موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

خاتمة في الإجتهاد والتقليد

ونقتصر على بعض مباحثهما المهمة ، فنقول : قد عرّف الاجتهاد في كلام جماعة من العامة والخاصة باستفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي.

وهذا التعريف غلط ، لعدم جواز العمل بالظن ما لم يقم دليل على اعتباره ، وأمّا ما قام الدليل على اعتباره ، فيجب اتباعه سواء كان مفيداً للظن بالحكم الواقعي أم لا. إذن لا عبرة في الحجية بوجود الظن شخصاً ، بل ولا نوعاً كما في موارد الاصول العملية.

نعم ، يصح التعريف المذكور على اصول العامة من وجوب العمل بالظنون الحاصلة من الاستحسانات والاستقراء والقياس ونحوها ، ولعل التعريف المذكور أوجب استيحاش الأخباري عن جواز الاجتهاد وعدّه من البدع والمحرّمات ، وحينئذ استنكارهم في محله ، لحرمة العمل بالاجتهاد المذكور ، أي الظن بالحكم الشرعي.

والصحيح أن يعرّف الاجتهاد باستفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية أو تعيين الوظيفة عند عدم الوصول إليها. والاجتهاد بهذا المعنى مما لا مناص عن الالتزام به للأخباري والاصولي ، فلا وجه لاستيحاش الأخباري عنه ، غاية الأمر أنّه ينازع في حجية ما يراه الاصولي حجة ، وهو

٥٢١

لا يضرّ في الاتفاق على صحته بالمعنى الذي ذكرناه ، ولعل النزاع بين الأخباري والاصولي في صحة الاجتهاد وعدمها لفظي ، لما ذكرناه من أنّ استنكار الأخباري راجع إلى الاجتهاد بمعنى تحصيل الظن بالحكم الشرعي ، وإثبات الاصولي راجع إلى الاجتهاد بمعنى تحصيل الحجة القطعية على الأحكام الشرعية.

ثمّ إنّه لا يهمنا تحقيق مفهومه من حيث السعة والضيق بأن يقال : المراد منه تحصيل الحجة فعلاً ، أو ملكة تحصيل الحجة ولو لم تحصل بعد ، فانّه بعنوانه لم يقع موضوعاً لشيء من الأحكام الآتية في لسان الأدلة ، كما ستسمع إن شاء الله تعالى ، بل المهم هو البحث عن تلك الأحكام المترتبة على الاجتهاد ، فانّ سعتها وضيقها تابع للموضوع الذي رتّب عليه الحكم في الدليل.

فنقول : الأحكام التي يقع البحث عنها في المقام ثلاثة :

أحدها : جواز العمل بالاجتهاد وعدم جواز رجوع المتصف به إلى غيره.

ثانيها : جواز رجوع الغير إلى المجتهد وتقليده.

ثالثها : نفوذ قضاء المجتهد وحكمه.

أمّا جواز عمل المجتهد باجتهاده فلا إشكال فيه ، فانّ المفروض أنّه عالم بالحكم الواقعي وجداناً ، كما إذا ظفر في مقام الاستنباط بما يفيد العلم به ، أو عالم بقيام حجة شرعية عليه كما في موارد الطرق أو الاصول المثبتة للحكم ، أو عالم بأنّ الشارع جعل له حكماً ترخيصياً في مقام الظاهر ، كما في موارد الاصول الشرعية النافية للتكليف ، أو عالم بمعذوريته في مخالفة الحكم على تقدير وجوده واقعاً ، كما في موارد الطرق أو الاصول العقلية النافية ، ومع علمه بما ذكر كيف يمكن القول بعدم جواز العمل بعلمه ، مع أنّ حجية العلم ذاتية ، وهل يكون رجوعه إلى غيره إلاّمن قبيل رجوع العالم إلى الجاهل ، أو إلى مثله ، وهذا كله

٥٢٢

واضح بالنسبة إلى العالم بالفعل.

وأمّا الجاهل بالفعل المتمكن من استنباط الأحكام الشرعية ، فادعى شيخنا الأنصاري قدس‌سره في رسالته الخاصة بمباحث الاجتهاد والتقليد (١) قيام الاجماع على عدم جواز رجوعه إلى الغير ، وأنّ ما دلّ على جواز التقليد من الآية والرواية منصرف إلى الجاهل غير المتمكن من الاستنباط.

أقول : إن تم ما ذكره قدس‌سره من الاجماع ، أو قلنا بانصراف أدلة جواز التقليد والرجوع إلى العالم عن المتمكن من الاستنباط ، فالموضوع لعدم جواز الرجوع إلى الغير وإن كان هو المتمكن من استنباط الأحكام ، فيناسبه تعريف الاجتهاد بأ نّه ملكة يقتدر بها على تحصيل الحجة على الوظيفة الفعلية من الأحكام الواقعية أو الظاهرية ، إلاّأنّ هذا التعريف لا يناسب الحكمين الآخرين ، لما ستعرف من أنّهما مختصان بالعالم بالفعل.

فالصحيح تعريف الاجتهاد بأ نّه العلم بالأحكام الشرعية ـ الواقعية أو الظاهرية ـ أو بالوظيفة الفعلية عند عدم إحراز الحكم الشرعي من الأدلة التفصيلية ، وبهذا يتحد تعريف الاجتهاد مع تعريف الفقه ، غاية الأمر أنّه يلتزم بعدم جواز التقليد لبعض أفراد غير المجتهد أيضاً ، وهو المتمكن من الاستنباط إن تمّ الاجماع أو الانصراف المذكوران ، وإلاّ كان موضوع عدم جواز التقليد أيضاً هو العالم بالفعل.

وأمّا جواز رجوع الغير إليه فان تمت دلالة مثل قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢) وقوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ

__________________

(١) الاجتهاد والتقليد : ٥٧.

(٢) النحل ١٦ : ٤٣.

٥٢٣

طائِفَةٌ ...) إلخ (١) ومثل قوله عليه‌السلام «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه ...» إلخ (٢) على جواز التقليد ، فلا محالة يكون موضوعه هو العالم بعدّة من الأحكام ، بحيث يصدق عليه عنوان أهل الذكر والفقيه عرفاً ، ولا يضر في صدق العنوانين المذكورين عرفاً عدم استنباط الأحكام النادرة ، بل يكفي استنباط الأحكام التي تكون محلاً للابتلاء ، ولا يصدقان على المتمكن بلا استنباط فعلي ، فانّه لا يكون فقيهاً ولا من أهل الذكر عرفاً.

وأمّا لو لم تتم دلالتها وكان المدرك لجواز التقليد هو حكم العقل أو بناء العقلاء ، فسيأتي (٣) أنّ الموضوع فيه هو العالم بالحكم ، سواء صدق عليه عنوان الفقيه أم لم يصدق. والعالم لا يشمل المتمكن من العلم ، فانّه جاهل متمكن من تحصيل العلم لا عالم.

وأمّا نفوذ حكمه وقضائه ، فموضوعه العالم بجملة من الأحكام الشرعية المعتد بها عرفاً ، بحيث يصدق عليه عنوان العالم بالأحكام والناظر في الحلال والحرام.

وأمّا ما رواه الصدوق باسناده عن أحمد بن عائذ عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال : «قال أبو عبدالله جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام : إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً من قضايانا ، فاجعلوه بينكم ، فانّي قد جعلته قاضياً ، فتحاكموا

__________________

(١) التوبة ٩ : ١٢٢.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٣١ / أبواب صفات القاضي ب ١٠ ح ٢٠.

(٣) في ص ٥٣٨.

٥٢٤

إليه» (١) فهو دال على ما ذكرناه ، فانّ كلمة شيء مع التنكير وإن كانت ظاهرةً في القلة في غير المقام ، إلاّأ نّها كناية عن الكثرة في المقام ، باعتبار أنّه لوحظت قلته بالنسبة إلى علوم الأئمة عليهم‌السلام فلا بدّ من أن يكون كثيراً في نفسه ، وإلاّ لا يعدّ شيئاً من علومهم عليهم‌السلام فانّ علمهم عليهم‌السلام بمنزلة بحر محيط ، وشيء منه لا يكون إلاّكثيراً في نفسه كما هو المتعارف ، فانّه إذا قيل : عند فلان شيء من الثروة والمال ، يراد منه ما يكون كثيراً في نفسه ، فانّه قليل بالنسبة إلى مجموع الأموال والثروة الموجودة في الدنيا ، ولعل السر في هذا التعبير هو الاشارة إلى كثرة علمهم عليهم‌السلام ، بحيث يكون علم غيرهم بالنسبة إلى علمهم عليهم‌السلام كالقطرة من البحر.

ثمّ إنّه ظهر مما ذكرناه عدم جواز تقليد من عرف الأحكام من غير الأدلة المقررة كالرمل والجفر ونحوهما ، وأ نّه لا اعتبار بقضائه ، ولو فرض كونه معذوراً في تحصيلها منها لقصوره ، والوجه في ذلك : أنّ الأئمة عليهم‌السلام أمروا بالرجوع إلى رواة أحاديثهم ، ونهوا عن الاعتماد على غيرهم ، وقيّدوه بكون الراوي ناظراً في الحلال والحرام ، الظاهر في اعتبار كونه من أهل النظر والاستنباط في صحة الرجوع إليه ، كما في مقبولة عمر بن حنظلة ، مضافاً إلى أنّ راوي الأحاديث باعتبار نقله ألفاظها لا يسمى من أهل الذكر ، بل صدق هذا العنوان كعنوان الفقيه يتوقف على استنباط الأحكام منها.

ومن هنا يظهر عدم جواز تقليد من يرى حجية الظن من جهة انسداد باب العلم والعلمي ، أمّا على الحكومة فظاهر ، لأنّه لايكون عالماً بالأحكام الشرعية ، غاية الأمر كونه معذوراً في عمل نفسه مع عدم التقصير في المقدمات. مضافاً

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٣ / أبواب صفات القاضي ب ١ ح ٥.

٥٢٥

إلى أنّ حجية الظن مختصة بمن تمت في حقه مقدمات الانسداد ومنها عدم جواز التقليد ، وهذه المقدمة لا تتم في حق العامي المتمكن من الرجوع إلى المجتهد الانفتاحي. وأمّا على الكشف فلأ نّه وإن كان عالماً بجملة من الأحكام الشرعية الظاهرية ، إلاّأنّ حجية الظن مختصة بمن تمت في حقه مقدمات الانسداد ، وقد عرفت عدم تماميتها في حق العامي المتمكن من الرجوع إلى المجتهد الانفتاحي.

إن قلت : إنّ المجتهد الانفتاحي يتمسك عند فقدان الطرق والاصول الشرعية بالاصول العقلية ، ومن الظاهر أنّه في موارد التمسك بها لا علم له بالحكم الواقعي ولا بالحكم الظاهري ، فيلزم مما ذكر أن يكون الرجوع إليه فيها من قبيل رجوع الجاهل إلى مثله. مضافاً إلى أنّ موضوع تلك الاصول لا تتم في حق العامي المتمكن من الرجوع فيها إلى من يرى قيام الطرق أو الاصول الشرعية فيها ، بل لا يجوز رجوعه إليه في الموارد التي يتمسك فيها بالاصول الشرعية مع وجود من يرى قيام الطرق فيها ، فانّ موضوع البراءة الشرعية مثلاً في الشبهات الحكمية إنّما هو عدم التمكن من العلم بالحكم الواقعي ، ومن الظاهر أنّ فتوى من يدعي قيام الطرق في الموارد المذكورة علم به في حق العامي بعد الأخذ به ، فهو متمكن من العلم ، فلا يتم موضوع البراءة في حقه.

قلت : الرجوع إلى المجتهد في موارد الاصول العقلية ليس من جهة التقليد في الحكم الشرعي ، بل من جهة الرجوع إليه في تشخيص موضوع حكم العقل ، حيث إنّه من أهل خبرة ذلك ، فيرجع العامي إليه في تشخيص أنّ المورد الفلاني لم تقم فيه حجة على التكليف المحتمل ، ولم يثبت فيه حكم شرعي واقعي أو ظاهري ، فيستقل عقله بما استقل به عقل المجتهد بعينه. ولو فرض أنّه لم يكن أهلاً لادراك الأحكام العقلية المستقلة ، لم يكن مانع من الرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة أيضاً.

٥٢٦

وأمّا الاشكال على جواز الرجوع إليه في هذه الموارد ، بل في موارد الاصول الشرعية أيضاً من جهة تمكن العامي من الرجوع إلى من يرى قيام الدليل على الحكم الشرعي في هذه الموارد ، فهو غير صحيح على إطلاقه ، وإن كان صحيحاً في الجملة.

وتفصيل الكلام فيه : أنّ من يفتي بعدم وجوب شيء لعدم تمامية الحجة على الوجوب عنده ، إمّا أن يكون أعلم من غيره المفتي بالوجوب بزعم قيام الدليل عليه ، وإمّا أن لا يكون أعلم منه.

وعلى الأوّل لا يكون قول غيره حجة في حق العامي ليكون مانعاً من الرجوع إلى الحكم المستفاد من الأصل العملي ، والوجه في ذلك : ما سنبينه (١) إن شاء الله تعالى من أنّ دليل حجية الفتوى ـ أيّاً ما فرض غير السيرة العقلائية ـ لا يشمل المتعارضين ، فاذا ادعى أحد المجتهدين قيام الطريق على الوجوب ، وادعى الآخر عدم الدليل عليه فأفتى بعدم الوجوب ، كانت الأدلة الدالة على حجية الفتوى غير شاملة لشيء من الفتويين على ما تقدم سابقاً من أنّ مقتضى القاعدة هو سقوط المتعارضين (٢) ، وأمّا السيرة فهي قائمة على لزوم الرجوع إلى الأعلم على ما نبينه قريباً إن شاء الله تعالى.

وكيف كان ، فلا تكون فتوى غير الأعلم مانعة من الرجوع إلى ما ثبت من الاصول العملية ما لم تثبت حجيتها كما هو المفروض.

وعلى الثاني فامّا أن يكون العامي عالماً بفتوى القائل بالوجوب مثلاً أو

__________________

(١) في ص ٥٤٣.

(٢) راجع ص ٤٤٠ ـ ٤٤١.

٥٢٧

يكون جاهلاً بها. وعلى الثاني فالأمر كما ذكرناه ، ضرورة أنّ الفتوى بالوجوب حينئذ لا تكون حجة في حقه مع عدم وجوب الفحص عنها في حقه على ما سنبينه (١) إن شاء الله تعالى ، فلا مانع من الأخذ بفتوى من يقول بعدم الوجوب اعتماداً على الأصل العملي ، فانّ موضوع الأصل وهو عدم قيام الحجة على الحكم موجود في حق العامي أيضاً وجداناً ، ولا يقاس ذلك بموارد تمكن المجتهد من الوصول إلى الحجة في الشبهات الحكمية ، حيث لا يجوز له الرجوع إلى الأصل العملي فيها ، فانّ موضوع الأصل عدم قيام الحجة على التكليف ، وهو غير محرز قبل الفحص ، فانّ الحجة حجة بوجودها الواقعي لا بوصولها إلى المكلف ، وأين هذا من محل الكلام الذي فرض فيه عدم حجية فتوى القائل بالوجوب مثلاً قبل وصولها إلى العامي. وأمّا على الأوّل وهو ما إذا وصل إلى العامي فتوى القائل بالوجوب مثلاً ، فالصحيح في مورده عدم جواز الرجوع إلى من يرى عدم الوجوب ، لمعارضتها بفتوى من يقول بالوجوب ، فلا بدّ من الاحتياط ، لكون الشبهة حكمية. ولا مجرى للأصل في موردها قبل الفحص ، والمفروض أنّ العامي عاجز عنه.

نعم ، لو تم ما ذكره شيخنا الأنصاري (٢) قدس‌سره من الاجماع على عدم وجوب الاحتياط على العامي ، صح الرجوع إلى فتوى من يقول بعدم الوجوب ، ويكون الاجماع حينئذ هو الدليل في المسألة وإن كان على خلاف القاعدة ، وانتظر تمام الكلام في محلّه (٣) إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) في ص ٥٤٦.

(٢) الاجتهاد والتقليد : ٥٠.

(٣) في ص ٥٤٦ ـ ٥٤٧.

٥٢٨

الكلام في التجزّي

ويقع البحث فيه في مقامين : الأوّل : في إمكانه. الثاني : في حكمه.

أمّا المقام الأوّل : فقد ذهب جماعة إلى استحالته ، بدعوى أنّ ملكة الاستنباط أمر بسيط وحداني ، والبسيط لا يتجزى ، فان وجدت فهو الاجتهاد المطلق ، وإلاّ فلا اجتهاد أصلاً. وكذا الأمر لو كان الاجتهاد عبارة عن نفس الاستنباط لا ملكته ، فانّه أيضاً بسيط غير قابل للتبعيض. وذهب الأكثر إلى إمكانه ، بل ذهب بعضهم إلى وجوبه كصاحب الكفاية قدس‌سره (١) بدعوى أنّ الوصول إلى المرتبة العالية ـ وهو الاجتهاد المطلق ـ يتوقف على طي المراتب النازلة على التدريج ، لبطلان الطفرة.

والتحقيق ما عليه الأكثر من إمكانه لا الامتناع ولا الوجوب ، فانّ المراد من التجزي هو التبعيض في أفراد الكلي لا التبعيض في أجزاء الكل ، إذ كما أنّ كل حكم من الأحكام الشرعية في مورد مغاير للأحكام الاخر في موارد اخر ، فكذلك استنباطه مغاير لاستنباطها ، فملكة استنباط هذه المسألة فرد من الملكة ، وملكة استنباط تلك المسألة فرد آخر منها وهكذا. وبساطة الملكة أو الاستنباط لا تنافي التجزي بهذا المعنى كما هو ظاهر ، وحيث إنّ مدارك الأحكام مختلفة جداً ، فربّ حكم يبتني استنباطه على مقدمات كثيرة فيصعب استنباطه ، وربّ حكم لا يبتني استنباطه إلاّعلى مقدمة واحدة فيسهل استنباطه ، ومع ذلك كيف يمكن أن يقال : إنّ القدرة على استنباط حكم واحد لا تكون إلاّمع القدرة على استنباط جميع الأحكام.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٦٧.

٥٢٩

وبالجملة : حصول فرد من الملكة دون فرد آخر منها بمكان واضح من الامكان ولا يحتاج تصديقه إلى أكثر من تصوره. ولعل القائل بالاستحالة لم يتصور المراد من التجزي في المقام ، واشتبه تبعيض أفراد الكلي بتبعيض أجزاء الكل ، فانّ الثاني هو الذي تنافيه البساطة ، ولا دخل له بالمقام.

وظهر بما ذكرناه فساد ما في الكفاية من وجوب التجزي ، لعدم إمكان حصول الاجتهاد المطلق دفعة لبطلان الطفرة ، وذلك لأنّ الأفراد كلها في عرض واحد ، ولا يكون بعضها مقدّمة لبعض آخر حتى يتوقف الوصول إلى المرتبة العالية على طي المراتب النازلة ، فلا مانع عقلاً من حصوله دفعة وبلا تدريج ـ ولو بنحو الاعجاز من نبي أو إمام عليه‌السلام ـ إلاّأن يكون مراده الاستحالة العادية لا العقلية ، فانّه لا يمكن عادةً حصول الاجتهاد المطلق دفعة ، بل هو متوقف على التدرج شيئاً فشيئاً ، لا أنّ حصول الجميع دفعة من المحالات العقلية كاجتماع الضدين مثلاً ، فإن كان مراده هذا فهو صحيح ، لكنّه خلاف ظاهر كلامه من الاستدلال بلزوم الطفرة ، فانّ ظاهره الاستحالة العقلية.

وأمّا المقام الثاني : وهو البحث عن حكمه ، فيقع الكلام تارةً في جواز عمله بفتواه في الموارد التي استنبط الحكم فيها. واخرى في جواز رجوع الغير إليه في الموارد المذكورة. وثالثةً في نفوذ قضائه وحكمه في المرافعات.

فنقول : أمّا جواز عمله بفتواه ، فهو مما لاينبغي الاشكال فيه ، فانّه بالاضافة إلى ما استنبطه من الحكم عالم فلا تشمله أدلة جواز التقليد ، فان قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ»)(١) والسيرة العقلائية وغيرهما إنّما يدلان على لزوم رجوع الجاهل إلى العالم لا رجوع العالم إلى مثله.

__________________

(١) النحل ١٦ : ٤٣.

٥٣٠

وأمّا رجوع الغير إليه ، فالظاهر عدم جوازه ، والوجه فيه : أنّ السيرة العقلائية وإن كانت تقتضي جواز الرجوع إليه ، فانّ العقلاء لا يفرّقون في الرجوع إلى أهل الخبرة بين من يكون له خبرة في غير الأمر المرجوع فيه ، ومن لا يكون له خبرة فيه ، فالطبيب الحاذق في مرض العين يرجع إليه في معالجة مرض العين وإن لم يكن له خبرة في أمراض القلب والمعدة وأمثالهما ، ولكن مجرد قيام السيرة لا يفيد ما لم تقع مورد إمضاء من الشارع ، وقد ذكرنا أنّ الموضوع في أدلة الامضاء إنّما هو العارف بالأحكام والفقيه وأهل الذكر ، ومن الظاهر عدم صدق هذه العناوين إلاّعلى العالم بجملة من الأحكام الشرعية المعتد بها ، فلا تشمل المتجزي. وتوهم أن قوله عليه‌السلام : مَن عرف شيئاً من قضايانا ... شامل للمتجزي ، مندفع بما ذكرناه سابقاً (١) فلا نعيد.

ومن هنا يظهر الوجه في عدم نفوذ قضائه أيضاً.

الكلام فيما يتوقف عليه الاجتهاد

وهو معرفة العلوم العربية : من النحو والصرف واللغة في الجملة ، أي بمقدار يتوقف عليه فهم المعنى من الكتاب والسنّة. ومعرفة الزائد على ذلك كبعض المباحث الدقيقة الصرفية أو النحوية وكيفية الاعلال مجرد فضل ، ولا يعتبر في تحقق الاجتهاد.

وأمّا علم الرجال ، فان قلنا بأنّ الملاك في جواز العمل بالرواية هو

__________________

(١) في ص ٥٢٤.

٥٣١

الاطمئنان بصدورها عن المعصوم عليه‌السلام وأ نّه يحصل بعمل المشهور بها وإن كانت رواتها غير موثوق بهم ، وأنّ إعراضهم عنها يوجب الاطمئنان بعدم صدورها وإن كانت رواتها موثوقاً بهم ، فتقلّ الحاجة إلى علم الرجال ، إذ بناءً عليه يكون الملاك في جواز العمل بالرواية وعدمه هو عمل المشهور بها وعدمه ، فانّ عمل الأصحاب بالرواية وعدمه يظهر من نفس كتب الفقه بلا حاجة إلى علم الرجال. نعم ، في الموارد التي لم يحرز عمل المشهور بالرواية ولا إعراضهم عنها ، كما إذا كانت المسألة غير معنونة في كلامهم ، لا بدّ في العمل بها من معرفة رواة الحديث ليحصل الاطمئنان بوثاقتهم.

وأمّا إن قلنا بأنّ الملاك في جواز العمل بالرواية إنّما هو ثبوت وثاقة رواتها ، وأ نّه لا عبرة بعمل المشهور بها أو إعراضهم عنها ، فحينئذ تكثر الحاجة إلى علم الرجال واستعلام حال الرواة من حيث الوثاقة وعدمها ، وقد بيّنا صحة القول الثاني عند التكلم في حجية أخبار الآحاد.

وأمّا علم الاصول فتوقف الاستنباط عليه أوضح من أن يخفى ، ضرورة أنّه لا بدّ في استنباط الأحكام من الكتاب والسنّة من معرفة المباحث الاصولية : من بحث الأوامر والنواهي والعموم والخصوص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين ، ومباحث الحجج والاصول العقلية والشرعية والتعادل والترجيح ، وقد أوضحنا ذلك كله عند التعرض لتعريف علم الاصول ، ولا بدّ من تنقيح كل ذلك بالنظر والاجتهاد لا بالتقليد ، وإلاّ لا يصدق عليه عنوان العارف والفقيه.

٥٣٢

الكلام في التخطئة والتصويب

لا خلاف في وقوع الخطأ في الأحكام العقلية ، وأنّ من حكم بما يدعي استقلال عقله به قد يصيب الواقع وقد لا يصيبه ، سواء كان من المسائل العقلية المحضة التي لا مساس لها بالأحكام الشرعية ، كمسألة إعادة المعدوم التي ذهب جماعة إلى إمكانها واخرى إلى امتناعها ، أو كان من المسائل العقلية التي لها دخل في الأحكام الشرعية ، كمسألة جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه ، فانّ التصويب في الأحكام العقلية مطلقاً مستحيل ، بداهة أنّ القائل بامكان إعادة المعدوم والقائل بامتناعه ، وكذا القائل بجواز اجتماع الأمر والنهي والقائل بامتناعه ، لو كانا مصيبين للواقع ، للزم كون شيء واحد ممكناً وممتنعاً.

وأمّا الأحكام الشرعية فقد نسب القول بالتصويب فيها إلى العامة ، بمعنى أنّ لله سبحانه أحكاماً عديدة في موضوع واحد بحسب اختلاف آراء المجتهدين ، فكل حكم أدى إليه نظر المجتهد ورأيه ، فهو الحكم الواقعي في حقه ، ويكفي في بطلان هذا القول ـ مضافاً إلى الاجماع والأخبار الكثيرة (١) الدالة على أنّ لله حكماً في كل واقعة يشترك فيه العالم والجاهل ـ نفس إطلاقات أدلة الأحكام ، فان مقتضى إطلاق ما يدل على وجوب شيء أو حرمته ثبوته في حق من قامت عنده الأمارة على الخلاف أيضاً.

وتوهم أنّه بعد العلم بحجية ما دل على خلاف الحكم الواقعي من الطرق

__________________

(١) [لعلّه قدس‌سره يشير إلى أخبار الاحتياط وأخبار وجوب التعلم وجوباً طريقياً ونحو ذلك مما يدل على الاشتراك بالالتزام كما في المحاضرات ٢ : ٨٧].

٥٣٣

والأمارات لا بدّ من رفع اليد عن تلك الاطلاقات ، وإلاّ لزم اجتماع الضدين أو المثلين ، وتفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة ، مدفوع بما ذكرناه في بحث حجية الظن (١) من أنّ المحاذير التي ذكرت لاثبات التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري لا يتم شيء منها ، فراجع.

نعم ، لا يتصور الخطأ في الأحكام الظاهرية ، فلا بدّ من الالتزام بالتصويب فيها ، إذ كل مجتهد عالم بوظيفته الفعلية ، وجهله إنّما هو بالاضافة إلى الحكم الواقعي ، ولذا أخذوا العلم في تعريف الفقه ، فعرّفوه بأ نّه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية.

إن قلت : ليس الأمر في الأحكام الظاهرية إلاّكما في الأحكام الواقعية ، ولا تكون آراء المجتهدين كلها في الحكم الظاهري مصيبة. ألا ترى أنّه لو بنى أحد المجتهدين في دوران الأمر بين المحذورين على أنّ الحكم الظاهري هو الأخذ بجانب الحرمة ، اعتماداً على ما يظهر من بعض الموارد من تقديم الشارع جانب الحرمة على جانب الوجوب ، وبنى الآخر على جريان البراءة الشرعية في كلا طرفي الوجوب والحرمة ، والتزم فيه بالتخيير ، فانّه لايكون المصيب إلاّأحدهما. وكذالو بنى أحدهما على حجية الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي وتمسك الآخر في تلك الموارد بغير الاستصحاب كالبراءة الشرعية ، فانّ الحكم الظاهري في الموارد المذكورة في حق كليهما إمّا مفاد الاستصحاب وإمّا مفاد البراءة.

نعم ، لو كان موضوع الحكم الظاهري في حق أحد المجتهدين فعلياً دون

__________________

(١) راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ١٠٥ وما بعدها.

٥٣٤

الآخر ، فالأمر كما ذكر ، فانّ الوظيفة الفعلية المقررة في الشرع في حق كل منهما غير ما في حق الآخر. وأمّا فيما إذا كان موضوعه فعلياً في حق كل منهما ، ولكن لم ير أحدهما ثبوت الحكم له كما ذكرناه في المثالين ، فلا محالة يكون أحدهما مخطئاً.

قلت : ليس المراد بالتصويب في الأحكام الظاهرية أنّه لا يمكن الخطأ من المجتهد بالاضافة إلى الحكم المجعول في حق الشاك ، فانّه كالحكم المجعول على ذوات الأفعال قد يصل إليه المجتهد وقد لا يصل ، بل المراد به أنّ اختلاف المجتهدين في الأحكام الظاهرية إنّما هو من جهة الاختلاف في موضوعاتها ، فكلٌ يعمل بما هو وظيفته بالفعل ، ولا يتصور فيه الخطأ من هذه الجهة فمن اعتقد أنّ أدلة البراءة الشرعية لا تشمل موارد دوران الأمر بين المحذورين ، لاعتقاده تقديم الشارع جانب الحرمة على جانب الوجوب ، لاتكون أدلة البراءة شاملة له ، لعدم موضوعها وهو الشك في الحكم ، فلو ارتكب الفعل ـ والحال هذه ـ يعاقب على مخالفته على تقدير ثبوت الحرمة في الواقع ، ويكون متجرياً على تقدير عدمها. وأمّا من لا يعتقد به ولم يقم عنده دليل على تقديم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب ، فلا محالة يكون شاكاً في الحكم الواقعي ، ومعه يرجع إلى البراءة بلا مانع.

وبذلك يظهر الحال في المثال الثاني وبقية الموارد ، فانّ من بنى على حجية الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي لم تكن أدلة البراءة معذّرةً له في العمل على خلاف يقينه السابق ، لعدم تحقق موضوعها في حقه ، وأمّا من ذهب إلى عدم حجيته في تلك الموارد فلا مانع له من الرجوع إلى البراءة ، لأنّه شاك في الحكم ولم تقم عنده حجة عليه على الفرض.

٥٣٥

الكلام في التقليد

ويقع الكلام أوّلاً في معناه. وثانياً في أحكامه. أمّا الكلام في تعريفه فهو أنّه عرّف بتعاريف ، منها : أنّه العمل بقول الغير. ومنها : أنّه الأخذ بفتوى الغير للعمل به. ومنها : أنّه الالتزام بالعمل بفتوى الغير وإن لم يعمل ، بل وإن لم يأخذ. وقد ذكر السيد (١) قدس‌سره في العروة أنّه يكفي في تحقق التقليد أخذ الرسالة والالتزام بالعمل بما فيها.

ولكنّ التحقيق أنّ التقليد في العرف باقٍ على معناه اللغوي ، وهو جعل الغير ذا قلادة ، ومنه التقليد في حج القران ، فانّ المحرم يجعل البعير ذا قلادة بنعل قد صلى فيه ، وفي حديثٍ : «الخلافة قلّدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً عليه‌السلام» (٢) أي جعل الخلافة قلادةً له عليه‌السلام فكأنّ العامي يجعل عمله قلادة للمجتهد كناية عن كونه هو المسؤول عنه ، وهو المؤاخذ بعمله لو قصّر في فتواه ، كما يفصح عن ذلك قولهم عليهم‌السلام في عدة روايات : «من أفتى بغير علم فعليه وزر من عمل به» (٣) وقوله عليه‌السلام في قضية ربيعة بعد افتائه ، وقول السائل : أهو في عنقك؟ هو في عنقه قال أو لم يقل ... إلخ (٤).

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ١٨ المسألة ٨.

(٢) كما في مجمع البحرين في مادة (قلّد).

(٣) الوسائل ٢٧ : ٢٠ / أبواب صفات القاضي ب ٤ ح ١ (باختلاف يسير).

(٤) نقل في الوسائل عن محمّد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عبدالرحمن بن الحجاج ، قال : كان أبو عبدالله عليه‌السلام قاعداً في حلقة ربيعة الرأي ، فجاء أعرابي فسأل ربيعة الرأي عن مسألة ، فأجابه ، فلما سكت ، قال له الأعرابي : أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يرد عليه شيئاً ، فأعاد المسألة عليه ، فأجابه بمثل ذلك ، فقال له الأعرابي : أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة ، فقال أبو عبدالله (عليه‌السلام): «هو في عنقه ، قال أولم يقل ، وكل مفت ضامن» [الوسائل ٢٧ : ٢٢٠ / أبواب آداب القاضي ب ٧ ح ٢].

٥٣٦

وبالجملة : لمّا كان وزر عمل العامي على المفتي ، صح إطلاق التقليد على العمل بفتواه باعتبار أنّه قلادة له.

فالصحيح في تعريفه أن يقال : هو العمل استناداً إلى فتوى الغير. وما في الكفاية (١) ـ من أنّه لو كان عبارة عن نفس العمل بفتوى الغير ، لزم أن يكون العمل الأوّل بلا تقليد ، فانّه غير مسبوق بالعمل ـ لا وجه له ، فانّه لا دليل على سبق التقليد على العمل ، بل المعتبر أن لا يكون العمل بلا تقليد ، وهذا المعنى موجود في العمل الأوّل أيضاً ، فانّه عمل مستند إلى فتوى المجتهد.

وأمّا مسألة جواز البقاء على تقليد الميت وحرمة العدول عن تقليد الحي إلى الآخر ، فليست متفرعةً على أنّ معنى التقليد هو الالتزام بالعمل ، بأن يقال كما قيل : لو التزم بالعمل ولم يعمل فمات المجتهد لا يجوز البقاء على تقليده ، وكذالو التزم ولم يعمل يجوز العدول عنه إلى الآخر. وأمّا لو عمل يجوز البقاء في الأوّل ولا يجوز العدول في الثاني ، هذا إذا كان التقليد عبارة عن العمل. وأمّا لو كان عبارة عن الالتزام فيجوز البقاء في الأوّل ولا يجوز العدول في الثاني بعد الالتزام ولو لم يعمل ، وذلك لأنّ الحكم ـ في كل واحدة من المسألتين من حيث السعة والضيق ـ تابع للمدرك فيهما ، بلا فرق بين أن يكون التقليد عبارة عن

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٧٢.

٥٣٧

الالتزام أو العمل ، وسنتعرض للمسألتين عن قريب (١) إن شاء الله تعالى.

الكلام في أحكام التقليد

ويقع البحث عنها في مسائل :

المسألة الاولى : أنّه لا ينبغي الريب في جواز التقليد للعامي في الأحكام الشرعية العملية ، وتدل عليه السيرة العقلائية ، فانّها قد جرت على رجوع الجاهل إلى العالم في امورهم الراجعة إلى معادهم ومعاشهم ، بل هو أمر فطري يجده كل من راجع نفسه وارتكازه ، وهذا كافٍ في إثبات الحكم بعد ما سنذكره من عدم ثبوت الردع عنه من قبل الشارع ، بل المعلوم امضاؤه ، للقطع بأ نّه لم تكن عادة السلف حتى في عصر المعصومين عليهم‌السلام إلاّعلى رجوع من لم يكن عارفاً بالأحكام الشرعية إلى العالم بها ، وقد قررهم الأئمة عليهم‌السلام على ذلك. وتدل على الامضاء ـ مضافاً إلى القطع به ـ الآيات والروايات.

أمّا الآيات فمنها قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢) ومنها قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ...)(٣) وتقييد جواز العمل بقول أهل الذكر المستفاد من آية السؤال بصورة حصول العلم بالواقع ، يدفعه الاطلاق ، وكذا الحال في آية النفر. وما ورد في بعض الروايات (٤) ـ من

__________________

(١) في ص ٤٦٤ وما بعدها.

(٢) النحل ١٦ : ٤٣.

(٣) التوبة ٩ : ١٢٢.

(٤) الوسائل ٢٧ : ٦٣ / أبواب صفات القاضي ب ٧ ح ٣ وغيره.

٥٣٨

تفسير أهل الذكر بالأئمة عليهم‌السلام أو بعلماء اليهود كما في بعضها الآخر ـ لا يضر بالاستدلال بالآية الشريفة للمقام ، لما ذكرناه في بحث حجية خبر الواحد (١) وفي مقدمات التفسير (٢) : من أنّ نزول الآية في مورد خاص لا يوجب اختصاصها به ، بمعنى أنّه لا يوجب انحصار المراد به ، فانّ القرآن يجري مجرى الشمس والقمر (٣) ، ولا يختص بمورد دون مورد ، كما دلت عليه الروايات الكثيرة ، وفي بعضها «إنّ القرآن لو نزل في قوم فماتوالمات القرآن» (٤) وهذه الروايات مذكورة في كتاب مرآة الأنوار المعروف بمقدمة تفسير البرهان ، فراجع.

وأمّا الروايات فكثيرة :

منها : قول الصادق عليه‌السلام لأبان بن تغلب : «اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس ، فانّي احب أن أرى في شيعتي مثلك» (٥) ومن الظاهر أنّ جواز الافتاء يلازم جواز العمل به عرفاً.

ومنها : الروايات الناهية عن الافتاء بغير علم (٦) ، وهي كثيرة ، فانّ المفهوم منها ولو بقرينة الحكمة جواز الافتاء عن علم ، وقد ذكرنا الآن أنّ جواز الافتاء يلازم جواز العمل به عرفاً ، ولا يقاس ذلك بالأمر باظهار الحق والنهي

__________________

(١) راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ٢٢٠.

(٢) البيان في تفسير القرآن : ٢٢.

(٣) مرآة الأنوار : ٥.

(٤) مرآة الأنوار : ٥.

(٥) رجال النجاشي : ١٠ / الترجمة رقم ٧.

(٦) الوسائل ٢٧ : ٢٠ / أبواب صفات القاضي ب ٤.

٥٣٩

عن كتمانه (١) كما لا يخفى.

ومنها : قول الرضا عليه‌السلام ـ بعد ما سأله [علي بن] المسيب الهمداني وقال : شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت ، فممن آخذ معالم ديني؟ ـ من زكريا ابن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا (٢).

ومنها : قوله عليه‌السلام أيضاً : «نعم» في جواب عبدالعزيز المهتدي حيث سأله عليه‌السلام وقال : إنّ شقتي بعيدة ، فلست أصل إليك في كل وقت ، فآخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين (٣)؟ ونحوها غيرها مما يدل على جواز رجوع الجاهل إلى العالم. نعم ، منع الأئمة عليهم‌السلام عن الرجوع إلى من كان دأبه في استنباط الأحكام الشرعية استعمال الاستحسانات والأقيسة ، وغيرهما من الظنون غير المعتبرة ، كما ذكرناه سابقاً.

وقد استدل على عدم جواز التقليد بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، وبما دل على التوبيخ على التقليد كقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا)(٤) ولكن قد ذكرنا في البحث عن حجية خبر الواحد (٥) أنّ ما دل على النهي عن اتباع غير العلم من الآيات والروايات لا يشمل العمل بما ثبت كونه حجة وعلماً في نظر الشارع.

__________________

(١) [اشارة إلى الاستدلال بآية الكتمان على حجية خبر الواحد وردّه ، راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ٢١٨ ـ ٢٢١].

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٤٦ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٢٧.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٤٨ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٣٥.

(٤) المائدة ٥ : ١٠٤.

(٥) راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ١٧٧.

٥٤٠