موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

فصل

[في أصناف المستحقّين للزّكاة]

أصناف المستحقّين للزّكاة ومصارفها ثمانية :

الأوّل والثاني : الفقير والمسكين (١) ،

______________________________________________________

(١) المعروف والمشهور أنّ مصارف الزكاة أصناف ثمانية ، وهي العناوين الخاصّة المذكورة في الآية المباركة ، قال تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (١).

ولكن المحقّق في الشرائع عدّها سبعة بجعل الفقير والمسكين صنفاً واحدا (٢).

ولكن الظاهر أنّهما صنفان والمفهومان متغايران وإن انطبقا على موضوع واحد واجتمعا في مورد واحد ، فإنّ الفقر بمفهومه العامّ هو الاحتياج والفقير هو المحتاج ، قال تعالى (يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ) (٣) ،

__________________

(١) التوبة ٩ : ٦٠.

(٢) الشرائع ١ : ١٨٨.

(٣) فاطر ٣٥ : ١٥.

١

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنّ البشر بل كلّ ممكن فهو في جميع شؤونه من معاشه ومعاده وحركاته وسكناته بل حتّى في وجوده فقيرٍ ، أي محتاج إلى الله تعالى.

ولكن كثيراً ما يستعمل في صنف خاصّ من الاحتياج ، وهو الاحتياج من حيث المال ، فيقال : زيد فقير ، أي محتاج إلى المال ، قال تعالى (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (١) ، وقال تعالى (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) (٢).

ولا يعتبر في هذا الاستعمال عدم السؤال جزماً وإن ورد ذلك في الصحيحتين الآتيتين وستعرف الحال فيهما فإنّ الإطلاق العرفي صادق حتّى مع السؤال بالضرورة ، كيف؟! وقد أُطلق الفقير على البائس الذي هو أسوأ حالاً من المسكين فضلاً عن الفقير في الذكر الحكيم ، قال تعالى (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) (٣).

فلا يعتبر في مفهوم الفقر عدم السؤال وإن جعل ذلك فارقاً بينه وبين المسكين في النصّ المشار إليه واختصّ المسكين بمن يسأل ، لصحّة الإطلاق حتّى في مورد السؤال بلا إشكال كما عرفت.

وأمّا المسكنة فهي مطلق الذلّة ، قال تعالى (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) (٤) ، في قبال العزّة ، فإنّ اليهود كانوا مطرودين أذلّاء وإن كانوا أغنياء ، فالمسكين هو الذليل والضعيف ، قال تعالى (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ) (٥) أي لضعفاء أذلّاء ، ولم يعلم أنّهم كانوا فقراء.

__________________

(١) النِّساء ٤ : ٦.

(٢) النِّساء ٤ : ١٣٥.

(٣) الحج ٢٢ : ٢٨.

(٤) البقرة ٢ : ٦١.

(٥) الكهف ١٨ : ٧٩.

٢

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، يطلق المسكين على الفقير أيضاً باعتبار أنّ من لا مال له فهو ذليل حقير عند أبناء الدُّنيا ، ومن ثمّ كان يشقّ على جبابرة قريش الخضوع والإيمان برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، لكونه (صلّى الله عليه وآله) ذليلاً في نظرهم ، لمكان فقره (صلّى الله عليه وآله) ، كما حكاه سبحانه عنهم بقوله تعالى (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (١).

ولا يعتبر في هذا الاستعمال أيضاً السؤال وإن اختصّ به في الصحيحتين الآتيتين ، لصدق المسكين عرفاً على مطلق الفقير وإن لم يكن سائلاً كما أُطلق عليه في الكتاب العزيز ، كقوله تعالى (عَشَرَةِ مَساكِينَ) ، (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) إلى غير ذلك ممّا هو كثير جدّاً ، فإنّ إطعام المسكين في باب الكفّارات لا يختصّ بالسائل قطعاً ، بل لعلّ غير السائل الذي يظهر مناعة الطبع أولى من غيره كما لا يخفى.

فتحصّل : أنّ الفقر هو الاحتياج إمّا مطلقاً أو في خصوص المال ، والمسكنة هي الذلّة ، فالفقير والمسكين متغايران مفهوماً وإن صدقا على موضوع واحد بالاعتبارين.

وأمّا بحسب الروايات فقد فرّق بينهما في صحيح ابن مسلم بالسؤال وعدمه عن أحدهما (عليهما السلام) : أنّه سأله عن الفقير والمسكين «فقال : الفقير : الذي لا يسأل ، والمسكين : الذي هو أجهد منه ، الذي يسأل» (٢).

لكن لا ينبغي التأمّل في عدم كونه (عليه السلام) بصدد بيان المفهوم من اللفظ لغةً أو عرفاً ليكون منافياً مع ما قدّمناه ، بل لم نعهد حتّى رواية واحدة

__________________

(١) الزخرف ٤٣ : ٣١.

(٢) الوسائل ٩ : ٢١٠ / أبواب المستحقين للزكاة ب ١ ح ٢.

٣

.................................................................................................

______________________________________________________

تكون واردة لبيان شرح اللفظ وبيان مفهومه اللغوي أو العرفي ، لخروج ذلك كلّه عن شأنه ومنصبه الساميين. فالصحيحة واردة لا محالة لبيان المراد من هاتين الكلمتين الواقعتين في الآية المباركة أعني قوله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) فهي تفسير للآية لا بيان لمفهوم اللفظ بما هو ، ولا ضير في ذلك ، فيلتزم بأنّ مصرف الزكاة هو مطلق من لا مال له سأل أم لم يسأل ، فأُريد من المسكين الأوّل ، ومن الفقير الثاني.

وأوضح حالاً صحيحة أبي بصير التي صرّح فيها بيان المراد من الآية ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : قول الله عزّ وجلّ (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) «قال : الفقير : الذي لا يسأل الناس ، والمسكين : أجهد منه ، والبائس : أجهدهم» (١).

وأمّا سند هذه الرواية فالظاهر أنّها صحيحة كما وصفناها ، فإنّ المراد بأحمد ابن محمّد هو ابن عيسى لا ابن خالد ، وإلّا لقال : عن أبيه ، بدل قوله : عن محمد ابن خالد. نعم ، في بعض النسخ : عن أبيه ، وكيفما كان فهو ثقة على كلّ حال.

وأمّا عبد الله بن يحيى فهو مجهول ، غير أنّ الميرزا حاول لإثبات أنّه الكاهلي الذي هو ثقة (٢) ، ولكنّه لا يتمّ :

أمّا أوّلاً : فلأنّ الشيخ عنون كلّاً منهما مستقلا ، فذكر المطلق بعد المقيّد وترجمه في قباله وذكر طريقه إليه في قبال الطريق الذي ذكره إلى الأوّل (٣) ، المشتمل على وهب بن وهب ، فتعدّد الترجمة المعتضد بتعدّد الطريق برهان قاطع

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢١٠ / أبواب المستحقين للزكاة ب ١ ح ٣.

(٢) منهج المقال : ٢١٤.

(٣) الفهرست للشيخ : ١٠٢ / ٤٤١ و ١٠٥ / ٤٦١.

٤

والثاني أسوأ حالاً من الأوّل (١).

والفقير الشرعي من لا يملك مؤنة السنة له ولعياله (٢) ، والغني الشرعي بخلافه ، فمن كان عنده ضيعة أو عقار أو مواش أو نحو ذلك تقوم بكفايته وكفاية عياله في طول السنة لا يجوز له أخذ الزكاة.

______________________________________________________

على تعدّد الرجل.

وثانياً : إنّ عبد الله بن يحيى الكاهلي من أصحاب الصادق (عليه السلام) ، والراوي عن عبد الله بن يحيى في هذه الرواية هو محمّد بن خالد البرقي ، وهو يستحيل عادةً أن يروي عن أصحاب الصادق (عليه السلام) بلا واسطة ، لاختلاف الطبقة ، فلا مناص من أن يُراد به شخص آخر ، وقد عرفت أنّه مجهول.

ولكن الذي يهوّن الخطب أنّ هذا السند بعينه موجود في تفسير علي بن إبراهيم ، وقد بنينا على وثاقة من يذكر في إسناد هذا التفسير كإسناد الكامل ما لم يعارَض بتضعيف آخر. وعليه ، فالرجل موثّق عندنا على أيّ حال ، سواء أُريد به الكاهلي أم غيره.

هذا ، ولا يترتّب أثر على تحقيق الفرق بين الفقير والمسكين إلّا بناءً على البسط في مصرف الزكاة ، وأمّا على القول بالعدم كما هو الأظهر فالبحث عنه قليل الجدوى.

(١) لبلوغ الفقر فيه مرتبة ألجأته إلى السؤال ، فكان أجهد من الفقير الذي لا يسأل ، لعدم بلوغه هذه المرتبة كما دلّت عليه الصحيحتان المتقدّمتان وعليه المشهور.

(٢) كما هو المشهور ، بل لعلّه المتسالم عليه.

٥

وكذا إذا كان له رأس مال يقوم ربحه بمؤنته ، أو كان له من النقد أو الجنس ما يكفيه وعياله وإن كان لسنة واحدة ، وأمّا إذا كان أقلّ من مقدار كفاية سنته يجوز له أخذها ، وعلى هذا فلو كان عنده بمقدار الكفاية ونقص عنه بعد صرف بعضه في أثناء السنة يجوز له الأخذ ، ولا يلزم أن يصبر إلى آخر السنة حتّى يتمّ ما عنده ، ففي كلّ وقت ليس عنده مقدار الكفاية المذكورة يجوز له الأخذ.

وكذا لا يجوز لمن كان ذا صنعة أو كسب يحصل منهما مقدار مؤنته ، والأحوط عدم أخذ القادر (*) على الاكتساب إذا لم يفعل تكاسلا.

______________________________________________________

ونُسب إلى الشيخ وغيره أنّ المراد من الفقير مَن لم يملك أحد النصب الزكويّة أو ما يعادلها في القيمة (١) ، فمن كان مالكاً لهذه الكمّيّة من الماليّة عيناً أو قيمةً فهو غني شرعاً.

لكن النسبة غير محقّقة ، بل في الجواهر أنّه لم يعرف له قائل (٢).

ونُسب إلى بعض آخر أنّ الفقير من لا يملك قوته وقوت عياله طيلة حياته لا خصوص السنة الواحدة ، فيعتبر في الغني القدرة على ما يكفيه دائماً ، فالأقوال في المسألة ثلاثة.

والصحيح ما عليه المشهور ، وتدلّ عليه طائفة من الروايات :

__________________

(*) بل الأظهر عدم جواز الأخذ.

(١) نسبه صاحب مصباح الفقيه ١٣ : ٤٨٤.

(٢) جواهر الكلام ١٥ : ٢٩٦.

٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فمنها : صحيحة أبي بصير ، قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : «يأخذ الزكاة صاحب السبعمائة إذا لم يجد غيره» قلت : فإنّ صاحب السبعمائة تجب عليه الزكاة؟ «قال : زكاته صدقة على عياله ، ولا يأخذها إلّا أن يكون إذا اعتمد على السبعمائة أنفدها في أقلّ من سنة فهذا يأخذها ، ولا تحلّ الزكاة لمن كان محترفاً وعنده ما تجب فيه الزكاة أن يأخذ الزكاة» (١).

قوله (عليه السلام) «صاحب السبعمائة» أي درهماً ، وقوله : تجب عليه الزكاة ، أي زكاة التجارة لا زكاة النقدين ، ضرورة أنّ من يملك سبعمائة درهماً وقد حال عليها الحول من غير أن يحتاج إليها حتّى تعلّق بها الزكاة الواجبة فهو غني متمكّن وليس بفقير قطعاً ، فلا يحتمل جواز دفع الزكاة إليه ليقع مورداً للسؤال ، على أنّ زكاة النقدين لا يتصدّق بها على العيال.

مضافاً إلى التصريح في ذيل الصحيح بأنّه : «لا تحلّ الزكاة لمن كان محترفاً وعنده ما تجب فيه الزكاة أن يأخذ الزكاة» ، فيختصّ أخذ الزكاة بصورة واحدة ، وهي التي أشار إليها بقوله (عليه السلام) : «إلّا أن يكون» إلخ ، وهي من لم يكن عنده شي‌ء عدا السبعمائة ولم تكن وافية بمصارف السنة بحيث لو اعتمد عليها لنفدت في أقلّ من السنة فيحل له حينئذ أخذ الزكاة.

فتدلّ بوضوح على أنّ الفقير الذي هو مصرف للزكاة يراد به من لم يكن مالكاً لمئونة السنة.

هذا ، ولكن دقيق النظر يقضي بخلاف ما ذكرناه ، فإنّ قوله (عليه السلام) في آخر الصحيحة «أن يأخذ الزكاة» غير موجود في الصدر أعني : الكافي ـ

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٣١ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٨ ح ١ ، الكافي ٣ : ٥٦٠ / ١.

٧

.................................................................................................

______________________________________________________

لا الطبعة القديمة ولا الحديثة ، وإنّما هو مذكور في الوسائل والحدائق (١) ، وليس له معنى محصّل كما لا يخفى.

ثمّ إنّ قوله (عليه السلام) قبل ذلك : «وعنده ما تجب فيه الزكاة» لا يمكن الأخذ بظاهره ، إذ لا تختصّ عدم حلّيّة الزكاة للمحترف بمن كانت عنده عين زكويّة ، بل يحرم وإن كان عنده ما يعادلها في القيمة كما هو واضح.

والظاهر أنّ هذه الجملة كناية عن المال الاحتياطي المدّخر لعلاج العوارض الاتّفاقيّة ، فإنّ صاحب الحرفة كالبنّاء ونحوه إنّما يرتزق من حرفته لمصارفه اليوميّة ممّا يقوت به نفسه وعياله ، وأمّا الطوارئ الاتفاقيّة من علاج مرض أو زواج ولد أو إكرام ضيف أو شراء ملبس شتوي أو صيفي ونحو ذلك من المصارف الزائدة على المعيشة فلا تفي بها غالباً تلك الحرفة ، بل لا بدّ في سدّها من ادّخار مال احتياطي من عين زكويّة أو غيرها.

وعليه ، فإن كان للمحترف مثل هذا المال لا يحلّ له أخذ الزكاة ، وإلّا حلّ ومن ثمّ قيّده (عليه السلام) بقوله : «وعنده ما تجب».

وكيفما كان ، فالظاهر أنّ المراد بالزكاة في قول السائل : قلت : فإنّ صاحب السبعمائة تجب عليه الزكاة؟ هو زكاة النقدين الواجبة لا زكاة مال التجارة التي استظهرناها فيما تقدّم إذ لا يناسبها قوله (عليه السلام) قبل ذلك «إذا لم يجد غيره» ، ضرورة أنّ من عنده سبعمائة للتجارة فهو يوجد عنده غيرها بطبيعة الحال ولا أقلّ من ربحها ، فلا موقع لهذا التقييد بوجه ، فيريد السائل بذلك أنّ هذا الشخص قد بلغت دراهمه حدّ النصاب بل تجاوزت ، فهو إذن يجب عليه أن يدفع الزكاة فكيف يأخذها ، فأجاب بقوله (عليه السلام) «زكاته

__________________

(١) الحدائق ١٢ : ١٥٩.

٨

.................................................................................................

______________________________________________________

صدقة على عياله» الذي هو كناية عن عدم الوجوب ، نظير ما ورد من أنّ زكاة العلم إنفاقه.

والوجه في عدم الوجوب : أنّ مجرّد ملكيّة السبعمائة لا يستدعي الوجوب إلّا لدى استجماع سائر الشرائط التي منها إحالة الحول ، وهي غير مفروضة سيّما بعد أن لم يكن لديه شي‌ء وراء هذا المبلغ كما هو المفروض.

والذي يكشف عمّا ذكرناه من أنّ السبعمائة لا يراد بها مال التجارة موثّق سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «قال : قد تحلّ الزكاة لصاحب السبعمائة وتحرم على صاحب الخمسين درهماً» فقلت له : وكيف يكون هذا؟ «قال : إذا كان صاحب السبعمائة له عيال كثير فلو قسّمها بينهم لم تكفه فليعفُ عنها نفسه وليأخذها لعياله ، وأمّا صاحب الخمسين فإنّه يحرم عليه إذا كان وحده وهو محترف يعمل بها وهو يصيب منها ما يكفيه إن شاء الله» (١).

إذ قد فرض في صاحب الخمسين أنّه محترف يعمل بها أي معدّ للتجارة وبقرينة المقابلة يعلم أنّ السبعمائة غير معدّ لها وإنّما هي مجموع ما يملكه الرجل بحيث لو قسّم على عائلته كانت حصّة كلّ واحد خمسين أو مائة ونحو ذلك ممّا لا يفي بمئونة السنة أبداً ، ولم تكن في البين حرفة لتكون ملكيّة بالقوّة ، ولأجله ساغ أخذ الزكاة وإن كان الأولى أن يعفُ نفسه ويأخذها لعياله.

وكيفما كان ، فهذه الصحيحة كالروايتين المتقدّمتين ظاهرتان في مسلك المشهور حسبما عرفت.

ومنها : موثّقة سماعة ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الزكاة ، هل تصلح لصاحب الدار والخادم؟ «فقال : نعم ، إلّا أن تكون داره دار غلّة فخرج

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٣٩ / أبواب المستحقين للزكاة ب ١٢ ح ٢.

٩

.................................................................................................

______________________________________________________

له من غلّتها دراهم ما يكفيه لنفسه وعياله ، فإن لم تكن الغلّة تكفيه لنفسه وعياله في طعامهم وكسوتهم وحاجتهم من غير إسراف فقد حلّت له الزكاة ، فإن كانت غلّتها تكفيهم فلا» (١).

فإنّ المراد بدار الغلّة : الدار المعدّة للإيجار والانتفاع بوجه الإجارة ، الذي هو كغلّة لها في قبال دار السكنى ، ومن البديهي أنّ التعارف الخارجي قد استقرّ على إيجار الدور سنويّاً ، بل لم يتداول الأقلّ من ذلك إلّا في الأزمنة المتأخّرة الحديثة ، حيث يستأجر شهريّاً ، بل ربّما اسبوعيّاً كما في بعض بلاد الخارج ، فيكون مفاد الموثّق : أنّ من له دار ينتفع من إيجاره السنوي ما يكفيه فهو غني شرعاً لا تحلّ له الزكاة ، فتلاحظ غلّة كلّ سنة بالإضافة إلى مصارف تلك السنة ، فغلّة السنة الأُولى للسنة الأُولى والثانية للثانية وهكذا ، فإن كفت لم تحلّ وإلّا حلّت.

وبالجملة : فيستفاد اعتبار السنة من التعبير بالغلّة بالقرينة المتقدّمة.

بل يمكن استفادة ذلك من قوله (عليه السلام) «ما يكفيه» ، فإنّ ملك الكفاية لا يراد به عرفاً سيّما في القرى وبعض البلاد إلّا ما يكفيه لسنة واحدة ، فلا يقال لمن يملك قوت ستّة أشهر : إنّ عنده ما يكفيه. وعلى هذا الأساس اعتبرنا الزيادة على مئونة السنة في تعلّق الخمس ، وإلّا فلم يرد في شي‌ء من نصوصه التعبير بالسنة ، بل اقتصر على استثناء المئونة فقط ، فلاحظ.

ومنها : صحيحة معاوية بن وهب ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون له ثلاثمائة درهم أو أربعمائة درهم وله عيال وهو يحترف فلا يصيب نفقته فيها ، أيكبّ فيأكلها ولا يأخذ الزكاة ، أو يأخذ الزكاة؟ «قال : لا بل ينظر إلى فضلها فيقوت بها نفسه ومن وسعه ذلك من عياله ، ويأخذ البقيّة

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٣٥ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٩ ح ١.

١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

من الزكاة ، ويتصرّف بهذه لا ينفقها» (١).

فإنّ المراد بالنفقة مئونة السنة لا الأقل منها بالتقريب المتقدّم.

فيظهر من هذه الروايات الثلاث المعتبرة أنّ الفقير الشرعي هو من لم يملك مئونة سنته فعلاً أو قوّةً ، فيحلّ لمثله تكميل مئونته من الزكاة.

ويؤيّد ذلك بروايتين :

إحديهما : ما رواه في العلل بإسناده عن علي بن إسماعيل الدغشي ، قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن السائل وعنده قوت يوم ، أيحلّ له أن يسأل؟ وإن اعطي شيئاً من قبل أن يسأل يحلّ له أن يقبله؟ «قال : يأخذ وعنده قوت شهر ما يكفيه لسنته من الزكاة ، لأنّها إنّما هي من سنة إلى سنة» (٢).

هكذا في الوسائل ، وفي بعض نسخ العلل : «ما يكفيه لستّة أشهر» بدل قوله «لسنة» كما أشار إليه معلّق الوسائل. والأوّل أنسب كما لا يخفى.

وعليه ، فهي صريحة الدلالة في أنّ الاعتبار بمئونة السنة ، لقوله (عليه السلام) : «إنّما هي من سنة إلى سنة».

إلّا أنّها ضعيفة السند ، فلا تصلح إلّا للتأييد ، نظراً إلى جهالة الدغشي ، بل لم ينقل عنه في مجموع الكتب الأربعة ما عدا رواية واحدة في كتاب النكاح وأمّا هذه الرواية فهي مذكورة في العلل لا في تلك الكتب. وكيفما كان ، فالرجل مجهول لم يوثّق ، والرواية ضعيفة وإن عبّر عنها بالصحيحة في بعض الكلمات.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الراوي عنه صفوان ، وهو من أصحاب الإجماع الذين

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٣٨ / أبواب المستحقين للزكاة ب ١٢ ح ١.

(٢) الوسائل ٩ : ٢٣٣ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٨ ح ٧ ، علل الشرائع : ٣٧١ / ١.

١١

.................................................................................................

______________________________________________________

لا ينظر إلى من وقع بعدهم في السند. لكنّك عرفت غير مرّة في مطاوي هذا الشرح عدم استقامة هذه القاعدة وأنّه لا أساس لها ، فلا نعيد.

الثانية : ما رواه المفيد في المقنعة مرسلاً عن يونس بن عمّار ، قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : «تحرم الزكاة على من عنده قوت السنة ، وتجب الفطرة على من عنده قوت السنة» (١).

والدلالة واضحة ، غير أنّ السند ضعيف بالإرسال ، فهي مؤيّدة للمطلوب.

وأمّا القول الثاني المنسوب إلى الشيخ وغيره من أنّ العبرة بملك أحد النصب الزكويّة عيناً أو قيمة ، فيستدلّ له بما ورد في غير واحد من رواياتنا من أنّ الله تعالى جعل للفقراء في أموال الأغنياء ما يكفيهم ، أو أنّه تعالى أشرك الفقراء في أموال الأغنياء ونحو ذلك ممّا تضمّن تعلّق الزكاة في أموال الأغنياء ، الكاشف عن أنّ الغني هو من يملك أحد النصب الزكويّة.

وقد ورد هذا المضمون من طرق العامّة أيضاً ، حيث قال (صلّى الله عليه وآله) حينما بعث معاذاً إلى اليمن : «أعلمهم أنّ الله تعالى قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم». وهي وإن كانت ضعيفة السند لكن مضمونها موجود في رواياتنا كما عرفت.

وفيه أوّلاً : أنّ هذا أخصّ من المدّعى ، إذ لو تمّ فمفاده اعتبار ملكيّة العين الزكويّة بشخصها لا ولو ما يعادلها من القيمة كما هو المدّعى.

وثانياً : إنّ جعل المناط في الفقر والغنى ملك النصاب وعدمه ممّا لا يساعده الصدق العرفي ولا الشرعي ، كيف؟! ولازمه أنّ من لا يملك شيئاً من الأعين الزكويّة إلّا أنّه يملك الأُلوف من الدور والعقارات والبساتين ونحوها فقيرٌ تصل

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٣٤ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٨ ح ١٠.

١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

إليه الزكاة ، وأمّا من ملك أربعين شاة أو خمسة أوسق من الشعير ونحو ذلك ممّا لا يفي إلّا بقوت أيّام قلائل من سنته غنيٌّ لا تحلّ له الزكاة ، وهذا كما ترى مقطوع الفساد ولا يساعده شي‌ء من الروايات كما لا يتفوّه به فقيه جزماً.

والذي يهوّن الخطب أنّ الروايات المشار إليها لا إشعار لها في ذلك فضلاً عن الدلالة ، لعدم كونها بصدد شرح مفهوم الغني عرفاً أو شرعاً بوجه ، بل هي بصدد بيان وجوب أداء الزكاة التي لا تتعلّق غالباً إلّا بالأغنياء ، لا أنّ كلّ من وجبت عليه الزكاة فهو غني.

وبعبارة اخرى : مفاد تلك النصوص أنّ الغني تجب عليه الزكاة لا أنّ من تجب عليه الزكاة غني ليدور صدق الغنى والفقر مدار ملك النصاب وعدمه كما هو واضح جدّاً ، فهذا القول ساقط ولا يمكن المساعدة عليه بوجه.

وأمّا القول الثالث من اعتبار القدرة على الكفاية مستمرّاً وما دام الحياة ، فعلى تقدير أن يكون له قائل لم يكن عليه وجه ظاهر ، بل لعلّه مخالف للوجدان والضرورة ، فإنّ كثيراً من المثرين تزول ثروتهم ويعرضهم الفقر وبالعكس ، أفهل يكشف الفقر الطارئ عدم الغنى سابقاً بحيث ينكشف استحقاقه للزكاة آن ذاك واقعاً لمجرّد انكشاف عدم القدرة على المئونة مستمرّاً؟ ليس الأمر كذلك قطعاً بل العبرة في الفقر والثروة بالقدرة على المئونة لسنة واحدة له ولعياله فعلاً أو قوّةً كما عليه المشهور حسبما عرفت.

وتفصيل الكلام في المقام : أنّ الإنسان قد لا يملك شيئاً أصلاً ما عدا قوت يومه ، وهذا لا إشكال في جواز أخذه من الزكاة بمقدار مئونة السنة كما هو ظاهر.

وأُخرى : يكون له مال آخر من جنس أو نقد ، ولا إشكال أيضاً في جواز تتميمه من الزكاة إن لم يكن وافياً لمئونة السنة ، وإلّا فهو غني شرعاً لا يجوز

١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الأخذ منها ، كما دلّت عليها صحيحة أبي بصير المتقدّمة.

نعم ، لو كانت عنده مئونة سنة واحدة وبعد صرف مقدار منها ولو خلال أيّام قلائل نقصت بحيث لم يبق لديه فعلاً ما يكفيه لسنته ، جاز له الأخذ حينئذٍ ، ولا يلزم الصبر إلى آخر السنة حتّى يتمّ ما عنده ، وذلك لانقلاب الموضوع وتبدّل الغنى بالفقر بعد الصرف المزبور.

وثالثةً : يكون له مالٌ أعدّه للاستفادة من منافعه من غير أن يكون معدّاً للتجارة كما لو كانت له شياه يستفيد من ألبانها وأصوافها أو دار ينتفع من غلّتها ، والعبرة عندئذٍ بالنظر في ذاك الربح وتلك المنفعة ، فإن كانت وافية بالمئونة لا تحلّ له الزكاة ، وإلّا حلّ التتميم منها ، كما نطقت به موثقة سماعة المتقدّمة ، فإنّ موردها وإن كان هو الدار المعدّ للإيجار والانتفاع من غلّتها إلّا أنّه لا خصوصيّة لها بمقتضى الفهم العرفي قطعاً ، فيعمّ غيرها من دكّان أو عقار أو خان ونحو ذلك ممّا يتحفّظ على عينه وينتفع من ربحه.

نعم ، قد يتوهّم معارضة الموثّقة بما رواه الصدوق بإسناده عن أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل له ثمانمائة درهم وهو رجل خفاف وله عيال كثير ، إله أن يأخذ من الزكاة؟ «فقال (عليه السلام) : يا أبا محمّد أيربح في دراهمه ما يقوت به عياله ويفضل؟» قال : نعم «قال : كم يفضل؟» قال : لا أدري «قال (عليه السلام) : إن كان يفضل عن القوت مقدار نصف القوت فلا يأخذ الزكاة ، وإن كان أقلّ من نصف الوقت أخذ الزكاة» (١).

حيث يظهر منها أنّ الربح وإن كان وافياً بالقوت لا يمنع من أخذ الزكاة إلّا إذا كان مشتملاً على فضل وزيادة بمقدار نصف القوت ، فينافي موثّقة سماعة المتقدّمة التي جعل فيها المعيار بكفاية غلّة الدار وعدمها من غير مراعاة الفضل.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٣٢ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٨ ح ٤ ، الفقيه ٢ : ١٨ / ٥٨.

١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ويندفع أوّلاً : بضعف السند ، فإنّ في طريق الصدوق إلى أبي بصير علي بن أبي حمزة البطائني الضعيف الكذّاب الذي أكل مال الإمام (عليه السلام) كما تقدّم مراراً.

وثانياً : مع الغضّ عن السند فلا تنافي بينهما ، إذ المذكور فيها القوت أي ما يتقوّت به الإنسان المنصرف إلى مأكله ومشربه فقط ، دون سائر حوائجه ولوازمه من علاج مرض أو إكرام ضيف أو شراء ملبس ونحو ذلك من المصاريف المتفرّقة الزائدة على الأكل والشرب التي قدّرها (عليه السلام) بنصف القوت فيعادل القوت ونصفه مع المئونة المذكورة في الموثقة ، التي هي ملحوظة طبعاً مع هذه المصاريف.

وبالجملة : لم تذكر في رواية أبي بصير المئونة وزيادة لتعارض الموثّق ، بل القوت وزيادة ، والقوت منصرف إلى الطعام الذي هو أخصّ من المئونة ، فلا تنافي بينهما بوجه.

ويؤيّد الموثّق رواية إسماعيل بن عبد العزيز المصرّحة بجواز أخذ الزكاة وعدم بيع الدار ولا الغلام ولا الجمل وهو معيشته وقوته (١).

لكن السند ضعيف ، لعدم وثاقة الرجل ، فلا تصلح إلا للتأييد.

ورابعةً : يكون له مال معدّ للتجارة فتتبدّل العين بعين اخرى المعاوض عليها ولا تبقى محفوظة عنده كما كان كذلك في الفرض السابق ولا ريب حينئذٍ في عدم جواز أخذ الزكاة إذا كان الربح وافياً بالمئونة ، كما لا ريب في الجواز إذا لم يكن وافياً ولو بضميمة الأصل.

وإنّما الكلام فيما إذا كان رأس المال بمجرّده وافياً بالمئونة ولم يكن الربح كافياً ،

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٣٦ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٩ ح ٣.

١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فهل يعدّ مثل هذا فقيراً يحلّ له أخذ الزكاة ، أم لا؟

نُسب إلى الشيخ وجماعة الأوّل (١) ، وهو الصحيحة.

وتدلّنا عليه صحيحة معاوية بن وهب ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون له ثلاثمائة درهم أو أربعمائة درهم وله عيال وهو يحترف فلا يصيب نفقته فيها ، أيكب فيأكلها ولا يأخذ الزكاة أو يأخذ الزكاة؟ «قال (عليه السلام) : لا ، بل ينظر إلى فضلها فيقوّت بها نفسه ومن وسعه ذلك من عياله ، ويأخذ البقيّة من الزكاة ، ويتصرّف بهذه لا ينفقها» (٢).

والاستدلال بها من وجهين :

الأوّل : ترك الاستفصال عن أنّ رأس المال وهو الثلاثمائة أو الأربعمائة درهماً هل يكون وافياً بمئونة السنة أم لا ، فإنّ ذلك يدلّ على إطلاق الحكم وشموله لكلتا الصورتين ، بل لا يبعد الوفاء سيّما في أيام الرخص وفي الأزمنة السالفة التي كانت الشاة تباع فيها بدرهم واحد كما في بعض النصوص ، بل أدركنا قبل خمسين سنة أنّ الرجل يتعيّش هو وزوجته وطفله بدرهم واحد في اليوم ، المعادل لنصف مثقال من الفضّة تقريباً.

وكيفما كان ، فترك الاستفصال في كلام الإمام (عليه السلام) شاهد على العموم.

الثاني : قوله (عليه السلام) «بل ينظر إلى فضلها» حيث جعل المعيار النظر إلى فضل رأس المال وربحه وأنّه إن لم يف بالمئونة يأخذ البقيّة من الزكاة ، ولا ينظر في ذلك إلى رأس المال نفسه ، ومقتضى الإطلاق عدم الفرق بين صورتي

__________________

(١) نسبه إلى الشيخ في الحدائق ١٢ : ١٥٧.

(٢) الوسائل ٩ : ٢٣٨ / أبواب المستحقين للزكاة ب ١٢ ح ١.

١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

كفافه بالمئونة وعدمه.

وخامسةً : تكون له حرفة يتعيّش بها كالبنّاء والنجّار والخيّاط ونحوها من أرباب المهن والحرف ، وحكمه أنّ حرفته إن كانت وافية بمئونة سنته لنفسه وعياله لم تحلّ له الزكاة ، وإلّا حلّ التتميم منها كما لو كانت اجرة البنّاء في اليوم الواحد نصف دينار ومصارفه دينار واحد.

ويدلّ عليه أوّلاً : الصدق العرفي ، فإنّ صاحب الحرفة فعلاً مالك بالقوّة لمئونة السنة إذا كانت وافية بها فهو غني عُرفاً ، فلا ينطبق عليه عنوان الفقير المأخوذ مصرفاً للزكاة في لسان الأدلّة ، كما أنّه ينطبق عليه العنوان على تقدير عدم الكفاية ، فالحكم مطابق لمقتضى القاعدة وإن لم ترد في البين نصوص خاصّة.

وثانياً : طائفة من الأخبار ، منها : ذيل صحيحة أبي بصير المتقدّمة ، قال (عليه السلام) : «ولا تحلّ الزكاة لمن كان محترفاً وعنده ما تجب فيه الزكاة» (١).

وقد تقدّم المراد من قوله (عليه السلام) «وعنده ما تجب» وأنّه كناية عن المال الاحتياطي المدّخر لبعض المصاريف الاتّفاقيّة من علاج مرض ونحوه بحيث تتمّ معه مئونة السنة.

ومنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : سمعته يقول : «إنّ الصدقة لا تحلّ لمحترف ولا لذي مرّة سوي قوي ، فتنزّهوا عنها» (٢).

ومنها : صحيحته الأُخرى عنه (عليه السلام) «قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : لا تحلّ الصدقة لغني ولا لذي مرّة سوي ، ولا لمحترف» (٣) ، ونحوها غيرها. فالحكم مسلّم لا غبار عليه.

__________________

(١) الوسائل ٩ : ٢٣١ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٨ ح ١.

(٢) الوسائل ٩ : ٢٣١ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٨ ح ٢.

(٣) الوسائل ٩ : ٢٣٣ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٨ ح ٨.

١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وسادسةً : يكون قادراً على الاكتساب ، ولكنّه لم يفعل تكاسلاً ، فهو محترف بالقوّة وإن لم يتلبّس به فعلاً ، فهل تحلّ له الزكاة نظراً إلى حاجته الفعليّة ، أم لا باعتبار قوّته وقدرته على تحصيل المئونة؟

احتاط فيه الماتن ، بل اختار الجواز في الجواهر (١).

هذا ، ولا ينبغي التأمّل في الجواز فيما لو مضى وقت الاكتساب ، لكونه مؤقّتاً بوقت خاصّ ، كمن كان شغله الحملداريّة فتهاون ولم يتصدّ للمقدّمات إلى أن تحرّكت القافلة وهو فعلاً فقير لا مال له وليست له حرفة اخرى ، ومثله البنّاء الذي لم يحضر أوّل الوقت إلى أن مضت ساعة من النهار ، فإنّ هذا فقير فعلاً بالضرورة وإن كان مستنداً إلى اختياره. والظاهر خروج ذلك عن محلّ البحث.

وإنّما الكلام فيمن يكون متمكّناً من الاكتساب فعلاً ولم يتلبّس ، كالطبيب الذي يتمكّن من التصدّي للمعالجة بمعاينة المريض دقائق معدودة بإزاء مبلغ معتدّ به ، وكذا المهندس ونحوه من أرباب المهن والحرف فلم يتصدّ تكاسلاً ، وهو المراد بذي مرّة في النصوص المتقدّمة.

والظاهر عدم حلّ الزكاة له ، لعدم صدق الفقير عليه عرفاً بعد قدرته الفعليّة على الاكتساب ، نظير من يتمكّن من تحصيل الماء بشراء ونحوه فإنّه وإن لم يجده فعلاً إلّا أنّه لا يصدق عليه الفاقد للماء ، بل هو واجدٌ ، أي متمكّن منه بالقدرة على مقدّمته ، كما هو ظاهر.

مضافاً إلى دلالة جملة من النصوص :

منها : صحيحة زرارة المتقدّمة : «إنّ الصدقة لا تحلّ لمحترف ولا لذي مرّة سوّي قوّي ، فتنزّهوا عنها».

فمن كان ذا مرّة أي قويّاً متمكّناً من الاكتساب لا تحلّ له الصدقة.

__________________

(١) جواهر الكلام ١٥ : ٣١٤.

١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وناقش في دلالتها صاحب الجواهر بدعوى أنّ الأمر بالتنزّه ظاهر في الكراهة (١).

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ التنزّه لغةً بمعنى الابتعاد والاجتناب ، وهو المراد في لسان الأخبار ، فهو ظاهر في الحرمة ولا إشعار له في الكراهة فضلاً عن الدلالة.

ومع الغضّ فلا ظهور لهذه الكلمة بمثابةٍ يستوجب رفع اليد عن ظهور بل صراحة «لا تحلّ» في المنع والحرمة كما لا يخفى. فلا ينبغي التأمّل في دلالتها على عدم الجواز.

ونحوها صحيحته الأُخرى عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : لا تحلّ الصدقة لغني ولا لذي مرّة سوي ولا لمحترف ولا لقوي» قلنا : ما معنى هذا؟ «قال : لا يحلّ له أن يأخذها وهو يقدر على أن يكفّ نفسه عنها» (٢).

ولكن بإزائه ما رواه الصدوق في الفقيه عن الصادق (عليه السلام) ، قال : وقيل للصادق (عليه السلام) : إنّ الناس يروون عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : «إنّ الصدقة لا تحلّ لغني ولا لذي مرّة سوي» فقال : «قد قال : لغني ، ولم يقل : لذي مرّة سوي» (٣).

ونحوه ما رواه في معاني الأخبار عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال : «قد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : إنّ الصدقة لا تحلّ لغني ، ولم يقل : ولا لذي مرّة سوي» (٤).

__________________

(١) الجواهر ١٥ : ٣١٤.

(٢) الوسائل ٩ : ٢٣٣ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٨ ح ٨.

(٣) الوسائل ٩ : ٢٣٢ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٨ ح ٥ ، الفقيه ٣ : ١٠٩ / ٤٥٨.

(٤) الوسائل ٩ : ٢٣٣ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٨ ح ٩ ، معاني الأخبار : ٢٦٢ / ٢.

١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنّ العامّة قد رووا عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ذلك كما رواه الترمذي وقال : إنّه حديث حسن صحيح ، وكذا مالك (١). ولكن الصادق (عليه السلام) كذّبه وأنكر صدوره عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، فيكون ذلك معارضاً لما تقدّم في صحيح زرارة من قوله (عليه السلام) : «إنّ الصدقة لا تحلّ لمحترف ولا لذي مرّة سوي».

ويندفع أوّلاً : بأنّ رواية الصدوق مرسلة لا يعوّل عليها.

وثانياً : بأنّه (عليه السلام) لم ينكر الحكم وإنّما أنكر القول فقط ، ومن الجائز عدم صدور هذه اللفظة عن النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ولا ينافي ذلك ثبوت الحكم وأنّه (صلّى الله عليه وآله) اقتصر في بيانه على مجرّد قوله (صلّى الله عليه وآله) «لا تحلّ لغني» ، نظراً إلى صدق الغنى على ذي مرّة أيضاً ، كما قد تشير إليه صحيحة معاوية بن وهب ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) يروون عن النبي (صلّى الله عليه وآله) «أنّ الصدقة لا تحلّ لغني ولا لذي مرّة سوي» فقال أبو عبد الله (عليه السلام) «لا تصلح لغني» (٢) ، حيث أعرض (عليه السلام) في الجواب عن صحّة الرواية وسكت عن بيان ما صدر عن النبي (صلّى الله عليه وآله) نفياً وإثباتاً ، واقتصر على بيان الحكم وأنّ الصدقة لا تصلح للغني ، إيعازاً إلى شمول الحكم لذي مرّة ، لكونه مصادقاً للغني سواء أقاله النبي (صلّى الله عليه وآله) أيضاً أم لا.

وثالثاً : أنّها معارضة بصحيحة زرارة المتقدّمة ، المصرّحة بإسناد تلك الجملة إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من قبل أبي جعفر نفسه (عليه السلام) (٣).

__________________

(١) سنن الترمذي ٣ : ٤٢ / ٦٥٢ ، وانظر الموطأ ١ : ٢٦٨ / ٢٩.

(٢) الوسائل ٩ : ٢٣١ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٨ ح ٣.

(٣) الوسائل ٩ : ٢٣٣ / أبواب المستحقين للزكاة ب ٨ ح ٨.

٢٠