موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

الشيخ قدس‌سره هو الثاني على ما ذكره في تنبيهات الاستصحاب ، فلا يرد عليه ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره.

وأمّا الاشكال على المقدمة الثانية : فبيانه ـ على ما ذكره صاحب الكفاية والمحقق النائيني ـ أنّه لو سلّم إدراك العقل ملاك الحكم الشرعي بحيث يكون حكمه بوجود الملاك دائراً مدار جميع القيود وينتفي بانتفاء أحدها ، لا يلزم من انتفاء الحكم العقلي انتفاء الحكم الشرعي ، لامكان بقاء ملاك الحكم الشرعي في الواقع ، فانّ انتفاء ما يراه العقل ملاكاً للحكم الشرعي لا يوجب انتفاء الملاك الواقعي له.

وبعبارة اخرى : الملازمة بين الحكم الشرعي والحكم العقلي إنّما هي بحسب مقام الاثبات دون مقام الثبوت ، لأنّ العقل كاشف عن وجود الملاك للحكم الشرعي ، وبعد انتفاء حكم العقل بانتفاء بعض القيود ترتفع كاشفية العقل ، ويحتمل بقاء الملاك الواقعي للحكم الشرعي ، لأنّ الشرع قد حكم بامور كثيرة لا يدرك العقل ملاكها أصلاً ، كتقبيل الحجر الأسود ، وحرمة الارتماس في شهر رمضان ، وغيرهما من التعبديات. مضافاً إلى ما في الكفاية من أنّه لو سلّمنا انتفاء الملاك الواقعي الذي أدركه العقل ، يحتمل بقاء الحكم الشرعي لاحتمال وجود ملاك آخر لنفس هذا الحكم ، فنجري الاستصحاب في الحكم الشرعي الشخصي لا في الملاك حتى يكون من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلي.

وهذا الاشكال لا دافع له. وعليه فالصحيح عدم الفرق في جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي بين كونه مستفاداً من الدليل الشرعي أو الدليل العقلي.

ثمّ إنّه ذكر الشيخ (١) قدس‌سره أنّه إذا اشتبه موضوع حكم العقل وشك

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٥١.

٤١

في بقائه كما إذا شك في بقاء الاضرار في السم الذي حكم العقل بقبح شربه ، يجري استصحاب الضرر ، ويحصل منه الظن بالضرر ، فيحكم بالحرمة الشرعية.

وفيه أوّلاً : عدم إفادة الاستصحاب الظن بالضرر لا شخصياً ـ كما اعترف هو به (١) ـ ولا نوعياً.

وثانياً : أنّ الحرمة الشرعية ليست منوطة بالظن بالضرر ، بل بخوف الضرر ، وهو ينطبق على مجرد الشك والاحتمال العقلائي ، هذا في الضرر. وأمّا غيره فاذا شك في بقاء موضوع حكم العقل كما إذا حكم العقل بحسن إكرام العالم العادل مثلاً ، وحكم الشرع بوجوب إكرامه بقاعدة الملازمة ، وكان زيد عالماً عادلاً ، ثمّ شككنا في بقاء عدالته ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب والحكم بعدالته بالتعبد الشرعي فيحكم بوجوب إكرامه.

التفصيل الثالث في حجية الاستصحاب : هو التفصيل بين الأحكام الكلية الإلهية وغيرها من الأحكام الجزئية والموضوعات الخارجية ، وهو الذي اختاره الفاضل النراقي في المستند (٢) ، فيكون الاستصحاب قاعدة فقهية مجعولة في الشبهات الموضوعية ، نظير قاعدتي الفراغ والتجاوز وغيرهما من القواعد الفقهية ، وهذا هو الصحيح. وليس الوجه فيه قصور دلالة الصحيحة وغيرها من الروايات ، لأن عموم التعليل في الصحيحة والاطلاق في غيرها شامل للشبهات الحكمية والموضوعية ، واختصاص المورد بالشبهات الموضوعية لايوجب رفع اليد عن عموم التعليل ، بل الوجه في هذا التفصيل أنّ الاستصحاب في الأحكام الكلية معارض بمثله دائماً ، بيانه :

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٥٧٨.

(٢) مستند الشيعة ٢ : ٤٩٥ ، ولمزيد الاطلاع راجع مناهج الأحكام : ٢٤٢.

٤٢

أنّ الشك في الحكم الشرعي تارةً يكون راجعاً إلى مقام الجعل ولو لم يكن المجعول فعلياً ، لعدم تحقق موضوعه في الخارج ، كما إذا علمنا بجعل الشارع القصاص في الشريعة المقدّسة ولو لم يكن الحكم به فعلياً لعدم تحقق القتل ، ثمّ شككنا في بقاء هذا الجعل ، فيجري استصحاب بقاء الجعل ويُسمّى باستصحاب عدم النسخ. وهذا الاستصحاب خارج عن محل الكلام. وإطلاق قوله عليه‌السلام : «حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» (١) يغنينا عن هذا الاستصحاب. واخرى يكون الشك راجعاً إلى المجعول بعد فعليته بتحقق موضوعه في الخارج ، كالشك في حرمة وطء المرأة بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال.

والشك في المجعول مرجعه إلى أحد أمرين لا ثالث لهما ، لأنّ الشك في بقاء المجعول إمّا أن يكون لأجل الشك في دائرة المجعول سعةً وضيقاً من قبل الشارع ، كما إذا شككنا في أنّ المجعول من قبل الشارع هل هو حرمة وطء الحائض حين وجود الدم فقط ، أو إلى حين الاغتسال ، والشك في سعة المجعول وضيقه يستلزم الشك في الموضوع لا محالة ، فانّا لا ندري أنّ الموضوع للحرمة هل هو وطء واجد الدم أو المحدث بحدث الحيض ، ويعبّر عن هذا الشك بالشبهة الحكمية.

وإمّا أن يكون الشك لأجل الامور الخارجية بعد العلم بحدود المجعول سعةً وضيقاً من قبل الشارع ، فيكون الشك في الانطباق ، كما إذا شككنا في انقطاع الدم بعد العلم بعدم حرمة الوطء بعد الانقطاع ولو قبل الاغتسال ، ويعبّر عن هذا الشك بالشبهة الموضوعية. وجريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية مما لا إشكال فيه ولا كلام ، كما هو مورد الصحيحة وغيرها من النصوص.

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٨ / باب البدع والرأي والمقاييس ح ١٩.

٤٣

وأمّا الشبهات الحكمية ، فإن كان الزمان مفرّداً للموضوع وكان الحكم انحلالياً كحرمة وطء الحائض مثلاً ، فانّ للوطء أفراداً كثيرة بحسب امتداد الزمان من أوّل الحيض إلى آخره ، وينحل التكليف وهو حرمة وطء الحائض إلى حرمة امور متعددة ، وهي أفراد الوطء الطولية بحسب امتداد الزمان ، فلا يمكن جريان الاستصحاب فيها حتى على القول بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلية ، لأنّ هذا الفرد من الوطء وهو الفرد المفروض وقوعه بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال لم تعلم حرمته من أوّل الأمر حتى نستصحب بقاءها. نعم ، الأفراد الاخر كانت متيقنة الحرمة ، وهي الأفراد المفروضة من أوّل الحيض إلى انقطاع الدم ، وهذه الأفراد قد مضى زمانها إمّا مع الامتثال أو مع العصيان ، فعدم جريان الاستصحاب في هذا القسم ظاهر.

وإن لم يكن الزمان مفرّداً ولم يكن الحكم انحلالياً ، كنجاسة الماء القليل المتمم كراً ، فانّ الماء شيء واحد غير متعدد بحسب امتداد الزمان في نظر العرف ، ونجاسته حكم واحد مستمر من أوّل الحدوث إلى آخر الزوال ، ومن هذا القبيل الملكية والزوجية ، فلايجري الاستصحاب في هذا القسم أيضاً ، لابتلائه بالمعارض ، لأ نّه إذا شككنا في بقاء نجاسة الماء المتمم كراً فلنا يقين متعلق بالمجعول ويقين متعلق بالجعل ، فبالنظر إلى المجعول يجري استصحاب النجاسة ، لكونها متيقنة الحدوث مشكوكة البقاء ، وبالنظر إلى الجعل يجري استصحاب عدم النجاسة ، لكونه أيضاً متيقناً ، وذلك لليقين بعدم جعل النجاسة للماء القليل في صدر الاسلام لا مطلقاً ولا مقيداً بعدم التتميم ، والقدر المتيقن إنّما هو جعلها للقليل غير المتمم ، أمّا جعلها مطلقاً حتى للقليل المتمم فهو مشكوك فيه ، فنستصحب عدمه ، ويكون المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فنأخذ بالأقل لكونه متيقناً ، ونجري الأصل في الأكثر لكونه مشكوكاً فيه ، فتقع المعارضة بين

٤٤

استصحاب بقاء المجعول واستصحاب عدم الجعل ، وكذا الملكية والزوجية ونحوهما ، فاذا شككنا في بقاء الملكية بعد رجوع أحد المتبائعين في المعاطاة ، فباعتبار المجعول وهي الملكية يجري استصحاب بقاء الملكية ، وباعتبار الجعل يجري استصحاب عدم الملكية ، لتمامية الأركان فيهما على النحو الذي ذكرناه.

وظهر بما ذكرنا من تقريب المعارضة أنّه لا يرد على الفاضل النراقي ما ذكر في الكفاية (١) من أنّه نظر تارةً إلى المسامحة العرفية فأجرى استصحاب الوجود ، واخرى إلى الدقة العقلية فأجرى استصحاب العدم ، لكون الماء غير المتمم غير الماء المتمم بالدقة العقلية ، فاعترض عليه بأنّ المرجع في وحدة الموضوع وتعدده هو العرف ، والعرف يرى الموضوع واحداً ، والكثرة والقلة من الحالات ، فلا مجال لانكار استصحاب النجاسة.

هذا وأنت ترى أنّ المعارضة المذكورة لا تتوقف على لحاظ الموضوع بالنظر الدقي ، بل بعد البناء على المسامحة والقول بوحدة الموضوع يجري استصحاب بقاء النجاسة واستصحاب عدم جعل النجاسة بالنسبة إلى حال الكثرة ، لكون المتيقن هو جعل النجاسة لما لم يتمم ، فتقع المعارضة بين الاستصحابين مع أخذ الموضوع أمراً عرفياً.

وظهر بما ذكرنا أيضاً عدم ورود اعتراض الشيخ قدس‌سره على الفاضل النراقي بما حاصله : أنّ الزمان إن كان مفرّداً فلا يجري استصحاب الوجود لعدم اتحاد الموضوع ويجري استصحاب العدم ، وإن لم يكن الزمان مفرّداً فيجري استصحاب الوجود لاتحاد الموضوع ولا يجري استصحاب العدم ، فلا معارضة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠٩ و ٤١٠.

٤٥

بين الاستصحابين أصلاً (١) وذلك لما قد أوضحناه من وقوع المعارضة مع عدم كون الزمان مفرّداً ووحدة الموضوع فيقال : إنّ هذا الموضوع الواحد كان حكمه كذا وشك في بقائه فيجري استصحاب بقائه ، ويقال أيضاً : إنّ هذا الموضوع لم يجعل له حكم في الأوّل لا مطلقاً ولا مقيداً بحال ، والمتيقن جعل الحكم له حال كونه مقيداً فيبقى جعل الحكم له بالنسبة إلى غيرها تحت الأصل ، فتقع المعارضة بين الاستصحابين مع حفظ وحدة الموضوع.

وما ذكرناه عين ما ذكره الشيخ (٢) قدس‌سره من الوجه لعدم جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية إذا كان الشك من ناحية المفهوم ، كما إذا قال المولى : أكرم العلماء وكان زيد عالماً فزالت عنه ملكة العلم ، وشككنا في وجوب إكرامه من جهة الشك في شمول مفهوم العالم للمنقضي عنه المبدأ واختصاصه بالمتلبس ، فليس في المقام شك في شيء من الامور الخارجية ، بل الشك إنّما هو في جعل الشارع سعةً وضيقاً ، فيجري التعارض بين الاستصحابين على النحو الذي ذكرناه حرفاً بحرف.

فتلخص مما ذكرنا : أنّه لا مجال لجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، بخلاف الشبهات الموضوعية ، لعدم الشك فيها في الجعل ، وإنّما الشك في بقاء الموضوع الخارجي ، فيجري الاستصحاب فيها بلا معارض. مثلاً إذا شككنا في تحقق النوم بعد اليقين بالوضوء ، فلا شك لنا في الجعل ولا في مقدار سعة المجعول ، لأ نّا نعلم أنّ المجعول هو حصول الطهارة بالوضوء إلى زمان طروء الحدث ، وإنّما الشك في حدوث النوم في الخارج ، فيجري استصحاب عدمه بلا معارض.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٤٨ ، في ذيل التنبيه الثاني.

(٢) لاحظ فرائد الاصول ٢ : ٦٩٢.

٤٦

بقي الكلام في الاشكالات التي ذكروها في المقام :

الأوّل : ما أورده الفاضل النراقي (١) على نفسه ، وهو أنّه يعتبر في الاستصحاب اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، لقوله عليه‌السلام : «لأ نّك كنت على يقين من طهارتك فشككت» فانّ الفاء يدل على التعقيب واتصال الشك باليقين ، ولازم ذلك عدم جريان استصحاب عدم الجعل ، لأنّ الشك في حرمة الوطء بعد انقطاع الدم متصل باليقين بحرمة الوطء لا باليقين بعدم حرمته ، لأنّ اليقين بعدم الحرمة قد انتقض باليقين بالحرمة ، فلا مجال لجريان استصحاب عدم جعل الحرمة بالنسبة إلى ما بعد الانقطاع.

وأجاب عنه بأنّ اليقين بعدم الحرمة بالنسبة إلى ما بعد الانقطاع لم ينتقض باليقين بالحرمة ، نعم اليقين بعدم الحرمة بالنسبة إلى زمان وجود الدم قد انتقض باليقين بالحرمة ، وأمّا اليقين بعدم الحرمة بالنسبة إلى ما بعد الانقطاع فهو باقٍ بحاله حتى بعد اليقين بالحرمة حال رؤية الدم ، فالشك في الحرمة متصل باليقين بعدم الحرمة ، فلا مانع من جريان استصحاب عدم جعل الحرمة بالنسبة إلى ما بعد الانقطاع.

واعترض عليه المحقق النائيني (٢) قدس‌سره بأ نّه لا يعتبر اتصال زمان الشك باليقين وإنّما المعتبر اتصال زمان المشكوك فيه بالمتيقن ، وفي استصحاب عدم الجعل ليس المشكوك فيه متصلاً بالمتيقن ، لفصل المتيقن الآخر بينهما ، فانّ المتيقن الأوّل هو عدم الحرمة ، والمتيقن الثاني هو الحرمة ، والمشكوك فيه متصل

__________________

(١) مناهج الأحكام : ٢٤٢.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ١١١.

٤٧

بالمتيقن الثاني دون الأوّل ، فيجري الاستصحاب في الحرمة دون عدمها ، نظير ما إذا علمنا بعدم نجاسة شيء ثمّ علمنا بنجاسته ثمّ شككنا في نجاسته ، فلا مجال لجريان استصحاب عدم النجاسة ، لانفصال زمان المشكوك فيه عن المتيقن ويجري استصحاب النجاسة بلا معارض.

أقول : أمّا ما ذكره من جهة الكبرى وهو عدم اعتبار اتصال زمان نفس الشك بزمان اليقين نفسه ، فهو حق كما ذكره ، فانّا لو علمنا بعدالة زيد مثلاً ثمّ غفلنا عنها يوماً أو أزيد ، ثمّ شككنا في بقائها ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب مع عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، بل يمكن جريان الاستصحاب مع وحدة زمان الشك واليقين على ما ذكرنا سابقاً (١) في بيان الفرق بين موارد الاستصحاب وقاعدة اليقين ، فالمعتبر هو اتصال زمان المشكوك فيه بالمتيقن لا اتصال زمان الشك باليقين.

وأمّا ما ذكره من حيث الصغرى فيرد عليه : أنّ زمان المشكوك فيه متصل بزمان المتيقن في المقام ، لأنّ لنا شكاً ويقينين ، والمشكوك فيه متصل بكلا المتيقنين لا بأحدهما فقط ، لأنّ اليقين بعدم جعل الحرمة واليقين بالحرمة مجتمعان معاً في زمان واحد ، فلنا يقين بعدم جعل الحرمة لما بعد الانقطاع في زمان ، ويقين بالحرمة حال رؤية الدم ، وشك في الحرمة بعد الانقطاع ، ومن المعلوم أنّ اليقين بالحرمة حال رؤية الدم لا يوجب نقض اليقين بعدم جعل الحرمة لما بعد الانقطاع ، وهذا هو مراد الفاضل النراقي بقوله : إنّ اليقين بعدم الحرمة لم ينتقض باليقين بالحرمة.

الثاني : أنّ استصحاب عدم الجعل معارض بمثله في رتبته ، فان استصحاب

__________________

(١) في ص ٨ ـ ٩.

٤٨

عدم جعل الحرمة في المثال المتقدم معارض باستصحاب عدم جعل الحلية ، لوجود العلم الاجمالي بجعل أحدهما في الشريعة المقدسة فيبقى استصحاب بقاء المجعول وهي الحرمة بلا معارض.

ويمكن الجواب عنه بوجوه :

الوجه الأوّل : أنّه لا مجال لاستصحاب عدم جعل الحلية ، لأنّ الحلية والرخصة كانت متيقنة متحققة في صدر الاسلام ، والأحكام الالزامية قد شرّعت على التدريج ، فجميع الأشياء كان على الاباحة بمعنى الترخيص والامضاء كما يدل عليه قوله عليه‌السلام : «اسكتوا عما سكت الله» (١) وقوله عليه‌السلام : «كلّ ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (٢) نعم ، بعض الأحكام الذي شرّع لحفظ النظام كحرمة قتل النفس ، وحرمة أكل أموال الناس ، وحرمة الزنا ، وغيرها من الأحكام النظامية غير مختص بشريعة دون شريعة ، وقد ورد في بعض النصوص (٣) أنّ الخمر ممّا حرّمت في جميع الشرائع. والحاصل أنّ وطء الحائض مثلاً كان قبل نزول الآية الشريفة «فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ» (٤) مرخّصاً فيه ، فلا مجال لاستصحاب عدم جعل الحلية.

الوجه الثاني : أنّه لا معارضة بين استصحاب عدم جعل الحلية واستصحاب عدم جعل الحرمة ، لامكان التعبد بكليهما بالتزام عدم الجعل أصلاً لا جعل

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٢٦٠ / كتاب العلم ب ٣١ ح ١٤ (باختلاف يسير).

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٦٣ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٣٣.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٢٩٦ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٩ ح ١.

(٤) البقرة ٢ : ٢٢٢.

٤٩

الحرمة ولا جعل الحلية ، وذلك لما مرّ غير مرّة ويأتي في أواخر الاستصحاب (١) إن شاء الله تعالى من أنّ قوام التعارض بين الأصلين بأحد أمرين على سبيل منع الخلو ، وربّما يجتمعان :

أحدهما : أن يكون التنافي بين مفاد الأصلين في نفسه مع قطع النظر عن لزوم المخالفة القطعية العملية ، كما إذا كان مدلول أحد الأصلين الاباحة ومدلول الآخر الحرمة ، أو كان مدلول أحدهما الاباحة ومدلول الآخر عدمها ، فلا يصح التعبد بالمتنافيين فيقع التعارض بينهما ويتساقطان ، لعدم إمكان شمول دليل الحجية لكليهما ، وشموله لأحدهما ترجيح بلا مرجح.

وثانيهما : أن تلزم من العمل بهما المخالفة العملية القطعية ولو لم يكن التنافي بين المدلولين ، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الاناءين ، فجريان أصالة الطهارة في كل واحد منهما وإن لم يكن بنفسه منافياً لجريانها في الآخر ، إلاّأ نّه تلزم من جريانه في كليهما المخالفة العملية القطعية ، وكذا في سائر مقامات العلم الاجمالي بالتكليف الالزامي.

وكلا الأمرين مفقود في المقام ، لعدم المنافاة بين أصالة عدم جعل الحلية وأصالة عدم جعل الحرمة ، لأنّ الحلية والحرمة متضادان ، فلا يلزم من التعبد بكلا الأصلين إلاّارتفاع الضدّين ، ولا محذور فيه. فنتعبد بكليهما ونلتزم بعدم الجعل أصلاً ، ولا تلزم مخالفة عملية قطعية أيضاً ، غاية الأمر لزوم المخالفة الالتزامية للعلم الاجمالي بجعل أحد الحكمين في الشريعة المقدّسة ، ولا محذور فيه ، فنلتزم بعدم الجعل في مقام العمل ، وفي مقام الافتاء نرجع إلى غيرهما

__________________

(١) لاحظ ص ٣٠٥ ، والجزء الثاني من هذا الكتاب ص ٤٠٤ وما بعدها.

٥٠

من الاصول كأصالة البراءة مثلاً في المقام ، فنفتي بعدم حرمة الوطء لأصالة البراءة.

ونظير ذلك ما تقدّم (١) في دوران الأمر بين المحذورين ، فان في الحكم بالتخيير هناك مخالفة التزامية لما هو معلوم بالوجدان من الحرمة أو الوجوب ، ولا محذور فيه بعد كون الحكم بالتخيير بالتعبد الشرعي ، ولا تلزم المخالفة العملية القطعية ، لأ نّه لا يخلو إمّا من الفعل المطابق لاحتمال الوجوب أو الترك المطابق لاحتمال الحرمة ، ولولا ذلك لما جاز الافتاء من المجتهد بما في رسالته العملية المشتملة على المسائل الكثيرة ، للعلم الاجمالي بمخالفة بعض ما في الرسالة للحكم الواقعي ، فلا بدّ له من التوقف عن الافتاء. نعم ، من ليس له هذا العلم الاجمالي ـ ويحتمل مطابقة الواقع لجميع ما في رسالته على كثرة ما فيها من المسائل ـ جاز له الافتاء ، ولكنّه مجرد فرض ، ولعلّه لم يوجد مجتهد كان شأنه ذلك.

فالسر في جواز الافتاء هو ما ذكرنا من أنّه لا مانع من الافتاء بعد كونه على الموازين الشرعية وبرخصة من الشارع ، ولا محذور في المخالفة الالتزامية ، والمخالفة العملية القطعية غير ثابتة ، لاحتمال كون ما صدر منه مخالفاً للواقع هو الافتاء بحرمة المباح الواقعي ، ولا تلزم منه مخالفة عملية ، فانّ المخالفة العملية إنّما تتحقق فيما علم الافتاء باباحة الحرام الواقعي ، وليس له هذا العلم ، غاية ما في الباب علمه بكون بعض ما في الرسالة مخالفاً للواقع إمّا الافتاء بحرمة المباح الواقعي أو باباحة الحرام الواقعي.

الوجه الثالث : أنّه لو تنزلنا عن جميع ذلك فنقول : إنّه يقع التعارض بين

__________________

(١) في الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ٣٨٥.

٥١

هذه الاستصحابات الثلاثة في مرتبة واحدة ، لا أنّه يقع التعارض بين استصحاب عدم جعل الحرمة واستصحاب عدم جعل الحلية في مرتبة متقدمة على استصحاب بقاء المجعول ، وبعد تساقط الاستصحابين في مقام الجعل تصل النوبة إلى استصحاب بقاء المجعول ويتم المطلوب ، وذلك لأنّ جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية لايكون متوقفاً على تحقق الموضوع في الخارج ، بحيث يكون استصحاب بقاء الحرمة متوقفاً على وجود زوجة انقطع دمها ولم تغتسل ، بل يجري الاستصحاب على فرض وجود الموضوع ، فانّ جميع فتاوى المجتهد مبنية على فرض وجود الموضوع ، فلا يتوقف الاستصحاب المذكور إلاّعلى فعلية اليقين والشك على فرض وجود الموضوع ، وكل مجتهد التفت إلى الحكم المذكور ـ أي حرمة وطء الحائض بعد انقطاع دمها ـ يحصل له اليقين بحرمة الوطء حين رؤية الدم ، واليقين بعدم جعل الحرمة قبل نزول الآية الشريفة «فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ»  (١) واليقين بعدم جعل الاباحة في الصدر الأوّل من الاسلام ، ويحصل له الشك في حرمة الوطء بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال ، وكل واحد من هذه الامور فعليٌ عند الافتاء على فرض وجود الموضوع ، فيقع التعارض بين الاستصحابات الثلاثة في مرتبة واحدة وتسقط جميعها.

وربّما يقال في المقام : إنّ أصالة عدم جعل الحرمة حاكمة على استصحاب بقاء المجعول ، لكون الأوّل أصلاً سببياً بالنسبة إلى الثاني ، فانّ الشك في بقاء الحرمة مسبب عن الشك في سعة جعل الحرمة وضيقها ، فأصالة عدم جعل الحرمة موجبة لرفع الشك في بقاء المجعول ، فلايبقى للاستصحاب الثاني موضوع.

وهذا الكلام وإن كان موافقاً للمختار في النتيجة ، إلاّأ نّه غير صحيح في

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٢٢.

٥٢

نفسه ، لما مرّ غير مرّة ويأتي (١) إن شاء الله تعالى من أنّ الملاك في الحكومة ليس مجرد كون أحد الأصلين سببياً والآخر مسببياً ، بل الملاك كون المشكوك فيه في أحد الأصلين أثراً مجعولاً شرعياً للأصل الآخر ، كما في المثال المعروف وهو ما إذا غُسل ثوب نجس بماء مشكوك النجاسة ، فالشك في نجاسة الثوب مسبب عن الشك في طهارة الماء ، وجريان أصالة الطهارة في الماء موجب لرفع الشك في طهارة الثوب ، لأن من الآثار المجعولة لطهارة الماء هو طهارة الثوب المغسول به ، فاصالة الطهارة في الماء تكون حاكمة على استصحاب النجاسة في الثوب ، بخلاف المقام ، فانّه ليس عدم حرمة الوطء من الآثار الشرعية لأصالة عدم جعل الحرمة ، بل من الآثار التكوينية له ، لأن عدم الحرمة خارجاً ملازم تكويناً مع عدم جعل الحرمة ، بل هو عينه حقيقة ، ولا مغايرة بينهما إلاّنظير المغايرة بين الماهية والوجود ، فلا معنى لحكومة أصالة عدم جعل الحرمة على استصحاب بقاء المجعول.

الثالث : ما ذكره المحقق النائيني (٢) قدس‌سره : وهو أنّ استصحاب عدم الجعل غير جارٍ في نفسه ، لعدم ترتب الأثر العملي عليه ، لأنّ الجعل عبارة عن إنشاء الحكم في مقام التشريع ، والأحكام الانشائية لا تترتب عليها الآثار الشرعية ، بل ولا الآثار العقلية من وجوب الاطاعة وحرمة المعصية مع العلم بها فضلاً عن التعبد بها بالاستصحاب ، فانّه إذا علمنا بأنّ الشارع جعل وجوب الزكاة على مالك النصاب ، لا يترتب على هذا الجعل أثر ما لم تتحقق ملكية في الخارج. وعليه فلا يترتب الأثر العملي على استصحاب عدم الجعل ،

__________________

(١) يأتي في ص ١٢٩ ، ١٦٩ ، ٣٠٣.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ١١٣ ، فوائد الاصول ٤ : ٤٤٧.

٥٣

فلا مجال لجريانه.

والجواب عنه : يظهر بما ذكرناه في الواجب المشروط (١) والتزم هو (٢) قدس‌سره به أيضاً من أنّ الأحكام الشرعية اعتبارية لا وجود لها إلاّفي عالم الاعتبار القائم بالمعتبر وهو المولى ، وليست من سنخ الجواهر والأعراض الخارجية ، بل وجودها بعين اعتبارها من المعتبر ، والاعتبار إنّما هو بمنزلة التصور ، فكما أنّ التصور تارةً يتعلق بمتصور حالي واخرى بمتصور استقبالي ، فكذا الاعتبار تارةً يتعلق بأمر حالي واخرى يتعلق بأمر استقبالي بحيث يكون الاعتبار والابراز في الحال والمعتبر في الاستقبال كالواجبات المشروطة قبل تحقق الشرط ، فانّ الاعتبار فيها حالي والمعتبر وهو الوجوب استقبالي ، لعدم تحققه إلاّبعد تحقق الشرط ، ونظيره في الوضع الوصية فان اعتبار الملكية في موردها حالي ، إلاّأنّ المعتبر أمر استقبالي وهي الملكية بعد الوفاة.

فتحصّل مما ذكرنا : أنّ الواجب المشروط ما لا يكون فيه قبل تحقق الشرط إلاّ مجرد الاعتبار ، وجميع الأحكام الشرعية بالنسبة إلى موضوعاتها من قبيل الواجب المشروط ، فقبل تحققها لا يكون بعث ولا زجر ولا طاعة ولا معصية ، فتحقق الأحكام الشرعية الذي نعبّر عنه بالفعلية يتوقف على أمرين : الجعل وتحقق الموضوع ، فاذا انتفى أحدهما انتفى الحكم ، مثلاً وجوب الصلوة بعد زوال الشمس يتوقف على جعل الوجوب من المولى وتحقق الزوال في الخارج ، فاذا زالت الشمس ولم يحكم المولى بشيء يكون الحكم منتفياً بانتفاء الجعل ، فما لم يتحقق الموضوع وإن كان لا يترتب أثر على استصحاب عدم الجعل إلاّأ نّه

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٢ : ١٤٦.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢١٠.

٥٤

إذا تحقق الزوال يترتب الأثر على استصحاب عدمه لا محالة. وعليه فاذا وجد الموضوع في الخارج وشككنا في بقاء حكمه من جهة الشك في سعة المجعول وضيقه ، أمكن جريان استصحاب عدم الجعل في غير المقدار المتيقن لولا معارضته باستصحاب بقاء المجعول. وإن شئت قلت : كما أنّ استصحاب بقاء الجعل يجري لاثبات فعلية التكليف عند وجود موضوعه ، كذلك استصحاب عدم الجعل يكفي في إثبات عدم فعليته. هذا تمام الكلام في دفع الاشكالات الواردة في المقام.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ ما ذكرناه من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية مختص بالأحكام الالزامية من الوجوب والحرمة ، وأمّا غير الالزامي فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه ، ولا يعارضه استصحاب عدم جعل الإباحة ، لما ذكرنا سابقاً (١) من أنّ الإباحة لا تحتاج إلى الجعل ، فانّ الأشياء كلّها على الاباحة ما لم يجعل الوجوب والحرمة ، لقوله عليه‌السلام : «اسْكُتُوا عَمّا سَكَتَ اللهُ عَنْهُ» (٢) وقوله عليه‌السلام : «كلّ ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (٣) وقوله عليه‌السلام : «إنّما هلك الناس لكثرة سؤالهم» (٤) فالمستفاد من هذه الروايات أنّ الأشياء على الاباحة ما لم يرد أمر أو نهي من قبل الشارع ، فانّ الشريعة شرعت للبعث إلى شيء والنهي عن الآخر لا لبيان المباحات ، فلا مجال لاستصحاب عدم جعل الاباحة ، لكون الاباحة متيقنة فالشك في بقائها ، فيجري استصحاب بقاء الاباحة بلا معارض ، بل يكون

__________________

(١) في ص ٤٩.

(٢) ، (٣) ذكرنا مصدر الروايتين في ص ٤٩.

(٤) بحار الأنوار ٢٢ : ٣١.

٥٥

استصحاب عدم جعل الحرمة موافقاً له.

وظهر بما ذكرنا أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية الوضعية كالطهارة من الخبث والحدث ، كما إذا شككنا في انفعال الماء العالي بملاقاة النجاسة السافلة ، فنجري استصحاب الطهارة ولا يعارضه استصحاب عدم جعل الطهارة ، لأنّ الطهارة نظير الاباحة لا تحتاج إلى الجعل ، بل الأشياء كلّها على الطهارة ما لم تعتبر النجاسة فيها من قبل الشارع ، بل الطهارة بحقيقتها العرفية كون الشيء باقياً بطبيعته الأوّلية ، والنجاسة والقذارة شيء زائد ، بل استصحاب عدم جعل النجاسة معاضد لاستصحاب بقاء الطهارة. وكذا لا مانع من جريان استصحاب الطهارة من الحدث ، كما إذا شككنا في بقائها بعد خروج المذي ، ولا يعارضه استصحاب عدم جعل الطهارة ، لأنّ النقض هو المحتاج إلى الجعل. وأمّا الطهارة المجعولة فهي الوضوء ـ أي الغسلتان والمسحتان ـ وقد أتينا بها ، فهي باقية بحالها ما لم يصدر منّا ما جعله الشارع ناقضاً لها ، بل استصحاب عدم جعل المذي ناقضاً موافق لاستصحاب بقاء الطهارة.

وبعبارة اخرى : إنّما الشك في أنّ الصلاة مشروطة بخصوص الطهارة الثانية ـ أي الحاصلة بعد خروج المذي ـ أو مشروطة بالأعم منها ومن الطهارة الاولى ـ أي الحاصلة قبل خروج المذي ـ والأصل عدم اشتراطها بخصوص الطهارة الثانية. نعم ، إذا شككنا في بقاء النجاسة المتيقنة كمسألة تتميم الماء القليل النجس كراً ، لا مجال لجريان استصحاب بقاء النجاسة للمعارضة باستصحاب عدم جعل النجاسة بعد التتميم.

فتحصّل : أنّ المختار في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية هو التفصيل على ما ذكرنا ، لا الانكار المطلق كما عليه الأخباريون والفاضل النراقي ، ولا الاثبات المطلق كما عليه جماعة من العلماء.

٥٦

ثمّ إنّه بقي هنا شيء طفيف نتعرض له تبعاً للمحقق النائيني (١) وهو أنّه ذكر بعضهم إشكالاً على الاستدلال بالصحيحة المذكورة وغيرها من الصحاح ، وهو أنّ المراد من اليقين في قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» هو الجنس المراد منه العموم ، وبعد دخول «لا» عليه يكون المراد سلب العموم لا عموم السلب ، فيكون المعنى لا تنقض جميع أفراد اليقين بالشك ، فتكون دالّة على حجية الاستصحاب على نحو الايجاب الجزئي لا مطلقاً.

وهذا الاشكال بمكان من السقوط ، فانّه يرد عليه أوّلاً : أنّ ما ذكر إنّما يصح فيما إذا كان المدخول بنفسه مفيداً للعموم ، فبعد دخول النفي عليه يكون سلباً للعموم ، بخلاف المقام ، فانّ اليقين بنفسه لا يدل على العموم ، لأنّ المراد منه الجنس ، والعموم يستفاد من النفي ، فيكون بمنزلة قولنا : لا رجل في الدار في إفادته عموم السلب لا سلب العموم.

وثانياً : أنّه لا نسلّم سلب العموم حتى فيما إذا كان المدخول بنفسه مفيداً للعموم ، لما ذكرنا في بحث العام والخاص (٢) من أنّ الظاهر من العمومات هو العموم الاستغراقي لا المجموعي ، إلاّإذا قامت قرينة على إرادته ، فمثل قولنا : لا تهن العلماء ظاهر في عموم السلب لا سلب العموم وإن كان المدخول بنفسه مفيداً للعموم.

وثالثاً : أنّا لو سلّمنا ظهوره في سلب العموم فانّما هو فيما لم تكن قرينة على الخلاف ، والقرينة في المقام موجودة ، وهي أنّ الإمام عليه‌السلام بعد ما حكم بعدم وجوب الوضوء على من شك في النوم ، علله بقوله عليه‌السلام : «فانّه

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٣٥ ، فوائد الاصول ٤ : ٣٣٨.

(٢) الهداية في الاصول ٢ : ٣٠٠ ، لكن ذُكر ما ينافيه في الدراسات ٢ : ٢٣٤ و ٢٣٥.

٥٧

على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك أبداً» فلو كان المراد سلب العموم لم ينطبق على المورد وكان لزرارة أن يقول إنّه لا ينقض جميع أفراد يقينه بالشك بل بعضها ، وليكن هذا اليقين من هذا البعض.

ومن جملة ما استدلّ به للاستصحاب صحيحة ثانية لزرارة «قال قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني ، فعلّمت أثره إلى أن اصيب له الماء ، فحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصليت ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال عليه‌السلام : تعيد الصلاة وتغسله ، قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه قد أصابه فطلبته ولم أقدر عليه فلما صلّيت وجدته؟ قال عليه‌السلام : تغسله وتعيد ، قلت : فان ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئاً فصلّيت فرأيت فيه؟ قال عليه‌السلام : تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : لِمَ ذلك؟ قال عليه‌السلام : لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً ، قلت : فانّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدرِ أين هو فأغسله؟ قال عليه‌السلام : تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك ، قلت : فهل عليَّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال عليه‌السلام : لا ، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك ، قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال عليه‌السلام : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ، وإن لم تشك ثمّ رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة ، لأ نّك لا تدري لعلّه شيء اوقع عليك ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك» (١).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٢١ / ح ١٣٣٥ ، الوسائل ٣ : ٤٦٦ و ٤٧٧ و ٤٨٢ / أبواب النجاسات ب ٣٧ و ٤١ و ٤٤ ح ١.

٥٨

ويقع الكلام أوّلاً في فقه الحديث ثمّ في وجه الاستدلال به للاستصحاب فنقول : أمّا فقه الحديث ، فهو أنّ زرارة سأل الإمام عليه‌السلام أسئلة عديدة عن أحكام متعددة.

السؤال الأوّل : عن حكم الاتيان بالصلاة مع النجاسة نسياناً مع العلم بالنجاسة أوّلاً ، فأجاب عليه‌السلام بوجوب إعادة الصلاة ووجوب الغسل. وهذا الحكم قد ورد في روايات اخر (١) أيضاً ، وعلل في بعضها بأنّ الناسي تهاون في التطهير دون الجاهل. وكيف كان لا إشكال في الحكم المذكور.

السؤال الثاني : عن العلم الاجمالي بنجاسة الثوب والصلاة معها ، فأجاب عليه‌السلام بوجوب الاعادة وعدم الفرق بين العلم الاجمالي بالنجاسة والعلم التفصيلي بها.

السؤال الثالث : عن الظن بالنجاسة والصلاة معها ، فأجاب عليه‌السلام بوجوب الغسل وعدم وجوب الاعادة ، لكونه على يقين من الطهارة فشك وليس ينبغي نقض اليقين بالشك ، وهذا مبني على أن يكون المراد من الشك عدم اليقين الشامل للظن المفروض في السؤال ، كما سنذكره في أواخر الاستصحاب (٢) إن شاء الله تعالى ، وإلاّ لم ينطبق على المورد.

السؤال الرابع : عن كيفية التطهير مع العلم الاجمالي بالنجاسة ، فأجاب عليه‌السلام بوجوب تطهير الناحية التي علم إجمالاً بنجاستها حتى يحصل له اليقين بالطهارة.

السؤال الخامس : عن وجوب الفحص وعدمه مع الشك في الاصابة ،

__________________

(١) كما في الوسائل ٣ : ٤٨٠ / أبواب النجاسات ب ٤٢ ح ٥.

(٢) في التنبيه الرابع عشر ، ص ٢٦٨.

٥٩

فأجاب عليه‌السلام بعدم وجوبه بل بعدم وجوب النظر كما هو المذكور في السؤال فضلاً عن الفحص ، فانّه يحتاج إلى مؤونة زائدة عن مجرد النظر ، وملخّص الجواب أنّه ليس عليك تكليف بالفحص والنظر إلاّأن تريد إذهاب الشك ولو من جهة عدم الوقوع في الحرج والمشقة إذا ظهر كونه نجساً وملاقاته أشياء اخر ، فلك النظر ولكنّه لا يجب عليك.

السؤال السادس : عن رؤية النجاسة وهو في الصلاة ، فأجاب عليه‌السلام بأنّ هذه الرؤية إن كانت بعد العلم الاجمالي بالنجاسة والشك في موضعها قبل الصلاة ، وجبت الاعادة ، وإن كانت الرؤية غير مسبوقة بالعلم فرأى النجاسة وهو في الصلاة ولم يدرِ أكانت النجاسة قبل الصلاة أم حدثت في الأثناء ، فلا تجب عليه الاعادة ، بل يغسلها ويبني على الصلاة إذالم يلزم ما يوجب البطلان ، كالاستدبار مثلاً. وعلل الحكم بعدم وجوب الاعادة باحتمال حدوث النجاسة في الأثناء ، فلا ينبغي نقض اليقين بالشك ، وهذا الحكم ـ أي حكم رؤية النجاسة في أثناء الصلاة ـ له صورتان :

الصورة الاولى : رؤية النجاسة في الأثناء مع العلم بكونها قبل الصلاة.

والصورة الثانية : هي الصورة الاولى مع الشك في كونها قبل الصلاة واحتمال عروضها في الأثناء.

أمّا الصورة الثانية فهي التي ذكرت في الرواية وحكم الإمام عليه‌السلام بعدم وجوب الاعادة فيها.

وأمّا الصورة الاولى ، فهي غير مذكورة في صريح الرواية ، لأنّ المذكور فيها حكم العلم بالنجاسة قبل الصلاة مع الشك في موضعها ، وحكم رؤية النجاسة في الأثناء مع الشك في كونها قبل الصلاة. وأمّا رؤية النجاسة في الأثناء مع العلم بكونها قبل الصلاة ، فغير مذكورة فيها من حيث المنطوق ، ولذا اختلفت

٦٠