موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

لوقوعها ، وأنّ وقوعها في الصلاة موجب لكثرة ثوابها. وبهذا يفترق عن الدعاء المأثور في شهر رمضان ، فانّ الصوم وإن كان ظرفاً لوقوعه أيضاً ، إلاّأنّ الدعاء المذكور عبادة بنفسه ، ويترتب الثواب عليه ، كما يترتب على الصوم ، لا أنّه يوجب كثرة ثواب الصوم.

فتلخص بما ذكرناه : أنّ إطلاق الجزء على الامور المستحبة مسامحة في التعبير ، وليست بأجزاء حقيقة. ولا مجال لجريان قاعدة التجاوز عند الشك في جزء من المركب بعد الدخول في أمر مستحب ، كالشك في القراءة مع الدخول في القنوت ، وكذا الشك في التكبير بعد الدخول في الاستعاذة. ويعرف مما ذكرناه حكم جملة من الفروع التي ذكرها السيد قدس‌سره في العروة في الختام المتعلق بالعلم الاجمالي ، فراجع (١).

أمّا المقدمات ـ كما إذا شك في الركوع حال الهوي إلى السجود ، أو شك في السجود حال النهوض إلى القيام ـ فاختار بعضهم جريان قاعدة التجاوز في المقامين ، لشمول الغير للمقدمات أيضاً. وذهب جماعة منهم المحقق النائيني (٢) قدس‌سره إلى عدم جريانها في المقامين ، وهذا هو الصحيح.

أمّا مع قطع النظر عن النصوص الواردة في المقامين ، فلأن جريان القاعدة منوط بصدق التجاوز والخروج عن محل الشيء المشكوك فيه ، كما تقدم. ولا يصدق هذا المعنى عند الدخول في المقدمات ، لعدم كونها من الأجزاء ، إذ لم يدل دليل على كون الهوي أو النهوض معتبراً في الصلاة ، بل لا يعقل كونهما من الأجزاء وتعلق الأمر الضمني بهما ، إذ بعد الأمر بالسجود يكون الهوي حاصلاً

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ٦٤٩ و ٦٦١ / المسألة ١٦ و ٤٩.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢٢٦ ، فوائد الاصول ٤ : ٦٣٣ ـ ٦٣٤.

٣٦١

لا محالة ، لامتناع الطفرة. وعلى تقدير إمكانها في نفسها لا تكون مقدورةً للمكلف ، فيكون الأمر به لغواً. وكذا النهوض مما لا بدّ منه بعد الأمر بالقيام ، لامتناع الطفرة أو عدم كونها مقدورةً للمكلف ، فلا حاجة إلى الأمر به بعد الأمر بالقيام.

وأمّا مع ملاحظة النصوص ، فلما سيجيء قريباً إن شاء الله تعالى.

وفصّل صاحب المدارك (١) بين المقامين : فقال بجريان القاعدة في المقام الأوّل ، وعدمه في الثاني. واعترض عليه صاحب الحدائق (٢) بما حاصله : أنّ التفصيل بين المقامين كالجمع بين المتناقضين ، لأن لفظ الغير المذكور في الروايات الدالة على قاعدة التجاوز إن كان شاملاً للمقدمات ، فتجري القاعدة في المقامين ، وإلاّ فلا تجري فيهما.

والانصاف أنّ هذا الاعتراض مما لاينبغي صدوره من مثله ، إذ ليست قاعدة التجاوز من القواعد العقلية التي لا تكون قابلة للتخصيص كاستحالة اجتماع الضدين مثلاً ، بل من القواعد الشرعية التي تعميمها وتخصيصها بيد الشارع ، فله أن يخصصها بموردٍ دون مورد ، كما حكم بجريانها في الصلاة وبعدمه في الوضوء ، فلا بدّ من ملاحظة الدليل الذي أقامه صاحب المدارك للتفصيل المذكور ، وأ نّه وافٍ بالتفصيل أم لا.

فنقول : نظره في هذا التفصيل إلى روايتين : الاولى : رواية (٣) عبدالرحمن بن

__________________

(١) مدارك الأحكام ٤ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

(٢) الحدائق الناضرة ٩ : ١٧٧.

(٣) نقل في الوسائل عن محمّد بن الحسن عن سعد عن أحمد بن محمّد عن أحمد بن محمّد.

٣٦٢

أبي عبدالله الدالة على عدم جريان القاعدة ووجوب الاعتناء بالشك في المقام الثاني. الثانية : صحيحة عبدالرحمن (١) ، فادّعى دلالتها على جريانها في المقام الأوّل.

أمّا الرواية الاولى : فدلالتها على عدم الجريان في المقام الثاني واضحة. مضافاً إلى ما ذكرناه من أنّ عدم الجريان هو الصحيح ، مع قطع النظر عن النص الخاص.

وأمّا الثانية : فأجاب عنها المحقق النائيني قدس‌سره (٢) بأ نّها مطلقة من حيث الوصول إلى السجود وعدمه ، وتكون موثقة إسماعيل بن جابر المتقدمة (٣) مقيدة لاطلاقها ، فانّ المذكور في الموثقة هكذا : «إن شك في الركوع بعد ما سجد فليمض ...» إلخ.

__________________

ابن أبي نصر عن أبان بن عثمان عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله «قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : رجل رفع رأسه من السجود فشك قبل أن يستوي جالساً ، فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال عليه‌السلام : يسجد ، قلت : فرجل أنهض من سجوده فشك قبل أن يستوي قائماً فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال عليه‌السلام : يسجد» [الوسائل ٦ : ٣٦٩ / أبواب السجود ب ١٥ ح ٦].

(١) نقل في الوسائل عن محمّد بن الحسن عن أبي جعفر عن أحمد بن محمّد ابن أبي نصر عن أبان بن عثمان عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله «قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال عليه‌السلام : قد ركع» [الوسائل ٦ : ٣١٨ / أبواب الركوع ب ١٣ ح ٦].

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢٢٧ ، فوائد الاصول ٤ : ٦٣٦.

(٣) في ص ٣٣٢.

٣٦٣

وفيه : أنّ الموثقة غير صالحة لتقييد الصحيحة ، أمّا من حيث المنطوق فواضح ، إذ لا منافاة بين الحكم بعدم الاعتناء بالشك في الركوع بعد الدخول في السجود ، وبين الحكم بعدم الاعتناء بالشك في الركوع بعد الهوي إلى السجود مطلقاً سواء وصل إلى السجود أم لا.

وأمّا من حيث المفهوم ، فلأن مفهوم الشرط في قوله عليه‌السلام : «إن شك في الركوع بعد ما سجد» إن لم يشك في الركوع بعد ما سجد ، فيكون الحكم في المفهوم منتفياً بانتفاء الموضوع وهو الشك. نعم ، لو كانت عبارة الموثقة هكذا : إن كان الشك في الركوع بعد ما سجد فليمض ... ، كان مفهومها : إن لم يكن الشك في الركوع بعد ما سجد ، بل كان الشك في الركوع قبل ما سجد فلا يمض ، إذ الشك مفروض الوجود في المنطوق والمفهوم ، فيكون مفهوم الموثقة مقيداً لاطلاق الصحيحة ، وقد تقدّم (١) نظير هذا الكلام في البحث عن الاستدلال بمفهوم آية النبأ لحجية خبر العادل من أنّ مفهوم قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ...)(٢) إن لم يجئ فاسق بنبأ ، فيكون خبر العادل خارجاً عن المفهوم. نعم ، لو كان النبأ مفروض الوجود في المنطوق والمفهوم ، كما إذا كان المنطوق هكذا : إنّ النبأ إن كان الجائي به فاسقاً فتبيّنوا ، كان مفهومه أنّ النبأ إن لم يكن الجائي به فاسقاً لا يجب التبين ، فيدل المفهوم على حجية خبر العادل ، والمقام من هذا القبيل بعينه.

والصحيح في الجواب عن الصحيحة أن يقال : إنّ دلالتها غير تامة على المدعى في نفسها ، وهو جريان قاعدة التجاوز في الشك في الركوع بعد الدخول

__________________

(١) في الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ١٨٧ ـ ١٩٠.

(٢) الحجرات ٤٩ : ٦.

٣٦٤

في الهوي مع عدم الوصول إلى السجود ، وذلك لأنّ التعبير في الصحيحة إنّما هو «أهوى إلى السجود» بلفظ الماضي ، ومفاده تحقق الهوي إلى السجود ، فيكون موردها الشك في الركوع بعد الوصول إلى السجود ، فلا تدل على جريان القاعدة وعدم الاعتناء بالشك في الركوع حال الهوي ولو لم يصل إلى السجود. نعم ، لو كان التعبير يهوي إلى السجود بلفظ المضارع ، كان مفاده المعنى المذكور.

ومراجعة الاستعمالات العرفية تشهد بما ذكرناه من الفرق بين الماضي والمضارع ، فان معنى قولنا : زيد يصلي ، أنّه مشغول بالصلاة ولم يفرغ منها بعد ، بخلاف قولنا : زيد صلى ، فان مفاده تحقق الصلاة والفراغ منها. وعلى تقدير عدم ظهور الصحيحة فيما ذكرناه من المعنى ، لا أقل من احتماله الموجب لاجمالها ، فلا تكون قابلة للاستدلال بها للمقام.

فتحصّل مما ذكرناه : أنّ الصحيح عدم جريان قاعدة التجاوز في المقامين ، ولو مع ملاحظة النصوص.

فرع

لو قام عن الانحناء وشك في أنّه وصل إلى حدّ الركوع الشرعي فقام أم لا؟ ذهب صاحب الحدائق (١) إلى عدم جريان قاعدة التجاوز للنصوص (٢)

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٩ : ١٩١ ـ ١٩٢.

(٢) نقل في الوسائل عن محمّد بن الحسن باسناده عن الحسين بن سعيد عن فضالة عن حماد عن عمران الحلبي قال «قلت : الرجل يشك وهو قائم فلا يدري أركع أم لا؟

٣٦٥

الدالة على وجوب الاتيان بالركوع عند الشك فيه حال القيام.

ولكنّ التحقيق جريانها ، إذ القيام الذي بعد الركوع جزء للصلاة بلا إشكال ، ويكون محل الركوع قبله بحسب الجعل الشرعي ، ومحله بعد الركوع كذلك ، فيكون الشك المذكور شكاً في الركوع بعد التجاوز عن محله والدخول في الغير ، فلا مانع من جريان قاعدة التجاوز. مضافاً إلى ورود نص خاص في المقام ، وهو صحيحة فضيل بن يسار (١).

وأمّا رواية عمران الحلبي ونحوها مما تدل على وجوب الاتيان بالركوع عند الشك فيه حال القيام ، فهي أجنبية عن المقام ، إذ موردها الشك في الركوع حال القيام مع عدم العلم بأنّ القيام هو القيام بعد الركوع أو القيام قبله ، فلم يحرز التجاوز عن المحل حتى تجري قاعدة التجاوز ، وهذا بخلاف المقام فانّه يدري أنّ القيام إنّما هو بعد الانحناء ، ولكن لا يدري أنّه وصل إلى حد الركوع فقام أم لا ، فيكون شكه بعد تجاوز المحل على ما ذكرناه ، فلا مانع من جريان القاعدة.

__________________

قال عليه‌السلام : فليركع».

ونقل أيضاً عنه وعن فضالة عن حسين ومحمّد بن سنان جميعاً عن ابن مسكان عن أبي بصير قال : «سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن رجل شك وهو قائم ، فلا يدري أركع أم لم يركع؟ قال عليه‌السلام : يركع ويسجد» [الوسائل ٦ : ٣١٥ ـ ٣١٦ / أبواب الركوع ب ١٢ ح ١ و ٢].

(١) نقل في الوسائل عن محمّد بن الحسن عن فضالة عن أبان عن الفضيل بن يسار ، قال «قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : أستتم قائماً ولم أدر أركعت أم لا؟ قال عليه‌السلام : بلى قد ركعت ...» إلخ [الوسائل ٦ : ٣١٧ / أبواب الركوع ب ١٣ ح ٣].

٣٦٦

الأمر الرابع : هل يشترط جريان قاعدة الفراغ والتجاوز بعدم العلم بالغفلة حين العمل ليكون احتمال الفساد من جهة احتمال الغفلة ، واحتمال الصحة لاحتمال عدم الغفلة ، أم تجري حتى مع العلم بالغفلة حين العمل ، فيكون احتمال الصحة من جهة احتمال مصادفة الواقع من باب الاتفاق؟

ذهب جماعة منهم المحقق النائيني قدس‌سره (١) إلى الثاني ، لاطلاق النصوص ، كقوله عليه‌السلام في موثقة ابن بكير : «كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو» (٢).

والتحقيق هو الأوّل ، لعدم إطلاق في النصوص من هذه الجهة ، لما ذكرناه سابقاً (٣) من أنّ قاعدة الفراغ والتجاوز ليستا من القواعد التعبدية ، بل من الامور الارتكازية العقلائية ، فان سيرة العقلاء جارية على عدم الاعتناء بالشك في العمل بعد وقوعه ، باعتبار أنّ الغالب عدم وقوع الغفلة حين الاشتغال بالعمل ، فيكون مرجع قاعدة الفراغ إلى أصالة عدم الغفلة الكاشفة نوعاً عن صحة العمل ، فلا مجال لجريانها مع العلم بالغفلة. وقد ذكرنا سابقاً أنّ الأدلة الشرعية وافية بهذا المعنى ، ولذا استظهرنا منها كون القاعدة من الأمارات لا من الاصول التعبدية.

وعلى تقدير تسليم الاطلاق للنصوص يكون التعليل الوارد في بعض الأدلة مقيداً له ، وهو قوله عليه‌السلام : «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك» (٤)

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢٣٨ ـ ٢٣٩ ، فوائد الاصول ٤ : ٦٥٠.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٣ ح ٣.

(٣) في أوّل البحث ص ٣١٥.

(٤) الوسائل ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٧.

٣٦٧

وقوله عليه‌السلام : «وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك» (١) فان مقتضى هذا التعليل هو الاقتصار على موارد يكون المكلف فيها أذكر وأقرب إلى الواقع حين العمل منه حين الشك ، فلا مجال لجريانها مع العلم بالغفلة حين العمل ، لعدم كونه أذكر حين العمل مع الغفلة ، كما هو ظاهر.

وأجاب المحقق النائيني قدس‌سره عن هذا التعليل بأ نّه من قبيل الحكمة لا من قبيل العلة ، فلا يكون الحكم دائراً مدار وجوده.

وفيه : أنّ الميزان في الحكمة والعلة هو فهم العرف ، ففي كل مورد فهم العرف من الكلام دوران الحكم مدار التعليل فهو علة ، وإلاّ فهو حكمة ، ولا ينبغي الاشكال في أنّ المستفاد من التعليل المذكور عرفاً كون عدم الاعتناء بالشك دائراً مدار كونه أذكر ، لما ذكرناه من كونه ناظراً إلى أصالة عدم الغفلة الكاشفة نوعاً عن الواقع.

ومما يتوهّم دلالته على جريان قاعدة الفراغ حتى مع العلم بالغفلة والنسيان حال العمل : الخبر المذكور في الوسائل (٢) ، ومضمونه لزوم تحويل الخاتم في الغسل وإدارته في الوضوء ، وفي ذيله : «فإن نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة» فيدعى أنّ مفاده جريان قاعدة الفراغ ، مع علم المكلف

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٤٦ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٧ ح ٣.

(٢) نقل في الوسائل عن محمّد بن يعقوب عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد عن علي بن الحكم عن الحسين بن أبي العلاء ، قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الخاتم إذا اغتسلت ، قال عليه‌السلام : حوّله من مكانه. وقال عليه‌السلام : في الوضوء تديره ، فان نسيت حتى تقوم في الصلاة ، فلا آمرك أن تعيد الصلاة» [الوسائل ١ : ٤٦٨ / أبواب الوضوء ب ٤١ ح ٢].

٣٦٨

بكونه ناسياً حين العمل.

ولكنّ الظاهر عدم دلالة الخبر على المدعى ، إذ ليس فيه ما يدل على أنّ السؤال إنّما كان من جهة الشك في وصول الماء ، وأنّ الحكم بالتحويل والادارة إنّما كان من هذه الجهة ، بل ظاهره كون التحويل في الغسل والادارة في الوضوء مطلوباً في نفسه ، لا لرفع الشك في وصول الماء ، وإلاّ لم يكن لذكر خصوص التحويل في الغسل والادارة في الوضوء وجه ، لكفاية العكس أيضاً في إيصال الماء ، بل يكفي كل واحد من التحويل والادارة فيهما ، فاعتبار هذه الخصوصية يشهد بكونهما مطلوبين في نفسهما ، غاية الأمر أنّه علم من الخارج عدم وجوبهما في الغسل والوضوء ، بل نفس هذا الخبر يدل على عدم وجوبهما ، فان مفاد قوله عليه‌السلام : «فان نسيت فلا آمرك أن تعيد الصلاة» أنّهما ليسا شرطاً لصحة الغسل والوضوء ، بل من الامور الراجحة المستحبة ، فليس الخبر المذكور راجعاً إلى الشك في وصول الماء ، فاذا شك في وصول الماء يجب تحصيل العلم بوصوله بنزع الخاتم أو تحريكه ، على ما هو مذكور في خبر علي بن جعفر (١).

__________________

(١) نقل في الوسائل عن محمّد بن يعقوب عن محمّد بن يحيى عن العمركي عن علي بن جعفر عليه‌السلام عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام قال «سألته عن المرأة عليها السوار والدملج في بعض ذراعها لا تدري يجري الماء تحته أم لا كيف تصنع إذا توضأت أو اغتسلت؟ قال عليه‌السلام : تحرّكه حتى يدخل الماء تحته أو تنزعه. وعن الخاتم الضيّق لا يدري هل يجري الماء تحته إذا توضأ أم لا كيف يصنع؟ قال عليه‌السلام : إن علم أنّ الماء لا يدخله فليخرجه إذا توضأ» [الوسائل ١ : ٤٦٧ ـ ٤٦٨ / أبواب الوضوء ب ٤١ ح ١]

٣٦٩

فتلخّص مما ذكرناه : اختصاص جريان قاعدة الفراغ بموارد احتمال الغفلة ، إذ لم يدل دليل على جريانها مع العلم بالغفلة والنسيان حال العمل.

الأمر الخامس : أنّ الشك في صحة العمل وفساده بعد الفراغ منه يتصور على وجوه ثلاثة :

الوجه الأوّل : أن يكون منشأ الشك احتمال عدم صدور الأمر من المولى ، فانّ صحة العبادة متوقفة على أمرين : صدور الأمر من المولى ، وتطبيق المأمور به على المأتي به. ولا إشكال في عدم جريان قاعدة الفراغ في هذا القسم ، فان قاعدة الفراغ على ما ذكرناه (١) أمارة على وقوع الفعل من المكلف تاماً من حيث الأجزاء والشرائط ، فلا كاشفية لها بالنسبة إلى فعل المولى وصدور الأمر منه.

ويدل على ما ذكرناه مع وضوحه : التعليل الوارد في بعض الروايات المتقدمة من كونه أذكر حين العمل أو أقرب إلى الحق ، إذ من المعلوم أنّ كونه أذكر حين العمل إنّما هو بالنسبة إلى عمله الصادر منه لا بالنسبة إلى فعل المولى وصدور الأمر منه ، كما هو ظاهر. ويتفرع على هذا أنّه لو اغتسل أحد للجنابة ، ثمّ شك في أنّه كان جنباً ليصح غسله أم لا ، لا مجال للحكم بصحته استناداً إلى قاعدة الفراغ ، فلا يجوز له الدخول في الصلاة إلاّبالوضوء. وكذالو شك في صحة الصلاة بعد الفراغ منها للشك في دخول الوقت وعدمه.

الوجه الثاني (٢) : أن يكون منشأ الشك في صحة العمل هو الشك في تطبيق

__________________

(١) في أوّل هذا البحث ص ٣١٥.

(٢) [ويتضمن الوجه الثالث أيضاً].

٣٧٠

المأمور به على المأتي به بعد العلم بصدور الأمر من المولى ، وهذا على قسمين : إذ الشك في التطبيق تارةً يكون راجعاً إلى أمر اختياري للمكلف من ترك جزء أو شرط أو إيجاد مانع. واخرى يكون راجعاً إلى أمر غير اختياري له ، ويعبّر عنه بالشك في الصحة مع كون صورة العمل محفوظة.

أمّا القسم الأوّل : فهو القدر المتيقن من مجرى قاعدة الفراغ.

وأمّا القسم الثاني : فالظاهر عدم كونه مورداً لجريان قاعدة الفراغ ، إذ كونه أذكر حين العمل إنّما هو بالنسبة إلى ما يصدر منه لا بالنسبة إلى شيء لم يصدر منه ، فان نسبته إليه حين العمل وحين الشك على حد سواء ، فلو صلى إلى جهة باعتقاد أنّها القبلة ، ثمّ بعد الفراغ شك في كونها القبلة ، لا مجال لجريان قاعدة الفراغ ، لأنّ صورة العمل الصادر منه محفوظة ، وهو غير شاك فيه ، إنّما الشك في الصحة من جهة أمر غير اختياري له ، وهو كون الكعبة المعظمة في هذه الجهة التي صلى إليها ، وليس هو حين العمل أذكر منه حين ما يشك بالنسبة إلى كون الكعبة في هذه الجهة ، فلا بدّ من إعادة الصلاة عملاً بقاعدة الاشتغال بعد عدم حجية قاعدة اليقين على ما ذكرناه (١). وكذالو شك في صحة الوضوء بعد الفراغ منه ، لاحتمال كون المائع الذي توضأ به مضافاً.

نعم ، لو علم بكون جهة خاصة هي القبلة وشك في أنّه صلى إليها أو إلى جهة اخرى ، تجري قاعدة الفراغ بلا إشكال ، لكون الشك راجعاً إلى كيفية صدور العمل منه لا إلى أمر غير اختياري. وكذالو علم بأنّ هذا الماء مطلق وذاك مضاف ، وشك بعد الوضوء في أنّه توضأ بأيهما ، لا إشكال في جريان قاعدة الفراغ.

__________________

(١) في ص ٢٨٧ وما بعدها

٣٧١

ومن القسم الأوّل ـ الذي تجري فيه قاعدة الفراغ ـ ما لو صلى أحد بلا سورة مثلاً مدةً من عمره ، وشك في صحتها من جهة الشك في أنّه هل صلى بلا سورة تقليداً لمن أفتى بعدم وجوبها ، أم صلى بلا تقليد ، فانّ صورة العمل وإن كانت محفوظةً ظاهراً ، إلاّأنّ الشك راجع إلى أمر اختياري له ، وهو الاستناد إلى التقليد ، ففي الحقيقة صورة العمل غير محفوظة. وكذالو صلى المسافر تماماً ثمّ شك في أنّه أتم الصلاة مع نية الاقامة أم بدونها ، فانّ الشك فيه أيضاً راجع إلى أمر اختياري له ، وهو صدور نية الاقامة ، فلا تكون صورة العمل محفوظة حقيقة وإن كانت محفوظة ظاهراً. وبالجملة كل مورد يرجع الشك فيه إلى ما يصدر منه اختياراً ، فهو مورد لجريان قاعدة الفراغ.

الأمر السادس : أنّه لا فرق في جريان قاعدة الفراغ ـ فيما إذا شك في صحة العمل وفساده بعد الفراغ منه ـ بين الشك في الجزء والشك في الشرط ، لعموم قوله عليه‌السلام : «كل ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو» (١).

أمّا الشك في الجزء فقد مضى الكلام فيه في الجزء الأخير وغيره من الأجزاء وملخصه : أنّ الشك المتعلق بالجزء إن كان في صحته بعد العلم بتحققه ، تجري قاعدة الفراغ ، وإن كان في وجوده ، فإن كان الشك بعد تجاوز المحل لا يعتنى به لقاعدة التجاوز ، وإن كان الشك في المحل ، لا بدّ من الاعتناء به والاتيان بالمشكوك فيه ، وقد اتضح كل ذلك مما تقدّم.

وأمّا الشك في الشرط ، فملخص الكلام فيه أنّ الشرط على أقسام ثلاثة : لأ نّه إمّا أن يكون مما قد اعتبر تحققه قبل العمل ، فيكون محله حسب الجعل الشرعي مقدّماً على المشروط ، كالاقامة بناءً على كونها شرطاً للصلاة على

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٣ ح ٣.

٣٧٢

ما التزم به بعض. وإمّا أن يكون مما اعتبر تقارنه مع العمل ، فيكون من قبيل الشرط المقارن. والثاني إمّا أن يكون شرطاً للأجزاء ، بمعنى أنّه اعتبر تحققه حال وجود الأجزاء فقط ولم يعتبر وجوده في الأكوان المتخللة. وإمّا أن يكون شرطاً للمجموع ، بمعنى أنّه اعتبر تحققه من أوّل العمل إلى آخره حتى في الأكوان المتخللة.

مثال الأوّل : الاستقرار في الصلاة ، إذ المعتبر هو الاتيان بالأجزاء مع الاستقرار ، ولم يدل دليل على اعتباره في الأكوان المتخللة. وكذا النية سواء كان المراد منها قصد التقرب أو قصد عنوان العمل من الصلاة والصوم مثلاً ، فانّها وإن كانت معتبرة في العبادات بكلا المعنيين ، إلاّأنّ المعتبر اقتران الأجزاء بها ، فلا يضر فقدانها في الأكوان المتخللة ، لعدم الدليل على اعتبارها إلاّفي حال وجود الأجزاء ، فمن اشتغل بالوضوء ثمّ بداله في أثنائه وعزم على عدم إتمامه ، ثمّ رجع إلى العزم على إتمامه قبل فوات الموالاة ، صح وضوءه بلا إشكال. وكذا الكلام في الصلاة على الظاهر. نعم ، لا يتصور هذا المعنى في الصوم ، إذ ليس له كون متخلل ، فمن أمسك مقداراً من النهار بنية الصوم ثمّ عزم على الافطار ، ثمّ رجع إلى نية الصوم قبل الاتيان بالمفطر ، لا يصح صومه ، لما ذكرناه من أنّه ليس للصوم كون متخلل ، فقد وقع جزء منه بدون نية ، وهو الامساك الذي وقع في زمان العزم على الافطار.

مثال الثاني : الاستقبال في الصلاة ، فانّه معتبر في مجموع الصلاة حتى في الأكوان المتخللة ، لأنّ الاستدبار ـ ولو في الأكوان المتخللة ـ مانع عن اتصال الأجزاء اللاحقة بالأجزاء السابقة ، فتكون الصلاة معه باطلة.

وكذا الطهارة من الحدث ، فان طروء الحدث ـ ولو في الأكوان المتخللة ـ موجب لبطلان الصلاة ، بلا فرق بين القول بكون الطهارة عبارة عن الحالة

٣٧٣

النفسانية المسببة عن الغسل والمسح على ما هو المعروف ، أو القول بكونها عبارة عن نفس الغسل والمسح على ما هو المختار ، فانّ الطهارة على هذا المعنى وإن كانت متصرمة الوجود ، إلاّأ نّه لها بقاء في نظر الشارع ، كما تدل عليه جملة من الأخبار ، منها : الأخبار الدالة على أنّ الشيء الفلاني ناقض للوضوء (١) فانّ النقض لايصدق على شيء ينعدم بنفسه ، بل لابدّ في صدقه من أن يكون له بقاء في نفسه. ومنها : ما يدل على استحباب النوم مع الوضوء (٢) ، فانّ النوم مع الوضوء لا يتصور إلاّأن يكون للوضوء بقاء في نظر الشارع. هذه هي أقسام الشرط.

ثمّ إنّ الشك في الشرط إن كان بعد الفراغ من العمل ، لا إشكال في جريان قاعدة الفراغ وعدم الاعتناء بالشك ، بلا فرق بين الأقسام الثلاثة للشرط. وأمّا إن كان الشك في الشرط في أثناء العمل ، فإن كان الشرط المشكوك فيه من القسم الأوّل ـ أي مما اعتبر تحققه قبل العمل وكان محله بحسب الجعل الشرعي مقدّماً على العمل ـ لا إشكال في جريان قاعدة التجاوز ، إذ مع كون الشك بعد تجاوز المحل يكون مشمولاً لقوله عليه‌السلام : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء» (٣) فلا فرق بين الشرط والجزء في هذه الجهة ، بل الجزء أيضاً شرط ، بمعنى أن كل جزء شرط لصحة الأجزاء الاخر كما هو معنى الواجب الارتباطي. وأمّا إن كان الشرط مما اعتبر تقارنه للعمل ، فالشك فيه يتصور على وجهين :

الأوّل : أن يكون شاكاً في وجود الشرط حين الاشتغال بالأجزاء السابقة

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٤٨ / أبواب نواقض الوضوء ب ٢ وغيره.

(٢) الوسائل ١ : ٣٧٨ / أبواب الوضوء ب ٩.

(٣) الوسائل ٨ : ٢٣٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٣ ح ١.

٣٧٤

مع إحرازه فعلاً ، ويحكم فيه بصحة الصلاة ، إذ شكه في تحقق الشرط بالنسبة إلى الأجزاء السابقة مورد لقاعدة الفراغ بلا إشكال ، ووجود الشرط حين الاشتغال بالأجزاء اللاحقة محرز بالوجدان على الفرض. ولا فرق في هذه الصورة بين كون الشرط المشكوك فيه من قبيل شرائط الأجزاء ، أو من قبيل شرائط المجموع ، فاذا شك في وقوع الركعة الاولى مع الاستقبال مع إحرازه حين الاشتغال بالركعة الثانية مثلاً ، تجري قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الركعة الاولى ، والاستقبال في الركعة الثانية محرز بالوجدان ، فيحكم بصحة الصلاة ، هذا في الشك في شرط المجموع. وكذا الحكم في الشك في شرط الأجزاء ، كما إذا شك في تحقق النية في الركعة الاولى مع إحرازها حين الاشتغال بالركعة الثانية ، فتجري قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الركعة الاولى ، وأمّا الركعة الثانية فاقترانها بالنية محرز بالوجدان ، فيحكم بصحة الصلاة.

الثاني : أن يكون شاكاً في تحقق الشرط فعلاً أيضاً. ولا مجال لجريان قاعدة الفراغ فيه ، إذ هو شاكٌ في صحة الجزء الذي هو مشغول به ولم يفرغ منه ، فلا بدّ من الاعتناء بالشك واستئناف العمل ، لقاعدة الاشتغال. ولا فرق أيضاً بين كون الشرط المشكوك فيه من شرائط الأجزاء فقط أو من شرائط المجموع.

نعم ، لو كان شاكاً في تحقق الشرط حين الأجزاء السابقة ولم يدخل بعدُ في الجزء اللاحق ، بل كان في الأكوان المتخللة ، تجري قاعدة الفراغ وإن لم يكن محرزاً للشرط فعلاً فيما إذا كان الشرط شرطاً للأجزاء فقط كالنية ، فيحكم بصحة الصلاة ، فان شكه في تحقق النية مثلاً ـ بالنسبة إلى الأجزاء السابقة ـ مورد لقاعدة الفراغ ، وفي الأجزاء اللاحقة تجدّد النية ، وفي الأكوان المتخللة وإن كانت النية غير محرزة إلاّأ نّها غير معتبرة فيها ، بخلاف ما إذا كان الشرط المشكوك فيه شرطاً للمجموع كالاستقبال ، فلا تجري فيه قاعدة الفراغ ، إذ هو

٣٧٥

شاك في تحقق الاستقبال فعلاً مع اعتباره حتى في الأكوان المتخللة. وهذا هو مورد الفرق بين شرط الأجزاء وشرط المجموع من حيث الحكم.

والذي تحصل مما ذكرناه : أنّ الشرط إن كان من شرائط المجموع ، تجري قاعدة الفراغ مع إحرازه فعلاً ، ولا تجري مع عدم إحرازه كذلك ، بلا فرق بين كونه حين الشك في الأكوان المتخللة أو مشغولاً بالجزء اللاحق ، وإن كان الشرط من شرائط الأجزاء فقط ، فإن كان حين الشك مشغولاً بالجزء اللاحق فالأمر كما تقدم ـ أي تجري قاعدة الفراغ مع إحراز الشرط فعلاً ، ولا تجري مع عدمه كذلك ـ وإن كان حين الشك في الأكوان المتخللة ، فتجري قاعدة الفراغ حتى مع عدم إحراز الشرط فعلاً ، وقد ظهر وجه كل ذلك مما ذكرناه.

وتبين بما ذكرناه حكم الشك في الطهارة من الحدث في أثناء الصلاة ، فانّه لا يتصور الشك في تحققها حين الاتيان بالأجزاء السابقة مع إحرازها فعلاً ، فهو شاك في تحقق الطهارة فعلاً أيضاً ، فلا مجال لجريان قاعدة الفراغ ، لكونه شاكاً في صحة الجزء الذي هو فيه ، ولم يفرغ منه ، فلا بدّ من الاعتناء بالشك واستئناف العمل.

وتوهّم جريان قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الأجزاء السابقة ، ووجوب الوضوء للأجزاء اللاحقة مع التمكن منه وعدم فوات الموالاة.

مدفوع بما ذكرناه من كون الطهارة من الشرائط المعتبرة في الأكوان المتخللة أيضاً ، فهو شاك في تحقق الطهارة في الآن الذي هو مشغول بتحصيل الطهارة الجديدة ، ولا تجري فيه قاعدة الفراغ ، لعدم تحقق الفراغ بالنسبة إليه ، فلا بدّ من استنئاف العمل لقاعدة الاشتغال.

وقد يتوهّم أنّ الشك في اقتران الأجزاء بالطهارة مسبب عن الشك في تحقق

٣٧٦

الغسل والمسح قبل الصلاة ، وحيث إنّ محل الغسل والمسح مقدّم على الصلاة بحسب الجعل الشرعي ، يكون الشك في تحقق الغسل والمسح قبل الصلاة مورداً لقاعدة التجاوز ، لكون الشك فيهما شكاً بعد تجاوز المحل ، وبعد الحكم بوجود الغسل والمسح لقاعدة التجاوز ، يرفع الشك في اقتران الأجزاء بالطهارة ، فانّ اقترانها بالطهارة من الآثار الشرعية لتحقق الغسل والمسح ، فيحكم بصحة الصلاة.

وهو مدفوع بعدم جريان قاعدة التجاوز في الغسل والمسح ، إذ ليس محلهما بحسب الجعل الشرعي قبل الصلاة ، فانّ المعتبر شرعاً هو تقارنها مع الطهارة. وأمّا وجوب تحصيلها قبل الشروع في الصلاة ، فهو عقلي بمعنى عدم تحقق اقتران جميع أجزاء الصلاة بالطهارة ، إلاّمع تحصيلها قبل الشروع في الصلاة.

إن قلت : ما المانع عن جريان قاعدة التجاوز فيما إذا كان محل المشكوك فيه مقدّماً عقلاً ، فان عموم التعليل بالأذكرية والأقربية إلى الحق شامل له أيضاً.

قلت : ليس الميزان في جريان قاعدة التجاوز مطلق كونه أذكر ولو كان الشيء المشكوك فيه خارجاً عن المأمور به ، بل الميزان فيه كون المشكوك فيه جزءاً أو شرطاً قد تجاوز محله ، والمفروض في المقام أنّ الشرط هو اقتران الصلاة بالطهارة ولم يتجاوز محله. وأمّا الغسل والمسح ، فهما خارجان عن المأمور به ولم يعتبرا فيه جزءاً ولا شرطاً ، فلا مجال لجريان قاعدة التجاوز عند الشك فيهما ، ولذا التزم الفقهاء قدس‌سرهم بعدم جريان قاعدة التجاوز فيما إذا كان الشك بعد التجاوز عن المحل العادي مع كونه مشمولاً لعموم التعليل ، فمن كانت عادته أن يستنجي في بيت الخلاء مثلاً ، وشك فيه بعد تجاوز محله العادي لا تجري قاعدة التجاوز في حقه ، وكذا من كان من عادته الاتيان بالصلاة في أوّل الوقت وشك فيه بعد تجاوزه لم يكن مجال لجريان قاعدة

٣٧٧

التجاوز في حقه.

وبالجملة : جريان قاعدة التجاوز مشروط بأمرين :

١ ـ كون المشكوك فيه جزءاً أو شرطاً للمأمور به.

٢ ـ كون المكلف في مقام الامتثال. والأمر الأوّل مفقود في المقام ، فلا مجال لجريانها.

الأمر السابع : لو كان بين الواجبين ترتيب بحسب الجعل الشرعي ـ كما في الظهر والعصر ـ وشك في الاتيان بالواجب الأوّل بعد الدخول في الثاني ، فقد يتوهم جريان قاعدة التجاوز فيه ، بدعوى أنّ الظهر من قبيل الشرط المتقدم للعصر ، فيكون الشك فيه بعد الدخول في العصر شكاً بعد تجاوز المحل.

وهذا التوهّم فاسد أمّا أوّلاً : فلما ذكره شيخنا الأنصاري (١) وغيره قدس‌سرهم من أنّ الترتيب بين الظهر والعصر مختص بحال الذكر ، والمفروض في المقام هو الشك في تقديم العصر على الظهر غفلة ، فلا يكون العصر مشروطاً بتقدم الظهر عليه في هذا الحال ، فلا يكون الشك في الظهر حينئذ من الشك في الشرط المتقدم ليكون بعد تجاوز المحل ، فلابدّ من الاعتناء بالشك والاتيان بالظهر ، لقاعدة الاشتغال ، أو لاستصحاب عدم الاتيان به على ما ذكرناه سابقاً.

وأمّا ثانياً : على فرض تسليم كون الترتيب بينهما هو الترتيب الواقعي كما اختاره السيد قدس‌سره في العروة (٢) فلأنّ لصلاة الظهر حيثيتين :

__________________

(١) كتاب الصلاة ١ : ٤٠.

(٢) لاحظ العروة الوثقى ١ : ٣٧٤ ـ ٣٧٥ / فصل في أوقات اليومية ونوافلها ، المسألة ٣ [١١٨٢] ، وراجع أيضاً المسألة ٨ [١٢١٦] من أحكام الأوقات.

٣٧٨

الاولى : حيثية وجوبها النفسي. ولا يعتبر تقدّمها على العصر من هذه الحيثية ، إذ لا يشترط في الظهر تقدمه على العصر ، بل العصر مشروط بتقدم الظهر عليه ، فلو أتى بالظهر وترك العصر عمداً أو نسياناً ، لم يفت منه من وظيفة الظهر شيء ، وحصل الامتثال بالنسبة إليه مع أنّه لم يتقدم على العصر.

الثانية : حيثية وجوبها الغيري لكونه مقدمةً للعصر ، فلو شك في الظهر بعد الدخول في العصر لا تجري قاعدة التجاوز من الحيثية الاولى ، لعدم تجاوز محله من هذه الحيثية ، فيجب الاتيان به ، لقاعدة الاشتغال ، أو للاستصحاب على ما ذكرناه. وبعد الحكم بوجوب الاتيان به من الحيثية الاولى لا مجال لجريان قاعدة التجاوز من الحيثية الثانية ، إذ مفاد قاعدة التجاوز من الحيثية الثانية هو الحكم بصحة العصر ، ولا يمكن الحكم بها مع التعبد بعدم الاتيان بالظهر للاشتغال أو الاستصحاب ، للروايات (١) الدالة على أنّ هذه قبل هذه ، والمراد كون العصر بعد الظهر كما لا يخفى.

نعم ، بعد الالتزام بعدم جريان قاعدة التجاوز تصل النوبة إلى قاعدة العدول ، فيعدل إلى الظهر ويأتي بالعصر بعده لصحيحة زرارة (٢) الدالة على ذلك.

__________________

(١) نقل في الوسائل عن محمّد بن الحسن باسناده عن سعد بن عبدالله عن أحمد بن محمّد عن الحسين بن سعيد ومحمّد بن خالد البرقي والعباس بن معروف جميعاً عن القاسم ابن عروة عن عبيد بن زرارة قال : «سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن وقت الظهر والعصر؟ فقال عليه‌السلام : إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر والعصر جميعاً ، إلاّأنّ هذه قبل هذه ، ثمّ أنت في وقت منهما جميعاً حتى تغيب الشمس» ونقل مثله عن الكليني أيضاً [الوسائل ٤ : ١٢٦ و ١٣٠ / أبواب المواقيت ب ٤ ح ٥ و ٢٠ و ٢١ و ٢٢].

(٢) نقل في الوسائل عن محمّد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه وعن محمّد بن

٣٧٩

الأمر الثامن : في جريان قاعدة الفراغ عند الشك في الموالاة وعدمه.

وتفصيل الكلام فيه : أنّ الموالاة المعتبرة في الصلاة على ثلاثة أقسام : لأنّها إمّا أن تكون معتبرة بين الأجزاء المستقلة ، كالموالاة بين القراءة والركوع ، وبينه والسجود ، وإمّا أن تكون معتبرة بين الكلمات من كلام واحد ، وإمّا أن تكون معتبرة بين الحروف من كلمة واحدة.

أمّا الموالاة بين الأجزاء المستقلة ، فهي معتبرة شرعاً ، إذ لو لم يدل الدليل الشرعي على اعتبار الاتصال بين الأجزاء المستقلة ، لأمكن الامتثال باتيان كل جزء مع الفصل الطويل عن الجزء الآخر كما هو الواقع في الغسل ، ولكنّ الدليل الشرعي دل على اعتبارها في الصلاة ، وحينئذ فان شك فيها بعد الفراغ من الصلاة ، فلا إشكال في جريان قاعدة الفراغ وعدم الاعتناء بالشك ، وإن شك فيها في أثناء الصلاة ، فإن كان شكه بعد الدخول في الجزء اللاحق ، تجري قاعدة التجاوز ، إذ محلها بحسب الجعل الشرعي قبل الدخول في الجزء اللاحق ، فيكون من قبيل الشرط المتقدم بالنسبة إليه ، فيكون الشك فيها شكاً بعد تجاوز المحل ، وإن كان شكه فيها قبل الدخول في الجزء اللاحق ، فلا مجال

__________________

إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعاً عن حماد بن عيسى عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام «قال عليه‌السلام : إذا نسيت صلاة أو صليتها بغير وضوء وكان عليك قضاء صلوات ، فابدأ بأوّلهنّ ، فأذّن لها وأقم ، ثمّ صلّها ثمّ صلّ ما بعدها باقامة لكل صلاة. وقال قال أبو جعفر عليه‌السلام : وإن كنت قد صليت الظهر وقد فاتتك الغداة فذكرتها ، فصلّ الغداة أيّ ساعة ذكرتها ولو بعد العصر. ومتى ما ذكرت صلاةً فاتتك صليتها. وقال عليه‌السلام : إذا نسيت الظهر حتى صليت العصر فذكرتها وأنت في الصلاة أو بعد فراغك ، فانوها الاولى ثمّ صلّ العصر فانّما هي أربع مكان أربع ...» [الوسائل ٤ : ٢٩٠ ـ ٢٩١ / أبواب المواقيت ب ٦٣ ح ١].

٣٨٠