة به. فهذه الشبهة أيضاً مندفعة فلا مانع من الاستدلال بها من تلك الجهات.

تزييف الاستدلال : ولكن الإنصاف أن الآيتين ممّا لا دلالة له على المطلوب والوجه في ذلك : أن الطهور والطهارة مما لم تثبت له حقيقة شرعية ولا متشرعية في زمان نزول الآيتين ، ولم يعلم أن المراد من الطهور هو المطهّر من النجاسات ولم يظهر أنّه بمعنى الطهارة المبحوث عنها في المقام ، ولعلّ المراد منها أن الله منّ عليكم بخلق الماء وجعله طاهراً عن الأوساخ المنفّرة ، ومطهّراً من الأقذار العرفية ، فإن الإنسان ليس كالحيوان بحيث لو لم يرَ الماء شهراً أو شهوراً متمادية لا يكون مورداً للتنفّر عرفاً ولا يستقذره العقلاء ، بل هو يحتاج في تنظيف بدنه ولباسه وأوانيه وغيرها إلى استعمال ماء طهور ، فهو طاهر في نفسه ومطهّر عن الأقذار وقد جعله الله تعالى كذلك من باب‌

__________________

(١) فروى العياشي في تفسيره [ ج ١ ص ١٠ ] بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام انّه قال : « القرآن نزل أثلاثاً ثلث فينا وفي أحبائنا ، وثلث في أعدائنا وعدو من كان قبلنا ، وثلث سنة ومثل ، ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أُولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شي‌ء ولكن القرآن يجري أوله على آخره » الحديث. رواه في الوافي المجلد التاسع في باب متى نزل القرآن وفيم نزل من أبواب القرآن وفضائله [ ص ١٧٦٩ ]. ونقل في مرآة الأنوار ص ٥ من الطبعة الحديثة مضمونه عن تفسير العياشي تارة وعن تفسير فرات بن إبراهيم اخرى. ونقل غير ذلك من الأخبار التي تدل على ما ذكرناه ، فليراجع.

(٢) وهي ما رواه في الكافي ٢ : ١٥٦ / ٢٨ عن عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ( الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) قال : نزلت في رحم آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تكون في قرابتك ثم قال : فلا تكوننّ ممّن يقول للشي‌ء إنّه في شي‌ء واحد.

(٣) الرعد ١٣ : ٢١.

٩

الامتنان ، إذ لولاه لوقع الإنسان موقع التنفّر والاستقذار ، فالآية ناظرة إلى بيان هذا المعنى لا بمعنى أن الماء مطهّر من النجاسات المصطلحة المبحوث عنها في المقام ، لعدم ثبوت الحقيقة الشرعية والمتشرعية في شي‌ء من الطهارة والطهور ، بل ولعلّ أحكام النجاسات لم تكن ثابتة في الشريعة المقدسة حين نزول الآيتين أصلاً ، حيث إن تشريع الأحكام كان على نحو التدريج لا محالة.

ويؤيد ذلك أن الآيات القرآنية لم تشتمل على شي‌ء من عناوين النجاسات وقذارتها إلاّ في خصوص المشركين لقوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ) (١). على أن فيه أيضاً كلاماً في أن المراد بالنجس هل هو النجاسة الظاهرية المصطلحة ، أو أنه بمعنى النجاسة المعنوية وقذارة الشرك كما يناسبها تفريعه تعالى بقوله ( فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ) فإنّ النجس الظاهري لا مانع من دخوله وإدخاله المسجد على المعروف كما يأتي في محلّه.

وكيف كان فلا دلالة في الآيتين على المطلوب. أجل ، لا نضايق من إلحاق النجاسة الحدثية أعني الجنابة بالأقذار العرفية في دلالة الآية على طهورية الماء بالإضافة إليها والوجه في ذلك : أن الصلاة كانت مشروعة من ابتداء الشريعة المقدسة قطعاً ولا صلاة إلاّ بطهور ، وقد استعمل الطهور في الاغتسال عن الجنابة في قوله تعالى ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) (٢) فإنّه في مقابل التيمم عن الجنابة عند عدم وجدان الماء في قوله تعالى ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) وبهذا نلحق الاغتسال عن الجنابة إلى مفاد الآيتين ، كما يناسبه مورد الآية الثانية ، فمعناها : أن الله أنزل عليكم الماء ليزيل عنكم أقذاركم من الدماء والأوساخ الطارئة في الجدال ، وأحداثكم إذا ابتليتم بالجنابة.

وقد يقال : إن المراد بالطهور في الآية الاولى هو المطهّر من الأحداث والأخباث كما‌

__________________

(١) التوبة ٩ : ٢٨.

(٢) المائدة ٥ : ٦.

١٠

أن المراد بالتطهير في الآية الثانية هو التطهير منهما ، ويستدل على ذلك بما ورد في جملة من الروايات النبويات : من أن الله خلق الماء طهوراً لا ينجّسه شي‌ء إلاّ ما غيّر ريحه أو طعمه ، وفي بعضها أو لونه أيضاً (١).

ولا يخفى ما فيه أمّا أولاً : فلأن هذه الأخبار لم ترد تفسيراً للآيتين فلا وجه لحملهما عليها. وأمّا ثانياً : فلضعف سندها فإنّها بأجمعها مروية من طرق العامة ولم يرد شي‌ء منها من طرقنا.

وعلى الجملة لا دلالة للآية الأُولى على مطهّرية الماء بالمعنى المبحوث عنه في المقام ، وإنّما هي في مقام الامتنان بتكوين الماء لإزالة الأقذار والأوساخ ، ومن هذا يظهر عدم دلالة الآية الثانية أيضاً على مطهّرية الماء بعين الاشكال المتقدم ، وتزيد الآية الثانية على الاولى بمناقشة اخرى وهي اختصاصها بماء المطر ، لأنّها على ما قدّمناه نزلت في وقعة بدر حيث لم يكن عند المسلمين ماء فأنزل الله الماء عليهم من السماء ليتطهّروا به فتختص الآية بماء المطر ، ولا تقاس بالآية المتقدمة لأنّها كما عرفت وردت في مقام الامتنان على جميع طوائف البشر ، وهو يقتضي طهارة كل فرد من أفراد المياه ، فإنّها بأجمعها نازلة من السماء على ما أسمعناك آنفاً ، هذا.

ويمكن الجواب عن هذه المناقشة بوجهين :

أحدهما : أن الغالب في استعمال ماء المطر في إزالة الحدث أو الخبث هو استعماله بعد نزوله ووقوعه على الأرض واجتماعه في الغدران أو الأواني ، وأمّا استعماله حين نزوله‌

__________________

(١) المروية في الوسائل ١ : ١٣٥ / أبواب الماء المطلق ب ١ ح ٩ عن المحقق في المعتبر ، والحلّي في أول سرائره. ونقلها في المستدرك ١ : ١٩٠ أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١٠ عن عوالي اللئالي عن الفاضل المقداد قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد سئل عن بئر بضاعة خلق الله ... وفي سنن البيهقي المجلد الأوّل ص ٢٥٩ عن رسول الله « الماء لا ينجسه شي‌ء إلاّ ما غلب عليه طعمه أو ريحه » وفي ص ٢٦٠ عن أبي أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « انّ الماء طاهر إلاّ أن تغيّر ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيها ». وفي كنز العمّال [ ٩ : ٣٩٦ / ٢٦٦٥٢ ] : الماء لا ينجسه شي‌ء إلاّ ما غلب على ريحه أو طعمه. وهي كما ترى غير مشتملة على جملة « خلق الله الماء طهوراً ».

١١

في شي‌ء من رفع الحدث أو الخبث فهو نادر جدّاً ، ومن الظاهر أن حكم ماء المطر بعد نزوله حكم سائر مياه الأرض ولا يختلف حكمه عن حكمها.

وثانيهما : أن الضمير في قوله تعالى ( لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) إنّما يرجع إلى الماء لا إلى الماء بقيد نزوله من السماء وهو نظير قولنا : قد أرسلت إليكم ماءً لتشربوه ، أي لتشربوا نفس الماء ، لا الماء بقيد الإرسال ، فالآية تدل على مطهّرية جميع أفراد المياه لو لا ما ذكرناه من المناقشة المتقدمة. نعم ، لا بأس بدلالة هذه الآية أيضاً على مطهّرية الماء عن الأحداث كدلالة الآية المتقدمة ، لما ورد من أن بعض المسلمين في وقعة بدر أُصيب بالجنابة فأنزل الله الماء ليتطهّروا به عن الجنابة.

فذلكة الكلام : أن الآيتين تدلاّن على طهارة الماء في نفسه ، لما مرّ من أنهما في مقام الامتنان بتكوين الماء وجعله مزيلاً للأقذار والأوساخ. ومن البيّن أنّه لا امتنان في إزالة الأوساخ بالنجس ، فإنّه يوجب تنجس البدن أو الثياب أو غيرهما زائداً على ما فيهما من الأقذار. فلا محيص من دلالتهما على طهارة الماء في نفسه كما دلّتا على مطهّرية الماء من حدث الجنابة ، بل لولاهما أيضاً لأمكننا استفادة مطهّرية الماء عن الأحداث مطلقاً من قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) ( ... وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) (١) أي بالماء لقوله تعالى في ذيل الآية المباركة ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) فالماء مطهّر من الأحداث صغيرة كانت أم كبيرة وأمّا أنّه مطهّر على نحو الإطلاق حتى من الأخباث فلا يمكن استفادته من الآيات ، فلا بدّ فيه من مراجعة الروايات الواردة في المقام.

الروايات الدالّة على طهارة الماء‌

أمّا ما يستفاد منه طهارة الماء في نفسه فهو طوائف من الأخبار يمكن دعوى تواترها إجمالاً ، وإليك بعضها :

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

١٢

منها : ما دلّ على أن الماء كلّه طاهر حتى تعلم أنّه قذر (١) فإنّه يدل على طهارة الماء في نفسه ، سواء قلنا بدلالته على حكم واحد وهو الطهارة الواقعية الثابتة على الماء في نفسه أو الطهارة الظاهرية الثابتة عليه حال الشكّ في طهارته ، أم قلنا بدلالته على كلا الحكمين وأنّ الطهارة ثابتة على الماء واقعاً ، وهي محكومة بالاستمرار ظاهراً إلى زمان العلم بقذارته بالاستصحاب أو بقاعدة الطهارة على الخلاف في مفاده ، وعلى كل يدل على أن الماء طاهر ، وغاية ما هناك أنّه على تقدير كونه ناظراً إلى إثبات الطهارة الواقعية على الماء يدل على طهارته بالمطابقة ، وعلى تقدير أنّه متكفّل لبيان الطهارة الظاهرية في الماء يدل على طهارته بالالتزام.

ومنها : ما دلّ على أن الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجّسه شي‌ء (٢) والوجه في دلالته على طهارة الماء أنّه لو لا طهارة الماء في نفسه لم يبق معنى لقوله عليه‌السلام لا ينجسه شي‌ء على تقدير بلوغه قدر كر ، فإن النجس لا يتنجس ثانياً والتنجس من طواري الأشياء الطاهرة.

ومنها : ما دلّ على أن الماء يطهِّر ولا يُطهَّر (٣).

ومنها : كل رواية دلّت على تطهير الأواني والألبسة وغيرهما من المتنجسات بالماء (٤) ، لدلالتها على طهارة الماء في نفسه إذ لا يمكن تطهير المتنجس بالنجس.

ومنها : ما دلّ على أن ماء البئر واسع لا يفسد شي‌ء (٥) والوجه في دلالته واضح ، إذ مع نجاسة الماء في نفسه لا معنى لقوله عليه‌السلام لا يفسده شي‌ء ، لما عرفت من أن النجس لا يتنجّس ثانياً.

ومنها : ما دلّ على أن بني إسرائيل كانوا إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٤ / أبواب الماء المطلق ب ١ ح ٥ وص : ١٤٢ ب ٤ ح ٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٢.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٤ / أبواب الماء المطلق ب ١ ح ٦.

(٤) الوسائل ٣ : ٣٩٧ / أبواب النجاسات ب ٢ ح ١.

(٥) الوسائل ١ : ١٧٠ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١.

١٣

لحومهم بالمقاريض وقد وسّع الله تعالى عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض ، وجعل لكم الماء طهوراً (١) ودلالته على طهارة الماء ظاهرة.

ومنها : غير ذلك من الأخبار ، كما لا تخفى على المتتبع الخبير.

الروايات الدالّة على مطهرية الماء‌

وأمّا ما دلّ من الأخبار على مطهّرية الماء من الحدث والخبث فهي أيضاً كثيرة قد وردت في موارد متعدّدة وأبواب مختلفة ، كالروايات الآمرة بالغسل والوضوء بالماء (٢) وما دلّ على مطهّرية الماء عن نجاسة البول (٣) وولوغ الكلب (٤) وغيرهما من النجاسات ، وبعض الأخبار المتقدمة عند الاستدلال على طهارة الماء في نفسه وسنتعرّض إلى تفاصيل هذه الأخبار عند التكلّم في آحاد النجاسات وتطهيرها بالماء فلا نطيل.

نعم ، لا دلالة لها بأجمعها على حصول الطهارة بمجرد الغسل بالماء وإن لم تنفصل غسالته أو لم يتعدّد الغسل ، لعدم كونها في مقام البيان من تلك الجهات فلا إطلاق لها بالإضافة إليها ، والمتّبع فيها دلالة الدليل الموجود في كل مسألة بخصوصها.

تنبيه‌

هل الطهورية الثابتة للمياه بالروايات والآيات تختص بخصوص الماء النازل من السماء ولو بحسب أصله أو أنّها ثابتة لمطلق المياه ، ولو كانت مخلوقة لنا بإعجاز أو بتركيب بضم أحد جزئية إلى الآخر؟ الصحيح هو الثاني ، لأن المفروض أنّه ماء بالنظر العرفي وهو صادق عليه صدقاً حقيقياً ، ومعه لا وجه للتردّد والشكّ.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٣ / أبواب الماء المطلق ب ١ ح ٤.

(٢) الوسائل ، ١ : ٢٠١ / أبواب الماء المضاف ب ١ ح ٢.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٩٧ / أبواب النجاسات ب ٢ ح ١.

(٤) الوسائل ١ : ٢٢٦ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٤.

١٤

[٧٣] مسألة ١ : الماء المضاف مع عدم ملاقاة النجاسة طاهر (١) لكنّه غير‌

______________________________________________________

والذي يحتمل أن يكون مانعاً عن ذلك هو ما تقدّم (١) من قوله تعالى ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) بتوهّم اختصاصها بالماء النازل من السماء ولكنك عرفت أن الطهور فيها ليس بمعناه المصطلح عليه في المقام ، ونحن إنّما أثبتنا الطهورية للماء بواسطة الأخبار المتقدمة ، هذا.

ثم لو سلّمنا دلالتها على طهورية الماء فهي حكم ثبت بالآية لطبيعي المياه والطبيعة صادقة على ذلك الفرد كما تقدم. وإنّما خص الماء النازل من السماء بالذكر لأجل غلبته وكثرة وجوده ، ونحن قد ذكرنا في محلّه أن المطلق لا يختص بالأفراد الغالبة لأجل كثرة وجودها ، بل يشملها كما يشمل الأفراد النادرة. وبالجملة إذا ثبت أنّه ماء وشملته الإطلاقات فلا محالة يكون طهوراً كغيره. فإذا فرضنا أن الهواء أحدث بخاراً ، وانجمد ذلك البخار على زجاجة لمكان حرارة أحد طرفيها وبرودة الآخر ، وهذا كثيراً ما يتفق في البلاد الباردة ثمّ أثّرت فيه الحرارة وتبدل البخار المنجمد ماءً وأخذ بالتقاطر فلا محالة يكون الماء المجتمع منه طهوراً ، مع أنّه لم ينزل من السماء. ولا نظن فقيهاً بل ولا متفقهاً يفتي بوجوب التيمم عند انحصار الماء بذلك. وعلى هذا إذا حصلنا الماء من أي مائع مضاف ، كماء الرمان أو البرتقال أو غيرهما بالتصعيد بحيث صار ما فيه من الماء بخاراً ، وتصاعد إلى الفوق دون شي‌ء من أجزاء الرمان أو البرتقال أو مادة حلاوتهما فإنهما لا يتصاعدان وأخذنا البخار بالتقطير فهو ماء مطلق طهور كغيره. واحتفظ بهذا فإنه ينفعك في بحث المضاف إن شاء الله.

الماء المضاف وأحكامه‌

(١) لا ينبغي الإشكال كما لم يستشكل أحد في أن المضاف في نفسه طاهر فيما إذا كان ما أضيف إليه طاهراً ، بخلاف ما إذا كان المضاف إليه نجساً أو متنجساً كما إذا عصرنا لحم كلب واستخرجنا ماءه ، أو عصرنا فاكهة متنجسة فإن الماء الحاصل منهما محكوم بالنجاسة حينئذٍ.

__________________

(١) في ص ٧.

١٥

مطهّر لا من الحدث ولا من الخبث ولو في حال الاضطرار (١).

______________________________________________________

عدم مطهريّة المضاف من الحدث‌

(١) الكلام في ذلك يقع في مسألتين :

المسألة الأُولى : في أن المضاف يرفع الحدث أو لا يرفعه حتى في حالة الاضطرار؟ المشهور عدم كفاية المضاف في رفع الحدث ولو اضطراراً ، خلافاً لما حكي عن الصدوق ( طاب ثراه ) من جواز الوضوء والغسل بماء الورد (١) وقد استدلّوا على ذلك بوجوه :

الأول : دعوى الإجماع على عدم كفاية المضاف في الوضوء والغسل. وأمّا ما ذهب إليه الصدوق قدس‌سره فقد ردّوه بأنّه مسبوق وملحوق بالإجماع على خلافه. ويدفعها ما ذكرناه غير مرة من أن الإجماع في أمثال المقام مما لا يمكن الاعتماد عليه لأنّا نعلم أو نظن ولا أقل من أنا نحتمل استناد المجمعين في ذلك إلى أحد الأدلة المذكورة في المقام ، ومعه كيف يكون إجماعهم تعبدياً وكاشفاً عن قول المعصوم عليه‌السلام.

الثاني : ما صرّح به في الفقه الرضوي (٢) من عدم جواز رفع الحدث بالمضاف. وفيه : أن كتاب الفقه الرضوي على ما ذكرناه غير مرة أشبه بكتب الفتوى ، ولم يثبت كونه رواية فضلاً عن اعتباره.

الثالث : أن المضاف أيضاً لو كان كالمطلق من مصاديق الطهور للزم على الله سبحانه أن يأتي في الآية المتقدمة بما هو أعم من الماء ليشمله ويشمل المضاف لأنّه في مقام الامتنان ، وحيث إنه تعالى خصّ الطهور بالماء فمنه يعلم أن المضاف ليس بطهور وإلاّ لم يكن لتركه في مقام الامتنان وجه. والجواب عن ذلك :

أوّلاً : أن الطهور في الآية لم يثبت كونه طهوراً شرعياً كما هو المطلوب ، وإنّما هو‌

__________________

(١) المختلف ١ : ٦١.

(٢) فقه الرضا : ٩٢ قال : وكل ماء مضاف أو مضاف إليه فلا يجوز التطهير به ويجوز شربه.

١٦

طهور تكويني مزيل للقذارات والأوساخ كما تقدّم ، والمضاف ليس له هذا المعنى بل هو بنفسه من الأوساخ كمائي الرمّان والبطّيخ ونحوهما ، ولذا لا بدّ من إزالتهما عن الثياب وغيرها إذا تلوّثت بأمثالهما من المياه المضافة.

وثانياً : هب أنّه بمعنى الطهور شرعاً ، ولكنه لا يستكشف من عدم ذكر المضاف في الآية المباركة أنّه ليس من مصاديق الطهور ، إذ لعلّ عدم ذكره في الآية من أجل قلّة وجود المضاف ، كيف وهو لا يتحصل لأغلب الناس ليشربوه فضلاً عن أن يزيلوا به الأحداث فإنّه يحتاج إلى مئونة زائدة ويسار.

فالصحيح أن يستدل على عدم طهورية المضاف بقوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) ( ... فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (١) حيث حصر سبحانه الطهور في الماء والتراب فلا طهور غيرهما ، بل ولا حاجة إلى الاستدلال بالآية المباركة في المقام ، لكفاية ما ورد في الروايات الدالّة على تعيّن الوضوء والغسل بالماء ووجوب التيمم على تقدير فقدانه في إثبات المرام ، ففي رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام « عن الرجل يكون معه اللّبن ، أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال : لا ، إنّما هو الماء والصعيد » (٢) ونظيرها ما نقله عبد الله بن المغيرة عن بعض الصادقين قال : « إذا كان الرجل لا يقدر على الماء وهو يقدر على اللّبن » فلا يتوضّأ باللّبن ، إنّما هو الماء أو التيمّم » (٣) فإنّ اللّبن وإن كان من المائعات التي لا يطلق عليها الماء ولو على وجه المضاف وهو خارج عن محل الكلام ، إلاّ أنّ تعليله عليه‌السلام بقوله إنّما هو الماء والصعيد أو إنّما هو الماء أو التيمم يقتضي انحصار الطهور بهما كما لا يخفى.

كشف اشتباه في كلمات الأصحاب‌

لا يخفى أن الأصحاب ( قدس الله أسرارهم ) نقلوا الآية المتقدمة في مؤلفاتهم بلفظه « إن لم تجدوا » « فإن لم تجدوا » وهو على خلاف لفظة الآية الموجودة في الكتاب ، بل‌

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) و (٣) الوسائل ١ : ٢٠١ / أبواب الماء المضاف ب ١ ح ١ ، ٢.

١٧

لا توجد هاتان اللفظتان في شي‌ء من آيات الكتاب العزيز ، فإن ما وقفنا عليه في سورتي النساء (١) والمائدة (٢) « فَلَمْ تَجِدُوا » كما أن الموجود في سورة البقرة ( وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً ... ) (٣) ، فراجع. وظنّي أنّ الاشتباه صدر من صاحب الحدائق قدس‌سره (٤) وتبعه المتأخرون عنه في مؤلفاتهم اشتباهاً ولا غرو فإنّ العصمة لأهلها ، وكيف كان فما ذهب إليه المشهور هو الصحيح.

وخالفهم في ذلك الصدوق قدس‌سره وذهب إلى جواز الوضوء والغسل بماء الورد (٥) ، ووافقه على ذلك الكاشاني (٦) قدس‌سره ونسب إلى ظاهر ابن أبي عقيل جواز التوضّؤ بالماء الذي سقط فيه شي‌ء غير محرّم ولا نجس وغيّره في أحد أوصافه الثلاثة حتى أُضيف إليه ، مثل ماء الورد وماء الزعفران وغيرهما مما ورد في محكي كلامه إلاّ أنّه قيّده بصورة الاضطرار (٧) ولعلّه يرى مطهّرية المضاف مطلقاً ، وإنّما ذكر الأُمور المشار إليها في كلامه من باب المثال.

فأما الصدوق قدس‌سره فقد استدلّ على ما ذهب إليه بما رواه محمد بن يعقوب عن علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال « قلت له : الرجل يغتسل بماء الورد ويتوضأ به للصّلاة؟ قال : لا بأس بذلك » (٨).

المناقشة في سند الرواية : وقد نوقش في هذه الرواية سنداً ودلالة بوجوه : فأما في سندها فبوجهين : فتارة باشتماله على سهل بن زياد لعدم ثبوت وثاقته. نعم قال‌

__________________

(١) الآية : ٤٣.

(٢) الآية : ٦.

(٣) الآية : ٢٨٣.

(٤) لاحظ الحدائق ٤ : ٢٤١.

(٥) المختلف ١ : ٦١.

(٦) مفاتيح الشرائع ١ : ٤٧.

(٧) المختلف ١ : ٥٧.

(٨) الوسائل ١ : ٢٠٤ / أبواب الماء المضاف ب ٣ ح ١.

١٨

بعضهم : إن الأمر في سهلٍ سهلٌ ، ولكنك عرفت عدم ثبوت وثاقته. وأُخرى باشتماله على محمد بن عيسى عن يونس ، وقد قالوا بعدم الاعتبار بما يرويه محمد بن عيسى عن يونس فالسند ضعيف. وعن الشيخ قدس‌سره أنّه خبر شاذ شديد الشذوذ وإن تكرر في الكتب والأُصول فإنّما أصله يونس عن أبي الحسن عليه‌السلام ولم يروه غيره وقد أجمعت العصابة على ترك العمل بظاهره.

المناقشة في دلالتها : وأمّا في دلالتها فأيضاً نوقش بوجهين :

أحدهما : وهو من الشيخ قدس‌سره على ما ببالي أن الوضوء والغسل في الرواية لم يظهر كونهما بالمعنى المصطلح عليه ولعلّهما بمعناهما اللغوي ، أعني الغسل المعبّر عنه في الفارسية بـ « شستشو كردن » ولو لأجل التطيب بماء الورد للصلاة كما قد استعملا بهذا المعنى في كثير من الموارد ، ولا مانع من الاغتسال والتوضؤ بالمعنى المذكور بماء الورد (١).

وهذه المناقشة كما ترى خلاف ظاهر الوضوء والغسل ، لا سيما مع تقييدهما في الرواية بقوله : للصلاة ، فإن ظاهره هو الوضوء الواجب لأجل الصلاة أو الغسل اللاّزم لأجلها ، دون معناهما اللغوي.

أقسام ماء الورد‌

وثانيهما : أن ماء الورد على ثلاثة أقسام :

أحدها : ما اعتصر من الورد كما يعتصر من الرمان وغيره ولم يشاهد هذا في الأعصار المتأخّرة ، ولعلّه كان موجوداً في الأزمنة السالفة.

وثانيها : الماء المقارن للورد ، كالماء الذي القي عليه شي‌ء من الورد ، وأدنى المجاورة يكفي في صحة الإضافة والإسناد فيصح أن يطلق عليه ماء الورد ، فإنّه لأجل المجاورة يكتسب رائحة الورد ويتعطّر بذلك لا محالة ولكن هذا لا يخرج الماء المقترن بالورد عن الإطلاق ، كما كان يخرجه في القسم السابق ، وهذا لوضوح أن مجرد التعطر بالورد‌

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢١٩.

١٩

باكتساب رائحته لا يكون مانعاً عن إطلاق الماء عليه حقيقة ، وهو نظير ما إذا أُلقيت عليه ميتة طاهرة كميتة السمك واكتسب منها رائحة نتنة ، فإن ذلك لا يخرجه عن الإطلاق ويصح استعماله في الوضوء والغسل قطعاً. نعم ، يدخل الماء بذلك تحت عنوان المتغيّر وهو موضوع آخر له أحكام خاصة ، والمتغير غير المضاف إذ المضاف على ما أسمعناك سابقاً هو الذي خلطه أمر آخر على نحو لا يصح أن يطلق عليه الماء حقيقة بلا إضافته إلى شي‌ء كما في ماء الرمان وفي القسم المتقدم من ماء الورد ، إلاّ على سبيل العناية والمجاز. وأمّا إذا كان الماء أكثر مما أُضيف إليه بحيث صحّ أن يطلق عليه الماء بلا إضافته كما صحّت إضافته إلى الورد أيضاً ، فهو ماء مطلق كما عرفت في نظائره من ماء البحر أو البئر ونحوهما.

وثالثها : ماء الورد المتعارف في زماننا هذا ، وهو الماء الذي يلقى عليه مقدار من الورد ثم يغلي فيتقطر بسبب البخار ، وما يؤخذ من التقطير يسمى بماء الورد ، وهذا القسم أيضاً خارج عن المضاف ، لما قدمناه من أن مجرد الاكتساب وصيرورة الماء متعطّراً بالورد لا يخرجه عن الإطلاق ، فإنّه إنّما يصير مضافاً فيما إذا خلطه الورد بمقدار أكثر من الماء حتى يسلب عنه الإطلاق كما في ماء الرمان ، وليس الأمر كذلك في ماء الورد فإن أكثره ماء والورد المخلوط به أقل منه بمراتب ، وهو نظير ما إذا صببنا قطرة من عطور كاشان على قارورة مملوءة من الماء فإنّها توجب تعطر الماء بأجمعه ، مع أن القطرة المصبوبة بالإضافة إلى ماء القارورة في غاية القلة. فأمثال ذلك لا يخرج الماء عن الإطلاق ، وإنّما يتوهّم إضافته من يتوهّمها من أجل قلته ، فلو كان المضاف كثير الدوران والوجود خارجاً لما حسبناه إلاّ ماءً متغيراً بريح طيب ، ومن هنا لو فرضنا بحراً خلقه الله تعالى بتلك الرائحة لما أمكننا الحكم بإضافته بوجه.

فإلى هنا ظهر أن لماء الورد أقساماً ثلاثة : الأول منها مضاف والقسمان الأخيران باقيان على إطلاقهما ، وعليه فلا محيص من حمل الرواية على القسمين الأخيرين ، فإن القسم المضاف منها لا يوجد في الأعصار المتأخرة ولعلّه لم يكن موجوداً في زمان الأئمة عليهم‌السلام أيضاً فلا تشمله الرواية ، وجواز الوضوء والغسل في القسمين الأخيرين على طبق القاعدة ، هذا.

٢٠