موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

وأمّا القسم الرابع : وهو ما إذا علمنا بوجود عنوانين يحتمل انطباقهما على فرد واحد على ما مثلنا به ، فالظاهر أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب فيه ، لتمامية أركانه من اليقين والشك ، فانّ أحد العنوانين وإن ارتفع يقيناً ، إلاّأنّ لنا يقيناً بوجود الكلي في ضمن عنوان آخر ونشك في ارتفاعه ، لاحتمال انطباقه على فرد آخر غير الفرد المرتفع يقيناً ، فبعد اليقين بوجود الكلي المشار إليه والشك في ارتفاعه ، لا مانع من جريان الاستصحاب فيه.

نعم ، قد يبتلى هذا الاستصحاب بالمعارض كما فيما ذكرنا من المثال ، وهو أنّه إذا علمنا بالجنابة ليلة الخميس مثلاً وقد اغتسلنا منها ، ثمّ رأينا منياً في ثوبنا يوم الجمعة ، فنعلم بكوننا جنباً حين خروج هذا المني ، ولكن نحتمل أن يكون هذا المني من الجنابة التي قد اغتسلنا منها ، وأن يكون من غيرها ، فاستصحاب كلي الجنابة مع إلغاء الخصوصية وإن كان جارياً في نفسه ، إلاّأ نّه معارض باستصحاب الطهارة الشخصية ، فانّا على يقين بالطهارة حين ما اغتسلنا من الجنابة ولا يقين بارتفاعها ، لاحتمال كون المني المرئي من تلك الجنابة ، فيقع التعارض بينه وبين استصحاب الجنابة فيتساقطان ، ولا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر. وأمّا فيما لا معارض له كما إذا علمنا بوجود زيد في الدار وبوجود متكلم فيها يحتمل انطباقه على زيد وعلى غيره ، فلا مانع من جريان استصحاب وجود الانسان الكلي فيها ، مع القطع بخروج زيد عنها إذا كان له أثر شرعي.

وبالجملة : كلامنا إنّما هو في جريان الاستصحاب في نفسه مع قطع النظر عن المعارض ، وقد عرفت أنّ جريانه هو الصحيح. وأمّا عدم الجريان من

١٤١

جهة الابتلاء بالمعارض فهو مشترك فيه بين هذا القسم والأقسام الاخر ، فانّ الاستصحاب فيها أيضاً قد يتبلى بالمعارض فلا يكون جارياً.

وقد يفصّل في جريان الاستصحاب في هذا القسم بين ما إذا علم بوجود فردين وشك في تعاقبهما وعدمه ، وبين ما إذالم يعلم به ، بل علم بوجود عنوانين يحتمل انطباقهما على فردين وعلى فرد واحد ، فالتزم في الأوّل بجريان الاستصحاب دون الثاني.

مثال الأوّل : ما إذا علم أحد بوضوءين وبحدث ، ولكن لا يدري أنّ الوضوء الثاني كان تجديدياً ليكون الحدث بعدهما وباقياً فعلاً ، أو كان رافعاً للحدث ليكون متطهراً فعلاً ، فالوضوء الأوّل في هذا الفرض قد انتقض بالحدث يقيناً ، وإنّما الشك في بقاء الطهارة حين الوضوء الثاني لاحتمال كونه بعد الحدث ، وحيث إنّ هذا الشخص متيقن بالطهارة حينه إمّا بسببية الوضوء الأوّل لو كان تجديدياً ، وإمّا بسببيته لو كان رافعاً للحدث ، وشاك في ارتفاعها ، فلا مانع من استصحابها.

وكذا الحال فيما إذا علم بالجماع مثلاً مرتين وبغسل واحد ، لكن لا يدري أنّ الجماع الثاني وقع بعد الاغتسال حتى يكون جنباً بالفعل ، أو قبله ليكون متطهراً بالفعل ، فهو يعلم بارتفاع الجنابة الحاصلة بالجماع الأوّل بالغسل ، ويشك في بقاء الجنابة حال الجماع الثاني ، لاحتمال حدوثه بعد الغسل ، وحيث إنّه يعلم بجنابته حين الجماع الثاني ويشك في ارتفاعها ، فلا مانع من استصحابها.

وهذا بخلاف الصورة الثانية ، وهي ما إذالم يعلم بوجود فردين ، ولكنّه يعلم بعنوانين يحتمل انطباقهما على فرد واحد ، كمن رأى في ثوبه منياً واحتمل أنّه من جنابة اخرى غير التي اغتسل منها ، فانّه لا يجري فيه الاستصحاب ، لأنّ

١٤٢

الجنابة المتيقنة قد ارتفعت يقيناً ، والجنابة الاخرى مشكوكة الحدوث من الأوّل ، هذا.

ولكنّ الانصاف جريان الاستصحاب في الصورتين ، والفرق المذكور ليس بفارق فيما هو ملاك الاستصحاب من تعلق اليقين والشك بأمر واحد ، وذلك لأنّ الكلي متيقن حين اليقين بوجود العنوان الثاني ، وارتفاعه مشكوك فيه لاحتمال انطباق العنوان الثاني على فردٍ آخر غير الفرد المرتفع يقيناً ، وما ذكره من أنّ أحد الفردين مرتفع يقيناً والفرد الآخر مشكوك الحدوث إنّما يقدح في جريان الاستصحاب في الفرد دون الكلي ، لتمامية أركانه من اليقين في الحدوث والشك في البقاء بالنسبة إلى الكلي.

ولعل وجه الفرق بين الصورتين ما يظهر من عبارته بل هو مصرّح به من أنّه في فرض العلم بوجود فردين يكون وجود الكلي متيقناً حين وجود الفرد الثاني إمّا بوجود الفرد الأوّل أو بوجود الفرد الثاني ، وارتفاعه مشكوك فيه لاحتمال كون وجوده بوجود الفرد الثاني ، فيجري الاستصحاب في الكلي ، وهذا بخلاف الصورة الثانية فانّه لا علم فيها إلاّبوجود فردٍ واحدٍ وهو متيقن الارتفاع ، والفرد الآخر مشكوك الحدوث والأصل عدمه ، فالشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الآخر وهو مدفوع بالأصل ، فلا مجال لاستصحاب الكلي لكونه مرتفعاً بالتعبد الشرعي.

والجواب عن ذلك يظهر مما ذكرناه (١) في دفع الاشكال عن القسم الثاني من استصحاب الكلي ، وملخص ما ذكرنا هناك : أنّ منشأ الشك في بقاء الكلي ليس هو الشك في حدوث الفرد الطويل ، بل منشؤه الشك في أنّ الحادث هل هو

__________________

(١) في ص ١٢٥ ـ ١٢٩.

١٤٣

الفرد الطويل أو القصير ، ولا يجري فيه أصل يرفع به الشك في بقاء الكلي (١). مضافاً إلى أنّ بقاء الكلي ليس من الآثار الشرعية لحدوث الفرد الطويل حتى ينفى بالأصل.

ففي المقام نقول : إنّ منشأ الشك في بقاء الكلي ليس هو الشك في حدوث الفرد الآخر ، بل منشؤه هو الشك في أنّ الحادث بهذا العنوان هل هو الفرد المرتفع يقيناً أو غيره ، فالشك في بقاء الجنابة في المثال نشأ من الشك في أنّ الجنابة الموجودة حال خروج المني المرئي في الثوب هل هي الجنابة التي قد ارتفعت ، أو أنّها غيرها ، ولا يجري أصل يرتفع به الشك في بقاء الكلي. مضافاً إلى أنّ بقاء الكلي ليس من الآثار الشرعية لحدوث فردٍ آخر ليحكم بعدم بقائه بأصالة عدم حدوث فردٍ آخر ، وعليه فلا مانع من جريان استصحاب بقاء الكلي.

وربّما يقال بعدم جريان الاستصحاب في هذا القسم من أقسام استصحاب الكلي ، نظراً إلى أنّه لا بدّ في جريان الاستصحاب من إحراز صدق عنوان نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن اليقين السابق ، وفي المقام لم يحرز هذا ، لأنّه بعد اليقين بارتفاع الفرد المتيقن واحتمال انطباق العنوان الآخر عليه ، يحتمل أن يكون رفع اليد عن اليقين به من نقض اليقين باليقين ، فلا يمكن التمسك بحرمة نقض اليقين بالشك ، فانّه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وجوابه : أنّ احتمال الانطباق إنّما هو في نفس العنوان لا بوصف أنّه متيقن ، فانّه بهذا الوصف يستحيل انطباقه على الفرد الأوّل بالضرورة ، ففي المثال

__________________

(١) [ذكر قدس‌سره هناك أنّ هذا الجواب لا يتم على المختار من جريان استصحاب العدم الأزلي فلاحظ].

١٤٤

المتقدم إنّما نحتمل انطباق نفس عنوان المتكلم على زيد ، إلاّأ نّه بوصف أنّه متيقن لا يحتمل أن ينطبق عليه ، فبعد اليقين بوجود المتكلم في الدار لا يرتفع هذا اليقين باليقين بخروج زيد عنها ، بل الشك في بقائه فيها موجود بالوجدان ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه.

وبالجملة : الشبهة المصداقية غير متصورة في الاصول العملية ، لأنّ موضوعها اليقين والشك ، وهما من الامور الوجدانية ، فامّا أن يكونا موجودين أو لا ، فلا معنى لاحتمال اليقين واحتمال أن يكون رفع اليد من اليقين السابق من نقض اليقين باليقين.

ونظير المقام ما إذا علمنا بموت شخص معيّن واحتمل أنّه هو المجتهد الذي نقلّده ، فهل يصح أن يقال : إنّه لا يمكن جريان استصحاب حياة المجتهد لاحتمال أن يكون هذا الشخص الذي تيقّنا بموته منطبقاً عليه ، فنحتمل أن يكون رفع اليد عن اليقين بحياته من نقض اليقين باليقين ، مع أنّ اليقين بحياة المجتهد والشك في بقائها موجودان بالوجدان ، فكما لا مانع من جريان الاستصحاب فيها لتمامية أركانه ، فكذا في المقام بلا فرق بينهما.

التنبيه الخامس

في جريان الاستصحاب في التدريجيات. ويقع الكلام فيه في مقامين ، المقام الأوّل : في الزمان. والمقام الثاني : في غيره من التدريجيات كالحركة.

أمّا المقام الأوّل : فتفصيل الكلام فيه أنّا إذا قلنا بأنّ الزمان موجود واحد مستمر متقوّم بالانصرام ، ولذا يعبّر عنه بغير القار ، فلا مانع من جريان

١٤٥

الاستصحاب فيه ، لوحدة القضية المتيقنة والمشكوكة بالدقة العقلية فضلاً عن نظر العرف ، فاذا شككنا في بقاء النهار مثلاً يجري استصحاب وجوده بلا إشكال.

وإن قلنا بأنّ الزمان مركب من الآنات الصغيرة المنصرمة ، نظير ما ذكره بعضهم من تركب الأجسام من الأجرام الصغيرة غير القابلة للتجزئة ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه أيضاً ، لوحدة القضية المتيقنة والمشكوكة بنظر العرف. والمدار في جريان الاستصحاب على وحدة الموضوع بنظر العرف لا بالدقة العقلية.

وهذا المسلك وإن كان باطلاً في نفسه ، لأن بعض الأدلة الدالة على إبطال الجزء الذي لا يتجزأ يبطله أيضاً ، إلاّأنّ الالتزام به لا يمنع من جريان الاستصحاب في الزمان.

هذا كلّه بالنسبة إلى الآثار المترتبة على نفس الزمان ، وأمّا الآثار المترتبة على عدم ضدّه كجواز الأكل والشرب في ليالي شهر رمضان المترتب على عدم طلوع الفجر ، لقوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ...)(١) فلا اشكال في ترتبها باستصحاب عدم الضد ، فاذا شك في طلوع الفجر فلا إشكال في جريان استصحاب عدمه حتى على القول بعدم جريانه في الزمان.

ومن هذا القبيل ما ورد من الروايات الدالة على امتداد وقت صلاة الظهرين إلى غروب الشمس ، وامتداد وقت صلاة العشاءين إلى انتصاف الليل ، فاذا

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٧.

١٤٦

شك في الغروب أو انتصاف الليل يجري استصحاب العدم بلا إشكال. وهذا الاستصحاب في الحقيقة خارج عن محل الكلام ، لأنّ الكلام إنّما هو في استصحاب نفس الزمان بالنسبة إلى الآثار المترتبة عليه ، وأمّا جريان استصحاب العدم عند الشك في الحدوث فلا يفرق الحال فيه بين الزمان وغيره.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من عدم المانع في جريان الاستصحاب في الزمان إنّما هو فيما إذا كان الزمان متمحضاً في الشرطية ، بأن كان شرطاً للحكم الشرعي من التكليف أو الوضع. وأمّا إذا كان قيداً لمتعلق التكليف كما إذا كان ظرفاً للواجب مثلاً ، كما إذا أمر المولى بالامساك الواقع في النهار ، فاذا شك في بقاء النهار ، ففي جريان الاستصحاب فيه إشكال ، لأنّه باستصحاب النهار لا يثبت وقوع الامساك في النهار إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، فانّ وقوع الامساك في النهار لازم عقلي لبقاء النهار.

ولذا عدل الشيخ (١) وتبعه المحقق النائيني (٢) قدس‌سره عن جريان الاستصحاب في الزمان في مثله إلى جريانه في الحكم ، بأن نقول بعد الشك في بقاء النهار : إنّ وجوب الامساك الواقع في النهار كان ثابتاً قبل هذا ، فالآن كما كان.

وهذا العدول مما لا يسمن ولا يفيد في دفع الاشكال ، لأن استصحاب الحكم إن كان يمكن به إثبات أنّ الامساك واقع في النهار ، فيمكن إثباته باستصحاب الزمان ، لأنّه باستصحابه يترتب الحكم وهو الوجوب ، وباثباته

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٤٥.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ١٠٣ وما بعدها.

١٤٧

يثبت أنّ الامساك واقع في النهار على الفرض ، فلا نحتاج إلى العدول إلى جريان الاستصحاب في الحكم ، بل لا يصح جريانه فيه ، لأنّ الشك فيه مسبب عن الشك في الزمان ، وجريان الاستصحاب فيه يرفع الشك في الحكم ، وإن كان استصحاب الحكم لا يمكن إثبات وقوع الامساك في النهار به ، لكونه من الأصل المثبت ، لأنّ بقاء النهار لازم عقلي لبقاء وجوب الامساك الواقع في النهار ، بمعنى أنّ العقل يحكم بعد أمر المولى بوجوب الامساك الواقع في النهار بأنّ النهار باقٍ لا محالة ، فالعدول غير مفيد في دفع الاشكال.

ومن هنا عدل صاحب الكفاية قدس‌سره عن جريان الاستصحاب في الزمان وعن جريانه في الحكم إلى جريانه في فعل المكلف المقيد بالزمان ، بأن يقال بعد الشك في بقاء النهار : إنّ الامساك قبل هذا كان واقعاً في النهار والآن كما كان (١).

وهذا الاستصحاب وإن كان جارياً في مثل الامساك ، إلاّأ نّه غير جارٍ في جميع موارد الشك في الزمان ، فانّه من أخّر صلاة الظهرين حتى شك في بقاء النهار ، لا يمكنه إجراء الاستصحاب في الفعل بأن يقال : الصلاة قبل هذا كانت واقعة في النهار والآن كما كانت ، إذ المفروض أنّ الصلاة لم تكن موجودةً إلى الآن ، اللهمّ إلاّأن يتشبث بذيل الاستصحاب التعليقي ، فيقال : لو اتي بالصلاة قبل هذالكانت واقعة في النهار ، فالآن كما كانت. ولكنّ الاستصحاب التعليقي مع عدم صحته في نفسه مختص عند قائله بالأحكام ، فلا يجري في الموضوعات كما يأتي التعرض له قريباً (٢) إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠٩.

(٢) في ص ١٦١ وما بعدها.

١٤٨

فهذه الوجوه التي ذكرها هؤلاء الأعلام لا تفيد في دفع الاشكال ، فلا بدّ من بيان وجه آخر وهو يحتاج إلى ذكر مقدمة : وهي أنّ الموضوع المركب على قسمين :

فتارة يكون الموضوع مركباً من المعروض وعرضه كالماء الكر ، فانّه موضوع للاعتصام وعدم الانفعال ، فلا بدّ في ترتب الحكم على هذا الموضوع من إثبات العارض والمعروض بنحو مفاد كان الناقصة ، إمّا بالوجدان أو بالتعبد ، فاذا شككنا في بقاء كرية الماء لا يجدي جريان الاستصحاب في مفاد كان التامة ، بأن يقال : الكرية كانت موجودة والآن كما كانت ، فان موضوع عدم الانفعال ليس هو الماء ووجود الكرية ولو في غير الماء ، بل الموضوع له كرية الماء وهي لا تثبت باستصحاب الكرية في مفاد كان التامة ، إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، فلا بدّ حينئذ من إجراء الاستصحاب في مفاد كان الناقصة بأن يقال : هذا الماء كان كراً فالآن كما كان.

واخرى يكون الموضوع مركباً بنحو الاجتماع في الوجود من دون أن يكون أحدهما وصفاً للآخر ، كما إذا اخذ الموضوع مركباً من جوهرين مثل زيد وعمرو ، أو من عرضين ـ سواء كان أحدهما قائماً بموضوع والآخر قائماً بموضوع آخر كما في صلاة الجماعة فانّ الموضوع لصحة الجماعة اجتماع ركوعين في زمان واحد أحدهما قائم بالإمام والآخر قائم بالمأموم ، أو كانا قائمين بموضوع واحد كالاجتهاد والعدالة المأخوذين في موضوع جواز التقليد ـ أو مركباً من جوهر وعرض قائم بموضوع آخر ، ففي جميع هذه الصور يكون الموضوع هو مجرد اجتماع الأمرين في الوجود ولا يعقل اتصاف أحدهما بالآخر ، فلا بدّ في ترتب الحكم على مثل هذا الموضوع المركب من إحراز كلا الأمرين ، إمّا بالوجدان أو بالتعبد ، فاذا شك في أحدهما يكفي جريان الاستصحاب فيه بنحو مفاد كان

١٤٩

التامة بلا احتياج إلى جريانه في مفاد كان الناقصة ، بل لا يصح جريانه فيه ، لما ذكرناه من عدم معقولية اتصاف أحدهما بالآخر.

ومن هذا القبيل الصلاة والطهارة ، فانّ كلاً منهما فعل للمكلف وعرض من أعراضه ، ولا معنى لاتصاف أحدهما بالآخر ، والموضوع هو مجرد اجتماعهما في الوجود الخارجي ، فاذا شك في بقاء الطهارة يكفي جريان الاستصحاب فيها بنحو مفاد كان التامة فيحرز الموضوع المركب من الصلاة والطهارة ، أحدهما بالوجدان وهو الصلاة والآخر بالتعبد الشرعي وهو الطهارة.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ اعتبار الزمان قيداً لشيء من هذا القبيل ، فان معنى الامساك النهاري هو اجتماع الامساك مع النهار في الوجود ، إذ النهار موجود من الموجودات الخارجية ، والامساك عرض قائم بالمكلف ، فلا معنى لاتصاف أحدهما بالآخر ، فاذا شك في بقاء النهار يكفي جريان الاستصحاب فيه بنحو مفاد كان التامة ، ولا يكون من الأصل المثبت في شيء. نعم ، لو أردنا إثبات اتصاف الامساك بكونه نهارياً باستصحاب النهار بنحو مفاد كان التامة ، كان من الأصل المثبت ، لكنّه لا نحتاج إليه ، بل لا معنى له على ما ذكرناه.

نعم ، قد يؤخذ في لسان الدليل الشرعي عنوان انتزاعي موضوعاً لحكم من الأحكام كالتقدم والتأخر والتقارن ، فاذا شك في بقاء الزمان فباستصحابه لا يمكن إثبات هذا العنوان إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، ولا اختصاص له باستصحاب الزمان ، بل يجري في غيره أيضاً ، فاذا كان الموضوع لارث الولد تأخر موته عن موت أبيه وعلمنا بموت والده في شهر رمضان مثلاً ، وشككنا في أنّ موت الولد كان متأخراً عنه أم لا ، فباستصحاب حياة الولد لا يمكن إثبات عنوان التأخر إلاّعلى القول بالأصل المثبت.

١٥٠

فالمتحصل مما ذكرناه في المقام : صحة جريان الاستصحاب في الزمان مطلقاً.

المقام الثاني : في جريان الاستصحاب في غير الزمان من التدريجيات ، وهو على قسمين : لأنّ الأمر التدريجي إمّا أن يكون مثل الزمان بحيث يكون تقدّمه بالانصرام والانقضاء ، ولا يمكن اجتماع جزأين منه في زمان واحد ، بل يوجد جزء منه وينعدم فيوجد جزء آخر ، ويعبّر عنه بغير القار كالحركة والجريان والتكلم ونحوها. وإمّا أن يكون بنفسه غير منصرم وله ثبات في نفسه ، ولكنّه من حيث تقيده بالزمان يكون غير قارّ ، فكونه غير قارّ إنّما هو باعتبار قيده وهو الزمان ، كما إذا أمر المولى بالقيام إلى الظهر أو بالجلوس إلى المغرب مثلاً.

أمّا القسم الأوّل : فقد ظهر الكلام فيه مما ذكرنا في الزمان ، لأنّه إن قلنا بكون الحركة المتصلة موجوداً واحداً ، وأنّ الاتصال مساوق للوحدة ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيها ، حتى بناءً على اعتبار وحدة الموضوع بالدقة العقلية فضلاً عن اعتبار الوحدة العرفية. وإن قلنا بكون الحركة مركبة من الحركات اليسيرة الكثيرة بحيث يكون كل جزء من الحركة موجوداً منحازاً عن الجزء الآخر ، فلا ينبغي الاشكال في جريان الاستصحاب فيها أيضاً ، لكون الموضوع واحداً بنظر العرف وإن كان متعدداً بالدقة العقلية.

ثمّ إنّه بناءً على ما ذكرناه (١) من عدم اختصاص حجية الاستصحاب بموارد الشك في الرافع يجري الاستصحاب في الحركة ، سواء كان الشك في بقائها مستنداً إلى الشك في المقتضي كما إذا علمنا بحركة زيد من النجف إلى الكوفة وشككنا في أنّه قاصد للحركة إليها فقط أو إلى الحلة أيضاً ، فبعد الوصول إلى الكوفة

__________________

(١) فى ص ٣٠. ٣٥.

١٥١

نشك في بقاء الحركة من جهة الشك في المقتضي ، أو كان الشك في بقاء الحركة مستنداً إلى الشك في الرافع كما إذا علمنا بكونه قاصداً للحلة ولكن لا ندري أنّه هل عرض له مانع أم لا.

أو كان الشك في بقاء الحركة مستنداً إلى احتمال حدوث المقتضي الجديد مع العلم بارتفاع المقتضي الأوّل كما إذا علمنا بأ نّه كان قاصداً للكوفة فقط لكن نحتمل حدوث البداء له في الحركة إلى الحلة ، فاحتمال بقاء الحركة مستند إلى احتمال حدوث المقتضي الجديد.

وتجري هذه الصور الثلاث عند الشك في بقاء الجريان والسيلان أيضاً ، فانّ الشك في بقاء جريان الماء مثلاً أو سيلان الدم في باب الحيض تارةً يكون مستنداً إلى الشك في المقتضي كما إذا شككنا في بقاء الجريان من جهة الشك في بقاء المادة للماء ، واخرى يكون مستنداً إلى الشك في الرافع كما إذا علمنا بقاء الماء وشككنا في بقاء الجريان لاحتمال حدوث مانع منه ، وثالثةً يكون مستنداً إلى احتمال حدوث مادة اخرى مع العلم بانتفاء المادة الاولى ، فيجري الاستصحاب في جميع هذه الصور.

ومنع العلاّمة النائيني (١) قدس‌سره عن جريان الاستصحاب في القسم الثالث ، بدعوى أنّ الحافظ للوحدة في الامور التدريجية غير القارّة كالحركة هو الداعي ، فمع وحدة الداعي تكون الحركة واحدةً ، ومع تعدده تكون الحركة متعددةً ، وحيث إنّ الداعي الأوّل قد انتفى في القسم الثالث يقيناً ، فتكون الحركة الحادثة بداعٍ آخر على تقدير وجودها غير الحركة الاولى ، فلا يصح جريان الاستصحاب لاختلاف القضية المتيقنة والمشكوكة.

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٠٨ و ١٠٩ ، فوائد الاصول ٤ : ٤٤٠ و ٤٤١.

١٥٢

وقد ظهر جوابه مما ذكرنا ، فانّ الحافظ للوحدة ليس هو الداعي بل هو الاتصال ، فما لم يتخلل العدم فالحركة واحدة وإن كان حدوثها بداعٍ وبقاؤها بداعٍ آخر ، وإذا تخلل العدم كانت الحركة متعددةً وإن كان الداعي واحداً. وقد نقضنا عليه قدس‌سره في الدورة السابقة بالسجدة ، فمن سجد في الصلاة بداعي الامتثال ثمّ بعد إتمام الذكر بقي في السجدة آناً ما للاستراحة مثلاً ، فهل يمكن القول ببطلان الصلاة لأجل زيادة السجدة.

وربّما يتوهّم في المقام أنّ الاستصحاب في هذا القسم وإن كان جارياً في نفسه إلاّأ نّه محكوم بأصل آخر ، فانّ الشك في بقاء الحركة مسبب عن الشك في حدوث داعٍ آخر والأصل عدمه.

وفساد هذا التوهم أوضح من أن يخفى ، فانّ ارتفاع الحركة ليس من الآثار الشرعية لعدم حدوث الداعي الآخر ، فلا يمكن إثبات ارتفاعها بأصالة عدم حدوثه إلاّعلى القول بالأصل المثبت.

فتحصّل : أنّ الصحيح جريان الاستصحاب في جميع الصور الثلاث ما لم يتخلل العدم ، ومع تخلله لا يبقى موضوع لجريانه.

ثمّ إنّه ذكر صاحب الكفاية (١) قدس‌سره أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب في مثل الحركة ولو بعد تخلل العدم إذا كان يسيراً ، لأنّ المناط في الاستصحاب هو الوحدة العرفية ولا يضر السكون القليل بوحدة الحركة عرفاً.

وفيه : أنّ بقاء الموضوع في الاستصحاب وإن لم يكن مبنياً على الدقة العقلية بل على المسامحة العرفية ، ونظر العرف أوسع من لحاظ العقل في أكثر

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠٨.

١٥٣

الموارد ، إلاّأ نّه لا فرق بين العقل والعرف في المقام ، فالمتحرك إذا سكن ولو قليلاً لا يصدق عليه أنّه متحرك عرفاً ، لصدق الساكن عليه حينئذ ، ولا يمكن اجتماع عنواني الساكن والمتحرك في نظر العرف أيضاً ، وعليه فلو تحرك بعد السكون لا يقال عرفاً إنّه متحرك بحركة واحدة ، بل يقال إنّه متحرك بحركة اخرى غير الاولى ، فلو شككنا في الحركة بعد السكون لا يمكن جريان الاستصحاب ، لأنّ الحركة الاولى قد ارتفعت يقيناً ، والحركة الثانية مشكوكة الحدوث.

نعم ، قد يؤخذ في موضوع الحكم عنوان لايضر في صدقه السكون في الجملة كعنوان المسافر ، فانّ القعود لرفع التعب مثلاً بل النزول في المنازل غير قادح في صدق عنوان المسافر فضلاً عن السكون ساعة أو ساعتين ، فاذا شك في بقاء السفر لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه ولو بعد السكون ، بخلاف ما إذا اخذ عنوان الحركة في موضوع الحكم فانّه لا يجري الاستصحاب بعد السكون ، بل يجري فيه استصحاب السكون ، ويجري جميع ما ذكرناه من جريان الاستصحاب في الحركة ما لم يتخلل العدم وعدمه بعد السكون في مثل الجريان والسيلان ، فلا نحتاج إلى الاعادة.

بقي الكلام في جريان الاستصحاب في التكلم ، ولا يخفى أنّه يمتاز عمّا قبله بعد الاشتراك معه في كونه موجوداً غير قارّ بأ نّه ليست له وحدة حقيقية من جهة تخلل السكوت ولو بقدر التنفس في أثنائه لا محالة بحسب العادة ، نعم له الوحدة الاعتبارية ، فتعدّ عدّة من الجملات موجوداً واحداً باعتبار أنّها قصيدة واحدة أو سورة واحدة مثلاً ، وتكفي في جريان الاستصحاب الوحدة الاعتبارية ، فاذا شرع أحد بقراءة قصيدة مثلاً ، ثمّ شككنا في فراغه عنها لم يكن مانع من جريان استصحابها ، سواء كان الشك مستنداً إلى الشك في المقتضي كما إذا

١٥٤

كانت القصيدة مرددةً بين القصيرة والطويلة فلم يعلم أنّها كانت قصيرة فهي لم تبق أم هي طويلة فباقية ، أو كان الشك مستنداً إلى الشك في الرافع كما إذا علمنا بعدم تمامية القصيدة ولكن شككنا في حدوث مانع خارجي عن إتمامها ، وذلك لما ذكرناه (١) من عدم اختصاص حجية الاستصحاب بموارد الشك في الرافع.

وكذا الكلام في الصلاة فانّها وإن كانت مركبةً من أشياء مختلفة ، فبعضها من مقولة الكيف المسموع كالقراءة ، وبعضها من مقولة الوضع كالركوع وهكذا ، إلاّ أنّ لها وحدةً اعتباريةً ، فانّ الشارع قد اعتبر عدّة أشياء شيئاً واحداً وسمّاه بالصلاة ، فاذا شرع أحد في الصلاة وشككنا في الفراغ عنها ، لم يكن مانع من جريان استصحابها والحكم ببقائها ، سواء كان الشك في المقتضي كما إذا كان الشك في بقاء الصلاة لكون الصلاة مرددةً بين الثنائية والرباعية مثلاً ، أو كان الشك في الرافع كما إذا شككنا في بقائها لاحتمال حدوث قاطع كالرعاف مثلاً.

وأمّا القسم الثاني من الزماني : وهو ما يكون له الثبات في نفسه ولكنّه قيّد بالزمان في لسان الدليل كالامساك المقيد بالنهار ، فقد يكون الشك فيه من جهة الشبهة الموضوعية ، وقد يكون من جهة الشبهة الحكمية.

أمّا القسم الأوّل : فتارة يكون الفعل فيه مقيداً بعدم مجيء زمان كما إذا كان الامساك مقيداً بعدم غروب الشمس ، أو كان جواز الأكل والشرب في شهر رمضان مقيداً بعدم طلوع الفجر ، وعليه فلا إشكال في جريان الاستصحاب العدمي ، فباستصحاب عدم غروب الشمس يحكم بوجوب الامساك ، كما أنّه باستصحاب عدم طلوع الفجر يحكم بجواز الأكل والشرب. واخرى يكون

__________________

(١) في ص ٣٠ ـ ٣٥.

١٥٥

الفعل مقيداً في لسان الدليل بوجود الزمان لا بعدم ضدّه كما إذا كان الامساك مقيداً بالنهار وجواز الأكل والشرب مقيداً بالليل ، فيجري الاستصحاب في نفس الزمان على ما تقدّم (١).

وأمّا القسم الثاني : وهو ما كان الشك فيه في بقاء الحكم لشبهة حكمية ، فقد يكون الشك فيه لشبهة مفهومية كما إذا شككنا في أنّ الغروب الذي جعل غايةً لوجوب الامساك هل هو عبارة عن استتار القرص ، أو عن ذهاب الحمرة المشرقية ، وقد يكون الشك فيه لتعارض الأدلة كما في آخر وقت العشاءين لتردده بين انتصاف الليل كما هو المشهور أو طلوع الفجر كما ذهب إليه بعض ، مع الالتزام بحرمة التأخير عمداً عن نصف الليل.

وكيف كان ، فذهب الشيخ (٢) وتبعه جماعة ممن تأخر عنه منهم صاحب الكفاية (٣) قدس‌سره إلى أنّ الزمان إذا اخذ قيداً للفعل فلايجري الاستصحاب فيه ، وإذا اخذ ظرفاً فلا مانع من جريانه. ولكنّ المحقق النائيني (٤) قدس‌سره أنكر جريان الاستصحاب في كلا التقديرين ، لما اختاره سابقاً من عدم جريان الاستصحاب في الشك في المقتضي مع تفسيره بالشك في استعداد الشيء للبقاء في نفسه بلا حدوث شيء موجب لانعدامه. والشك في بقاء الليل والنهار من قبيل الشك في المقتضي بالمعنى المذكور ، فانّ الزمان المحدود كالليل والنهار مما يرتفع بنفسه بلا احتياج إلى وجود رافع.

__________________

(١) في ص ١٤٥ وما بعدها.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٦٤٨ و ٦٤٩.

(٣) كفاية الاصول : ٤٠٩.

(٤) أجود التقريرات ٤ : ١٠٩ و ١١٠.

١٥٦

وهذا الكلام صحيح لو تمّ المبنى المذكور ، لكنّه غير تام لما تقدّم (١) من أنّ أخبار الاستصحاب لاتختص بالشك في الرافع ، فلا مانع من جريان الاستصحاب من هذه الجهة.

نعم ، هنا جهة اخرى تقتضي عدم جريان الاستصحاب في أمثال المقام وهي أنّ الاهمال في مقام الثبوت غير معقول كما مرّ غير مرّة ، فالأمر بشيء إمّا أن يكون مطلقاً وإمّا أن يكون مقيداً بزمان خاص ولا تتصور الواسطة بينهما ، ومعنى كونه مقيداً بذلك الزمان الخاص عدم وجوبه بعده ، فأخذ الزمان ظرفاً للمأمور به ـ بحيث لا ينتفي المأمور به بانتفائه قبالاً لأخذه قيداً للمأمور به ـ مما لا يرجع إلى معنىً معقول ، فانّ الزمان بنفسه ظرف لا يحتاج إلى الجعل التشريعي ، فاذا اخذ زمان خاص في المأمور به فلا محالة يكون قيداً له ، فلا معنى للفرق بين كون الزمان قيداً أو ظرفاً ، فانّ أخذه ظرفاً ليس إلاّعبارة اخرى عن كونه قيداً ، فاذا شككنا في بقاء هذا الزمان وارتفاعه من جهة الشبهة المفهومية أو لتعارض الأدلة ، لايمكن جريان الاستصحاب لا الاستصحاب الحكمي ولا الموضوعي.

أمّا الاستصحاب الحكمي ، فلكونه مشروطاً باحراز بقاء الموضوع وهو مشكوك فيه على الفرض ، فانّ الوجوب تعلق بالامساك الواقع في النهار ، فمع الشك في بقاء النهار كيف يمكن استصحاب الوجوب ، فانّ موضوع القضية المتيقنة هو الامساك في النهار ، وموضوع القضية المشكوكة هو الامساك في جزء من الزمان يشك في كونه من النهار ، فيكون التمسك بقوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» لاثبات وجوب الامساك فيه تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية.

__________________

(١) في ص ٣٠ ـ ٣٥.

١٥٧

وأمّا الاستصحاب الموضوعي بمعنى الحكم ببقاء النهار ، فلأ نّه ليس لنا يقين وشك تعلقا بشيء واحد حتى نجري الاستصحاب فيه ، بل لنا يقينان : يقين باستتار القرص ويقين بعدم ذهاب الحمرة المشرقية ، فأيّ موضوع يشك في بقائه بعد العلم بحدوثه حتى يكون مجرىً للاستصحاب. فاذن لا شك لنا إلاّفي مفهوم اللفظ ، ومن الظاهر أنّه لا معنى لجريان الاستصحاب فيه.

ونظير المقام ما إذا شككنا في معنى العدالة وأ نّها عبارة عن ترك الكبائر فقط أو هو مع ترك الصغائر ، فاذا كان زيد عادلاً يقيناً فارتكب صغيرةً ، نشك في بقاء عدالته للشبهة المفهومية ، فلا معنى لجريان الاستصحاب الموضوعي ، لعدم الشك في شيء من الموضوع حتى يجري فيه الاستصحاب ، فانّ ارتكابه الصغيرة معلوم ، وارتكابه الكبيرة معلوم الانتفاء ، فليس هنا شيء يشك في بقائه ليجري فيه الاستصحاب. وقد صرّح الشيخ (١) قدس‌سره في بعض تحقيقاته بعدم جريان الاستصحاب الموضوعي في موارد الشبهة المفهومية.

وربّما يتوهّم في المقام جريان الاستصحاب في الغاية بوصف كونها غاية ، فانّ الغاية المجعولة الشرعية مشكوكة الحدوث والأصل عدم تحققها.

وفيه : أنّ استصحاب عدم تحقق الغاية بوصف كونها غايةً ليس إلاّعبارة اخرى عن استصحاب الحكم ، فان عدم الغاية بوصف كونها غايةً عبارة عن بقاء الحكم ، فاستصحابه هو استصحاب الحكم ، فيجري فيه الاشكال المتقدم ، هذا كلّه في الشبهة الحكمية مع كون الشك في الحكم ناشئاً من الشك في المفهوم أو من تعارض الأدلة.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٠٥ ولاحظ ٦٩٢.

١٥٨

وأمّا إذا كان الشك في الحكم ناشئاً من احتمال حدوث تكليف آخر مع اليقين بتحقق الغاية ، كما إذا علمنا بوجوب الجلوس إلى الزوال وعلمنا بتحقق الزوال ، وشككنا في وجوب الجلوس بعد الزوال لاحتمال حدوث تكليف جديد ، فقد يستفاد من طي كلام الشيخ (١) قدس‌سره عدم جريان استصحاب وجود التكليف فيه ، بل يجري فيه استصحاب عدم التكليف ، لأنّ الشك في حدوث تكليف جديد ، والأصل عدمه.

وأنكر المحقق النائيني (٢) قدس‌سره كلا الاستصحابين وقال : لا يجري استصحاب الوجود ولا استصحاب العدم ، بل لا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر من البراءة أو الاشتغال. أمّا عدم جريان استصحاب الوجود ، فلارتفاع التكليف السابق يقيناً ، فلو ثبت وجوبٌ بعد الغاية فهو تكليف آخر. وأمّا عدم جريان استصحاب العدم ، فلأ نّه إن اريد به استصحاب عدم المجعول ـ أي الحكم ـ فهو وإن كان معدوماً سابقاً إلاّأ نّه بعدم موضوعه ، ولا يجري الاستصحاب في العدم الأزلي الثابت عند عدم موضوعه المعبّر عنه بالعدم المحمولي ، وإنّما يجري في العدم المنتسب إلى المحمول بعد العلم بوجود موضوعه المعبّر عنه بالعدم النعتي. وإن اريد به استصحاب عدم الجعل ، حيث إنّ جعل وجوب الجلوس بعد الزوال مشكوك فيه والأصل عدمه ، فلا أثر لهذا الاستصحاب إلاّالحكم بعدم المجعول ، وإثبات عدم المجعول باستصحاب عدم الجعل يتوقف على القول بالأصل المثبت ، فانّ عدم المجعول من لوازم عدم الجعل.

وفيه : أنّه يمكن اختيار كل من الشقين : أمّا الشق الأوّل ، فلما عرفت في

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٤٨ و ٦٤٩.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ١١٢ و ١١٣ ، فوائد الاصول ٤ : ٤٤٥ ـ ٤٤٨.

١٥٩

بحث العام والخاص (١) من أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية. وأمّا الشق الثاني ، فلأ نّه لا فرق بين الجعل والمجعول إلاّبالاعتبار ، نظير الفرق بين الماهية والوجود أو الايجاد والوجود ، فلا يكون استصحاب عدم الجعل لاثبات عدم المجعول من الأصل المثبت في شيء.

فالتحقيق ما ذكره الشيخ قدس‌سره من جريان استصحاب عدم التكليف في المقام ، فلا تصل النوبة إلى البراءة أو الاشتغال.

بقي هنا شيء وهو أنّه لو كان الحكم مقيداً بالزمان ، وشككنا في بقاء الحكم بعد الغاية لاحتمال كون التقيد بالزمان من باب تعدد المطلوب ليبقى طلب الطبيعة بعد حصول الغاية ، فهل يجري فيه الاستصحاب أم لا؟

الظاهر جريانه مع الغض عما ذكرنا سابقاً (٢) من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية الإلهية ، والوجه في ذلك : أنّ تعلق طبيعي الوجوب بالجامع بين المطلق والمقيد معلوم على الفرض ، والتردد إنّما هو في أنّ الطلب متعلق بالمطلق وإيقاعه في الزمان الخاص مطلوب آخر ليكون الطلب باقياً بعد مضيه ، أو أنّه متعلق بالمقيد بالزمان الخاص ليكون مرتفعاً بمضيه ، وعليه فيجري فيه الاستصحاب ، ويكون من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي.

ومن ثمرات جريان هذا الاستصحاب تبعية القضاء للأداء وعدم الاحتياج إلى أمر جديد ، وليكن هذا نقضاً على المشهور حيث إنّهم قائلون بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلية ، وبجريان الاستصحاب في القسم الثاني من

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٣٦٠ وما بعدها.

(٢) في ص ٤٢ وما بعدها.

١٦٠