موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

بين كونه استغراقياً أو مجموعياً ، فكما لا فرق بينهما في الأفراد العرضية ويرجع إلى العموم في غير ما علم خروجه بمخصص متصل أو منفصل ، سواء كان بنحو العموم الاستغراقي ، كما إذا قال المولى : أكرم العلماء ، وكان مراده إكرام كل واحد من العلماء على نحو الاستقلال ، ثمّ خرج منه زيد يقيناً ، وشك في خروج فرد آخر فنرجع إلى العموم ، ونحكم بعدم خروجه ، لأنّ التخصيص بالنسبة إلى فردٍ لا يمنع شمول العام للأفراد الاخر ، أو كان بنحو العموم المجموعي كما إذا قال المولى : أكرم هذه العشرة ، وكان مراده إكرام مجموع العشرة من حيث المجموع ، ثمّ علمنا بخروج زيد من هذه العشرة ، وشككنا في خروج جزء آخر ، فنرجع إلى العموم ونحكم بعدم الخروج ، إذ التخصيص باعتبار جزءٍ لا يمنع شمول العام للأجزاء الاخر.

فكذا لا فرق بين العموم الاستغراقي والعموم المجموعي بالنسبة إلى الأفراد الطولية في جواز الرجوع إلى العام مع الشك في التخصيص ، غاية الأمر أنّه يثبت بالرجوع إلى العموم الاستغراقي حكم استقلالي ، وبالعموم المجموعي حكم ضمني للجزء المشكوك فيه ، فلا فرق بين العموم الاستغراقي والمجموعي من هذه الجهة.

لا يقال : إنّه في العموم المجموعي يكون الحكم واحداً وقد انقطع ، وإثباته ثانياً يحتاج إلى دليل.

فانّه يقال : إنّ الحكم الواحد قد انقطع بالنسبة إلى جزء واحد ، وخروج باقي الأجزاء يحتاج إلى دليل ، كما يقال في العموم الاستغراقي : إنّ خروج فرد واحد إنّما هو للمخصص ، وخروج باقي الأفراد يحتاج إلى دليل.

وحيث إنّ ظاهر كلام الشيخ قدس‌سره في المقام مخالف للقاعدة الثابتة في

٢٦١

بحث العام والخاص من صحة التمسك بالعموم ، بلا فرق بين العموم الاستغراقي والعموم المجموعي ، فتصدى المحقق النائيني (١) قدس‌سره لتوجيه كلامه ، وقال : إنّ ظاهر كلامه في الرسائل وإن كان موهماً للفرق بين العام الاستغراقي والعام المجموعي ، إلاّأنّ هذا الظاهر ليس مراده ، بل مراده على ما يظهر من كلامه في بحث خيار الغبن من المكاسب (٢) الفرق بين ما إذا كان الاستمرار قيداً لمتعلق الحكم ، وما إذا كان قيداً لنفس الحكم.

بيان ذلك : أنّ الحكم كالوجوب يحتاج إلى متعلق كالصوم ، وإلى موضوع كالمكلف أو الماء والحجر مثلاً ، وحيث إنّ الموضوع غالباً من الجواهر غير المتقدرة بالزمان ، لا يعقل كون الزمان مفرّداً له ، فانّ الماء يوم الجمعة ويوم السبت شيء واحد لا فردين من الماء ، وكذا غيره من الموضوعات الخارجية. نعم ، كون الزمان مفرّداً يتصور في نفس الحكم وفي متعلقه ، فانّ الحكم من الامور الاعتبارية ، وأمر وحدته وتعدده بيد الجاعل ـ وهو الشارع ـ فيمكن أن يعتبر الوجوب مقيداً بزمان خاص ، فيكون الوجوب في غير هذا الزمان فرداً آخر من الوجوب ، ويمكن أن يعتبر الوجوب غير مقيد بزمان خاص ، فيكون وجوباً واحداً في جميع الأزمنة. وكذا في المتعلق له أن يعتبر الصوم مقيداً بزمان خاص متعلقاً للوجوب ، فيكون الصوم في غير هذا الزمان فرداً آخر ، ويمكن أن يعتبره غير مقيد بزمان خاص ، فيكون الصوم المستمر متعلقاً للوجوب.

إذا عرفت ذلك ، ففي العموم الازماني تارةً : يكون الاستمرار مأخوذاً في

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٦٨ ـ ١٧١ ، فوائد الاصول ٤ : ٥٣٢ ـ ٥٤٥.

(٢) المكاسب ٥ : ٢٠٨.

٢٦٢

متعلق الحكم ، ويكون الحكم وارداً على الاستمرار ، كما إذا قال المولى : الصوم الأبدي واجب. واخرى : يكون الاستمرار وارداً على الحكم وحكماً من أحكامه ، كما إذا قال المولى : يجب عليكم الصوم ، ثمّ قال : إنّ هذا الحكم أبدي ، فيكون الحكم موضوعاً للاستمرار.

والفرق بين كون الاستمرار وارداً على الحكم وكونه مأخوذاً في متعلقه من وجهين :

الأوّل : أنّ الاستمرار المأخوذ في متعلق الحكم يمكن إثباته بنفس الدليل المتكفل لاثبات الحكم ، والاستمرار المأخوذ في الحكم لا يمكن إثباته بنفس الدليل المتكفل لبيان الحكم على ما تقدّم.

الثاني : أنّه إذا ورد التخصيص فيما إذا كان الاستمرار مأخوذاً في متعلق الحكم ، لا مانع من الرجوع إلى الدليل الدال على الاستمرار عند الشك في خروج بعض الأفراد ، فانّ أصالة عدم التخصيص من الاصول المحكّمة في مقام الشك ، سواء كان العموم استغراقياً أو مجموعياً.

وأمّا إذا ورد التخصيص فيما إذا كان الاستمرار مأخوذاً في نفس الحكم ، لا يمكن الرجوع إلى دليل الاستمرار عند الشك في التخصيص ، لما ذكرناه من أنّ الاستمرار قيد للحكم فلا مجال للرجوع إلى دليل الاستمرار بعد الشك في أصل الحكم ، فانّه إذا ورد حكم من الأحكام كالاباحة مثلاً ، ثمّ دل دليل على أنّ الاباحة المذكورة دائمية ، فعند الشك في ثبوت الاباحة لبعض الأفراد لا مجال للرجوع إلى دليل الاستمرار ، فانّه متكفل لبيان الاستمرار للاباحة الثابتة ، فلا يصح الرجوع إليه لاثبات الاباحة ، كما أنّه إذا شككنا في إباحة شرب التتن مثلاً ، فهل يمكن إثبات إباحته بمثل قوله عليه‌السلام : «حلال

٢٦٣

محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة ...» (١) والمقام من هذا القبيل بعينه.

هذا ملخص ما ذكره توجيهاً لكلام الشيخ قدس‌سره ثمّ ذكر كلاماً طويلاً لبيان الضابطة لتمييز موارد كون الاستمرار قيداً للحكم عن موارد كونه قيداً للمتعلق ، ليرجع إليها عند الشك في كون الاستمرار قيداً للحكم أو للمتعلق.

أقول : لا حاجة لنا إلى ذكر الضابطة والتعرض لها ، لما سنبيّنه من عدم الفرق في جواز الرجوع إلى العام بين كون الاستمرار قيداً للحكم أو للمتعلق ، فلا أثر للشك في كونه قيداً للحكم أو للمتعلق حتى نحتاج إلى بيان الضابطة ، فنقول : أمّا ما ذكره من الفرق الأوّل ، فغير تام وخلط بين مرحلتي الجعل والمجعول ، فانّ ما ذكره من عدم إمكان إثبات الاستمرار من نفس الدليل المتكفل لبيان الحكم إنّما يصح بالنسبة إلى الجعل ، فان استمراره عبارة اخرى عن عدم النسخ. ولا يمكن إثباته بنفس الدليل الدال على الحكم ، بل لا بدّ من التماس دليل آخر من استصحاب ـ على القول بجريانه عند الشك في النسخ ـ أو من نحو قوله عليه‌السلام : «حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة ...» وهذا لا دخل له بالمقام ، فانّ الكلام في تخصيص المجعول لا في تخصيص الجعل الراجع إلى النسخ ، ولا مانع من إثبات استمرار المجعول من نفس دليله ، إذ الاستمرار من قيوده ، ولا مانع من أخذه في الدليل الدال عليه كبقية القيود.

والجعل والمجعول يختلفان من حيث الاستمرار وعدمه ، فتارةً يكون الجعل

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٨ / باب البدع والرأي والمقاييس ح ١٩.

٢٦٤

مستمراً دون المجعول كالزوجية الانقطاعية ، فانّ المجعول وهو الزوجية غير مستمرٍ ، وأمّا الجعل ـ أي جواز العقد الانقطاعي ـ فهو مستمر إلى يوم القيامة ، واخرى يكون بعكس ذلك كالزوجية الدائمية مع فرض نسخ جواز العقد الدائمي ، فيكون المجعول ـ وهو الزوجية ـ مستمراً ، والجعل ـ وهو جواز العقد الدائمي ـ غير مستمر.

وملخّص الكلام في المقام : أنّه لا يمكن إثبات استمرار الجعل بمعنى عدم النسخ بنفس الدليل الدال على الحكم ، بل لو صرح في الدليل بكون الحكم دائمياً لا يمكن إثبات عدم النسخ بهذا الدليل ، فان للمولى نسخ هذا الحكم الدائمي ، ولكنّه خارج عن محل الكلام كما تقدّم. وأمّا استمرار المجعول فلا مانع من إثباته بنفس الدليل.

وأمّا ما ذكره ـ من الفرق الثاني بين كون الاستمرار راجعاً إلى نفس الحكم وكونه راجعاً إلى المتعلق ـ من أنّه لا مانع من الرجوع إلى العام عند الشك في التخصيص في الثاني دون الأوّل ، ففيه : أنّه لا مانع من الرجوع إلى العام في المقامين ، أمّا في الثاني ، فباعتراف منه قدس‌سره وأمّا في الأوّل ، فلأنّ العام ظاهر في الشمول لجميع الأفراد العرضية والطولية قبل ورود التخصيص ، وهذا الظهور حجة في غير ما خرج بالدليل.

توضيح ذلك : أنّ الأحكام تارةً تتعلق بأفعال المكلفين كما في الأحكام التكليفية ، فان حرمة الخمر مثلاً متعلقة بالشرب ، ففي مثل ذلك يكون الاستمرار راجعاً إلى متعلق الحكم ، كما أنّ التقييد بزمان خاص أيضاً راجع إلى المتعلق ، إذ قد يكون الشرب المقيد بزمان خاص متعلقاً للتكليف ، وقد يكون الشرب غير المقيد متعلقاً للتكليف. وعلى تقدير كون الشرب المستمر متعلقاً للحرمة

٢٦٥

يسري الاستمرار إلى الحرمة أيضاً لا محالة ، فيكون شرب الخمر حراماً مستمراً ، فاذا خرج من هذا الاستمرار والعموم الأزماني فرد كما إذا قال المولى : لا بأس بشرب الخمر حال المرض مثلاً ، وشككنا في الحرمة بعد البرء ، فلا مانع من التمسك بالعموم والحكم بحرمة شرب الخمر في غير ما خرج يقيناً.

واخرى تتعلق بغير الأفعال الخارجية ، كبعض الأحكام الوضعية كاللزوم ، فانّه متعلق بالملكية وهي من الامور الاعتبارية ، ويكون الاستمرار في مثل ذلك راجعاً إلى نفس الحكم ، فاذا دل دليل على استمرار هذا الحكم ثمّ خرج منه فرد ، لا مانع من الرجوع إلى العام في غير هذا الفرد الخارج ، سواء كان العموم مستفاداً من نفس الدليل الدال على الحكم أو من الدليل الخارج ، بلا فرق بين العموم المجموعي والاستغراقي. وما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره ـ من أنّ الدليل الدال على الاستمرار ناظر إلى بقاء الحكم فلا يصح الرجوع إليه عند الشك في ثبوت الحكم كما في موارد الشك في التخصيص ـ مندفع بأنّ العام يدل بظاهره على ثبوت الحكم لجميع الأفراد الطولية والعرضية قبل ورود التخصيص عليه ، وهذا الظاهر هو المتبع ما لم يدل دليل على خلافه ، فلا مانع من الرجوع إليه في غيرما خرج بالتخصيص القطعي.

فتحصّل مما ذكرناه : جواز الرجوع إلى العام بلا فرق بين كون الاستمرار راجعاً إلى الحكم أو راجعاً إلى المتعلق ، وأنّ ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره من الفرق بينهما غير تام في نفسه. ومن الغريب جعله توجيهاً لكلام الشيخ قدس‌سره فانّه ليس مراد الشيخ قدس‌سره قطعاً ، ولا يوافقه كلامه في الرسائل ولا في المكاسب ، فان صريح كلامه هو الفرق بين العموم الاستغراقي والمجموعي ، وقد عرفت ما فيه أيضاً ، هذا كلّه من حيث الكبرى.

٢٦٦

وأمّا من حيث الصغرى وأنّ قوله تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (١) هل هو من قبيل العموم الاستغراقي أو العموم المجموعي ، فيقع الكلام فيها من جهتين :

الجهة الاولى : أنّه لا ينبغي الشك في أنّ المستفاد من قوله تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» هو حكم واحد متعلق بالوفاء لا أحكام متعددة متعلقة بالوفاء في كل آنٍ من الآنات ، إذ الوفاء لا يصدق على عدم الفسخ في كل آنٍ من الآنات ، فانّ الوفاء بشيء عبارة عن إتمامه وإنهائه ، فمعنى الوفاء بالنذر هو إتمام ما التزم على نفسه لله (سبحانه وتعالى) ، وكذا الوفاء بالعقد عبارة عن إنهاء ما التزم على نفسه بالعقد ، فلا يصدق الوفاء إلاّمع إتمام مضمون العقد إلى الآخر ، فلا تكون هناك تكاليف متعددة ، حتى يكون من قبيل العموم الاستغراقي ، بل تكليف واحد على ما عرفت.

الجهة الثانية : أنّه لا ينبغي الشك في أنّ وجوب الوفاء المستفاد من الآية المباركة ليس حكماً تكليفياً بحيث يكون الفسخ حراماً تكليفياً ، بل هو إرشاد إلى اللزوم ، وأنّ الفسخ لا يؤثر شيئاً ، فيكون بمنزلة قوله عليه‌السلام : «دعي الصلاة أيام أقرائك» (٢) فانّه أيضاً إرشاد إلى مانعية الحيض وعدم صحة الصلاة منها في أيام الحيض ، وبعد كونه دليلاً على اللزوم ، في كل مورد ورد التخصيص يؤخذ به ، وفي غيره لا مانع من الرجوع إلى عموم أوفوا بالعقود ، والحكم باللزوم كما عليه المحقق الثاني (٣) قدس‌سره.

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٨٧ / أبواب الحيض ب ٧ ح ٢.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ٣٨.

٢٦٧

التنبيه الرابع عشر

هل المراد من الشك المأخوذ في الاستصحاب خصوص تساوي الطرفين ، أو عدم اليقين الشامل للظن غير المعتبر؟ وحيث إنّ الاستصحاب متقوّم باليقين والشك ، فلا بدّ من التكلم فيهما.

أمّا اليقين فقد تقدّم الكلام فيه في التنبيه الثاني (١) ، وذكرنا أنّ اليقين التعبدي كاليقين الوجداني في صحة جريان الاستصحاب معه. ومنه يظهر أنّه لا مجال لجريان الاستصحاب مع قيام الأمارة المعتبرة على ارتفاع الحالة السابقة ، فانّه بمنزلة اليقين بالارتفاع بجعل الشارع ، ويكون رفع اليد عن اليقين السابق بها من نقض اليقين باليقين ، لا من نقض اليقين بالشك.

وأمّا الشك فالظاهر أنّ المراد منه خلاف اليقين الشامل للظن ، فانّه هو المتعارف في لغة العرب ، وجعل الظن مقابلاً للشك واليقين اصطلاح مستحدث ، فالشك بمفهومه العرفي شامل للظن. مضافاً إلى وجود القرينة على جريان الاستصحاب مع الظن بارتفاع الحالة السابقة في أدلة الاستصحاب ، وهي أمران :

الأوّل : ترك الاستفصال في صحيحة زرارة (٢) في قوله عليه‌السلام : «لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام» بعد سؤاله بقوله : «فان حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم» فان قوله عليه‌السلام : «لا» أي لا يجب عليه الوضوء ، بلا استفصال بين الشك والظن يدل على عدم وجوب الوضوء مطلقاً ، مع أنّ الغالب ـ فيما إذا

__________________

(١) في ص ١٠٩.

(٢) الوسائل ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١.

٢٦٨

حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم ـ هو حصول الظن بالنوم ، ولا أقل من الكثرة بمكان لايصدق معها الندرة ، فلا يقال إنّ ترك الاستفصال إنّما هو لندرة حصول الظن ، فهو ناظر إلى الغالب.

الثاني : قوله عليه‌السلام : «حتى يستيقن» إذ جعل اليقين بالنوم غايةً لعدم وجوب الوضوء ، فيدخل الظن في المغيّى ، فلا يجب الوضوء ما لم يحصل اليقين ـ وإن حصل الظن ـ وهو المطلوب ، هذا.

وذكر الشيخ قدس‌سره (١) وجهين آخرين لجريان الاستصحاب في صورة الظن بارتفاع الحالة السابقة :

الوجه الأوّل : دعوى الاجماع على ذلك من القائلين بحجية الاستصحاب تعبداً للأخبار.

وفيه أوّلاً : عدم تحقق هذا الاجماع ، فانّ من جملة الأقوال هو القول بالتفصيل بين الشك بارتفاع الحالة السابقة والظن به على ما نقله هو قدس‌سره (٢). ومن المحتمل كون هذا المفصّل من القائلين بحجية الاستصحاب من باب التعبد للأخبار.

وثانياً : عدم حجية مثل هذا الاجماع المعلوم مدركه ، بل الاجماع المحتمل مدركه لا يكون إجماعاً تعبدياً كاشفاً عن قول المعصوم عليه‌السلام.

الوجه الثاني : أنّ الظن بارتفاع الحالة السابقة إن كان مما دل دليل على عدم اعتباره كالظن القياسي ، فوجوده كالعدم بالتعبد الشرعي ، فيترتب على وجوده

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٨٧ ـ ٦٨٨.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٥٥٨ ، والمفصِّل هو العضدي في شرح المختصر وقد ذكر الشيخ قدس‌سره أنّ كلامه صريح في اعتبار الاستصحاب من باب إفادته الظن فلاحظ.

٢٦٩

كل ما كان مترتباً على عدمه من الآثار ، ومنها الحكم ببقاء الحالة السابقة بمقتضى الاستصحاب. وإن كان الظن مما لم يدل دليل على اعتباره ، كالظن الحاصل من الشهرة مثلاً ، فحيث إنّ اعتباره مشكوك فيه ، يكون رفع اليد عن اليقين السابق به من نقض اليقين بالشك.

وفيه : أنّ الكلام في وجود المقتضي ، ومقدار دلالة الأدلة الدالة على حجية الاستصحاب ، وأ نّها هل تشمل صورة الظن بارتفاع الحالة السابقة أم لا ، وما ذكره قدس‌سره ليس إلاّبيان عدم المانع ، ولا فائدة في إحراز عدم المانع مع الشك في وجود المقتضي. ومع إحراز المقتضي وشمول الأدلة له ـ على ما ذكرناه ـ لا مجال لتوهم كون غير الحجة ـ وهو الظن غير المعتبر ـ مانعاً عن الحجة وهي الاستصحاب.

وبعبارة اخرى : معنى عدم اعتبار الظن ـ من جهة الدليل على عدم الاعتبار أو عدم الدليل على الاعتبار الراجع إليه بضميمة أصالة عدم الحجية ـ هو عدم إثبات المظنون ، وهو يوجب الرجوع إلى الاصول العملية ، وحينئذ لا بدّ من ملاحظة أدلة الاستصحاب ، فان كانت شاملة لموارد الظن بارتفاع الحالة السابقة فهو وإلاّ فيرجع إلى أصل آخر ، فمجرد كون الظن غير معتبر لا يوجب شمول أدلة الاستصحاب لموارد الظن.

وأمّا ما ذكره أخيراً من أنّ رفع اليد عن اليقين للظن المشكوك في اعتباره يكون من نقض اليقين بالشك.

فيرد عليه : أنّه لا بدّ في صدق نقض اليقين بالشك كون متعلق الشك واليقين واحداً ، وفي المقام ليس كذلك فانّ اليقين متعلق بحدوث شيء والظن متعلق بارتفاعه ، أمّا الشك فهو متعلق بحجية هذا الظن ، فليس الشك متعلقاً بما تعلق به اليقين ، وهذا ظاهر.

٢٧٠

التنبيه الخامس عشر

يعتبر في جريان الاستصحاب اتحاد القضية المتيقنة والقضية المشكوكة فيها موضوعاً ومحمولاً ، إذ المستفاد من أدلته هو وجوب المضي على اليقين السابق وعدم جواز نقضه بالشك ، ولا يصدق المضي والنقض إلاّمع اتحاد القضيتين موضوعاً ومحمولاً ، فاذا تيقنا بعدالة زيد مثلاً ، ثمّ شككنا في عدالة عمرو ، لا يكون الجري العملي ـ على طبق عدالة عمرو ـ مضياً على اليقين السابق ، وهو اليقين بعدالة زيد ، ولا عدم الجري عليه نقضاً له. وكذا في صورة اختلاف القضيتين في المحمول كما إذا تيقنا بعدالة زيد ثمّ شككنا في علمه مثلاً ، فترتيب آثار العلم لا يكون جرياً على اليقين السابق ولا عدمه نقضاً له ، وهذا ظاهر لا مجال لانكاره ، فليس تعبير العلماء عن هذا الشرط ببقاء الموضوع مبنياً على كفاية اتحاد القضيتين في الموضوع ، ولو كان المحمول فيهما مختلفاً ، فانّ هذاليس مرادهم قطعاً.

ولعل تعبيرهم ببقاء الموضوع مبني على أهمية الموضوع ، أو على أنّ المراد بقاء الموضوع بوصف الموضوعية ، وبقاؤه بوصف الموضوعية عبارة اخرى عن بقاء الموضوع والمحمول ، إذ لا يتصور بقاء الموضوع مع الوصف بدون المحمول.

أو على أنّ المراد من الموضوع هو الموضوع المأخوذ في أدلة الاستصحاب من المضي والنقض ، وبقاء هذا الموضوع أيضاً عبارة اخرى عن اتحاد القضيتين موضوعاً ومحمولاً ، وإلاّ لا يصدق المضي والنقض كما ذكرناه في الأمثلة المتقدمة.

وكيف كان ، اعتبار اتحاد القضيتين في الموضوع والمحمول يستفاد من نفس

٢٧١

أدلة الاستصحاب على ما ذكرناه.

ومن الغريب ما صدر عن الشيخ (١) قدس‌سره من الاستدلال عليه بالدليل العقلي : من أنّ قيام العرض في الخارج بلا موضوع محال ، وهو يستلزم استحالة انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر ، إذ بعد الانفصال عن الموضوع الأوّل وقبل الاتصال بالموضوع الثاني يلزم وجوده بلا موضوع ، فيعتبر في الاستصحاب بقاء الموضوع ، وإلاّ يلزم انتقال عرض من موضوع إلى موضوع آخر ، وهو محال.

ويرد عليه أوّلاً : أنّ المستصحب لايكون من الأعراض القائمة بالموضوعات الخارجية دائماً ، بل قد يكون من الجواهر ، وقد يكون من الامور الاعتبارية كالملكية والزوجية ، وقد يكون من الامور العدمية ، فالدليل المذكور أخص من المدعى.

وثانياً : أنّ استحالة وجود العرض بلا موضوع إنّما هو في الوجود التكويني لا الوجود التشريعي التعبدي ، فانّ الوجود التعبدي ليس إلاّالتعبد بالوجود بترتيب آثاره بأمر الشارع ، فلا استحالة في التعبد بانتقال عرض من موضوع إلى موضوع آخر ، فاذا أمر المولى بأ نّه إن كنت على يقين من عدالة زيد فتعبّد بعدالة أبيه بترتيب آثارها ، فلا استحالة فيه أصلاً.

وثالثاً : أنّ هذا الاستدلال على تقدير تماميته تبعيد للمسافة ، إذ نفس أدلة الاستصحاب وافية باعتبار اتحاد القضيتين موضوعاً ومحمولاً على ما تقدّم.

ثمّ إنّ المستصحب قد يكون من الموضوعات ، وقد يكون من الأحكام.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٩١.

٢٧٢

وعلى الأوّل ، فقد يكون المحمول في القضية المتيقنة والمشكوك فيها ما هو من قبيل مفاد كان أو ليس التامة المعبّر عنهما بالمحمولات الأوّلية ، باعتبار أنّ كل متصور لا بدّ وأن يحمل عليه الوجود أو العدم ، لاستحالة ارتفاع النقيضين كاجتماعهما. فتارةً يكون المحمول هو الوجود ، كما إذا تيقّنا بوجود زيد ثمّ شككنا في بقائه ، واخرى يكون هو العدم كما إذا تيقّنا بعدمه ثمّ شككنا في بقائه وانقلابه إلى الوجود ، ففي مثل ذلك يكون الموضوع هو الماهية المجردة عن قيد الوجود والعدم ومحموله الوجود أو العدم ، فيقال : إنّ هذه الماهية كانت موجودة ، فشك في بقائها والآن كما كانت ، أو يقال : إنّ هذه الماهية كانت معدومة فشك في بقائها ، ومقتضى الاستصحاب بقاؤها. ولا يعقل في مثله اعتبار بقاء الموضوع في الخارج ، إذ مع العلم ببقاء زيد في الخارج لا يبقى مجال لجريان الاستصحاب ، لعدم الشك حينئذ في البقاء.

وقد يكون المحمول في القضيتين ما هو من قبيل مفاد كان أو ليس الناقصة المعبّر عنهما بالمحمولات الثانوية قبالاً للمحمولات الأوّلية ، فتشمل المحمولات الثالثية أو الرابعية وهكذا ، فمنها قيام زيد مثلاً ، فانّه لا يحمل عليه إلاّبعد حمل الوجود عليه ، ومنها سرعة حركة زيد ، فانّها متوقفة على حمل الحركة على زيد المتوقف على حمل الوجود عليه ، وهكذا سائر المحمولات المترتب بعضها على بعض في سلسلة الوجود ، فان جميعها من المحمولات الثانوية بهذا المعنى المقابل للمحمولات الأوّلية ، فاذا كان المحمول في القضيتين من هذا القبيل ، فهو على ثلاثة أقسام :

القسم الأوّل : ما يكون الشك في بقائه ناشئاً من الشك في بقاء الموضوع مع العلم ببقائه على تقدير بقاء الموضوع ، كما إذا شككنا في بقاء عدالة زيد للشك في حياته مع العلم بعدالته على تقدير حياته. القسم الثاني : ما لا يكون الشك في

٢٧٣

بقائه ناشئاً من الشك في بقاء الموضوع ، بل يشك في بقائه ولو على تقدير وجود الموضوع. وهذا تارةً يكون مع إحراز بقاء الموضوع ، كما إذا شككنا في بقاء عدالة زيد مع العلم بحياته ، واخرى يكون مع الشك في بقاء الموضوع أيضاً ، كما إذا شككنا في بقاء عدالة زيد مع الشك في حياته.

أمّا القسم الثاني : وهو ما إذا كان الشك في بقاء المحمول مع إحراز الموضوع ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه لتمامية أركانه.

وأمّا القسم الأوّل : فقد يشكل جريان الاستصحاب فيه ، لأنّه لا يجري الاستصحاب في المحمول كالعدالة ـ في مفروض المثال ـ لعدم إحراز الموضوع ، ولا معنى للتعبد بالعدالة بلا موضوع ، ولا يجري الاستصحاب في الموضوع كحياة زيد في المثال ، لعدم كون العدالة من الآثار الشرعية لحياة زيد ، بل من اللوازم العقلية من باب الاتفاق للعلم بعدالته على تقدير حياته.

ومما ذكرناه ظهر الاشكال في جريان الاستصحاب في القسم الثالث أيضاً ، فانّه لا يجري الاستصحاب في العدالة ، لعدم إحراز الموضوع ، ولا في الموضوع لترتيب العدالة ، لعدم كونها من الآثار الشرعية ، بل ولا من اللوازم العقلية في هذا القسم ، لعدم العلم فيه بعدالته على تقدير حياته ، فمن المحتمل عدم عدالته على تقدير حياته. ولايجري الاستصحاب في الموضوع مقدمةً لجريانه في العدالة بأن يحرز الموضوع أوّلاً بالاستصحاب ، ثمّ يجري الاستصحاب في العدالة ، لعدم ترتب أثر شرعي على جريانه في الموضوع ، ومن هنا قد يتوهم أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع في الخارج زائداً على اعتبار اتحاد القضيتين ، هذا.

والتحقيق جريان الاستصحاب في القسم الأوّل والثالث أيضاً.

٢٧٤

أمّا القسم الأوّل : فيجري الاستصحاب فيه في الاتصاف وثبوت الوصف للموضوع ، بأن يقال : ثبوت العدالة لزيد كان متيقناً فالآن كما كان. وبعبارة اخرى : زيد المتصف بالعدالة كان موجوداً يقيناً ، والآن كما كان. ونظيره ما إذا شككنا في بقاء الزوجية بين امرأة وزوجها الغائب لاحتمال موته ، فيجري استصحاب بقاء الزوجية وتترتب عليه آثارها. نعم ، لا يترتب على هذا الاستصحاب الأثر الشرعي المتوقف على تحقق الموضوع في الخارج ، كجواز الاقتداء بزيد في مفروض المثال فانّه متوقف على وجود زيد العادل في الخارج ليركع بركوعه. وليس هذا من ناحية القصور في الاستصحاب ، بل من ناحية القصور في الأثر ، ولذا لا تكفي في ترتبه الأمارة كالبينة أيضاً ، لتوقفه على العلم الوجداني بوجود زيد العادل في الخارج.

وأمّا القسم الثالث : فيجري فيه الاستصحاب أيضاً ، لأنّ الأثر الشرعي مترتب على الموضوع المركب من وجود زيد وعدالته ، وقد ذكرنا في المباحث السابقة (١) : أنّه إذا كان الموضوع مركباً فتارةً يحرز أحدهما بالوجدان والآخر بالأصل ، كما إذا شككنا في بقاء كرية ماء موجود في الخارج ، فان وجود الماء محرز بالوجدان ، وكريته محرزة بالاستصحاب ، فيترتب عليه الحكم وهو عدم الانفعال ، وكذا إذا شككنا في بقاء إطلاقه مع العلم بكونه كراً ، فيحرز إطلاقه بالأصل ، وكريته بالوجدان.

واخرى يحرز كلاهما بالأصل ، كما إذا شككنا في بقاء كريته مع الشك في بقاء اطلاقه ، والمقام من هذا القبيل ، فبعد الشك في بقاء العدالة مع الشك في بقاء الحياة ، يجري الاستصحاب في كليهما. ومجرد كون أحدهما في طول الآخر

__________________

(١) مرّ أحد شقيه في ص ٢١٣.

٢٧٥

ـ بحسب الوجود الخارجي ـ لا يمنع من جريان الاستصحاب فيهما معاً.

ولايخفى أنّه يجري في القسم الأوّل كل ما ذكرناه في القسم الثالث وبالعكس ، فيمكن جريان الاستصحاب فيهما بكيفيتين : ذكرنا إحداهما في القسم الأوّل ، والاخرى في القسم الثالث من باب التفنن. هذا كله في جريان الاستصحاب في الموضوعات.

أمّا جريانه في الأحكام ، فبيانه : أنّ الحكم المشكوك فيه تارةً يكون من الأحكام الجزئية كما في الشبهات الموضوعية. واخرى يكون من الأحكام الكلية ، وهذا على قسمين : لأنّ الشك في بقاء الحكم الكلي إمّا أن يكون في ناحية الجعل لاحتمال النسخ ، وإمّا أن يكون في ناحية المجعول فهذه هي أقسام ثلاثة :

أمّا إذا كان الشك في الحكم الجزئي ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، لكونه محكوماً بالأصل السببي ، إذ الشك في الحكم في الشبهات الموضوعية مسبب عن الشك في بقاء الموضوع ، فبجريان الأصل الموضوعي يترتب الحكم ولا تصل النوبة إلى جريان الاستصحاب في الحكم ، بل لا يجري الاستصحاب في الحكم ولو لم يجر الاستصحاب في الموضوع لمانع كابتلائه بالمعارض ، وذلك لعدم إحراز بقاء الموضوع ، فلم يحرز اتحاد القضية المتيقنة والقضية المشكوك فيها.

وأمّا إذا كان الشك في الحكم الكلي لاحتمال النسخ ، فلا يجري الاستصحاب فيه ، لأنّ النسخ بمعنى الرفع مستحيل في حقه تعالى ، والنسخ بمعنى الدفع يرجع إلى الشك في حدوث التكليف لا في بقائه ، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه ، فان كان لدليل الحكم إطلاق يتمسك به ويحكم ببقاء الحكم المجعول فهو ،

٢٧٦

فيرجع إلى الأدلة الخارجية من قوله عليه‌السلام : «حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة ...» (١) وقد تقدّم تفصيل ذلك في التنبيه السابع ، فراجع (٢).

وأمّا إذا كان الشك في الحكم الكلي من غير ناحية النسخ ، ففيه تفصيل ، إذ الشك في بقاء الحكم من غير ناحية النسخ لا يعقل إلاّمع حدوث تغير في الموضوع ، وهذا التغير الذي أوجب الشك في الحكم على ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يكون القيد الذي تغير بانقلاب الوجود إلى العدم أو العكس مقوّماً للموضوع بنظر العرف ، بحيث لو ثبت الحكم مع عروض التغير كان حكماً جديداً لموضوع آخر لابقاء الحكم للموضوع الأوّل ، كما في جواز التقليد فان موضوعه العالم ، فلو زال عنه العلم وصار جاهلاً يكون موضوعاً آخر ، إذ العلم مقوّم لموضوع جواز التقليد في نظر العرف ، والعالم والجاهل موضوعان لا موضوع واحد تغيرت حالة من حالاته ، ففي مثل ذلك لا مجال لجريان الاستصحاب لعدم صدق النقض على عدم ترتيب أثر اليقين السابق حين الشك ، فلا يكون مشمولاً لأدلة الاستصحاب.

وظهر بما ذكرناه فساد الاستدلال على نجاسة أولاد الكفار بالاستصحاب ، لكونهم نجسين حال كونهم منياً أو دماً ، ولم يدل دليل على طهارتهم بعد ذلك كما دل على طهارة ولد المسلم ، وذلك لتعدد الموضوع وعدم اتحاد القضية المتيقنة والقضية المشكوك فيها فولد الكافر ـ على تقدير نجاسته ـ موضوع آخر للنجس غير المني والدم ، كما هو ظاهر.

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٨ / باب البدع والرأي والمقاييس ح ١٩.

(٢) ص ١٧٥ وما بعدها.

٢٧٧

الثاني : أن يكون القيد من الحالات وغير دخيل في قوام الموضوع في نظر العرف ، كما إذا قال المولى : أكرم هذا القائم ، فشك في وجوب إكرامه بعد الجلوس ، فانّ العرف يرى القيام والقعود من الحالات ، بحيث لو ثبت وجوب الاكرام حال جلوسه كان بقاءً للحكم الأوّل لا حدوث حكم جديد. ولا إشكال في جريان الاستصحاب في هذا القسم ، كما هو ظاهر. هذا كله مع قطع النظر عما ذكرناه من معارضته باستصحاب عدم الجعل على ما تقدم بيانه (١).

الثالث : أن يشك في أنّ القيد مقوّم للموضوع أو من الحالات كالماء المتنجس بالتغير ، فبعد زوال التغير يشك في بقاء النجاسة ، لعدم العلم بأنّ التغير مقوّم لموضوع الحكم بالنجاسة ، أو من قبيل الحالات. وبعبارة اخرى الشك في أنّ التغير هل هو علة لثبوت النجاسة للماء ، فلا يكون بقاؤها منوطاً ببقائه ، أو قيد للموضوع لتكون النجاسة دائرة مداره وجوداً وعدماً.

وربما يكون الشك في بقاء الحكم في هذا القسم من جهة الشبهة المفهومية ، فانّها أيضاً من الشبهات الحكمية ، كما إذا شككنا في أنّ الغروب الذي هو الغاية لوقت صلاة الظهرين هل هو عبارة عن استتار القرص ، أو عن ذهاب الحمرة المشرقية عن قمة الرأس.

ولا يجري الاستصحاب في هذا القسم كما في القسم الأوّل ، إذ مع الشك في كون القيد الزائل مقوّماً للموضوع لم يحرز اتحاد القضيتين ، فلم يحرز صدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن الحكم السابق ، فيكون التمسك بأدلة الاستصحاب من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، بلا فرق بين الشبهة المفهومية وغيرها من الشبهات الحكمية. وكما لا يجري الاستصحاب الحكمي في

__________________

(١) في ص ٤٢ وما بعدها.

٢٧٨

الشبهة المفهومية ـ لما ذكرناه من عدم إحراز اتحاد القضيتين ـ لا يجري الاستصحاب الموضوعي أيضاً ، لعدم الشك في شيء راجع إلى الموضوع حتى يكون مورداً للاستصحاب ، فان استتار القرص متحقق يقيناً ، وذهاب الحمرة لم يتحقق كذلك. وأمّا استصحاب الموضوع بوصف الموضوعية ، فهو عبارة اخرى عن استصحاب الحكم ، إذ بقاء الموضوع بوصف الموضوعية ليس إلاّ عبارة اخرى عن بقاء الحكم.

ولا يخفى أنّ الشك في بقاء نجاسة المتنجسات بعد استحالتها داخل في هذا القسم ، فلو تنجست خشبة مثلاً ، ثمّ احترقت فصارت رماداً فشك في بقاء نجاستها لم يمكن التمسك باستصحابها ، إذ المتصيد من أبواب الفقه أن كل جسم لاقى نجساً فهو نجس ، ولا ندري أنّ الموضوع لهذا الحكم هل هو الجسم بما هو جسم ـ لتكون النجاسة باقيةً ببقاء الجسمية ـ أو الموضوع له هي الصورة النوعية الخشبية ، وأنّ أخذ الجسم في قولهم : كل جسم لاقى ... إنّما هو للاشارة إلى عموم الحكم وعدم اختصاصه بنوع دون نوع آخر.

وأمّا النجاسات العينية فهي من القسم الأوّل ، فانّ النجاسات العينية امور مخصوصة كالكلب مثلاً ، فاذا وقع في مملحة وصار ملحاً ، لايصدق عليه الكلب ، بل هو نوع من الملح ، ولذا حكم المحقق الثاني قدس‌سره ـ على ما حكاه الشيخ (١) قدس‌سره عنه ـ بارتفاع النجاسة بالاستحالة في باب النجاسات دون المتنجسات.

وتحصّل مما ذكرناه : أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب العلم بكون القيد غير مقوّم للموضوع كما في القسم الثاني ، ليحرز اتحاد القضية المتيقنة والقضية

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٩٤.

٢٧٩

المشكوك فيها.

ومن هنا وقع الكلام بينهم في أنّ الموضوع المعتبر بقاؤه في جريان الاستصحاب هل هو مأخوذ من العقل ، أو من الدليل الشرعي ، أو من العرف. وليعلم أنّ الترديد بين الامور الثلاثة إنّما هو في الشبهات الحكمية فقط ، إذ الموضوع في الشبهات الموضوعية هي الامور الجزئية الخارجية ، وليس الدليل الشرعي متكفلاً ببيانها ، فانّه من المعلوم أنّ الدليل الدال على حرمة الخمر مثلاً لايدل على أنّ هذا المائع خمر أو ليس بخمر ، فلا يمكن أخذ الموضوع في الشبهات الموضوعية من الدليل الشرعي ، فالترديد فيها بين العقل والعرف.

وذكر الشيخ (١) قدس‌سره : أنّه لو اقتصر بالدقة العقلية ، لكان جريان الاستصحاب مختصاً بموارد الشك في الرافع.

وذكر صاحب الكفاية (٢) قدس‌سره : أنّه لو اقتصر بالدقة العقلية لما بقي لجريان الاستصحاب مورد أصلاً ، إذ لو لم يقع التغير في الموضوع بوجه من الوجوه ، لم يقع الشك في الحكم ، ومع التغير بانقلاب وجودٍ إلى العدم أو العكس ، لا يكون الموضوع باقياً بالدقة العقلية ، فلا يجري الاستصحاب.

ويرد على ظاهر كلام الشيخ ـ مضافاً إلى ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره ـ أنّ الشيخ قدس‌سره قائل باختصاص جريان الاستصحاب بموارد الشك في الرافع ، مع قطع النظر عن اعتبار وحدة الموضوع بالدقة العقلية ، فلا يلزم محذور من الالتزام بوحدة الموضوع بالدقة العقلية ، مع أنّه ذكر هذا الكلام ـ أي لو اقتصر بالدقة العقلية لكان الاستصحاب مختصاً بموارد الشك في الرافع ـ

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٩٣.

(٢) كفاية الاصول : ٤٢٧.

٢٨٠