موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

فصل في المطهِّرات‌

وهي أُمور :

أحدها : الماء وهو عمدتها ، لأنّ سائر المطهِّرات مخصوصة بأشياء خاصّة بخلافه فإنّه مطهِّر لكل متنجِّس حتى الماء المضاف (١)

______________________________________________________

فصل في المطهِّرات‌

(١) المتنجِّس إمّا من الأجسام الجامدة وإمّا من المائعات ، والمائع إمّا هو الماء وإمّا غيره ، وهو المضاف وما يلحقه من اللبن والدهن ونحوهما.

أمّا الجوامد من الأجسام فمطهّرها على نحو الإطلاق إنما هو الغسل بالماء ، وذلك للاستقراء وملاحظة الموارد المتعدِّدة من الثوب والبدن والحصر والفرش والأواني وغيرها مما حكم فيها الشارع على اختلافها بتطهيرها بالغسل ، حيث سئل عن إصابتها بالدم أو المني أو البول أو غيرها من النجاسات وأمروا عليهم‌السلام بغسلها بالماء. ومن هذا يستفاد أن الغسل بالماء مطهِّر على الإطلاق فإن الأمر في تلك الموارد بالغسل على ما قدمناه في محلِّه إرشاد إلى أمرين : أحدهما : كون ملاقاة الأعيان النجسة منجِّسة لملاقياتها. وثانيهما : طهارة الملاقي المتنجِّس بغسله بالماء ، وحيث إن المستفاد من تلك الأوامر حسب المتفاهم العرفي عدم اختصاص الطهارة المسببة من الغسل بمورد دون مورد لوضوح عدم مدخلية شي‌ء من خصوصيات الموارد في ذلك فلا مناص من التعدِّي والحكم بأن الغسل بالماء مطهّر للأجسام المتنجِّسة على الإطلاق. ومن ثمة لا نضايق من الحكم بكفاية الغسل بالماء في تطهير الأجسام المتنجِّسة التي لم تكن متكونة في زمان صدور الأمر بالغسل في الموارد المتقدِّمة وذلك‌

١

كما في البرتقال والطماطة ، وليس هذا إلاّ من جهة أن الغسل بالماء مطهّر مطلقاً. نعم قد اعتبر الشارع في حصول الطهارة بذلك بعض القيود يأتي عليها الكلام في تفاصيل المطهّرات إن شاء الله ، هذا.

مضافاً إلى موثقة عمار الواردة في من يجد في إنائه فأرة ميتة وقد توضأ من ذلك الماء مراراً أو اغتسل منه أو غسل ثيابه ، قال عليه‌السلام : إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ثم يفعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء ... (١) لدلالتها على أن المتنجِّس بالماء المتنجِّس مطلقاً يطهر بالغسل.

وكيف كان فبالموثقة والاستقراء نحكم بأن الجوامد يطهّرها الغسل بالماء هذا ولكن بعض الجوامد غير قابل للتطهير بالاستهلاك ولا بالغسل ، لعدم استهلاكه في الأجزاء المائية ولا يتداخل الماء في أجزائه ليطهر بالغسل كما في الدهن الجامد إذا تنجس حال ميعانه ، فان مثله لا يستهلك في الماء لانفصاله عن الأجزاء المائية بالطبع ولا يرسب الماء في جوفه ، ويأتي ذلك في المسألة التاسعة عشرة إن شاء الله.

نعم ، لم يستبعد الماتن قدس‌سره الحكم بطهارة الدهن حينئذ فيما إذا جعل في ماء عاصم وغلى الماء مقداراً من الزمان فان الماء يصل بذلك إلى جميع أجزائه ، إلاّ أن الصحيح عدم كفاية ذلك في تطهيره على ما يأتي في محلِّه (٢) لأنّ الغليان إنما يوجب تصاعد الأجزاء وتنازلها وهذا لا يقتضي سوى وصول العاصم إلى السطح الظاهر من الأجزاء ولا يوجب تداخل العاصم ووصوله إلى جوفها. ونظيره الفلزات كالذهب والفضة وغيرهما إذا تنجست حال ذوبانها ، حيث لا يمكن الحكم بتطهيرها بشي‌ء لعدم استهلاكها في الماء وعدم رسوبه في جوفها حتى إذا فرضنا فرضاً غير واقع أن الفلز كالدهن يذوب بالغليان في الماء ، لما مرّ من أن الغليان الذي هو تصاعد الأجزاء وتنازلها لا يوجب سوى وصول الماء إلى السطح الظاهر من أجزائه ولا يقتضي تداخله ووصوله إلى جوفه ، هذا كلّه في الأجسام الجامدة.

__________________

(١) المروية في الوسائل ١ : ١٤٢ / أبواب الماء المطلق ب ٤ ح ١.

(٢) في ص ٧٣.

٢

وأمّا المياه المتنجِّسة فقد قدّمنا في محلِّه (١) أن مطهّرها هو اتصالها بالماء العاصم أو بممازجتها معه بناء على اعتبار الامتزاج في تطهيرها.

وأمّا المضاف النجس فقد أسلفنا في بحث المياه (٢) عدم قابليته للطّهارة إلاّ بالاستهلاك وانعدام موضوعه ، ولا نعرف مخالفاً في المسألة سوى ما حكي عن العلاّمة قدس‌سره من الحكم بطهارة المضاف باتصاله بالكثير (٣) ، إلاّ أنه من الفلتات ولم يقم دليل على أن الاتصال بالكر مما يطهّر المضاف ، وإنما يطهره الاستهلاك كما ذكره في المتن ، ولكن في إسناد التطهير إلى الاستهلاك ضرباً من المسامحة إذ لا موضوع مع الاستهلاك حتى يحكم بطهارته لأجله. نعم ، إسناد الطهارة بالاستهلاك إلى الماء إسناد حقيقي لا تسامح فيه ، وذلك لأن الاستهلاك بما هو هو غير موجب للطهارة بوجه ومن هنا لو استهلك المضاف المتنجِّس في ماء قليل حكمنا بنجاسة القليل لملاقاته المضاف المتنجِّس وإن استهلك فيه المضاف ، فلا بدّ في الحكم بالطهارة من أن يكون الماء كرّاً وغير منفعل بالملاقاة فمثله مطهّر للمضاف مشروطاً باستهلاكه فيه.

بل يمكن أن يقال : لا تسامح في إسناد التطهير إلى الاستهلاك أيضاً ، وذلك لأن المضاف إذا استهلك في الماء العاصم ثم فصلناه عن الماء بالتبخير فهو محكوم بالطهارة لا محالة ، لأن أجزاءه المستهلكة في الماء المتحققة فيه عقلاً قبل الانفصال قد حكم بطهارتها على الفرض ، ومعه تكون طاهرة ولو بعد الانفصال فلا تستند طهارة الأجزاء المستهلكة إلاّ إلى الاستهلاك السابق مع بقاء المضاف ووجود الموضوع ، لفرض انفصاله عن الماء فلا تسامح في إسناد التطهير إلى الاستهلاك كما لا مسامحة في إسناده إلى الماء. وكيف كان الاستهلاك مطهّر للمضاف ، بل ذكرنا في بحث الماء المضاف أن المضاف المتنجِّس إذا أثّر في الماء العاصم باستهلاكه كما إذا قلبه مضافاً بعد مضي زمان لم يحكم بنجاسة شي‌ء منهما ، وذلك لأن المضاف قد حكم بطهارته بالاستهلاك فاذا قلب المطلق إلى الإضافة لم يكن موجب للحكم بنجاسته ، فان‌

__________________

(١) شرح العروة ٢ : ٤٨.

(٢) شرح العروة ٢ : ٤٦.

(٣) التذكرة ١ : ٣٣ ، المختلف ١ : ٧٤ المسألة ٤٠.

٣

بالاستهلاك (١) بل يطهّر بعض الأعيان النجسة كميت الإنسان فإنّه يطهر بتمام غسله (٢). ويشترط في التطهير به أُمور ، بعضها شرط في كل من القليل والكثير ، وبعضها مختص بالتطهير بالقليل. أما الأوّل‌ فمنها : زوال العين والأثر (٣) بمعنى الأجزاء الصغار منها لا بمعنى اللّون والطّعم ونحوهما (٤)

______________________________________________________

ما لاقاه من أجزاء المضاف محكوم بالطهارة ، وانقلاب الماء الطاهر مضافاً ليس من أحد المنجّسات.

(١) قد عرفت أنه لا تسامح في إسناد الطهارة بالاستهلاك إلى الماء وكذا في إسنادها إلى الاستهلاك.

(٢) يأتي الكلام على ذلك في محله إن شاء الله تعالى.

(٣) لا يخفى ما في عدّ ذلك من شرائط التطهير بالماء من المسامحة ، لأن زوال العين والأجزاء الصغار التي تعد مصداقاً للنجاسة لدى العرف مقوّم لمفهوم الغسل المعتبر في التطهير ، ولا يتحقق غسل بدونه لأنه بمعنى إزالة العين ومع عدمها لا غسل حقيقة.

(٤) وعن العلاّمة قدس‌سره في المنتهي وجوب إزالة الأثر بمعنى اللون دون الرائحة (١) ، وفي محكي النهاية : وجوب إزالة الرائحة دون اللّون إذا كان عسر الزوال ـ (٢) وعن القواعد ما ربما يفهم منه وجوب إزالة كل من اللون والرائحة إذا لم يكن عسر في إزالتهما. (٣) والتحقيق وفاقاً للماتن قدس‌سره عدم اعتبار شي‌ء من ذلك في حصول الطهارة بالغسل وذلك أما أوّلاً : فلإطلاق الروايات الآمرة بالغسل ، حيث لم تدل إلاّ على اعتبار الغسل في تطهير المتنجِّسات ، وقد أشرنا آنفاً إلى أن الغسل بمعنى إزالة العين وأمّا إزالة الرائحة أو اللّون فهي أمر خارج عن مفهومه واعتبارها فيه يتوقّف على‌

__________________

(١) المنتهي ٣ : ٢٤٣.

(٢) النهاية ١ : ٢٧٩.

(٣) القواعد ١ : ١٩٥.

٤

دلالة دليل وهو مفقود. وأما ثانياً : فلأن النجاسات بأكثرها تشتمل على رائحة أو لون لا تزولان بزوال عينها كما في دم الحيض والميتة وبعض أقسام المني ، فترى أنها بعد ما غسلت وأزيلت عينها تبقى رائحتها أو لونها ، ولم ترد مع ذلك إشارة في شي‌ء من الأخبار الواردة في التطهير عن الأعيان المذكورة وغيرها إلى اعتبار زوال الرائحة أو اللّون وإنما دلت على لزوم غسلها فحسب. ويؤيده ما في جملة من الروايات (١) من الأمر بصبغ الثوب الذي أصابه الحيض بالمشق حتى يختلط فيما إذا غسل ولم يذهب أثره.

نعم ، لا يمكن الاستدلال على المدعى بما ورد في الاستنجاء من أن الريح لا ينظر إليها (٢) وذلك لأنّ الموضع المخصوص له خصوصية من بين سائر المتنجسات بحيث لا يمكن قياس غيره به ، ومن هنا يكفي في تطهيره التمسح بالأحجار ، مع أن الأجزاء المتخلِّفة من النجس في المحل قد لا يقلعها التمسح بالأحجار ، لوضوح أنه ليس من الأجسام الصقيلة حتى تزول عنه العين بالتمسح بها ، فمقايسة غيره من المتنجِّسات به في غير محلِّه.

وأمّا ما يقال من أن بقاء الأثر كاللون والريح وغيرهما يكشف عن بقاء العين لا محالة ، لأن انتقال العرض من معروضه أمر غير معقول ، فيندفع أوّلاً : بأن الأحكام الشرعية لا تبتني على التدقيقات الفلسفية وإنما تدور مدار صدق العناوين المأخوذة في موضوعاتها عرفاً ، وبما أن الأثر المتخلف من العين من قبيل الأعراض لدى العرف والنجاسة مترتبة على عنوان الدم والعذرة ونحوهما ولا يصدق شي‌ء من هذه العناوين على الأوصاف والأعراض فلا يمكن الحكم بنجاسة الآثار المتخلفة في المحل.

وثانياً : بأن كبرى استحالة انتقال العرض وإن كانت مسلمة ، إلاّ أنها غير منطبقة على المقام ، لأن عروض الرائحة أو اللون أو غيرهما من آثار النجس على الثوب مثلاً كما يحتمل أن يكون مستنداً إلى انتقال أجزاء ذلك النجس إلى الثوب لاستحالة انتقال‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٣٩ / أبواب النجاسات ب ٢٥ ، ٢ : ٣٦٩ / أبواب الحيض ب ٥٢.

(٢) كما في حسنة ابن المغيرة المرويّة في الوسائل ٣ : ٤٣٩ / أبواب النجاسات ب ٢٥ ح ٢ ، ١ : ٣٢٢ / أبواب أحكام الخلوة ب ١٣ ح ١.

٥

ومنها : عدم تغيّر الماء (*) في أثناء الاستعمال (١).

______________________________________________________

العرض من دون معروضه ، كذلك يحتمل أن يكون مستنداً إلى المجاورة ، لأنها ربما تسبب استعداد الشي‌ء للتأثر بآثار مجاورة ، وهذا لا بمعنى انتقال أعراض ذلك النجس إليه حتى يدفع باستحالته ، بل بمعنى تأهل الشي‌ء لأن يعرض عليه مثل ذلك العرض من الابتداء كما عرض على النجس ، وهذا كما إذا جعلنا مقداراً قليلاً من الميتة في حب من الماء فان الماء يكتسب بذلك رائحة الجيفة إذا مضى عليه زمان ، ولا يحتمل أن يكون ذلك مستنداً إلى انتقال أجزاء الجيفة إلى الماء ، حيث إن الجيفة لقلتها لا يمكن أن تنتشر في تلك الكمية من الماء ، فليس ذلك إلاّ من جهة تأهل الماء بالمجاورة لعروض الرائحة عليه من الابتداء ، ويمكن مشاهدة ما ادعيناه بالعيان فيما إذا ألقينا كمية قليلة من اللبن على أكثر منها من الحليب ، لأنها يقلبه لبناً لا محالة من دون أن يكون ذلك مستنداً إلى انتشار الأجزاء اللبنية في الحليب ، فلا وجه له سوى التأهل بالمجاورة.

(١) وتفصيل الكلام في هذه المسألة يقع في صور ثلاث :

الاولى : ما إذا تغيّر الماء بأوصاف عين النجس في الغسلة المتعقبة بطهارة المحل.

الثانية : الصورة مع حصول التغيّر في غير الغسلة المتعقبة بالطهارة.

الثالثة : ما إذا تغيّر الماء بأوصاف المتنجِّس بلا فرق في ذلك بين الغسلة المتعقبة بالطهارة وغيرها.

أمّا الصورة الاولى : فلا مناص فيها من اشتراط عدم تغيّر الماء في التطهير به وفاقاً للماتن قدس‌سره ، وذلك لإطلاق ما دلّ على نجاسة الماء المتغيّر بأوصاف النجس ولا موجب لرفع اليد عن إطلاقه ، ومع الحكم بتقذره لا يمكن الحكم بطهارة المتنجِّس المغسول به.

وتوضيح ذلك : أن الغسالة غير المتغيرة بالنجس وإن التزمنا فيها بتخصيص أدلة‌

__________________

(*) لا يشترط عدم تغيره بأوصاف المتنجِّس بالاستعمال ، بل ولا بأوصاف النجس أيضاً في غير الغسلة المتعقبة بطهارة المحل.

٦

انفعال الماء القليل بالملاقاة على جميع الأقوال المذكورة في الغسالة ، حيث إنّا سواء قلنا بطهارتها مطلقاً أم قلنا بنجاستها بالانفصال عن المحل أو قلنا بنجاستها مطلقاً ، غير أن خروج المقدار المتعارف منها مطهّر للأجزاء المتخلفة في المحل نظير الدم المتخلف في الذبيحة ، حيث إن خروج المقدار المتعارف منه بالذبح موجب لطهارة الأجزاء المتخلفة منه في الذبيحة ، لا بدّ من أن نلتزم بتخصيص أدلة انفعال الماء القليل بالملاقاة إما مطلقاً أو ما دام في المحل أو بعد خروج المقدار المتعارف من الغسالة ، لوضوح أنه لولا ذلك لم يمكن الحكم بطهارة شي‌ء من المتنجسات بالغسل وبه ينسد باب التطهير بالمياه وهو على خلاف الضرورة والإجماع القطعي بين المسلمين. وأما الأدلّة القائمة على نجاسة الماء المتغيّر بأوصاف النجس فلا نرى ملزماً لتخصيصها بوجه وليست هناك ضرورة تدعو إليه ولا تترتب على القول بنجاسة الماء المتغيّر مطلقاً أيّ مفسدة ومعه لا بدّ من الالتزام بعدم حصول الطهارة إلاّ بالماء غير المتغيّر بالنجس. نعم يستلزم ذلك القول بتخصيص أدلة انفعال الماء القليل وهو مما نلتزمه كما عرفت ، هذا.

وقد يُقال : لا مانع من التزام حصول الطهارة بالماء المتغيّر بالاستعمال دون المتغيّر قبل الغسل به واستعماله ، تمسكاً بإطلاقات الأدلّة الآمرة بالغسل كما في صحيحة محمّد ابن مسلم « اغسله في المِركَن مرّتين فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة » (١) وغيرها ، لأنّ إطلاقها يشمل ما إذا تغيّر الماء بغسله واستعماله ، وبهذا نلتزم بتخصيص ما دلّ على نجاسة الماء المتغيّر وحصول الطهارة بالماء المتغيّر بالاستعمال ، أو أنّا نتحفّظ بإطلاق ما دلّ على نجاسة الماء المتغيّر وما دلّ على كفاية الغسل في تطهير المتنجسات ، فنلتزم بزوال النجاسة السابقة الموجودة في المتنجِّس حسب إطلاق ما دلّ على حصول الطهارة بالغسل كما نلتزم بتنجسه ثانياً من جهة ملاقاته الماء المتغيِّر لإطلاق ما دلّ على نجاسة الماء المتغيِّر بالنجس وهاتان دعويان لا يمكن المساعدة على شي‌ء منهما.

أمّا بالإضافة إلى الدعوى المتقدِّمة فلأن النسبة بين إطلاقات ما دلّ على حصول‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٩٧ / أبواب النجاسات ب ٢ ح ١.

٧

الطهارة بالغسل وبين إطلاق ما دلّ على نجاسة الماء المتغيّر عموم من وجه ، لأن الأُولى مطلقة من حيث حصول التغيّر بالغسل وعدمه والثاني أعم من حيث استناد التغيّر إلى نفس استعمال الماء أو إلى أمر سابق عليه ، ومع التعارض في مورد الاجتماع وهو الماء المتغيّر بالاستعمال يتساقطان فلا بد من الرجوع إلى أحد أمرين : إما العموم الفوق كما دلّ على عدم جواز الصلاة في الثوب المتنجِّس ، فإنّه إرشاد إلى نجاسته ومقتضى تلك الإطلاقات أن النجاسة تبقى في أيّ متنجس إلى الأبد إلاّ أن يطرأ عليه مزيل شرعي كالغسل بالماء غير المتغيّر وهذا هو المستفاد من قوله عليه‌السلام في موثقة عمار « فاذا علمت فقد قذر » (١) ولا يكفي الغسل بالماء المتغيّر لأجل الشك في مطهريته ومقتضى الإطلاق بقاء النجاسة ما لم يقطع بارتفاعها ، وأما استصحاب النجاسة مع الغض عن الإطلاق فهو يبتني على القول بجريان الاستصحاب في الأحكام ، وحيث إنّا لا نقول به وقد عرفت تمامية الإطلاقات الفوق فلا مناص من اشتراط عدم انفعال الماء ولو بالاستعمال.

وأما بالإضافة إلى الدعوى الثانية أعني التحفظ على كلا الإطلاقين : فلأن ظاهر ما دلّ على طهارة المتنجِّس بالغسل أن ذلك سبب لحصول الطهارة بالفعل ، والطهارة الفعلية لا تجتمع مع الحكم بنجاسة الماء بغسله من جهة ملاقاته مع الماء المتغيّر وهو نجس ، هذا كله في الصورة الأُولى.

وأمّا الصورة الثانية : وهي ما إذا تغيّر الماء بأوصاف النجس في الغسلة غير المتعقبة بطهارة المحل ، فلا نلتزم فيها بالاشتراط فتغيّر الماء حين استعماله كعدمه ، اللهمّ إلاّ أن يكون هناك إجماع تعبدي على اعتبار عدم تغيّر الماء حتى في الغسلة الاولى أعني ما لا يتعقبه طهارة المحل ، أو ادعي انصراف أدلة المطهرية عن الغسل بالماء المتغيّر ، إلاّ أن قيام الإجماع التعبدي في المسألة مما لا نظنّه ولا نحتمله ، ودعوى الانصراف لو تمّت فإنّما تتم في الغسلة المتعقبة بالطهارة بأن يقال : إنّ ظاهر الغسل المأمور به هو الذي تتعقبه طهارة المحل بالفعل فلا يشمل الغسل غير المتعقب بالطهارة كذلك. وأمّا الغسلة غير المتعقبة بالطهارة كما في محل الكلام فلا معنى لدعوى انصراف‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤.

٨

ومنها : طهارة الماء (١).

______________________________________________________

المطهرية عنها كما لعلّه ظاهر. على أن التغيّر في الغسلة الأُولى أمر غالبي كما في الغسلة الأُولى فيما أصابه بول كثير أو دم كذلك فيما إذا قلنا بلزوم التعدّد في مثله فدعوى الانصراف ساقطة وإطلاقات أدلة الغسل هي المحكمة ، ومقتضاها عدم الفرق في الغسلة غير المتعقبة بطهارة المحل بين تغيّر الماء باستعماله وعدمه.

وأمّا الصورة الثالثة أعني ما إذا استند التغيّر إلى المتنجِّس لا إلى عين النجس : فاشتراط عدم التغيّر بذلك يبتني على ما أسلفناه في محلِّه (١) من أن المتغيّر بالمتنجِّس كالمتغيّر بأوصاف النجس في الحكم بنجاسته أو أن التغيّر بالمتنجس مما لا أثر له؟ وقد عرفت في محلّه أن المتعيّن عدم نجاسته لأنه المستفاد من الأخبار ولو بملاحظة القرائن المحتفّة بها كقوله عليه‌السلام في صحيحة ابن بزيع « حتى يذهب الريح ويطيب طعمه » (٢) على التفصيل المتقدِّم هناك ، وعليه لا أثر لتغيّر الماء بأوصاف المتنجِّس ما دام لم ينقلب مضافاً بلا فرق في ذلك بين الغسلة المتعقبة بالطهارة وغيرها ، وكلام الماتن وإن كان مطلقاً في المقام إلاّ أنه صرح في محله بعدم نجاسة المتغيِّر بأوصاف المتنجِّس فليلاحظ.

(١) لأنّ الطهارة الحاصلة للأشياء المتنجسة بغسلها حسبما هو المرتكز لدى العرف ، مترتبة على الماء الطهور وهو ما كان طاهراً في نفسه ومطهراً لغيره. ويمكن الاستدلال عليه بجملة من الروايات الواردة في موارد خاصة كالأمر بصب ماء الإناء إذا ولغ الكلب فيه (٣) والأمر بإهراق الماءين المشتبهين إذا وقع في أحدهما قذر وهو لا يدري أيّهما (٤) إلى غير ذلك من الأخبار ، حيث إن الماء المتنجِّس لو جاز غسل‌

__________________

(١) شرح العروة ٢ : ٦٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٢ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٦.

(٣) كما في صحيحة البقباق وغيرها المروية في الوسائل ١ : ٢٢٦ / أبواب الأسآر ب ١ ح ٤ ، ٣ : ٤١٥ / أبواب النجاسات ب ١٢ ح ٢.

(٤) كما في موثقة سماعة المروية في الوسائل ١ : ١٥١ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ٢ ، ١٦٩ /

٩

ولو في ظاهر الشرع (١). ومنها : إطلاقه بمعنى عدم خروجه عن الإطلاق في أثناء الاستعمال (٢).

______________________________________________________

المتنجِّس به أو كان تترتب عليه فائدة أُخرى مما يجوز استيفاؤه لم يكن للأمر بصبه وإهراقه وجه صحيح ، فالأمر بإهراقه أو بصبه كناية عن عدم قابليته للاستعمال.

ويؤيده الأخبار المانعة عن التوضؤ من الماء الذي تدخل فيه الدجاجة أو الحمامة وأشباههما وقد وطئت العذرة (١) أو الذي قطرت فيه قطرة من دم الرّعاف (٢) والناهية عن الشرب والتوضؤ مما وقع فيه دم (٣) أو ممّا شرب منه الطير الذي ترى في منقاره دماً أو الدجاجة التي في منقارها قذر (٤) لأن الشرب والتوضؤ مثالان لمطلق الانتفاعات المشروعة والمتعارفة فتشمل مثل الغَسل والغُسل. وحيث إنّا نقطع بعدم الفرق بين تلك النجاسات الواردة في الأخبار وبين غيرها من أفرادها ، كما لا فرق بين مثل الشرب والتوضؤ وغيرهما من الانتفاعات والتصرفات المشروعة والمتعارفة ، فلا مناص من اشتراط الطهارة في الماء.

(١) كما إذا أثبتنا طهارته بالاستصحاب أو بقاعدة الطهارة في قبال إحراز أن الماء طاهر واقعاً ، فلا فرق بين الطهارتين في المقام سوى أن الاولى طهارة ظاهرية والثانية واقعية.

(٢) لعدم مطهرية المضاف وغيره من أقسام المائعات ، فلا مناص من اشتراط بقاء‌

__________________

أبواب الماء المطلق ب ١٢ ح ١.

(١) كما في صحيحة علي بن جعفر المروية في الوسائل ١ : ١٥٥ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ١٣ ، ١٥٩ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٤.

(٢) كما في الصحيحة الأُخرى لعلي بن جعفر عليه‌السلام الوسائل ١ : ١٥٠ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ١ ، ١٦٩ / أبواب الماء المطلق ب ١٣ ح ١.

(٣) راجع حديث سعيد الأعرج المروي في الوسائل ١ : ١٥٣ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ٨ ، ١٦٩ / أبواب الماء المطلق ب ١٣ ح ٢.

(٤) راجع موثقة عمار المروية في الوسائل ١ : ٢٣١ / أبوا الأسآر ب ٤ ح ٣.

١٠

وأمّا الثاني : فالتعدّد في بعض المتنجسات كالمتنجِّس بالبول (*) وكالظروف (١) والتعفير (**) كما في المتنجِّس بولوغ الكلب (٢). والعصر (***) في مثل الثياب والفرش ونحوها ممّا يقبله (٣).

______________________________________________________

الإطلاق في الماء مطلقاً ، بلا فرق في ذلك بين الغسلة الأُولى والثانية ، بحيث لو انقلب مضافاً قبل إكمال الغسلات أو قبل تمام الغسلة الواحدة فيما لا يشترط فيه التعدّد حكم بعدم طهارة المغسول به.

(١) يأتي الكلام في تفصيل هذه المسألة عن قريب (٤) ونصرح هناك بأن تعدد الغسل في المتنجِّس بالبول لا يختص بالماء القليل ، بل يشترط ذلك حتى في الكثير ، وإنما يكفي المرّة الواحدة في المتنجِّس بالبول في خصوص الغسل بالجاري وما يلحق به من ماء المطر بناء على تمامية ما ورد من أن كل شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر (٥) فتخصيص الماتن اشتراط التعدّد بالقليل يبتني على إلحاق الكثير بالجاري ، وفيه منع كما سيظهر.

(٢) خص لزوم التعفير في المتنجِّس بالولوغ بما إذا غسل بالماء القليل ، وهذا من أحد موارد المناقضة في كلام الماتن قدس‌سره فإنّه سوف يصرح في المسألة الثالثة عشرة بأن اعتبار التعفير في الغسل بالكثير لا يخلو عن قوّة ، ويأتي هناك ما هو الصحيح في المسألة.

(٣) لا ينبغي الإشكال في أن الغسل والصب لدى العرف مفهومان متغايران‌

__________________

(*) الظاهر اعتبار التعدّد في الثوب المتنجِّس بالبول حتى فيما إذا غسل بالماء الكثير. نعم ، لا يعتبر ذلك في الجاري.

(**) سيجي‌ء منه قدس‌سره اعتبار التعفير عند الغسل بالماء الكثير أيضاً ، وهو الصحيح.

(***) إذا توقّف صدق الغسل على العصر أو ما بحكمه كالدلك فلا بدّ من اعتباره ولو كان الغسل بالماء الكثير ، وإلاّ فلا وجه لاعتباره في الماء القليل أيضاً.

(١) في ص ٥٤.

(٢) ورد ذلك في مرسلة الكاهلي المروية في الوسائل ١ : ١٤٦ / أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ٥.

١١

وكذلك الحال في الأخبار حيث جعل الغسل في جملة منها مقابلاً للصب ، فقد ورد في بعضها « إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله وإن مسّه جافاً فاصبب عليه الماء ... » (١) وفي آخر حينما سئل عن بول الصبي « تصب عليه الماء ، فان كان قد أكل فاغسله بالماء غسلاً ... » (٢) وفي ثالث « عن البول يصيب الجسد؟ قال : صب عليه الماء مرّتين ، فإنما هو ماء ، وسألته عن الثوب يصيبه البول؟ قال : اغسله مرّتين ... » (٣).

وعلى الجملة لا تردد في أن الصب غير الغسل ، وإنما الكلام في أن الغسل الذي به ترتفع نجاسة المتنجِّسات لما ذكرناه من أن الأمر في الروايات الآمرة بغسل الأشياء المتنجسة إرشاد إلى أمرين : أحدهما : نجاسة الثوب مثلاً بملاقاة النجس. وثانيهما : أن نجاسته ترتفع بغسله هل يعتبر في مفهومه العصر فلا يتحقق إلاّ بإخراج الغسالة بالعصر أو ما يشبهه كالتغميز والتثقيل ونحوهما ، أو يكفي في تحقق الغسل مجرد إدخال المتنجِّس في الماء أو صبّ الماء عليه حتى يرتوي؟ وإلاّ فلم يرد في شي‌ء من الروايات اعتبار العصر في الغسل فنقول :

إن مقتضى إطلاق ما دلّ على تقذّر المتقذّرات بالمنع عن استعمالها في الصلاة أو الشرب أو غيرهما مما يشترط فيه الطهارة أو بغير ذلك من أنحاء البيان ، بقاؤها على قذارتها إلاّ أن يرد عليها مطهّر شرعي بحيث لولاه لبقيت على نجاستها إلى الأبد ، كما هو المستفاد من قوله عليه‌السلام في موثقة عمار « فاذا علمت فقد قذر » (٤) وعلى ذلك إذا علمنا بحصول الطهارة بشي‌ء من الأسباب الموجبة للطهارة فلا مناص من الأخذ به وتقييد الإطلاق المتقدم بذلك. وأما إذا شككنا في أن الشي‌ء الفلاني سبب‌

__________________

(١) كما في صحيحة الفضل أبي العباس المروية في الوسائل ٣ : ٤١٤ / أبواب النجاسات ب ١٢ ح ١ ، ١ : ٢٢٥ / أبواب الأسآر ب ١ ح ١.

(٢) وهي مصححة الحلبي المروية في الوسائل ٣ : ٣٩٧ / أبواب النجاسات ب ٣ ح ٢.

(٣) وهي حسنة الحسين بن أبي العلاء المروية في الوسائل ٣ : ٣٩٥ / أبواب النجاسات ب ١ ح ٤.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤ ، وتقدّمت في ص ٨.

١٢

للطهارة أو لا تحصل به الطهارة فلا بد من الرجوع إلى الإطلاق المتقدم ذكره ومقتضاه الحكم ببقاء النجاسة وآثارها.

إذا عرفت ذلك فنقول : الصحيح اعتبار العصر في الغسل ، وذلك لأنه مفهوم عرفي لم يرد تحديده في الشرع فلا مناص فيه من الرجوع إلى العرف وهم يرون اعتباره في مفهومه بلا ريب ، ومن هنا لو أمر السيد عبده بغسل شي‌ء ولو من القذارة المتوهمة كما إذا لاقى ثوبه ثوب رجل غير نظيف ، لا يكتفي العبد في امتثاله بإدخال الثوب في الماء فحسب ، بل ترى أنه يعصره ويخرج غسالته. على أنّا لو تنزلنا عن ذلك فلا أقل من أنّا نشك في أن العصر معتبر في مفهوم الغسل الذي به ترتفع نجاسة المتنجِّس أو لا اعتبار به ، وقد عرفت أن المحكّم حينئذ هو الإطلاق وهو يقتضي الحكم ببقاء القذارة إلى أن يقطع بارتفاعها كما إذا عصر.

وتؤيد ما ذكرناه حسنة الحسين بن أبي العلاء « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصبي يبول على الثوب؟ قال : تصب عليه الماء قليلاً ثم تعصره » (١) والوجه في جعلها مؤيدة أن الجملة المذكورة في الحديث مسبوقة بجملتين حيث سئل عليه‌السلام عن البول يصيب الجسد؟ قال : صبّ عليه الماء مرّتين ، وعن الثوب يصيبه البول؟ قال : اغسله مرّتين (٢) وهاتان الجملتان قرينتان على أن المراد ببول الصبي في الرواية هو الصبي غير المتغذي ولا يجب فيه الغسل كي يعتبر فيه العصر ، فالأمر به محمول على الاستحباب لا محالة.

وفي الفقه الرضوي « وإن أصاب بول في ثوبك فاغسله من ماء جار مرّة ، ومن ماء راكد مرّتين ثم أعصره » (٣) وعن دعائم الإسلام عن علي عليه‌السلام قال في المني يصيب الثوب : « يغسل مكانه فان لم يعرف مكانه وعلم يقيناً أنه أصاب الثوب غسله كلّه ثلاث مرات يفرك في كل مرّة ويغسل ويعصر » (٤) إلاّ أنهما لضعفهما مما لا يمكن‌

__________________

(١) ، (٢) المروية في الوسائل ٣ : ٣٩٧ / أبواب النجاسات ب ٣ ح ١ ، ٣٩٥ / ب ١ ح ٤.

(٣) المستدرك ٢ : ٥٥٣ / أبواب النجاسات ب ١ ح ١ ، فقه الرضا : ٩٥.

(٤) المستدرك ٢ : ٥٥٥ / أبواب النجاسات ب ٣ ح ٢ ، دعائم الإسلام ١ : ١١٧.

١٣

الاستدلال به ، حيث لم يثبت أن الاولى رواية فضلاً عن اعتبارها ، والثانية مرسلة. على أنهما تشتملان على ما لا نقول به ، لأن ظاهرهما اعتبار العصر بعد الغسل ولم نعثر على قائل بذلك ، حيث إن من يرى اعتباره فإنّما يعتبره في نفس الغسل أو الغسلتين لا بعدهما ، وكذلك الكلام في اعتبار الغسل ثلاث مرات في المني واعتبار الفرك في كل غسلة لأنهما مما لا نلتزم به ، هذا كله في الغسل بالماء القليل.

وأمّا الغسل بالمطر ، فقد يقال بعدم اعتبار العصر فيه لمرسلة الكاهلي عن أبي عبد الله عليه‌السلام « كل شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر » (١) لدلالتها على كفاية رؤية المطر في التطهير فلا حاجة معها إلى العصر ، إلاّ أنها لإرسالها غير قابلة للاعتماد عليها ، بل الصحيح أن للغسل مفهوماً واحداً لا يختلف باختلاف ما يغسل به من أقسام المياه.

وأمّا الجاري ، فقد ألحقه بعضهم بالمطر في عدم اعتبار العصر فيه ، ولعلّه من جهة ما بينهما من الشباهة في الجريان حيث إن المطر يجري من السماء فيشبه الماء الجاري على وجه الأرض. وفيه : أنّ ذلك لو تم فإنّما يقتضي أن يكون المطر كالجاري لما مرّ وأما عكسه وهو كون الجاري كالمطر فلا ، إذ أنه لم يثبت بدليل فلا تترتب عليه أحكام المطر التي منها عدم اعتبار العصر في الغسل به ، على أن ذلك في المطر أيضاً محل منع فما ظنك بما الحق به.

وأما الماء الكثير ، فعن أكثر المتأخرين عدم اعتبار العصر في الغسل به ، ولعل المستند في ذلك هو ما أرسله العلاّمة قدس‌سره (٢) عن أبي جعفر محمد بن علي عليه‌السلام من أن هذا مشيراً به إلى ماء في طريقه فيه العذرة والجيف لا يصيب شيئاً إلاّ طهّره ... (٣) ولكن الرواية مرسلة لا يثبت بها شي‌ء من الأحكام الشرعية.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٦ / أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ٥.

(٢) هذا وبالمراجعة إلى المختلف [ ١ : ١٥ ] ظهر أن مرسلها هو ابن أبي عقيل ومن ثمة نسبها إليه النوري في مستدركة حيث قال : العلاّمة في المختلف عن ابن أبي عقيل قال : ذكر بعض علماء الشيعة .... ، وإن كانت الرواية معروفة بمرسلة العلاّمة قدس‌سره وعليه فلا وقع لما قيل من أن مراده ببعض علماء الشيعة هو ابن أبي عقيل.

(٣) المستدرك ١ : ١٩٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٨.

١٤

والورود أي ورود الماء على المتنجِّس دون العكس على الأحوط (*) (١).

______________________________________________________

على أنها لم توجد في جوامع الأخبار ، فالصحيح أن مفهوم الغسل أمر مطرد في جميع أقسام المياه فلا يفرق في اعتبار العصر فيه بين القليل وغيره من المياه المعتصمة.

(١) اختلفت كلماتهم في الحكاية عما سلكه المشهور في المسألة ، فقد ينسب إليهم القول بالاشتراط وقد ينسب إليهم القول بعدمه. وعن بعضهم أن الأكثر لم يتعرضوا لهذا الاشتراط ، فلو كان معتبراً لكان موجوداً في كلماتهم.

وكيف كان المتبع هو الدليل وقد استدلّوا على اعتبار ورود الماء على المتنجِّس في التطهير بالماء القليل بوجوه :

منها : التمسّك بالاستصحاب ، لأنه يقتضي بقاء المتنجِّس على نجاسته حتى يقطع بزوالها.

ومنها : أن الغالب في إزالة القذارات العرفية ورود الماء على القذر ، وحيث إن الشارع في إزالة القذارات الشرعية لم يتخط عن الطريقة المألوفة لدى العرف فلا مناص من حمل الأخبار الواردة في الغسل على الطريقة العرفية ، وغلبة الورود فيها مانعة عن شمول إطلاقات مطهّرية الغسل لما إذا كانت النجاسة واردة على الماء ، فندرة العكس توجب انصراف المطلق إلى الفرد الغالب.

ومنها : الروايات الآمرة بصب الماء على الجسد عند تطهيره (٢) حيث إن مقتضى الجمود على ظواهرها يقتضي الحكم باشتراط الورود ، لأن الظاهر من الصب إنما هو إرادة ورود الماء على الجسد.

ومنها : غير ذلك من الوجوه.

ولا يمكن المساعدة على شي‌ء من ذلك أما الوجه الأوّل ، فلأن الأصل محكوم بإطلاق ما دلّ على مطهرية الغسل ، وإلاّ فيرجع إلى إطلاق ما دلّ على تقذر المتقذر وعدم جواز شربه أو غيره مما يشترط فيه الطهارة ، وعلى كلا التقديرين لا يبقى مجال‌

__________________

(*) وإن كان الأظهر عدم اعتباره في غير الغسلة المتعقبة بطهارة المحل.

(١) الوسائل ٣ : ٣٩٥ / أبواب النجاسات ب ١.

١٥

للتمسك بالاستصحاب. مع أن الشبهة حكمية.

وأمّا الثاني من الوجوه فلأن مقتضى إطلاق ما دلّ على مطهرية الغسل بالماء عدم الفرق بين ورود الماء على المتنجِّس وعكسه. ودعوى أن الدليل منصرف إلى صورة الورود تندفع بأن الغلبة لا تقتضي الانصراف. على أن الأغلبية غير مسلمة ، لأن الغسل بإيراد المتنجِّس المتقذر على الماء كما في إدخال اليد المتقذرة على الماء القليل أيضاً متعارف كثير ، وغاية الأمر أن الغسل بإيراد الماء عليه أكثر وهذا لا يوجب الانصراف بوجه.

وأمّا الوجه الثالث وهو العمدة من الوجوه المستدل بها في المقام ، فلأنه يرد عليه أن الأمر بالصب في الأخبار لم يظهر كونه بعناية اعتبار ورود الماء على النجس ، بل الظاهر أن الصب في قبال الغسل ، وإنما أمر به تسهيلاً للمكلفين فلم يوجب عليهم الغسل كما أوجبه عند تنجس ثيابهم فكأن الصب غسل ومحقق لمفهومه في الجسد ولا سيما أن مواضع الجسد مما يصعب إيراده على الماء القليل كما إذا تنجس بطن الإنسان مثلاً. ويدلُّ على ما ذكرناه حسنة الحسين بن أبي العلاء المتقدِّمة (١) حيث أمر فيها الإمام عليه‌السلام بصب الماء على الجسد مرّتين فيما إذا أصابه البول معللاً بقوله : « فإنما هو ماء » ودلالتها على أن إيجاب الصب دون الغسل بعناية التسهيل مما لا يقبل المناقشة ، فإن الجسد غير الثوب ونحوه مما يرسب فيه البول ، وبما أنه أيضاً ماء فيزول عنه بالصب من غير حاجة إلى الغسل.

هذا وقد يبدو من بعضهم أن بعض المطلقات كالصريح في عدم اعتبار الورود ، وهذا كما في صحيحة محمد بن مسلم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الثوب يصيبه البول؟ قال : اغسله في المِركَن مرّتين فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة » (٢) لأن الغسل في المِركَن بقرينة التقابل كالغسل في الجاري لا محالة ، فكما أن الغسل فيه إنما هو بإيراد النجس على الماء لوضوح أنه لو انعكس بأخذ الماء وصبه على‌

__________________

(١) في ص ١٢.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٩٧ / أبواب النجاسات ب ٢ ح ١.

١٦

النجس لخرج عن الغسل بالماء الجاري فكذلك الغسل في المِركَن لا بدّ أن يراد به إيراد النجس على الماء ، فإذن الصحيحة كالصريح في عدم اعتبار الورود.

ولكن الصحيح عدم الفرق بين هذه الرواية وغيرها من المطلقات فإنّها ليست بصريحة في الدلالة على المدعى ، فان دعوى الصراحة إنما تتم فيما إذا كانت الرواية هكذا : اغسله في الماء القليل مرّتين ، بأن يبدل المركن بالماء القليل ويكون ظرف الغسل هو الماء فتتم دعوى الصراحة حينئذ بالتقريب المتقدم ، إلاّ أن الأمر ليس كذلك ، وظرف الغسل في الصحيحة هو المركن والغسل في المركن على نحوين : فإنّه قد يتحقّق بإيراد النجس على الماء وقد يتحقق بطرح المتنجِّس في المركن أولاً ثم صبّ الماء عليه ، فدلالة الصحيحة على كفاية مورودية الماء القليل بالإطلاق دون الصراحة.

والصحيح أن يفصّل في المسألة بين الغسلة المطهّرة والغسلة غير المطهرة ، بيان ذلك : أن القاعدة المرتكزة في أذهان المتشرعة التي دلت عليها جملة كثيرة من الأخبار أعني انفعال الماء القليل بملاقاة النجس ، تقتضي الحكم بنجاسة الماء عند إيراد المتنجِّس عليه لأنه قليل ، ومع الحكم بنجاسته لا يتيسر التطهير به. وأما إذا عكسنا الأمر وأوردنا الماء على النجس فمقتضى القاعدة المتقدِّمة وإن كان هو الحكم بنجاسة الماء كسابقه إلاّ أن الإجماع والضرورة يقضيان بتخصيصها ، إما بالالتزام بعدم نجاسة الغسالة مطلقاً كما هو المختار في الغسلة المتعقبة بطهارة المحل ، وإما بالالتزام بعدم نجاستها ما دامت في المحل ويحكم بنجاستها بالانفصال ، وإما بالالتزام بطهارتها بعد خروج المقدار المتعارف منها عن الثوب ، فإنّه لولا ذلك لم يمكن التطهير بالماء القليل أصلاً وهو خلاف الضرورة والإجماع القطعي بين المسلمين. ومن هنا فصّل السيد المرتضى قدس‌سره في انفعال الماء القليل بين الوارد والمورود (١) نظراً إلى أن الحكم بانفعال الماء عند وروده على النجس يؤدي إلى سد باب التطهير بالقليل وينحصر بإيراده على الكر أو إيراده عليه وهو أمر عسر. فإذن لا مناص من اشتراط الورود في التطهير بالماء القليل ، هذا كله في الغسلة المتعقبة بالطهارة.

__________________

(١) الناصريات : ١٧٩ السطر ١٢.

١٧

[٣٠٨] مسألة ١ : المدار في التطهير زوال عين النجاسة دون أوصافها ، فلو بقيت الريح أو اللون مع العلم بزوال العين كفى ، إلاّ أن يستكشف من بقائهما بقاء الأجزاء الصغار ، أو يشك في بقائها فلا يحكم حينئذ بالطهارة (١).

[٣٠٩] مسألة ٢ : إنما يشترط في التطهير طهارة الماء قبل الاستعمال فلا يضر تنجّسه بالوصول إلى المحل النّجس (٢). وأمّا الإطلاق فاعتباره إنما هو قبل الاستعمال وحينه ، فلو صار بعد الوصول إلى المحل مضافاً لم يكف كما في الثوب المصبوغ ، فإنّه يشترط في طهارته بالماء القليل بقاؤه على الإطلاق حتى حال العصر ، فما دام يخرج منه الماء الملوّن لا يطهر إلاّ إذا كان اللون قليلاً لم يصل إلى حدّ الإضافة (٣).

______________________________________________________

وأمّا غيرها فمقتضى إطلاق ما دلّ على حصول الطهارة بالغسل عدم الفرق في ذلك بين ورود الماء على النجس وعكسه ، لأنه دلّ بإطلاقه على أن الغسلة غير المطهّرة معدّة لعروض الطهارة على المحل عند الغسلة المطهرة ، سواء أكان ذلك بإيراد الماء على النجس أم بإيراد المتنجِّس عليه ولا يلزمه تخصيص القاعدة المتقدِّمة ، فإن الماء يوجب استعداد المحل وقابليته للحكم بطهارته ولو مع الحكم بنجاسة الماء بالاستعمال.

(١) أسلفنا تفصيل الكلام في ذلك عند التكلّم على شرائط التطهير بالماء (١) فليراجع.

(٢) لأنّ نجاسة الماء بالاستعمال لو كانت مانعة عن التطهير به لانسد باب التطهير بالماء القليل رأساً ، هذا كله في غير الغسلة المطهرة. وأما الغسلة المتعقبة بطهارة المحل فقد عرفت أن الالتزام فيها بطهارة الغسالة مما لا مناص عنه ، وهو مستلزم لتخصيص أدلّة انفعال الماء القليل بالملاقاة ، فإذا لم يكن الماء محكوماً بالنجاسة قبل استعماله لم يحكم بنجاسته بالاستعمال.

(٣) لأن المطهّر إنما هو الغسل بالماء فاذا خرج الماء عن كونه ماء بالإضافة ولو بالاستعمال لم يتحقق الغسل بالماء.

__________________

(١) في ص ٤.

١٨

وأمّا إذا غسل في الكثير فيكفي فيه نفوذ الماء (*) في جميع أجزائه بوصف الإطلاق ، وإن صار بالعصر مضافاً (١) ، بل الماء المعصور المضاف أيضاً محكوم بالطهارة (٢) وأمّا إذا كان بحيث يوجب إضافة الماء بمجرد وصوله إليه ولا ينفذ فيه إلاّ مضافاً فلا يطهر ما دام كذلك ، والظاهر أن اشتراط عدم التغيّر أيضاً كذلك (**) (٣).

______________________________________________________

(١) هذا إنّما يتم بناء على ما سلكه الماتن قدس‌سره من التفرقة في اشتراط العصر بين الغسل بالماء القليل والكثير. وأما بناء على ما ذكرناه من أن الغسل قد اعتبر في مفهومه العصر بلا فرق في ذلك بين أقسام المياه ، فلا مناص من اشتراط بقاء الماء على إطلاقه وعدم صيرورته مضافاً ولو بالعصر ، لأنه لولاه لم يتحقق الغسل بالماء ولا يفرق الحال في ذلك بين القليل والكثير.

(٢) لأنه قد انقلب مضافاً عن الماء الطاهر ولم يلاق شيئاً يقتضي نجاسته ، إذ المتنجِّس المغسول بالكثير قد طهر بغسله بناء على عدم اعتبار العصر في مفهومه فلا موجب لنجاسة الماء المعصور المضاف لوضوح أن الانقلاب ليس من أحد المنجسات. نعم ، بناء على ما سلكناه لا بدّ من الحكم بنجاسة الماء المعصور حينئذ لملاقاته المتنجِّس قبل تحقق غسله ، لاعتبار العصر في تحقّقه كما مرّ فلاحظ.

(٣) بمعنى أن التغيّر بالاستعمال كالإضافة الحاصلة بسببه مانع عن حصول الطهارة بالغسل وكذا التغيّر بالعصر إذا غسل المتنجِّس بالماء القليل. وأما إذا غسل بالكثير فلا يضره تغيّر الماء بعصره ، وذلك لتمامية الغسل في الكثير بمجرد نفوذ الماء في أجزائه من دون حاجة إلى العصر ، هذا ما أراده الماتن قدس‌سره في المقام ولكنه من الندرة بمكان ، على أن المراد بالتغيّر هو التغيّر المستند إلى عين النجس ، وهي إذا كانت مقتضية لذلك لأوجبت التغيّر من حين ملاقاتهما ، لا أن الماء يتغيّر لأجلها لدى العصر ، بل لو تغيّر بسببه فهو تغيّر مستند إلى المتنجِّس ولا ينفعل الماء بذلك بوجه.

__________________

(*) لا فرق بين الماء الكثير والقليل في ذلك كما مرّ ، ومنه يظهر الحال في المعصور المضاف.

(*) مرّ حكم التغيّر آنفاً.

١٩

فلو تغيّر بالاستعمال لم يكف ما دام كذلك (١) ولا يحسب غسلة من الغسلات فيما يعتبر فيه التعدّد.

______________________________________________________

ثم إنّ هذه المسألة أيضاً مبتنية على الكلام المتقدم في العصر وأنه معتبر في الغسل بالماء القليل دون الكثير ، وقد عرفت أن الصحيح عدم الفرق في اعتباره بينهما ، وعليه فلو حدث التغيّر بالعصر لم يحكم بطهارة المتنجِّس ولو في الماء الكثير لتغيّر الماء قبل تمامية غسله ، والماء المتغيّر مما يغسل منه وليس مما يغسل به ، هذا كله في الغسلة المتعقبة بطهارة المحل. وأما غيرها فلا يضره تغيّر الماء بوجه لأن مقتضى إطلاق ما دلّ على لزوم الغسل عدم الفرق بين تغيّر الماء وعدمه ، حيث إنه غير مطهر للمحل حتى يقال : الماء المتغيّر لا يكفي في تطهير المحل ، فإن الغسلة غير المطهّرة معدة لأن يكون المحل قابلاً للحكم بطهارته عند الغسلة المطهرة.

(١) أي ما دام الماء يتغيّر بغسل المتنجِّس فيه مرّة أو مرّتين أو أكثر ، فكل مرّة يتغيّر الماء بغسل المتنجِّس فيه لا تحسب من الغسلات ولا يمكن أن يحصل بها الطهر ، هذا.

ثم إن في المقام مسألة أُخرى ربما يفسر قول الماتن : « ما دام كذلك » بتلك المسألة ، وهي أن الماء إذا تغيّر بغسل المتنجِّس فيه ثم زال عنه تغيّره بنفسه أو بالعلاج بحيث لم يكن متغيّراً بقاء وإن كان كذلك بحسب الحدوث فهل يكفي الغسل به في تطهير المتنجِّس؟ قد يقال بكفايته تمسكاً بإطلاق ما دلّ على مطهرية الغسل. ويندفع بأن ما استدللنا به على عدم مطهرية الماء المتغيِّر بحسب الحدوث والبقاء يأتي بعينه في الماء المتغيّر بحسب الحدوث وإن لم يكن متغيِّراً بقاء. وحاصل ما ذكرناه في وجهه : أن قاعدة انفعال الماء القليل بملاقاة النجس وإن رفعنا عنها اليد في الغسلة المتعقبة بالطهارة ، حيث إن التحفظ بعمومها يقتضي سد باب التطهير بالماء القليل إلاّ أن رفع اليد عما دلّ على نجاسة الماء المتغيّر مما لا موجب له ، إذ لا إجماع ولا ضرورة تقتضيه بل مقتضى إطلاقه بقاء الماء على نجاسته ، لأنه كان متغيِّراً بالنجاسة ولم يطرأ عليه مطهر شرعي بعد ما زال عنه تغيّره ، ومن الظاهر أن مجرد زوال التغيّر لا يقتضي الحكم بطهارته ، هذا كله في أصل المسألة.

٢٠