موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

أخلاقهم وعاداتهم ، فانّ الحكم بنجاستهم يوجب تنفر المسلمين عنهم لئلا يبتلى برطوباتهم في البدن واللباس حتى يحتاجون إلى التطهير للصلاة وغيرها ، فيأمنون من أخلاقهم الردية وعاداتهم الرذيلة ، ولم يراع المسلمون في يومنا هذا الحكم ، حتى صاروا متخلّقين بأخلاقهم ، وصاروا بمنزلتهم في المآكل والمشارب.

ويمكن أن يكون الحكم بنجاسة الخمر أيضاً بهذا الملاك وهو التنفر ، فبعد حكم الشارع بحرمته حكم بنجاسته أيضاً ليوجب التنفر عنه ، وهذا المعنى مراد الشهيد قدس‌سره من عبارته التي نقلها الشيخ قدس‌سره في المكاسب (١) من أنّ النجاسة ما حرم استعماله في الصلاة والأغذية للاستقذار أو للتوصل بها إلى الفرار ، فالظاهر أنّ مراده من التوصل بها إلى الفرار هو ما ذكرناه.

وثالثاً : أنّه لا يمكن القول بأنّ الحكم بالطهارة إخبار عن النظافة الواقعية في الطهارة الظاهرية ، إذ الحكم بطهارة الشيء المشكوك فيه الذي يمكن أن يكون نجساً في الواقع لا يمكن أن يكون إخباراً عن النظافة الواقعية ، ولا بدّ من القول بمجعولية الطهارة في مثله.

فتحصّل : أنّ الصحيح كون الطهارة مجعولةً من قبل الشارع ، غاية الأمر أنّ الطهارة الواقعية مجعولة للشيء بعنوانه الأوّلي ، والطهارة الظاهرية مجعولة له بعنوان أنّه مشكوك فيه.

ومنها : الصحة والفساد ، فهل هما مجعولتان مطلقاً أو ليستا بمجعولتين كذلك ، أو يفصّل بين العبادات والمعاملات بالالتزام بعدم الجعل في الاولى ، والجعل في الثانية؟ فيه خلاف.

__________________

(١) المكاسب ١ : ١٠٠.

١٠١

اختار صاحب الكفاية قدس‌سره (١) التفصيل ، بدعوى أنّ الصحة والفساد في العبادات عبارة عن مطابقة المأتي به للمأمور به وعدمها ، والمطابقة وعدمها أمران تكوينيان لا ربط لهما بالجعل الشرعي ، بخلاف المعاملات فانّ الصحة والفساد فيها عبارة عن ترتب الأثر وعدمه ، والحكم بترتب الأثر ـ كما في البيع وبعدمه كما في الربا ـ مجعول شرعي ، هذا.

والصحيح : أنّ الصحة والفساد ليستا من المجعولات الشرعية مطلقاً ، فانّ الطبيعة الكلية المجعولة لا تتصف بالصحة والفساد ، وإنّما المتصف بهما هو الفرد الخارجي المحقق أو المقدر ، فيقال : إنّ البيع الفلاني صحيح لكونه واجداً للشرائط ، أو فاسد لعدم كونه واجداً لها ، فالصحة والفساد من أوصاف الفرد الخارجي المحقق وجوده أو المقدر ، فكل فردٍ يكون مطابقاً للطبيعة المجعولة صحيح ، وكل فرد لم يكن من مصاديقها فاسد ، بلا فرق بين العبادات والمعاملات. فالصحة والفساد في العبادات والمعاملات منتزعتان من انطباق الطبيعة المجعولة على الفرد الخارجي وعدمه ، وليستا مجعولتين.

هذا في الصحة والفساد الواقعيتين ، وأمّا الصحة والفساد الظاهريتين ، فحيث إنّ موضوعهما الفرد المشكوك فيه ، فللشارع أن يحكم بترتيب الأثر عليه ، وأن يحكم بعدمه ، فلا محالة تكونان مجعولتين من قبل الشارع ، فقد حكم بالصحة الظاهرية في بعض الموارد كما في الشك بعد تجاوز المحل وبعد الفراغ ، وحكم بالفساد في موارد اخرى كما في بعض الشكوك في ركعات الصلاة.

فتحصّل مما ذكرناه : أنّ الصحيح هو التفصيل بين الصحة والفساد الواقعيتين والظاهريتين ، والالتزام بكون الأوّل غير مجعول والثاني مجعولاً ، بلا فرق بين

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨٣ و ١٨٤.

١٠٢

العبادات والمعاملات.

ومنها : العزيمة والرخصة على ما ذكره بعضهم ، ولا بدّ من شرح المراد منهما حتى يظهر كونهما من الأحكام الوضعية أو عدمه ، فنقول : العزيمة عبارة عن سقوط الأمر بجميع مراتبه ، والرخصة عبارة عن سقوطه ببعض مراتبه ، فاذا أمر المولى بشيء ثمّ أسقط الأمر رأساً كما في الركعتين الأخيرتين للمسافر ، فيكون الاتيان به استناداً إلى المولى تشريعاً محرّماً ، وهذا هو العزيمة ، وإذا أمر بشيء وجوباً ثمّ سقط وجوبه وبقي رجحانه فهذا هو الرخصة. وكذا إن كان مستحباً مؤكداً ثمّ سقط تأكده كما في بعض موارد سقوط الأذان والاقامة.

وظهر بما ذكرناه من معنى العزيمة والرخصة عدم كونهما من الأحكام الوضعية المجعولة ، بل هما أمران راجعان إلى التكليف ، فسقوط التكليف رأساً عزيمة ، وسقوطه ببعض مراتبه رخصة ، فلا وجه لذكرهما في جملة الأحكام الوضعية.

ثمّ إنّه ذكر جماعة أنّ المجعولات الشرعية ثلاثة : الأحكام التكليفية ، والأحكام الوضعية ، والماهيات المخترعة كالصوم والصلاة ، قال الشهيد قدس‌سره : الماهيات الجعلية كالصوم والصلاة لا يطلق على الفاسد إلاّالحج لوجوب المضي فيه (١). وهو أوّل من قال بالماهيات الجعلية ، ووافقه جماعة منهم المحقق النائيني (٢) قدس‌سره.

والانصاف أنّه لا يتعقل معنىً لجعل الماهيات تشريعاً ، فانّها غير قابلة للجعل التشريعي ، وذلك لأن معنى جعل الماهية على ما ذكروه هو تصور امور متعددة مجتمعة ومنضماً بعضها مع بعض ، ثمّ الأمر بها بعنوان أنّها شيء واحد ،

__________________

(١) القواعد والفوائد ١ : ١٥٨ / الفائدة ٢.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٧٤ ، فوائد الاصول ٤ : ٣٨٦.

١٠٣

ومرجع هذا المعنى إلى شيئين : الأوّل : تصور الامور المتعددة كالتكبير والقيام والقراءة مثلاً بتصور واحد. الثاني : الأمر بهذه الامور المتعددة ، ولا يصلح شيء منهما لأن يكون جعلاً للماهية.

أمّا الأوّل : فهو عبارة عن إيجاد الماهيات المتعددة في الذهن ، فانّ الوجود الذهني للأشياء هو عين تصوّرها لا جعل الماهيات تشريعاً ، فيكون تصوّرها جعلاً تكوينياً لها في الذهن بتبع إيجادها فيه ، كما أنّ الجعل التكويني الخارجي لماهية إنّما يكون بتبع إيجادها في الخارج. والفرق بين الوجود الذهني والخارجي أنّ وجود الأشياء في الخارج متمايز ومنحاز بعضها عن بعض ، بخلاف وجودها الذهني ، فانّه يمكن تصورها في الذهن بتصور واحد بلا امتياز لبعضها عن بعض.

وأمّا الثاني : فهو عبارة عن التكليف فهو المجعول تشريعاً دون الماهية.

فتحصّل : أنّ المجعول الشرعي منحصر في الأحكام التكليفية والوضعية.

ثمّ إنّ الحكم التكليفي قد يكون مجعولاً بنحو القضية الحقيقية والكبرى الكلية كقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ...)(١) وقد يكون مجعولاً بنحو القضية الشخصية كما في أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الشيخين بالخروج مع جيش اسامة.

وكذا الحكم الوضعي تارةً يكون مجعولاً بنحو القضية الحقيقية كما في قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ...)(٢) بناءً على كون المراد بحليته الحلية الوضعية. وكما

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٢) البقرة ٢ : ٢٧٥.

١٠٤

في القضاوة العامة المجعولة بنحو القضية الحقيقية المستفادة من قوله عليه‌السلام : «انظروا إلى رجل قد نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ـ إلى قوله عليه‌السلام ـ فانّي قد جعلته حاكماً» (١).

واخرى يكون مجعولاً بنحو القضية الشخصية كما في نصب الإمام عليه‌السلام شخصاً معيّناً قاضياً في بلدة معيّنة. وبالجملة : في كل مورد حكم فيه الرسول بما هو رسول أو الإمام بما هو إمام فهو حكم شرعي يجب امتثاله ، وإن كان الحق عندنا وجوب إطاعة الرسول أو الإمام حتى فيما إذا حكم بما هو هو لا بما هو رسول أو بما هو إمام.

إذا عرفت ما ذكرناه من الفرق بين الأحكام التكليفية والوضعية وأقسامهما ، تعلم صحة جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية أيضاً.

أمّا الحكم الوضعي المجعول بالاستقلال كالملكية والزوجية فأمره واضح ، لكونه كالحكم التكليفي من جميع الجهات ، فان قلنا بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلية التكليفية ، نقول به في الأحكام الوضعية أيضاً ، سواء كان الشك من جهة احتمال النسخ أو من جهة احتمال الرافع ، وإن قلنا باختصاص الاستصحاب بالشبهات الموضوعية ، نقول به في الأحكام الوضعية.

وأمّا الحكم الوضعي المجعول بالتبع كالشرطية والسببية والمانعية ، فجريان الاستصحاب فيه وإن كان لا مانع منه من حيث المقتضي وشمول الدليل من قوله عليه‌السلام : «لاتنقض ...» إلاّأ نّه لاتصل النوبة إلى جريان الاستصحاب فيه ، بل يجري الاستصحاب في منشأ انتزاعه ، فاذا شككنا في بقاء شرطية

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٣٦ و ١٣٧ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١ (باختلاف يسير).

١٠٥

الاستقبال للصلاة مثلاً ، لا تصل النوبة إلى جريان الاستصحاب في نفس الشرطية بأن يقال : الشرطية كانت متيقنة والآن كما كانت ، لجريان الاستصحاب في منشأ انتزاعها ، وهو كون الأمر بالصلاة مقيداً بالاستقبال ، فنقول : الأمر بالصلاة كان مقيداً بالاستقبال والآن كما كان ، فيحكم بكون الاستقبال شرطاً ظاهرياً للصلاة للاستصحاب ، فانّ الشرطية الواقعية منتزعة من الأمر الواقعي بالمقيد ، والشرطية الظاهرية منتزعة من الأمر الظاهري بالمقيد.

فتحصّل : أنّ التفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعية في جريان الاستصحاب مما لا وجه له. هذا تمام الكلام في حجية الاستصحاب وبعض التفصيلات المهمّة ، وأعرضنا عن ذكر أكثر التفصيلات لعدم أهميتها ، ثمّ يقع الكلام في التنبيه على امور :

التنبيه الأوّل

أنّه لا فرق في جريان الاستصحاب بين أن يكون المتيقن سابقاً والمشكوك فيه فعلياً ، كما إذا علمنا بعدالة زيد سابقاً وشككنا في بقائها فعلاً ، أو يكون المتيقن فعلياً والمشكوك فيه استقبالياً ، كما إذا علمنا بعدالة زيد الآن وشككنا في بقائها إلى اليوم الآتي مثلاً ، ويسمى بالاستصحاب الاستقبالي.

ومورد بعض أدلة الاستصحاب وإن كان هو القسم الأوّل بالخصوص كما في قوله عليه‌السلام : «... لأنّك كنت على يقين من طهارتك ...» (١) إلاّأنّ عموم التعليل في بعضها يقتضي عدم الفرق بين القسمين ، إذ قوله عليه‌السلام : «إنّ

__________________

(١) في صحيحة زرارة الثانية وقد تقدّمت في ص ٥٨.

١٠٦

اليقين لا ينقض بالشك» يدل على أنّ ملاك الاستصحاب هو عدم جواز نقض اليقين بالشك ، بلا فرق بين كون المتيقن سابقاً والمشكوك فيه فعلياً ، وكون المتيقن فعلياً والمشكوك فيه استقبالياً.

نعم ، لا بدّ في جريان الاستصحاب الاستقبالي من الثمرة الفعلية ، ففي مثال العلم بعدالة زيد الآن مع الشك في بقائها إلى اليوم الآتي ، لا مجال لجريان الاستصحاب لعدم ترتب ثمرة فعلية على عدالته في اليوم الآتي مع عدالته الآن يقيناً ، فجريان الاستصحاب الاستقبالي مختص بموارد الثمرة الفعلية.

ومن جملة هذه الموارد مسألة جواز البدار لذوي الأعذار ، فمن كان عاجزاً عن بعض الأجزاء أو الشرائط في أوّل الوقت مع العلم ببقاء عجزه إلى آخر الوقت ، يجوز له البدار بلا إشكال ، لأنّه مأمور بالعمل الفاقد ، ومخيّر عقلاً بين الأفراد الطولية والعرضية لهذا العمل الفاقد ، كما كان مخيراً بين الأفراد الطولية والعرضية للعمل الواجد في صورة عدم العجز.

ولو كان عالماً بزوال عذره إلى آخر الوقت ، لا يجوز له البدار بل يجب عليه الانتظار ، إذ ليس مأموراً باتيان العمل في خصوص أوّل الوقت حتى ينتقل إلى البدل فيه ، بل هو مأمور بطبيعي العمل ، فليس له الانتقال إلى البدل إلاّبعد تعذر جميع أفراد المبدل منه ، أمّا مع الشك في بقاء عذره لا يجوز له البدار لعدم العلم بكون البدل مأموراً به في هذا الوقت ، إلاّأنّ استصحاب بقاء العذر يكون بمنزلة العلم ببقائه بالتعبد الشرعي فيجوز له البدار ، فان لم يظهر الخلاف إلى آخر الوقت ، فليس عليه شيء ، وإن انكشف الخلاف وزال عذره قبل خروج الوقت ، فالاجتزاء بالبدل وعدمه مبني على القول بالاجزاء في الأمر الظاهري ، فان قلنا به فلا تجب عليه الاعادة ، وإن قلنا بعدمه كما هو التحقيق فتجب عليه الاعادة.

١٠٧

هذا في غير التيمم من الأبدال الاضطرارية. وأمّا التيمم فقد ورد في بعض الروايات ما يدل باطلاقه على جواز البدار ، كما في صحيحة الحلبي «أنّه سأل أبا عبدالله عليه‌السلام عن الرجل إذا أجنب ولم يجد الماء ، قال عليه‌السلام : يتيمم بالصعيد ، فاذا وجد الماء فليغتسل ولا يعيد الصلاة» (١) ونحوها صحيحة اخرى للحلبي (٢).

ولكن بعض الروايات نص في عدم جواز البدار كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : «سمعته يقول عليه‌السلام : إذالم تجد ماءً وأردت التيمم ، فأخّر التيمم إلى آخر الوقت ، فان فاتك الماء لم تفتك الأرض» (٣) وحيث إنّ مورد الثانية هو الشك في زوال العذر ، إذ عدم جواز البدار إنّما هو مع رجاء زوال العذر لا مع العلم ببقائه ، والرواية الدالة على جواز البدار مطلقة شاملة لصورتي اليأس والرجاء ، فيتعين حملها على صورة اليأس والحكم بعدم جواز البدار مع رجاء زوال العذر ، إذ مقتضى الجمع بين المطلق والمقيد حمل المطلق على المقيد ، فتكون النتيجة عدم جواز البدار إلى التيمم مع الشك في زوال العذر إلى آخر الوقت.

وأفتى السيد قدس‌سره في العروة (٤) عكس ما ذكرناه من التفصيل بين التيمم وغيره ، فقال بجواز البدار في التيمم دون غيره من الأبدال الاضطرارية ولم يظهر لنا وجهه.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٦٦ و ٣٦٧ / أبواب التيمم ب ١٤ ح ١ و ٤.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٦٦ و ٣٦٧ / أبواب التيمم ب ١٤ ح ١ و ٤.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٨٤ / أبواب التيمم ب ٢٢ ح ١.

(٤) العروة الوثقى ١ : ٣٥٥ و ٣٧٩ و ٣٨٠ / المسألة [١١٤١ ، ١٢٠٣ ، ١٢٠٥].

١٠٨

التنبيه الثاني

لا ينبغي الاشكال في أن مقتضى أدلة الاستصحاب هو اعتبار اليقين والشك الفعلي ، فانّ الأدلة المتكفلة لبيان الأحكام الواقعية أو الظاهرية واردة بنحو القضية الحقيقية التي يحكم فيها على تقدير وجود الموضوع ، فلو دل دليل على أنّ الخمر حرام ، مفاده أنّ الحرمة ثابتة للخمر الفعلي ، ولا يدل على حرمة شيء لا يكون خمراً بالفعل وإن كان إذا غلا يكون خمراً.

وكذا لو دل دليل على وجوب تقليد العالم مثلاً ، فمعناه وجوب تقليد العالم بالفعل لا تقليد من يكون له استعداد العلم بحيث لو تعلّم يصير عالماً كما هو واضح ، فلا بدّ في جريان الاستصحاب من اليقين والشك الفعلي ، إذ لو اجري الاستصحاب مع الشك التقديري لكان جارياً مع عدم الشك ، وهو خلف ، لكون موضوعه اليقين والشك.

وفرّع الشيخ (١) قدس‌سره على اعتبار اليقين والشك الفعلي في جريان الاستصحاب فرعين ، وتبعه صاحب الكفاية قدس‌سره (٢).

الفرع الأوّل : أنّه لو كان أحد محدثاً فغفل وصلّى ثمّ شك في أنّه تطهّر قبل الصلاة أم لا ، فيجري استصحاب الحدث بالنسبة إلى الأعمال الآتية ، وأمّا بالنسبة إلى الصلاة التي أتى بها فلا يجري استصحاب الحدث ، لأنّه كان غافلاً قبل الصلاة ولم يكن له الشك الفعلي حتى تكون صلاته واقعة مع الحدث

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٥٤٧ و ٥٤٨.

(٢) كفاية الاصول : ٤٠٤.

١٠٩

الاستصحابي ، وبعد الصلاة وإن كان الشك موجوداً ، إلاّأنّ قاعدة الفراغ حاكمة على الاستصحاب أو مخصصة له ، على ما يأتي في أواخر التنبيهات (١) إن شاء الله تعالى ، فيحكم بعدم وجوب الاعادة عليه.

الفرع الثاني : أنّه لو التفت قبل الصلاة ثمّ غفل وصلى ، فتكون صلاته باطلة ، لتحقق الشك الفعلي قبل الصلاة ، فقد وقعت مع الحدث الاستصحابي.

وفي كلا الفرعين نظر :

أمّا الفرع الأوّل : فلأنّ قاعدة الفراغ لا تخلو من أمرين : فامّا أن تكون من الاصول التعبدية الشرعية ، وإمّا أن تكون من الأمارات العقلائية كما هو الظاهر ، لأن ترك الجزء أو الشرط عمداً لا يتصور بالنسبة إلى من هو في مقام الامتثال ، فان تُركا لا يستند تركهما إلاّإلى الغفلة والنسيان ، وهو خلاف الأصل ، فان مقتضى طبيعة الانسان هو الذكر في حال العمل ، لا السهو والنسيان كما في الامور العادية ، فالفراغ عن العمل أمارة كاشفة نوعاً عن عدم وقوع الغفلة والسهو.

ويؤيد هذا المعنى : قوله عليه‌السلام : «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك» (٢) وكذا قوله عليه‌السلام : في صحيحة محمّد بن مسلم الواردة في الشك في عدد ركعات الصلاة بعد الفراغ : «وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك» (٣).

فعلى القول بكون قاعدة الفراغ أمارة نوعية على عدم وقوع الغفلة والسهو ،

__________________

(١) في ص ٣١٥ ـ ٣١٨.

(٢) الوسائل ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٧.

(٣) الوسائل ٨ : ٢٤٦ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٧ ح ٣.

١١٠

لا مجال للأخذ بها مع العلم بالغفلة كما هو المفروض في المقام ، فعدم جريان الاستصحاب في حال الغفلة مسلّم ، لعدم الشك الفعلي ، إلاّأ نّه لا مانع من جريانه بعد الصلاة حتى بالنسبة إلى الصلاة التي أتى بها ، لاختصاص قاعدة الفراغ بصورة عدم العلم بالغفلة ، فلا تجري في المقام حتى تكون حاكمةً على الاستصحاب أو مخصصة له.

ولما ذكرنا من اختصاص قاعدة الفراغ بموارد عدم العلم بالغفلة ، لا تجري فيما لو شك في صحة العمل بعد الفراغ عنه مع العلم بكيفية وقوع العمل والشك في انطباقه على الواقع ، كما إذا شك بعد الوضوء في أنّه توضأ بالماء أو بمائع آخر مع علمه بأ نّه توضأ بهذا المائع الموجود ، لكنّه لا يدري أنّه ماء أو مائع آخر ، فلا مجال للحكم بصحة الوضوء لقاعدة الفراغ ، لعدم كون احتمال البطلان مستنداً إلى الغفلة بل إلى عدم المصادفة الاتفاقية للواقع.

وأمّا على القول بكون قاعدة الفراغ من الاصول التعبدية الشرعية وعدم اختصاصها بموارد احتمال الغفلة لاطلاق بعض النصوص الدالة على أنّ «ما مضى فأمضه كما هو» (١) فتكون قاعدة الفراغ حاكمةً على الاستصحاب ولو قلنا بعدم اعتبار الشك الفعلي في الاستصحاب ، إذ لا اختصاص لحكومة القاعدة على الاستصحاب الجاري بعد الصلاة ، بل تكون حاكمةً على الاستصحاب الجاري قبلها أيضاً.

وأمّا الفرع الثاني : ففيه أنّ بطلان الصلاة في الفرض مسلّم ، إلاّأ نّه ليس مستنداً إلى جريان الاستصحاب قبل الصلاة ، بل إلى عدم جريان قاعدة الفراغ في نفسها ، لاختصاصها بما إذا حدث الشك بعد الفراغ ، وهذا الشك

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٣٧ و ٢٣٨ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٣ ح ٣.

١١١

الموجود بعد الفراغ كان قبل الصلاة ، فانّ هذا الشك متحد عرفاً مع الشك الذي كان قبل الصلاة ، وإن كان غيره بالدقة العقلية ، ومع قطع النظر عما ذكرناه فالاستصحاب الجاري قبل الصلاة لايقتضي البطلان ، لأنّه بعد الالتفات وتحقق الشك عرضت له الغفلة ثانياً على الفرض ، وبمجرد عروض الغفلة لا يجري الاستصحاب ، لأنّه كما يعتبر في الاستصحاب اليقين والشك حدوثاً ، كذا يعتبران بقاءً ، فما دام شاكاً يكون محدثاً بالحدث الاستصحابي ، وبمجرد طروء الغفلة يسقط الاستصحاب ، فلا يكون محدثاً بالحدث الاستصحابي ، والمفروض أنّه بعد الشك غفل ودخل في الصلاة.

فظهر بما ذكرناه ما في الكفاية من تعليل البطلان بأ نّه دخل في الصلاة محدثاً بالحدث الاستصحابي ، فانّه لا استصحاب حين الدخول في الصلاة لغفلته ، فينتفي الاستصحاب بانتفاء موضوعه وهو الشك الفعلي.

نعم ، لو عرض له شك آخر بعد الصلاة يمكن القول بصحة صلاته لقاعدة الفراغ ، كما لو شك في المثال المذكور بعد الصلاة في أنّه هل تطهر بعد الشك في الطهارة قبل الصلاة أم لا ، بأن كان محدثاً والتفت فشك في الطهارة قبل الصلاة ، ثمّ غفل وصلّى ، وبعد الفراغ شك في أنّه هل تطهر بعد الشك في الطهارة قبل الصلاة أم لا ، فيحكم بصحة صلاته لقاعدة الفراغ ، لكون الشك الحادث بعد الصلاة غير الشك قبلها ، فيكون هذا الشك الحادث بعد الفراغ مورداً لقاعدة الفراغ ، ولا يكون الحدث الاستصحابي قبل الصلاة أولى من الحدث اليقيني قبلها ، فلو كان محدثاً قبل الصلاة يقيناً فغفل وصلى وشك بعد الصلاة في أنّه توضأ بعد الحدث المتيقن أم لا ، يحكم بصحة صلاته لقاعدة الفراغ ، والحكم بصحة الصلاة في المقام أولى ، لعدم كونه متيقناً بالحدث ، بل محكوم به للاستصحاب قبل الصلاة.

١١٢

فتحصّل مما ذكرناه : أنّ اعتبار اليقين والشك الفعلي وإن كان مسلّماً ، إلاّ أنّه لا يتفرّع عليه الفرعان المذكوران ، بل الحكم بالصحة أو البطلان في المثالين تابع لجريان قاعدة الفراغ وعدمه.

ففي الفرع الأوّل لو قلنا بكون القاعدة من الأمارات وعدم جريانها في المقام لاختصاصها بموارد احتمال الغفلة يحكم ببطلان الصلاة ولو لم نقل بجريان استصحاب الحدث قبل الصلاة لعدم الشك الفعلي ، فانّ استصحاب الحدث الجاري بعد الصلاة كافٍ في الحكم ببطلانها. ولو قلنا بجريان قاعدة الفراغ يحكم بصحة الصلاة ولو قلنا بجريان استصحاب الحدث قبل الصلاة ، لعدم اعتبار الشك الفعلي ، لكونه محكوماً بالقاعدة.

وفي الفرع الثاني إن كانت قاعدة الفراغ جاريةً ، كما إذا كان الشك الحادث بعد الفراغ غير الشك الذي كان قبل الصلاة ، كانت الصلاة صحيحةً حتى مع جريان استصحاب الحدث قبل الصلاة. ولو لم تكن القاعدة جاريةً ، كما إذا كان الشك الحادث بعد الصلاة هو الشك الذي كان قبلها ، كانت الصلاة باطلةً ولو لم يكن الاستصحاب قبل الصلاة جارياً لاعتبار الشك حدوثاً وبقاءً ، فالحكم بالصحة دائر مدار جريان قاعدة الفراغ في كلا الفرعين.

التنبيه الثالث

إذا علمنا وجداناً بحدوث شيء ثم شككنا في بقائه ، فهذا هو القدر المتيقن من مورد الاستصحاب.

وأمّا إذا شك في بقاء شيء على تقدير حدوثه ولم يحرز حدوثه بالوجدان ،

١١٣

كما إذا قامت الأمارة على حدوث شيء ثمّ شك في بقائه على تقدير حدوثه ، ففي جريان الاستصحاب إشكال لعدم اليقين بالحدوث ، وهو واضح ، بل لعدم الشك في البقاء أيضاً ، لأنّ الشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو الشك في بقاء المتيقن ، لا مطلق الشك ، وليس في المقام شك في بقاء المتيقن ، بل الشك في البقاء على تقدير الحدوث ، فلا يجري الاستصحاب ، لانتفاء كل من اليقين والشك المأخوذين في موضوعه.

ولا اختصاص لهذا الاشكال بطريقية الأمارات ، بل يجري على بعض صور الموضوعية أيضاً ، توضيحه : أنّه بناءً على الطريقية لا يقين بالحكم ، لاحتمال عدم مصادفة الأمارة للواقع ، بل ولا شك في البقاء على ما ذكرناه ، فلا مجال لجريان الاستصحاب. وأمّا بناءً على الموضوعية على ما هو المشهور بينهم من أنّ ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم ، فموضوعية الأمارات وسببيتها تتصور على وجهين :

الوجه الأوّل : أن يكون قيام الأمارة على وجوب شيء مثلاً موجباً لحدوث مصلحة في ذات الفعل ، بأن يكون قيام الأمارة من قبيل الواسطة في الثبوت لعروض المصلحة الملزمة في ذات الفعل. ولا إشكال في جريان الاستصحاب على هذا المبنى ، إذ بعد قيام الأمارة يكون الوجوب متيقناً ، فاذا شك في بقائه لا مانع من جريان الاستصحاب بالنسبة إلى هذا الوجوب الحادث لأجل قيام الأمارة ، وإن كان الوجوب الواقعي مشكوكاً من أوّل الأمر.

الوجه الثاني : أن يكون قيام الأمارة على وجوب شيء مثلاً موجباً لعروض المصلحة للفعل المقيد بكون وجوبه مؤدى الأمارة ، بأن يكون قيام الأمارة من قبيل الواسطة في العروض للمصلحة ، ولا يجري الاستصحاب على هذا المبنى ، إذ الوجوب الواقعي لم يكن متيقناً حتى نجري الاستصحاب فيه ، والوجوب

١١٤

الحادث لقيام الأمارة معلوم العدم ، لأنّه كان مقيداً بقيام الأمارة ، والمفروض عدم دلالة الأمارة على الحكم في الزمان الثاني ، وإلاّ لم يقع الشك فيه ، فلا مجال لجريان الاستصحاب ، بلا فرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية.

والاولى كما إذا أفتى مفتٍ بوجوب شيء في زمان مع تردده في الزمان الثاني ، فلا يجري استصحاب الوجوب في الزمان الثاني ، لكون الوجوب الواقعي مشكوكاً من أوّل الأمر ، والوجوب الحادث لفتوى المفتي كان مقيداً بالفتوى ، والمفروض كونه متردداً في الزمان الثاني فهو معلوم الانتفاء.

والثانية كما إذا قامت البينة على نجاسة ماءٍ في الأمس مثلاً ، ثمّ شككنا في بقاء نجاسته في اليوم ، فلا مجال لجريان الاستصحاب ، إذ النجاسة الواقعية مشكوكة من أوّل الأمر ، والنجاسة الحادثة لقيام الأمارة مقيدة بحال قيام الأمارة ، والمفروض قيام البينة على النجاسة في الأمس دون اليوم ، فالنجاسة الحادثة منتفية يقيناً. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الاشكال.

وقد أجاب عنه صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بأن اعتبار اليقين إنّما هو لأجل التعبد بالبقاء لا بالحدوث ، فمفاد أدلة الاستصحاب هو جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء ، فيكفي في جريان الاستصحاب الشك في البقاء على تقدير الثبوت ، ولا يلزم الشك الفعلي في البقاء ، فانّ صدق الشرطية لا يتوقف على صدق طرفيها.

ثمّ استشكل على نفسه بأنّ اليقين جعل موضوع الاستصحاب في لسان الأدلة ، فكيف يصح جريانه مع عدم اليقين.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠٤ و ٤٠٥.

١١٥

فأجاب بأنّ اليقين المأخوذ في أدلة الاستصحاب ليس موضوعاً للاستصحاب ، بل طريق إلى الثبوت ، فيكون التعبد بالبقاء مبنياً على الثبوت لا على اليقين بالثبوت ، وذكر اليقين في أدلة الاستصحاب لمجرد كونه طريقاً إلى الثبوت ، ففيما إذا قامت الأمارة على الثبوت يتعبد بالثبوت للأمارة ، وبالبقاء لأدلة الاستصحاب الدالة على الملازمة بين الثبوت والبقاء.

وفيه أوّلاً : أنّ ظاهر أدلة الاستصحاب كون اليقين موضوعاً له كالشك ، ولا تنافي بين كونه موضوعاً للاستصحاب وطريقاً إلى متعلقه. ولا إشكال في أنّ اليقين في مورد الاستصحاب طريقي بالنسبة إلى متعلقه ، لكنّه موضوعي بالنسبة إلى الاستصحاب وعدم جواز نقض اليقين بالشك ، لما ذكرنا سابقاً (١) من أن قوله عليه‌السلام : «لا ينبغي نقض اليقين بالشك» راجع إلى القضية الارتكازية ، وهي أنّ الأمر المبرم لا يرفع اليد عنه لأمر غير مبرم ، والمراد من الأمر المبرم في المقام هو اليقين ، ومن غير المبرم هو الشك ، فلا بدّ من وجود اليقين والشك.

وثانياً : أنّ الملازمة المدعاة بين الثبوت والبقاء في كلامه إن كان المراد منها الملازمة الواقعية ، بأن يكون مفاد أدلة الاستصحاب هو الاخبار عن الملازمة الواقعية بين الحدوث والبقاء فهو مع كونه مخالفاً للواقع ، لعدم الملازمة بين الحدوث والبقاء في جميع الأشياء ، لكونها مختلفة في البقاء غاية الاختلاف ، فبعضها آني البقاء وبعضها يبقى إلى ساعة وبعضها إلى يوم وهكذا ، مستلزم لكون أدلة الاستصحاب من الأمارات الدالة على الملازمة الواقعية بين الحدوث

__________________

(١) في ص ٢١.

١١٦

والبقاء ، وبعد إثبات هذه الملازمة ، تكون الأمارة الدالة على الثبوت دالةً على البقاء ، إذ الدليل على الملزوم دليل على اللازم ، والإخبار عن الملزوم إخبار عن اللازم وإن كان المخبر غير ملتفت إلى الملازمة ، كما سيجيء في بحث الأصل المثبت (١) إن شاء الله تعالى ، فيكون التعبد بالبقاء تعبداً به للأمارة لا للأصل العملي المجعول في ظرف الشك ، فينقلب الاستصحاب أمارةً بعد كونه من الاصول العملية ، وتكون الملازمة في المقام نظير الملازمة الواقعية الثابتة بين قصر الصلاة وإفطار الصوم بمقتضى الروايات (٢) الدالة على أنّه كلما أفطرت قصّرت وكلّما قصّرت أفطرت ، فبعد ثبوت هذه الملازمة يكون الدليل على وجوب القصر دالاً على وجوب الافطار وبالعكس ، فكذا في المقام بعد ثبوت الملازمة الواقعية بين الحدوث والبقاء بمقتضى أدلة الاستصحاب يكون نفس الدليل على الحدوث دليلاً على البقاء ، فيكون التعبد بالبقاء تعبداً به للأمارة لا للأصل العملي.

وإن كان المراد من الملازمة هي الملازمة الظاهرية بين الحدوث والبقاء ، فلازمه الملازمة الظاهرية بين حدوث التنجيز وبقائه ، ولا يمكن الالتزام بها ، إذ في موارد العلم الاجمالي بالحرمة مثلاً يكون التكليف منجّزاً ، ثمّ لو قامت بينة على حرمة بعض الأطراف بالخصوص ينحل العلم الاجمالي ، وبانحلاله يرتفع التنجز ، فانّه تابع للمنجّز ومقدّر بقدره ، فلا ملازمة بين حدوث التنجيز وبقائه ولا يلتزم بها صاحب الكفاية قدس‌سره أيضاً ، فانّه وغيره أجابوا عن استدلال الأخباريين لوجوب الاحتياط بالعلم الاجمالي بواجبات ومحرمات

__________________

(١) لاحظ ص ١٨٤.

(٢) راجع على سبيل المثال الوسائل ٨ : ٥٠٣ / أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ح ١٧.

١١٧

كثيرة بأنّ العلم الاجمالي قد انحل بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال من الواجبات والمحرمات ، وبعد انحلاله تنقلب الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي إلى الشبهة البدوية ، فيرجع إلى البراءة (١) وهذا الجواب ينادي بعدم الملازمة بين حدوث التنجز وبقائه كما ترى.

فالانصاف أنّه على القول بأنّ معنى جعل حجية الأمارات ليس إلاّالتنجيز في صورة الاصابة والتعذير مع المخالفة كما عليه صاحب الكفاية (٢) وجماعة من الأصحاب ، لا دافع لهذا الاشكال.

نعم ، يمكن الجواب بمسلك آخر ، وهو أنّ معنى جعل حجية الأمارات هو جعل الأمارات من أفراد العلم في عالم الاعتبار ، فيكون لليقين حينئذ فردان : اليقين الوجداني ، واليقين الجعلي الاعتباري ، فكما أنّ لليقين الوجداني أثرين : الأوّل : الآثار الواقعية للمتيقن. والثاني : آثار نفس اليقين إذا كان له أثر ، كما إذا كان موضوعاً لحكم من الأحكام ، فكذا اليقين الجعلي يكون له هذان الأثران ، فكما لو علمنا بحكم من الأحكام ثمّ شككنا في بقائه نرجع إلى الاستصحاب ، كذلك إذا قامت الأمارة على حكم ثمّ شككنا في بقائه لا مانع من جريان الاستصحاب.

واليقين المذكور في أدلة الاستصحاب وإن كان موضوعاً للاستصحاب ، إلاّ أنّه مأخوذ في الموضوع بما هو كاشف لا بما هو صفة خاصة ، وقد ذكرنا في مبحث القطع (٣) أنّ الأمارة تقوم مقام القطع الطريقى والقطع المأخوذ في

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٤٦.

(٢) كفاية الاصول : ٢٧٧ و ٣٤٧.

(٣) في الجزء الثاني من هذا الكتاب ، ٣٧.

١١٨

الموضوع بما هو كاشف ، وذكرنا أنّ كل مورد اخذ فيه القطع موضوعاً ظاهره أنّه موضوع بما هو كاشف ، لا بما هو صفة خاصة ، لمناسبة الحكم والموضوع بحكم العرف ، فانّه إذا قيل : إن تيقّنت بنجاسة ثوبك بعد الصلاة تجب عليك الاعادة ، فظاهره أنّ اليقين بما هو كاشف عن النجاسة قد اخذ في موضوع وجوب الاعادة ، لا بما هو صفة خاصة ، فاذا كان اليقين مأخوذاً في موضوع الاستصحاب بما هو كاشف ، فلا مانع من جريان الاستصحاب في كل مورد ثبت الحكم فيه بكاشف ثمّ شك في بقائه.

والذي يدلنا على هذا المعنى مع وضوحه : قوله عليه‌السلام في بعض أدلة الاستصحاب : «بل تنقضه بيقين آخر» فانّ المراد من هذا اليقين ليس صفة اليقين يقيناً ، إذ لا إشكال في نقض اليقين بالأمارة ، كما إذا كان متيقناً بطهارة شيء فقامت البينة على نجاسته ، فلا إشكال في وجوب الاجتناب عنه ، وكذا إذا كان متيقناً بالنجاسة فقامت البينة على الطهارة لا إشكال في عدم وجوب الاجتناب ، فاذا صح الالتزام بقيام الأمارة مقام اليقين الوجداني في قوله عليه‌السلام : «بل تنقضه بيقين آخر» لصح الالتزام بقيامها مقامه في قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» والسر في الموضعين هو ما ذكرناه من كون الأمارة يقيناً بالجعل الشرعي ، هذا كلّه في الأمارات.

وأمّا الاصول فتحقيق الحال في جريان الاستصحاب في مواردها ، أنّها على قسمين :

القسم الأوّل : ما يكون الأصل المتكفل لبيان الحكم في الزمان الأوّل متكفلاً له في الآن الثاني والثالث إلى زمان العلم بالخلاف ، ففي مثل ذلك لا معنى لجريان الاستصحاب.

مثاله قاعدة الطهارة ، فاذا شكننا في مائع أنّه بول أو ماء ، وحكمنا بطهارته

١١٩

لقاعدة الطهارة ، ثمّ شككنا في بقاء طهارته لاحتمال ملاقاته النجاسة ، فانّه لا معنى لجريان الاستصحاب حينئذ ، إذ قاعدة الطهارة كما تدل على طهارته في الزمان الأوّل ، تدل على طهارته في الزمان الثاني والثالث إلى زمان العلم بالنجاسة. وبعبارة اخرى : ان أردنا جريان الاستصحاب في الطهارة الواقعية ، فلم يكن لنا يقين بها ، وإن أردنا جريانه في الطهارة الظاهرية ، فلا يكون لنا شك في ارتفاعها حتى نحتاج إلى الاستصحاب ، بل هي باقية يقيناً.

ومن هذا القبيل قاعدة الحل بل الاستصحاب أيضاً ، فاذا كان ثوب معلوم الطهارة ثمّ شككنا في ملاقاته البول مثلاً فاستصحبنا طهارته ، ثمّ شككنا في ملاقاته الدم مثلاً ، فلا معنى لاستصحاب الطهارة بعد تحقق هذا الشك الثاني ، إذ نفس الاستصحاب الأوّل متكفل لبيان طهارته إلى زمان العلم بالنجاسة.

هذا إذا قلنا في أمثال المقام بجريان الاستصحاب في الحكم وهو الطهارة. وأمّا إذا قلنا بجريان الاستصحاب في الموضوع دون الحكم ، أي عدم ملاقاة النجاسة ، لكون الشك في الطهارة مسبباً عن الشك في الملاقاة ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب بعد الشك الثاني في المثال ، فبالاستصحاب الأوّل نحكم بعدم ملاقاة البول وتترتب عليه الطهارة من هذه الجهة ، وبعد الشك في ملاقاة الدم نجري استصحاب عدم ملاقاة الدم ونحكم بالطهارة من هذه الحيثية ، وهذا الاستصحاب في الحقيقة خارج عن محل الكلام ، إذ الكلام في جريان الاستصحاب في موارد الاصول العملية ، والاستصحاب المذكور بما أنّه مسبوق بالعلم الوجداني فهو استصحاب في مورد العلم الوجداني لا في مورد الأصل.

القسم الثاني : أن لا يكون الأصل متكفلاً لبيان الحكم في الزمان الثاني والثالث ، كما إذا شككنا في طهارة ماء فحكمنا بطهارته للاستصحاب أو لقاعدة الطهارة ثمّ غسلنا به ثوباً متنجساً ، فلولا جريان الاستصحاب أو القاعدة في

١٢٠