موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

الكلي ومع ذلك يقولون إنّ القضاء ليس تابعاً للأداء بل هو بأمر جديد. نعم ، على المسلك المختار من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية لا يجري الاستصحاب هنا أيضاً ، فيحتاج القضاء إلى أمر جديد. هذا تمام الكلام في جريان الاستصحاب في التدريجيات من الزمان والزمانيات.

التنبيه السادس

في الاستصحاب التعليقي ، اعلم أنّ الحكم تارةً يكون فعلياً من جميع الجهات ، واخرى يكون فعلياً من بعض الجهات دون بعض ، ويعبّر عن الثاني بالحكم التعليقي مرةً وبالحكم التقديري اخرى ، كما يعبّر عن الأوّل بالحكم التنجيزي.

والكلام في جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي إنّما هو بعد الفراغ عن جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية التنجيزية ، لأنّه مع الالتزام بعدم جريان الاستصحاب فيها ـ كما هو المختار ـ كان البحث عن جريان الاستصحاب في الأحكام التعليقية ساقطاً.

وقبل التكلم في جريان الاستصحاب التعليقي وعدمه لا بدّ من بيان مقدمة ، وهي أنّ العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام على أقسام :

فتارةً يكون أخذ العنوان لمجرد الاشارة إلى حقيقة المعنون بلا دخل للعنوان في ثبوت الحكم ، بحيث يفهم العرف من نفس الدليل الدال على الحكم أنّ الحكم ثابت لهذا الموضوع مع تبدل العنوان المأخوذ بعنوان آخر ، كعنوان الحنطة والشعير مثلاً فانّه إذا دلّ دليل على أنّ الحنطة حلال ، يستفاد منه عرفاً

١٦١

أنّ الحلية ثابتة لحقيقة الحنطة ولو مع تبدل هذا العنوان كما إذا صار دقيقاً ثمّ عجيناً ثمّ خبزاً ، فيستفاد من حليتها الحلية في جميع هذه التبدلات ، ففي مثل ذلك لا نشك في بقاء الحكم في حال من الحالات حتى نحتاج إلى الاستصحاب.

واخرى يكون الأمر بعكس ذلك ـ أي يفهم العرف من نفس الدليل أنّ الحكم دائر مدار العنوان فيرتفع بارتفاعه ـ كما في موارد الاستحالة كاستحالة الكلب ملحاً ونحوها من موارد الاستحالات. وقد يستفاد ذلك في غير موارد الاستحالة كما في حرمة الخمر فانّها تابعة لصدق عنوانه ، فاذا تبدل عنوانه لم يحتمل بقاء حكمه ، ففي أمثال ذلك نقطع بارتفاع الحكم بمجرد تبدل العنوان ، فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب.

وثالثةً لا يستفاد أحد الأمرين من نفس الدليل ، فنشك في بقاء الحكم بعد تبدل العنوان لاحتمال مدخلية العنوان في ترتب الحكم ، وهذا كالتغير المأخوذ في نجاسة الماء ، فانّه لا يعلم أنّ النجاسة دائرة مدار التغير حدوثاً وبقاءً ، أو أنّها باقية بعد زوال التغير أيضاً لكونه علةً لحدوثها فقط. وهذا القسم هو محل الكلام في جريان الاستصحاب.

وظهر بما ذكرنا من تحقيق موارد الاستصحاب التعليقي أنّ تمثيلهم له بماء الزبيب غير صحيح ، فانّ الاستصحاب إنّما هو فيما إذا تبدلت حالة من حالات الموضوع فشك في بقاء حكمه ، والمقام ليس كذلك ، إذ ليس المأخوذ في دليل الحرمة هو عنوان العنب ليجري استصحاب الحرمة بعد كونه زبيباً ، بل المأخوذ فيه هو عصير العنب وهو الماء المخلوق في كامن ذاته بقدرة الله تعالى ، فانّ العصير ما يعصر من الشيء من الماء ، وبعد الجفاف وصيرورته زبيباً لا يبقى ماؤه الذي كان موضوعاً للحرمة بعد الغليان. وأمّا عصير الزبيب فليس هو إلاّماء آخر خارج عن حقيقته وصار حلواً بمجاورته ، فموضوع

١٦٢

الحرمة غير باقٍ ليكون الشك شكاً في بقاء حكمه فيجري فيه الاستصحاب.

وبعد الغض عن المناقشة في المثال نقول : إنّ الشك في بقاء الحكم الشرعي يتصور على وجوه ثلاثة لا رابع لها :

الأوّل : ما إذا كان الشك في بقاء الحكم الكلي في مرحلة الجعل لاحتمال النسخ.

الثاني : ما إذا كان الشك في بقاء الحكم الجزئي لاحتمال عروض تغير في موضوعه الخارجي ويعبّر عنه بالشبهة الموضوعية ، كما إذا علمنا بطهارة ثوب واحتملنا نجاسته لاحتمال ملاقاته البول مثلاً.

الثالث : ما إذا كان الشك في بقاء الحكم الكلي المجعول لأجل الشك في سعة موضوعه وضيقه في مقام الجعل ، ويعبّر عنه بالشبهة الحكمية ، كما إذا شككنا في حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال لاحتمال أن يكون الموضوع لحرمة الوطء خصوص المرأة حال رؤيتها الدم ، أو المحدث بحدث الحيض ، ليعمّ من لم تغتسل بعد وإن انقطع الدم عنها.

أمّا القسم الأوّل ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب التعليقي فيه إذا قلنا بجريان الاستصحاب التنجيزي فيه ، فكما إذا شككنا في بقاء حرمة الخمر لاحتمال النسخ يجري استصحاب عدم النسخ ، كذلك إذا شككنا في بقاء حكمه التعليقي كوجوب الحد على من شربه يجري استصحاب عدم النسخ أيضاً ، ولكنّا سنذكر (١) عدم صحة جريان الاستصحاب في موارد الشك في النسخ مطلقاً.

__________________

(١) في التنبيه السابع ص ١٧٥.

١٦٣

وكذا القسم الثاني ، فانّه مع الشك في بقاء الموضوع الخارجي على ما كان عليه ، يحكم ببقائه على ما كان بمقتضى الاستصحاب ، ويترتب عليه جميع أحكامه المنجّزة والمعلّقة.

إنّما الكلام في القسم الثالث ، والظاهر ابتناء هذا البحث على أنّ القيود المأخوذة في الحكم هل هي راجعة إلى نفس الحكم ولا دخل لها بالموضوع ، أو راجعة إلى الموضوع ، فعلى تقدير القول برجوعها إلى نفس الحكم ، يكون الحكم الثابت للموضوع حصة خاصة من الحكم ، فيثبت الحكم عند تحقق موضوعه ، فاذا وجد العنب في الخارج في مفروض المثال ، كان الحكم بحرمته الخاصة فعلياً لا محالة ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه عند الشك في بقائه.

وأمّا على تقدير القول برجوعها إلى الموضوع ، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه لكون الموضوع حينئذ مركباً من العصير وغليانه. وفعلية الحكم المترتب على الموضوع المركب متوقفة على وجود موضوعه بتمام أجزائه ، لأن نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة المعلول إلى علته ، ولا يمكن تحقق المعلول إلاّبعد تحقق العلة بما لها من الأجزاء ، فوجود أحد جزأي الموضوع بمنزلة العدم ، لعدم ترتب الحكم عليه ، فلم يتحقق حكم حتى نشك في بقائه ليكون مورداً للاستصحاب.

وحيث إنّ الصحيح في القيود هو كونها راجعةً إلى الموضوع على ما ذكرنا في مبحث الواجب المشروط (١) ، فلا مجال لجريان الاستصحاب في المقام.

ولا فرق فيما ذكرناه من كون القيود راجعةً إلى الموضوع بحسب اللب بين أن

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٢ : ١٦٧.

١٦٤

يكون القيد مذكوراً في الكلام بعنوان الوصف ، كما إذا قال المولى يجب الحج على المستطيع ، أو بعنوان الشرط كما إذا قال يجب الحج على المكلف إن استطاع.

نعم ، بينهما فرق من جهة ثبوت المفهوم في الثاني دون الأوّل ، لكنّه لا دخل له فيما نحن فيه من كون القيد راجعاً إلى الموضوع دون الحكم.

فتحصّل مما ذكرناه : عدم تمامية الاستصحاب التعليقي.

نعم ، هنا شيء وهو أنّه إذا كان الحكم مترتباً على الموضوع المركب ووجد أحد أجزائه ، فيحكم العقل بأ نّه إن وجد جزؤه الآخر ، لترتب عليه الأثر ، وهذا ـ مع كونه حكماً عقلياً ـ معلوم البقاء في كل مركب وجد أحد أجزائه ، فلا معنى لاستصحابه.

وبالجملة : جريان الاستصحاب التعليقي متوقف على القول بكون القيود راجعةً إلى الحكم ، وهو في غاية السقوط على ما تقدّم في مبحث الواجب المشروط ، فلا يبقى مجال للاستصحاب التعليقي.

ولعلّه لذلك عدل الشيخ (١) قدس‌سره عن الاستصحاب التعليقي في مسألة العصير الزبيبي إلى جريان الاستصحاب التنجيزي في السببية ، بدعوى أنّ الغليان حال العنبية كان سبباً للحرمة ، فالاستصحاب يقتضي بقاء السببية حال الزبيبية أيضاً. وهذه السببية لم تكن معلّقةً على تحقق الغليان في الخارج حتى يقال : إنّ استصحاب السببية أيضاً من الاستصحاب التعليقي ، وذلك لأنّ السببية مستفادة من حكم الشارع بأنّ العصير يحرم إذا غلا ، ومن المعلوم أنّ صدق القضية الشرطية لا يتوقف على صدق الطرفين.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٥٤.

١٦٥

وفيه : أنّ السببية من الأحكام الوضعية ، وقد التزم الشيخ (١) قدس‌سره بأنّ الأحكام الوضعية بأجمعها منتزعة من الأحكام التكليفية ، فلا معنى للالتزام بعدم جريان الاستصحاب في منشأ الانتزاع وهو التكليف ، وجريان الاستصحاب في الأمر الانتزاعي وهو السببية مع أنّ الأمر الانتزاعي تابع لمنشأ الانتزاع. وكذا الحال على مسلكنا ، فانّا وإن قلنا بأنّ بعض الأحكام الوضعية مجعول بالاستقلال على ما تقدّم تفصيله (٢) ، إلاّأ نّه قد ذكرنا أنّ السببية والشرطية والملازمة من الامور الانتزاعية قطعاً ، وتنتزع السببية والشرطية عن تقييد الحكم بشيء في مقام الجعل ، وقد ذكرنا أنّ الفرق بين السبب والشرط مجرد اصطلاح ، فانّهم يعبّرون عن القيد المأخوذ في التكليف بالشرط ، فيقولون : إنّ الاستطاعة شرط لوجوب الحج ، وعن القيد المأخوذ في الوضع بالسبب ، فيقولون : العقد سبب للزوجية أو الملكية.

وبالجملة : بعد الالتزام بكون الأحكام الوضعية منتزعةً من الأحكام التكليفية ، لا معنى لاستصحاب السببية ، والمفروض في المقام عدم تحقق التكليف الفعلي حتى تنتزع منه السببية ، هذا مضافاً إلى أنّه لا يمكن جريان الاستصحاب في السببية ولو قيل بأ نّها من المجعولات المستقلة ، وذلك لأنّ الشك في بقاء السببية إن كان في بقائها في مرحلة الجعل لاحتمال النسخ ، فلا إشكال في جريان استصحاب عدم النسخ فيه ، ولكنّه خارج عن محل الكلام ، وإن كان في بقائها بالنسبة إلى مرتبة الفعلية ، فلم تتحقق السببية الفعلية بعد حتى نشك في بقائها ، لأنّ السببية الفعلية إنّما هي بعد تمامية الموضوع بأجزائه ،

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٠١ ـ ٦٠٣.

(٢) في ص ٩٣ وما بعدها.

١٦٦

والمفروض في المقام عدم تحقق بعض أجزائه وهو الغليان ، فالتحقيق أنّ الاستصحاب التعليقي مما لا أساس له.

بقي في المقام امور :

الأوّل : ذكر الشيخ (١) قدس‌سره أنّ العقود التي لها آثار فعلية إذا شك في لزومها وجوازها ، يتمسك لاثبات اللزوم باستصحاب بقاء تلك الآثار الفعلية ، ولذا تمسك باستصحاب بقاء الملكية في المعاطاة وفي غير موضع من أبواب الخيارات (٢). وأمّا العقود التي ليس لها آثار فعلية ، بل لها آثار تعليقية كالوصية والتدبير والسبق والرماية ، فانّه لا يترتب على هذه العقود والايقاعات أثر فعلاً ، بل الأثر متوقف على شيء آخر من الموت كما في الوصية والتدبير ، أو حصول السبق أو إصابة الهدف في الخارج كما في عقد السبق والرماية ، فاذا شك في لزوم هذه العقود وجوازها ، لا يجري الاستصحاب لاثبات اللزوم ، لعدم ترتب أثر فعلي على هذه العقود حتى نقول الأصل بقاء هذا الأثر ، فيكون الاستصحاب تعليقياً ولا مجال لجريانه.

هذا ملخص ما ذكره الشيخ قدس‌سره في المقام ، فالمتحصل من كلامه قدس‌سره هو التفصيل في جريان الاستصحاب التعليقي بين مسألة الزبيب وموارد العقود التعليقية ، بالقول بجريانه في الاولى بنحو استصحاب السببية على ما تقدّم (٣) ، دون الثانية.

__________________

(١) المكاسب ٥ : ١٤ و ٢٣.

(٢) راجع على سبيل المثال المكاسب ٣ : ٥١.

(٣) في ص ١٦٥.

١٦٧

والتحقيق يقتضي الالتزام بعكس ما ذكره الشيخ قدس‌سره ، فانّ ما ذكرناه (١) من المانع عن جريان الاستصحاب التعليقي في مسألة الزبيب لا يجري في موارد العقود التعليقية ، لأنّ ملخص ما ذكرناه من المانع في مسألة الزبيب ، هو أنّ موضوع الحرمة مركب ، والمفروض أنّه لم يتحقق بتمام أجزائه ، فلم يتحقق حكمه لنستصحبه ونحكم ببقائه ، وهذا بخلاف موارد العقود التعليقية فانّ الالتزام بمفاد العقد من المتعاقدين قد وقع في الخارج وأمضاه الشارع ، فقد تحقق هو في عالم الاعتبار ، فاذا شك في بقائه وارتفاعه بفسخ أحد المتعاقدين ، فالأصل يقتضي بقاءه وعدم ارتفاعه بالفسخ.

وبالجملة : الفسخ في العقود نظير النسخ في التكاليف ، وقد ذكرنا (٢) أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب التعليقي في النسخ ، فكذا لا مانع من جريانه في الفسخ. نعم ، إذا بنينا على عدم جريان الاستصحاب في موارد الشك في النسخ ، كان موارد الشك في بقاء الحكم بعد الفسخ أيضاً مثلها.

الثاني : لو بنينا على جريان الاستصحاب التعليقي في نفسه ، فهل يعارضه الاستصحاب التنجيزي فيسقطان بالمعارضة أم لا؟ ربما يقال بالمعارضة ، فلا ثمرة للقول بجريان الاستصحاب التعليقي ، بيان المعارضة : أنّ مقتضى الاستصحاب التعليقي في مسألة الزبيب مثلاً هو حرمته بعد الغليان ، ولكن مقتضى الاستصحاب التنجيزي حليته ، فانّه كان حلالاً قبل الغليان ونشك في بقاء حليته بعده ، فمقتضى الاستصحاب بقاؤها ، فيقع التعارض بين الاستصحابين فيسقطان.

وقد اجيب عن المعارضة بجوابين :

__________________

(١) ، (٢) في ص ١٦٤.

١٦٨

الجواب الأوّل : ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره (١) وهو أنّ الاستصحاب التعليقي حاكم على الاستصحاب التنجيزي ، لأنّ الشك في الحلية والحرمة بعد الغليان مسبب عن الشك في أنّ الحرمة المجعولة للعنب بعد الغليان هل هي مختصة بحال كونه عنباً فلا تشمل حال صيرورته زبيباً ، أو هي مطلقة ، فاذا حكم بكونها مطلقة للاستصحاب التعليقي لم يبق شك في حرمته الفعلية ليجري فيه الاستصحاب التنجيزي.

وفيه أوّلاً : أنّ الشكين في رتبة واحدة ، وليس أحدهما مسبباً عن الآخر ، بل كلاهما مسبب عن العلم الاجمالي بأنّ المجعول في حق المكلف في هذه الحالة إمّا الحلية أو الحرمة ، وحيث إنّ الشك في حرمة الزبيب بعد الغليان مسبوق بأمرين مقطوعين : أحدهما حلية هذا الزبيب قبل الغليان. وثانيهما حرمة العنب على تقدير الغليان ، فباعتبار حليته قبل الغليان يجري الاستصحاب التنجيزي ويحكم بحليته ، وباعتبار حرمته على تقدير الغليان يجري الاستصحاب التعليقي ويحكم بالحرمة ، وحيث لا يمكن اجتماعهما فيتساقطان بالمعارضة.

وثانياً : أنّه لو سلّمنا السببية والمسببية ، فليس كل أصل سببي حاكماً على كل أصل مسببي ، وإنّما ذلك في مورد يكون الحكم في الشك المسببي من الآثار الشرعية للأصل السبي ، كما إذا غسلنا ثوباً متنجساً بماء مشكوك الطهارة ، فانّ أصالة طهارة الماء أو استصحابها يكون حاكماً على استصحاب نجاسة الثوب ، لكون طهارة الثوب من الآثار الشرعية لطهارة الماء ، بخلاف المقام فانّ حرمة الزبيب بعد الغليان ليست من الآثار الشرعية لجعل الحرمة للعنب على تقدير الغليان مطلقاً وبلا اختصاص لها بحال كونه عنباً ، بل هي من اللوازم العقلية

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٢٦ ، فوائد الاصول ٤ : ٤٧٣.

١٦٩

فلا مجال للحكومة فيبقى التعارض بحاله.

الجواب الثاني : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) وبيانه بتوضيح منا : أنّ الحلية الثابتة للزبيب قبل الغليان غير قابلة للبقاء ، ولا يجري فيها الاستصحاب ، لوجود أصل حاكم عليه ، وذلك لأنّ الحلّية في العنب كانت مغيّاة بالغليان ، إذ الحرمة فيه كانت معلّقةً على الغليان ، ويستحيل اجتماع الحلية المطلقة مع الحرمة على تقدير الغليان كما هو واضح. وأمّا الحلية في الزّبيب فهي وإن كانت متيقنة إلاّأ نّها مردّدة بين أنّها هل هي الحلية التي كانت ثابتة للعنب بعينها ـ حتى تكون مغياة بالغليان ـ أو أنّها حادثة للزبيب بعنوانه ، فتكون باقيةً ولو بالاستصحاب ، والأصل عدم حدوث حلية جديدة وبقاء الحلية السابقة المغيّاة بالغليان ، وهي ترتفع به ، فلاتكون قابلةً للاستصحاب ، فالمعارضة المتوهمة غير تامة.

ونظير ذلك ما ذكرناه (٢) في بحث استصحاب الكلي من أنّه إذا كان المكلف محدثاً بالحدث الأصغر ، ورأى بللاً مردداً بين البول والمني فتوضأ ، لم يمكن جريان استصحاب كلي الحدث ، لوجود أصل حاكم عليه ، وهو أصالة عدم حدوث الجنابة وأصالة عدم تبدّل الحدث الأصغر بالحدث الأكبر ، والمقام من هذا القبيل بعينه.

وهذا الجواب متينٌ جدّاً.

الثالث : لو بنينا على جريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام ، فهل يجري في موضوعات الأحكام ومتعلقاتها؟ فاذا وقع ثوب متنجسٌ في حوض كان

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤١١ و ٤١٢.

(٢) في ص ١٢٩ ـ ١٣٠.

١٧٠

فيه الماء سابقاً ، وشككنا في وجوده فيه بالفعل ، فهل لنا أن نقول بأ نّه لو وقع الثوب في هذا الحوض سابقاً لغسل ، ومقتضى الاستصحاب التعليقي تحقق الغسل في زمان الشك أيضاً؟ وكذلك إذا صلينا في اللباس المشكوك في كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، فهل لنا أن نقول بأنّ الصلاة قبل لبس هذا اللباس لو وقعت في الخارج لم تقع في أجزاء ما لا يؤكل لحمه والآن كما كانت؟ وهذا المثال مبني على أن يكون مركز الاشتراط هو نفس الصلاة كما هو ظاهر أدلة الاشتراط ، وأمّا بناءً على كون مركزه هو اللباس أو الشخص المصلي ، فلا مجال للتمسك بالاستصحاب التعليقي ، بيان ذلك :

أنّا إذا شككنا في كون اللباس من أجزاء غير المأكول ، فبناءً على كون محل الاشتراط هو اللباس ، لا يجري الاستصحاب أصلاً ، لعدم الحالة السابقة له ، فانّه مشكوك فيه حين وجد. نعم ، إذا كان اللباس من غير أجزاء ما لا يؤكل يقيناً فطرأ عليه طارئ يحتمل كونه من أجزاء ما لا يؤكل ، لم يكن مانع من جريان الاستصحاب فيه ، بتقريب أنّ اللباس لم يكن فيه من أجزاء ما لا يؤكل قبل طروء المشكوك فيه ، والآن كما كان بمقتضى الاستصحاب.

وبناءً على كون محل الاشتراط هو المكلف ، يجري الاستصحاب فيه ، لكونه غير لابس لما يكون من أجزاء غير المأكول يقيناً ، فبعد لبس المشكوك فيه نشك في أنّه لبس لباساً من غير المأكول أم لا ، فنستصحب عدمه. ولا فرق في ذلك بين ما إذا كان الشك في أصل اللباس أو فيما طرأ عليه طارئ ، فالتمسك بالاستصحاب التعليقي إنّما يتصور فيما إذا كان الاشتراط راجعاً إلى نفس الصلاة. نعم ، إذالبس اللباس المشكوك فيه في أثناء الصلاة ، لم يكن مانع من جريان الاستصحاب التنجيزي ، فانّ الصلاة لم تكن مع أجزاء غير المأكول قبل لبس هذا اللباس يقيناً ، ونشك في بقائها على ما كانت بعد اللبس ، فالأصل

١٧١

بقاؤها عليه.

وكيف كان ، فقد أنكر المحقق النائيني (١) قدس‌سره جريان الاستصحاب التعليقي في المقام ، لأنّه يعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة والقضية المشكوكة ببقاء الجزء المقوّم للموضوع مع التغير في الحالات والأوصاف غير المقوّمة عرفاً ، والمقام ليس كذلك ، لأنّ الموضوع في مفروض المثال إنّما هو الصلاة ، وليس لنا يقين بتحققها مع عدم أجزاء غير المأكول وشك في بقائها على هذه الصفة حتى تكون مورداً للاستصحاب ، لعدم تحقق الصلاة على الفرض ، ومحل كلامه قدس‌سره وإن كان اللباس المشكوك فيه ولكن يمكن تسريته إلى مسألة الثوب المتنجس الواقع في الحوض أيضاً ، فانّ الموضوع فيها هو الغسل ، وهو لم يكن متيقناً سابقاً حتى يكون مجرىً للاستصحاب.

وللمناقشة فيما أفاده مجال واسع ، وذلك لما ذكرناه غير مرة (٢) وفاقاً لما ذهب قدس‌سره (٣) إليه من أنّ متعلقات الأحكام ليست هي الأفراد الخارجية ، بل هي الطبائع الكلية مجردةً عن الخصوصيات الفردية ، والفرد الخارجي مسقط للوجوب لكونه مصداقاً للواجب لا لكونه بخصوصيته هو الواجب ، فليس الموضوع للاستصحاب في المقام هو الصلاة الواقعة في الخارج حتى يقال إنّها لم تكن موجودةً حتى يشك في بقائها على صفة من صفاتها كي تكون مجرىً للاستصحاب ، بل الموضوع للاستصحاب هو الطبيعة فنقول : إنّ هذه الطبيعة لو وقعت في الخارج قبل لبس هذا اللباس لكانت غير مصاحبة مع

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٢٥ و ١٢٦.

(٢) راجع محاضرات في اصول الفقه ٣ : ١٩٢ وما بعدها.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٣٠٧.

١٧٢

أجزاء غير المأكول والآن كما كانت بمقتضى الاستصحاب.

وليس المراد من وحدة القضية المتيقنة والقضية المشكوكة هو بقاء الموضوع في الخارج ، وإلاّ لم يجر الاستصحاب فيما إذا كان الشك في بقاء نفس الوجود كحياة زيد مثلاً ، أو كان الشك في بقاء العدم ، مع أن جريان الاستصحاب فيهما مما لا إشكال فيه ، بل المراد من وحدة القضيتين كون الموضوع فيهما واحداً ، بحيث لو ثبت الحكم في الآن الثاني لعدّه العرف بقاءً للحكم الأوّل لا حكماً جديداً ، وفي المقام كذلك على ما ذكرناه. وكذا الكلام في مسألة غسل الثوب ، فانّه لو تحقق وقوع هذا الثوب في الحوض سابقاً ، لكان مغسولاً والآن كما كان بمقتضى الاستصحاب ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب التعليقي في الموضوعات من هذه الجهة.

نعم يمكن المنع عن جريانه فيها لوجهين آخرين :

الوجه الأوّل : معارضته بالاستصحاب التنجيزي دائماً ، ولا يجري هنا الجواب الذي ذكرناه (١) عن المعارضة بين الاستصحابين في الأحكام من أنّ الحكم المنجّز كان مغيىً بحسب جعل المولى ، فلا يجري فيه الاستصحاب التنجيزي في ظرف تحقق الغاية ، وذلك لأنّ الموضوع ليس قابلاً للجعل التشريعي ، ولا معنى لكونه مغيىً بغاية ، بل هو تابع لتكونه الواقعي ، فيجري فيه الاستصحاب التنجيزي ويكون معارضاً للاستصحاب التعليقي ، فانّه في مسألة الصلاة في اللباس المشكوك فيه وإن اقتضى تحقق صلاة متصفة بعدم كونها مصاحبةً لأجزاء غير المأكول ، إلاّأنّ مقتضى الاستصحاب التنجيزي عدم تحقق صلاة متصفة بهذه الصفة ، للعلم بعدم تحققها قبل الاتيان بالصلاة في اللباس المشكوك فيه

__________________

(١) في ص ١٧٠.

١٧٣

والآن كما كان ، فتقع المعارضة بينهما لا محالة.

الوجه الثاني : أنّه يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب بنفسه حكماً شرعياً ليقع التعبد ببقائه للاستصحاب ، أو يكون ذا أثر شرعي ليقع التعبد بترتيب أثره الشرعي ، والمستصحب في المقام ليس حكماً شرعياً وهو واضح ، ولا ذا أثر شرعي لأنّ الأثر مترتب على الغسل المتحقق في الخارج ، وعلى الصلاة المتحققة في الخارج المتصفة بما يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط.

والمستصحب في المقام أمر فرضي لا واقعي ، ولا يمكن إثباتهما بالاستصحاب المذكور إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، فانّ تحققهما في الخارج من لوازم بقاء القضية الفرضية.

ولا يجري هذا الاشكال على جريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام ، لأنّ المستصحب فيها هو المجعول الشرعي وهو الحكم المعلّق على وجود شيء ، ويكون الحكم الفعلي بعد تحقق المعلّق عليه نفس هذا الحكم المعلّق ، لا لازمه حتى يكون الاستصحاب المذكور بالنسبة إلى إثبات الحكم الفعلي من الأصل المثبت.

فالذي تحصل مما ذكرنا : عدم جريان الاستصحاب التعليقي في الموضوعات ـ ولو على فرض تسليم جريانه في الأحكام ـ مع أنّ التحقيق عدم جريانه في الأحكام أيضاً على ما تقدّم بيانه (١) ، ولو قيل بجريان الاستصحاب التنجيزي في الأحكام الكلية الإلهية ، وقد عرفت (٢) أنّ التحقيق عدم جريانه فيها أيضاً.

__________________

(١) في ص ١٦٤.

(٢) في ص ١٦٣ وما بعدها.

١٧٤

التنبيه السابع

في استصحاب عدم النسخ ، والمعروف صحة جريان الاستصحاب عند الشك فيه ، بل عدّه المحدث الاسترابادي (١) من الضروريات.

ولكنّه قد استشكل فيه باشكالين : الأوّل مشترك بين الاستصحاب في أحكام هذه الشريعة المقدّسة ، وبين الاستصحاب في أحكام الشرائع السابقة ، فلو تم لكان مانعاً عن جريان الاستصحاب في المقامين. والثاني : مختص باستصحاب أحكام الشرائع السابقة.

أمّا الاشكال الأوّل : فهو أنّه يعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة كما مر مراراً ، والمقام ليس كذلك ، لتعدد الموضوع في القضيتين ، فانّ من ثبت في حقه الحكم يقيناً قد انعدم ، والمكلف الموجود الشاك في النسخ لم يعلم ثبوت الحكم في حقّه من الأوّل لاحتمال نسخه ، فالشك بالنسبة إليه شك في ثبوت التكليف لا في بقائه بعد العلم بثبوته ليكون مورداً للاستصحاب ، فيكون إثبات الحكم له إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر. وهذا الاشكال يجري في أحكام هذه الشريعة أيضاً ، فانّ من علم بوجوب صلاة الجمعة عليه هو الذي كان موجوداً في زمان الحضور ، وأمّا المعدوم في زمان الحضور ، فهو شاك في ثبوت وجوب صلاة الجمعة عليه من الأوّل.

وقد أجاب الشيخ (٢) قدس‌سره عن هذا الاشكال بجوابين :

الأوّل : أنّا نفرض الكلام في من أدرك الشريعتين أو أدرك الزمانين ، فيثبت

__________________

(١) الفوائد المدنية : ١٤٣.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٦٥٥ و ٦٥٦ / التنبيه الخامس من تنبيهات الاستصحاب.

١٧٥

الحكم في حقه بأصالة عدم النسخ ، وفي حق غيره بقاعدة الاشتراك في التكليف.

وفيه : أنّ إثبات الحكم بقاعدة الاشتراك إنّما هو مع عدم الاختلاف في الصفة المعبّر عنه بالوحدة الصنفية ، فلا يجوز إثبات تكليف المسافر للحاضر وبالعكس بقاعدة الاشتراك. والحكم في المقام بما أنّه ليس من الحكم الواقعي المستفاد من الأمارة بلا لحاظ اليقين والشك ، بل من الأحكام الظاهرية المستفادة من الاستصحاب على الفرض ، فلا يمكن تسرية الحكم الثابت على من تيقن وشك إلى غيره ، فانّ قاعدة الاشتراك وإن كانت جاريةً في الأحكام الظاهرية أيضاً ، إلاّأ نّها إنّما تجري مع حفظ الموضوع للحكم الظاهري ، مثلاً إذا ثبت الحكم بالبراءة لأحد عند الشك في التكليف ، يحكم لغيره أيضاً بالبراءة إذا شك في التكليف ، لقاعدة الاشتراك ، ولا يعقل إثبات الحكم بالبراءة لغير الشاك بقاعدة الاشتراك.

ففي المقام مقتضى قاعدة الاشتراك ثبوت الحكم لكل من تيقن بالحكم ثمّ شك في بقائه ، لا ثبوته لجميع المكلفين حتى من لم يكن متيقناً بالحكم وشاكاً في بقائه. فالحكم الثابت في حق من أدرك الشريعتين أو الزمانين لأجل الاستصحاب لا يثبت في حق غيره لقاعدة الاشتراك ، لعدم كونه من مصاديق الموضوع ، فانّ مفاد القاعدة عدم اختصاص الحكم بشخص دون شخص ، فيعم كل من تيقن بالحكم فشك في بقائه ، لا أنّ الحكم ثابت للجميع ولو لم يكن كذلك ، بل كان شاكاً في حدوثه كما في المقام.

الثاني : ما ذكره الشيخ قدس‌سره (١) وارتضاه غير واحد من المتأخرين

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٥٥ و ٦٥٦ التنبيه الخامس من تنبيهات الاستصحاب.

١٧٦

أيضاً ، وهو أنّ توهم دخل خصوصية هؤلاء الأشخاص مبني على أن تكون الأحكام مجعولةً على نحو القضايا الخارجية ، وليس الأمر كذلك ، فانّ التحقيق أنّها مجعولة على نحو القضايا الحقيقية ، فلا دخل لخصوصية الأفراد في ثبوت الحكم لها ، بل الحكم ثابت للطبيعة أينما سرت من الأفراد الموجودة بالفعل وما يوجد بعد ذلك ، فلو كان هذا الشخص موجوداً في زمان الشريعة السابقة ، لكان الحكم ثابتاً في حقه بلا إشكال ، فليس القصور في ثبوت الحكم من ناحية المقتضي ، إنّما الكلام في احتمال الرافع وهو النسخ ، فيرجع إلى أصالة عدم النسخ ، ولا مانع منه من جهة اعتبار وحدة الموضوع في القضيتين ، إذ الوحدة حاصلة بعد كون الموضوع هي الطبيعة لا الأفراد ، هذا.

وفيه : أنّ النسخ في الأحكام الشرعية إنّما هو بمعنى الدفع وبيان أمد الحكم ، لأنّ النسخ بمعنى رفع الحكم الثابت مستلزم للبداء المستحيل في حقه (سبحانه وتعالى) وقد ذكرنا غير مرة (١) أنّ الاهمال بحسب الواقع ومقام الثبوت غير معقول ، فامّا أن يجعل المولى حكمه بلا تقييد بزمان ويعتبره إلى الأبد ، وإمّا أن يجعله ممتداً إلى وقت معيّن ، وعليه فالشك في النسخ شك في سعة المجعول وضيقه من جهة احتمال اختصاصه بالموجودين في زمان الحضور. وكذا الكلام في أحكام الشرائع السابقة ، فانّ الشك في نسخها شك في ثبوت التكليف بالنسبة إلى المعدومين لا شك في بقائه بعد العلم بثبوته ، فان احتمال البداء مستحيل في حقه تعالى ، فلا مجال حينئذ لجريان الاستصحاب.

وتوهم أنّ جعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقية ينافي اختصاصها بالموجودين ، مدفوع بأن جعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقية معناه عدم

__________________

(١) راجع على سبيل المثال محاضرات في اصول الفقه ١ : ٥٣٤.

١٧٧

دخل خصوصية الأفراد في ثبوت الحكم ، لا عدم اختصاص الحكم بحصة دون حصة ، فاذا شككنا في أنّ المحرّم هو الخمر مطلقاً ، أو خصوص الخمر المأخوذ من العنب ، كان الشك في حرمة الخمر المأخوذ من غير العنب شكاً في ثبوت التكليف ، ولا مجال لجريان الاستصحاب معه.

والمقام من هذا القبيل ، فانّا نشك في أنّ التكليف مجعول لجميع المكلفين أو هو مختص بمدركي زمان الحضور ، فيكون احتمال التكليف بالنسبة إلى غير المدركين شكاً في ثبوت التكليف لا في بقائه ، فلا مجال لجريان الاستصحاب حينئذ إلاّعلى نحو الاستصحاب التعليقي ، بأن يقال : لو كان هذا المكلف موجوداً في ذلك الزمان لكان هذا الحكم ثابتاً في حقه ، والآن كما كان. لكنك قد عرفت (١) عدم حجية الاستصحاب التعليقي.

فالتحقيق : أنّ هذا الاشكال لا دافع له ، وأنّ استصحاب عدم النسخ مما لا أساس له ، فان كان لدليل الحكم عموم أو إطلاق يستفاد منه استمرار الحكم ، فهو المتبع ، وإلاّ فان دلّ دليلٌ من الخارج على استمرار الحكم كقوله عليه‌السلام : «حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» (٢) فيؤخذ به ، وإلاّ فلا يمكن إثبات الاستمرار باستصحاب عدم النسخ. فما ذكره المحدث الاسترابادي (٣) من أنّ استصحاب عدم النسخ من الضروريات ، إن كان مراده الاستصحاب المصطلح ، فهو غير تام ، وإن كان مراده نتيجة الاستصحاب ولو من جهة الأدلة الدالة على

__________________

(١) في التنبيه السادس.

(٢) الكافي ١ : ٥٨ / باب البدع والرأي والمقاييس ح ١٩.

(٣) الفوائد المدنية : ١٤٣.

١٧٨

الاستمرار ، فهو خارج عن محل الكلام.

وأمّا الاشكال الثاني على استصحاب عدم النسخ المختص باستصحاب أحكام الشرائع السابقة : فهو ما ذكره المحقق النائيني (١) قدس‌سره وحاصله : أنّ تبدل الشريعة السابقة بالشريعة اللاحقة إن كان بمعنى نسخ جميع أحكام الشريعة السابقة ـ بحيث لو كان حكم في الشريعة اللاحقة موافقاً لما في الشريعة السابقة لكان الحكم المجعول في الشريعة اللاحقة مماثلاً للحكم المجعول في الشريعة السابقة لا بقاءً له ـ فيكون مثل إباحة شرب الماء الذي هو ثابت في جميع الشرائع مجعولاً في كل شريعة مستقلاً ، غاية الأمر أنّها أحكام متماثلة ، فعدم جريان الاستصحاب عند الشك في النسخ واضح ، للقطع بارتفاع جميع أحكام الشريعة السابقة ، فلا يبقى مجال للاستصحاب. نعم ، يحتمل أن يكون المجعول في الشريعة اللاحقة مماثلاً للمجعول في الشريعة السابقة ، كما يحتمل أن يكون مخالفاً له ، وكيف كان لا يحتمل بقاء الحكم الأوّل.

وإن كان تبدل الشريعة بمعنى نسخ بعض أحكامها لا جميعها ، فبقاء الحكم الذي كان في الشريعة السابقة وإن كان محتملاً ، إلاّأ نّه يحتاج إلى الامضاء في الشريعة اللاحقة ، ولا يمكن إثبات الامضاء باستصحاب عدم النسخ إلاّعلى القول بالأصل المثبت.

وفيه : أنّ نسخ جميع أحكام الشريعة السابقة وإن كان مانعاً عن جريان استصحاب عدم النسخ إلاّأنّ الالتزام به بلا موجب ، فانّه لا داعي إلى جعل إباحة شرب الماء مثلاً في الشريعة اللاحقة مماثلةً للاباحة التي كانت في الشريعة السابقة. والنبوة ليست ملازمة للجعل ، فانّ النبي هو المبلّغ للأحكام

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٢٨ ، فوائد الاصول ٤ : ٤٨٠.

١٧٩

الإلهية.

وأمّا ما ذكره من أنّ بقاء حكم الشريعة السابقة يحتاج إلى الامضاء في الشريعة اللاحقة ، فهو صحيح ، إلاّأنّ نفس أدلة الاستصحاب كافية في إثبات الامضاء ، وليس التمسك به من التمسك بالأصل المثبت ، فانّ الأصل المثبت إنّما هو فيما إذا وقع التعبد بما هو خارج عن مفاد الاستصحاب.

وفي المقام نفس دليل الاستصحاب دليل على الامضاء ، فكما لو ورد دليل خاص على وجوب البناء على بقاء أحكام الشريعة السابقة إلاّفيما علم النسخ فيه ، يجب التعبد به فيحكم بالبقاء في غير ما علم نسخه ، ويكون هذا الدليل الخاص دليلاً على الامضاء ، فكذا في المقام فان أدلة الاستصحاب تدل على وجوب البناء على البقاء في كل متيقن شك في بقائه ، سواء كان من أحكام الشريعة السابقة أو من أحكام هذه الشريعة المقدسة ، أو من الموضوعات الخارجية ، فلا إشكال في استصحاب عدم النسخ من هذه الجهة ، والعمدة في منعه هو ما ذكرناه.

وأمّا ما قيل في وجه المنع من أنّ العلم الاجمالي بنسخ كثير من الأحكام مانع عن التمسك باستصحاب عدم النسخ فهو مدفوع بأن محل الكلام إنّما هو بعد انحلال العلم الاجمالي بالظفر بعدّة من موارد النسخ. والاشكال من ناحية العلم الاجمالي غير مختص بالمقام ، فقد استشكل به في موارد منها : العمل بالعام مع العلم الاجمالي بالتخصيص ، ومنها : العمل بأصالة البراءة مع العلم الاجمالي بتكاليف كثيرة ، ومنها : المقام. والجواب في الجميع هو ما ذكرناه من أنّ محل الكلام بعد الانحلال.

١٨٠