موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

الخامس : الدم من كل ما له نفس سائلة إنساناً أو غيره ، كبيراً أو صغيراً (١).

______________________________________________________

نجاسة الدّم‌

(١) نجاسة الدم من المسائل المتسالم عليها عند المسلمين في الجملة ، بل قيل إنها من ضروريات الدين ، ولم يخالف فيها أحد من الفريقين وإن وقع الكلام في بعض خصوصياته كما يأتي عليها الكلام. وليس الوجه في نجاسته قوله عزّ من قائل ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) (١).

وذلك أما أوّلاً : فلعدم رجوع الضمير في قوله « فإنّه » إلى كل واحد مما تقدّمه ، وإنما يرجع إلى خصوص الأخير ، أعني لحم الخنزير.

وأمّا ثانياً : فلأن الرجس ليس معناه هو النجس وإنما معناه الخبيث والدني المعبّر عنه في الفارسية بـ « پليد » لصحة إطلاقه على الأفعال الدنيئة كما في قوله تعالى ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) (٢). فإنّ الميسر من الأفعال ولا معنى لنجاسة الفعل. بل الدليل على نجاسته في الجملة هو التسالم القطعي والنصوص الواردة في المسألة كما تأتي ، فالتكلّم في أصل نجاسته ممّا لا حاجة إليه. وحيث إنّ أكثر نصوص المسألة قد وردت في موارد خاصّة كما‌

__________________

(١) الأنعام ٦ : ١٤٥.

(٢) المائدة ٥ : ٩٠.

١

في الدم الخارج عند حك البدن (١) وقلع السن (٢) ونتف لحم الجرح (٣) ودم القروح والجروح (٤) ودم الحيض (٥) ودم الرّعاف (٦). وغير ذلك من الموارد الخاصة ، فالمهم أن يتكلّم في أنه هل يوجد في شي‌ء من أدلة نجاسته ما يقتضي بعمومه نجاسة كل دم على الإطلاق حتى يتمسك به عند الشك في بعض أفراده ومصاديقه ، ويحتاج الحكم بطهارته إلى دليل مخرج عنه ، أو أن الحكم بنجاسته يختص بالموارد المتقدمة وغيرها ممّا نصّ على نجاسته؟

والأوّل هو الصحيح ويمكن أن يستدل عليه بوجهين :

أحدهما : ارتكاز نجاسته في أذهان المسلمين على وجه الإطلاق من غير اختصاصه بعصر دون عصر ، لتحققه حتى في عصرهم عليهم‌السلام والخلاف وإن‌

__________________

(١) كما ورد في رواية مثنى بن عبد السلام عن الصادق عليه‌السلام قال « قلت له : إنّي حككت جلدي فخرج منه دم ، فقال : إن اجتمع قدر حمصة فاغسله وإلاّ فلا » الوسائل ٣ : ٤٣٠ / أبواب النجاسات ب ٢٠ ح ٥.

(٢) علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام « عن الرجل يتحرك بعض أسنانه وهو في الصلاة هل ينزعه؟ قال : إن كان لا يدميه فلينزعه وإن كان يدميه فلينصرف. وعن الرجل يكون به الثالول أو الجرح هل يصلح له أن يقطع الثالول وهو في صلاته أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح ويطرحه؟ قال : إن لم يتخوّف أن يسيل الدم فلا بأس وإن تخوّف أن الدم يسيل فلا يفعله » الوسائل ٧ : ٢٨٤ / أبواب قواطع الصلاة ب ٢٧ ح ١ ،

(٣) علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام « عن الرجل يتحرك بعض أسنانه وهو في الصلاة هل ينزعه؟ قال : إن كان لا يدميه فلينزعه وإن كان يدميه فلينصرف. وعن الرجل يكون به الثالول أو الجرح هل يصلح له أن يقطع الثالول وهو في صلاته أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح ويطرحه؟ قال : إن لم يتخوّف أن يسيل الدم فلا بأس وإن تخوّف أن الدم يسيل فلا يفعله » الوسائل ٧ : ٢٨٤ / أبواب قواطع الصلاة ب ٢٧ ح ١ ،

(٤) سماعة بن مهران عن الصادق عليه‌السلام قال : « إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا يغسله حتى يبرأ وينقطع الدم » الوسائل ٣ : ٤٣٥ / أبواب النجاسات ب ٢٢ ح ٧.

(٥) أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام أو أبي جعفر عليه‌السلام قال : « لا تعاد الصلاة من دم لا تبصره غير دم الحيض فإن قليله وكثيره في الثوب إن رآه أو لم يره سواء » الوسائل ٣ : ٤٣٢ / أبواب النجاسات ب ٢١ ح ١. وعن سورة بن كليب عن أبي عبد الله عليه‌السلام « عن المرأة الحائض أتغسل ثيابها التي لبستها في طمثها؟ قال : تغسل ما أصاب ثيابها من الدم » الوسائل ٣ : ٤٤٩ / أبواب النجاسات ب ٢٨ ح ١.

(٦) محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل يأخذه الرعاف والقي‌ء في الصلاة كيف يصنع؟ قال : ينفتل فيغسل أنفه ... » الوسائل ٧ : ٢٣٨ / أبواب قواطع الصلاة ب ٢ ح ٤.

٢

وقع بين أصحابنا في بعض خصوصيات المسألة إلاّ أن نجاسته في الجملة لعلها كانت مفروغاً عنها عند الرواة ، ولذا تراهم يسألون في رواياتهم عن أحكامه من غير تقييده بشي‌ء ولا تخصيصه بخصوصية ، وكذا أجوبتهم عليهم‌السلام فإنهم لم يقيدوا الحكم بنجاسته بفرد دون فرد ، وهذا كما في صحيحة ابن بزيع قال : « كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن البئر تكون في المنزل للوضوء فتقطر فيها قطرات من بول أو دم أو يسقط فيها شي‌ء من عذرة كالبعرة ونحوها ما الذي يطهّرها حتى يحل الوضوء منها للصلاة؟ فوقّع عليه‌السلام بخطه في كتابي : ينزح منها دلاء » (١) وموثقة (٢) أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إن أصاب ثوب الرجل الدم فصلى فيه وهو لا يعلم فلا إعادة عليه ، وإن هو علم قبل أن يصلّي فنسي وصلّى فيه فعليه الإعادة » (٣) وغيرهما من الأخبار.

والأمر بالنزح في صحيحة ابن بزيع وإن كان استحبابياً لا محالة إلاّ أن السؤال عن تأثير مطلق الدم في البئر مستند إلى ارتكاز نجاسته ، إذ لو لا مغروسيتها في أذهانهم لم يكن وجه للسؤال عن حكمه ، وقد كانوا يسألونهم عن بعض مصاديقه غير الظاهرة كدم البراغيث ونحوه (٤) فهذا كله يدلنا على أن نجاسة طبيعي الدم كانت مفروغاً عنها بينهم ، فان النجس لو كان هو بعض أقسامه كان عليهم التقييد في مقام السؤال وقد عرفت أنه لا عين ولا أثر منه في الأخبار المتقدِّمة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٦ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٢١.

(٢) هذا ولكن الصحيح أن الرواية ضعيفة لأن في سندها ابن سنان ، والظاهر أنه محمد بن سنان الزاهري بقرينة رواية الحسين بن سعيد عنه ، ولا أقل من تردده بين محمد بن سنان وبين عبد الله ابن سنان. والمظنون وإن كان وثاقة الرجل وقد كنّا نعتمد على رواياته سابقاً إلاّ أن الجزم بها في نهاية الإشكال ، ومن هنا بنينا أخيراً على عدم وثاقته فلا يمكن الركون على رواياته حينئذ.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٧٦ / أبواب النجاسات ب ٤٠ ح ٧.

(٤) ففي صحيحة الحلبي قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة فيه؟ قال : لا ، وإن كثر » الوسائل ٣ : ٤٣١ / أبواب النجاسات ب ٢٠ ح ٧ ، وص ٤٣٦ ب ٢٣ ح ٤.

٣

وثانيهما : إطلاق موثقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سئل عما تشرب منه الحمامة؟ فقال : كل ما أُكل لحمه فتوضأ من سؤره واشرب ، وعن ماء شرب منه باز ، أو صقر ، أو عقاب؟ فقال : كل شي‌ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه ، إلاّ أن ترى في منقاره دماً ، فإن رأيت في منقاره دماً فلا توضأ منه ولا تشرب » (١) لأن الدم الواقع في كلامه عليه‌السلام مطلق فيستكشف من حكمه بعدم جواز الوضوء من الماء في مفروض السؤال ، نجاسة الدم على إطلاقه.

وقد يقال : الرواية غير واردة لبيان نجاسة الدم حتى يتمسك بإطلاقها ، وإنما هي مسوقة لإعطاء ضابط كلي عند الشك في نجاسة شي‌ء وطهارته وأن نجاسة المنقار ومنجسيته للماء القليل تتوقفان على العلم بوجود النجاسة فيه.

يدفعه : أنها غير واردة لإعطاء الضابطة عند الشك في نجاسة شي‌ء ، لأنّها تقتضي الحكم بطهارة الماء في مفروض السؤال حتى مع العلم بوجود الدم في منقار الطيور سابقاً من دون أن يرى حال ملاقاته للماء ، مع أن الضابط المذكور يقتضي الحكم بنجاسة الماء حينئذ للعلم بنجاسة المنقار سابقاً.

فالصحيح أن يقال : إن الرواية إما وردت لبيان عدم تنجس بدن الحيوان بالنجاسات كما هو أحد الأقوال في المسألة ومن هنا حكم عليه‌السلام بطهارة الماء عند عدم رؤية الدم في منقاره ولو مع العلم بوجوده سابقاً لطهارة المنقار على الفرض ، وأما مع مشاهدة الدم في منقاره فنجاسة الماء مستندة إلى عين النجس لا إلى نجاسة المنقار ، وإما أنها مسوقة لبيان طهارة بدن الحيوان بزوال العين عنه وإن كان يتنجس بالملاقاة كما هو المعروف ، وإما أنها واردة لبيان عدم اعتبار استصحاب النجاسة في الحيوانات تخصيصاً في أدلة اعتباره كما ذهب إليه بعض الأعلام.

وكيف كان فدلالة الرواية على نجاسة الدم غير قابلة للإنكار ، ولا نرى مانعاً من التمسك بإطلاقها. وليست الرواية من الكبرى المسلمة في محلها من أن الدليل إذا كان بصدد البيان من جهة ولم يكن بصدده من جهة أُخرى لا يمكن التمسك بإطلاقها إلاّ‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٣٠ / أبواب الأسآر ب ٤ ح ٢ ، وورد قطعة منها في الوسائل ٣ : ٥٢٧ أبواب النجاسات ب ٨٢ ح ٢.

٤

من الناحية التي وردت لبيانها كما في قوله تعالى ( فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ ) (١) حيث يجوز التمسك في الحكم بجواز أكل ما يصيده الصيود وإن مات قبل دركه ، لأنه ورد لبيان أن إمساكه تذكية للصيد وكأنه استثناء من قوله تعالى ( إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (٢) ولا يسوغ التمسك بإطلاقه من جهة تنجسه بريق فم الكلب أو بنجاسة أُخرى حتى يحكم بجواز أكله من غير غسل لعدم كونه بصدد البيان من هذه الجهة ، وذلك لأن الموثقة سيقت لبيان نجاسة الدم على جميع المحتملات الثلاثة فيصح التمسّك بإطلاقه ، ويكفينا ذلك في الحكم بنجاسته وإن لم يكن في البين دليل آخر ، لأنّ عدم جواز التوضؤ من الماء في مفروض الرواية يكشف عن عدم طهارة الدم المشاهد في منقار الطائر.

بل يمكن أن يقال : إن الشارع جعل الدم في منقاره أمارة كاشفة عن أنه من الدماء النجسة وإلاّ لم يكن وجه للحكم بعدم جواز التوضؤ من الماء ، لأن الدم على قسمين : طاهر ونجس فمن أين علمنا أن الدم في منقار الطائر من القسم النجس ، وحيث إن الشبهة موضوعية فلا بدّ من الحكم بطهارته ، إلاّ أن الشارع جعل وجوده في منقاره أمارة على نجاسته ولو من باب الغلبة ، لأن جوارح الطيور كثيرة الانس بالجيف.

والمتحصِّل أنّ الموثقة تقتضي الحكم بنجاسة الدم مطلقاً ، سواء كان من الدم المسفوح أم من المتخلف في الذبيحة وسواء كان مما له نفس سائلة أم كان من غيره إلاّ أن يقوم دليل على طهارته وخروجه عن إطلاق الموثقة كما يأتي في الدم المتخلف في الذبيحة ودم ما لا نفس له.

ودعوى : أن الرواية تختص بدم الميتة لأنه الذي يتلوث به منقار الطيور الجارحة دون غيره ، غير مسموعة لأنا وإن سلّمنا غلبة ذلك إلاّ أن اختصاصه مسلّم العدم لجواز أن يتلوّث بدم مثل السمك أو غيره مما لا نفس له أو بدم المتخلف في الذبيحة أو الصيد الذي أمسكه الصيود. فالموثقة باقية على إطلاقها ، ولا يمكن حملها على صورة العلم بمنشإ الدم المشاهد في منقار الطيور والحكم بنجاسته فيما إذا علم أنه مما له نفس سائلة أو من الدم المسفوح لأنه حمل لها على مورد نادر ، إذ الغالب عدم العلم بمنشأه‌

__________________

(١) المائدة ٥ : ٤.

(٢) المائدة ٥ : ٣.

٥

قليلاً كان الدم أو كثيراً (١)

______________________________________________________

وكيف كان فلا مناقشة في شمولها لمطلق الدماء إلاّ أنها مختصة بدم الحيوان ، لأنه الذي يتلوث به منقار الطيور ولا تشمل الدم النازل من السماء آية كما في زمان موسى عليه‌السلام أو الموجود تحت الأحجار عند قتل سيد الشهداء عليه‌السلام. هذا على أن للمناقشة الصغروية في مثله مجالاً واسعاً ، لاحتمال أن يكون الدم إسماً لخصوص المائع الأحمر المتكوّن في خصوص الحيوان دون ما خرج من الشجر أو نزل من السماء ونحوهما ، فإطلاق الدم على مثلهما إطلاق مسامحي للمشابهة في اللون.

(١) لأنّ مقتضى الوجهين المتقدمين هو الحكم بنجاسة كل ما صدق عليه أنه دم ، وخالف في ذلك الشيخ (١) وجماعة وذهبوا إلى عدم نجاسة الدم القليل الذي لا يدركه الطرف ، نظراً إلى صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلك الدم قطعاً صغاراً فأصاب إناءه هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال : إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس وإن كان شيئاً بيناً فلا تتوضأ منه ... » (٢).

ويندفع بأن الصحيحة لا دلالة لها على طهارة ما لا يدركه الطرف من الدم ، لعدم فرض إصابة الدم لماء الإناء وإنما فرض فيها إصابته للإناء ، ومن هنا حكم عليه‌السلام بعدم البأس بالماء وقد قدّمنا تفصيل الجواب عن هذه الصحيحة في بحث انفعال الماء القليل ، فراجع (٣).

ثم إن في المقام خلافاً ثانياً وهو عدم نجاسة ما دون الحمصة من الدم ذهب إليه الصدوق (٤) قدس‌سره ولعلّه استند في ذلك إلى رواية الفقه الرضوي : « وإن كان الدم حمصة فلا بأس بأن لا تغسله إلاّ أن يكون الدم دم الحيض فاغسل ثوبك منه‌

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٢٣ ذيل الحديث ٥٧.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٠ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ١.

(٣) شرح العروة ٢ : ١٤٤.

(٤) الفقيه ١ : ٤٢ / ١٦٥.

٦

وأمّا دم ما لا نفس له فطاهر ، كبيراً كان أو صغيراً كالسمك والبق والبرغوث (١)

______________________________________________________

ومن البول والمني قلّ أو كثر وأعد منه صلاتك علمت به أو لم تعلم » (١) فإن عبارة الصدوق في الفقيه كما في الحدائق (٢) موافقة لعبارة الفقه الرضوي بل هي هي بعينها إلاّ في مقدار يسير. نعم ، في عبارة الفقيه : وإن كان الدم دون حمّصة ، وقد سقطت كلمة « دون » من عبارة الفقه الرضوي. كما يحتمل استناده إلى رواية مثنى بن عبد السلام المتقدِّمة (٣) إلاّ أن ما ذهب إليه مما لا يمكن المساعدة عليه لضعف الروايتين ، بل وعدم ثبوت كون الفقه الرضوي رواية فضلاً عن اعتباره ، ولعل مراده قدس‌سره هو العفو عما دون الحمصة من الدم في الصلاة لا طهارته.

بقي في المسألة خلاف ثالث وهو عدم نجاسة دون الدرهم من الدم والبول وغيرهما من الأعيان النجسة غير دم الحيض والمني ، ذهب إليه ابن الجنيد (٤) ولعلّه كما قيل اعتمد في نفي نجاسة ما دون الدرهم من الدم على الأخبار الواردة في العفو عنه في الصلاة وقاس عليه سائر النجاسات ، ولا بعد في عمله بالقياس لأنّ فتاواه كثيرة المطابقة لفتاوى العامة. وكيف كان فإن أراد من ذلك عدم نجاسة ما دون الدرهم من النجس فهو دعوى من غير دليل ومقتضى إطلاقات أدلة النجاسات عدم الفرق بين كونها أقل من مقدار الدرهم وكونها أكثر ، وإن أراد العفو عما دونه فهو مختص بالدم ولا يتم في غيره من النجاسات.

(١) كما هو المشهور وعن الشيخ في المبسوط (٥) والجمل (٦) وغيره (٧) في غيرهما‌

__________________

(١) فقه الرضا : ٩٥.

(٢) الحدائق ٥ : ٤٤.

(٣) في ص ١.

(٤) المختلف ١ : ٣١٧ المسألة ٢٣٣.

(٥) المبسوط ١ : ٣٥.

(٦) الجمل والعقود : ١٧٠ ١٧١.

(٧) المراسم : ٥٥.

٧

ما يوهم نجاسته وثبوت العفو عنه.

وقد استدلّ للمشهور بوجوه :

الأوّل : الإجماع على طهارة الدم مما لا نفس له ، ويدفعه : أن الإجماع على تقدير تحقّقه ليس بإجماع تعبّدي ، لاحتمال استنادهم في ذلك إلى قوله تعالى : « إلاّ أن يكون دماً مسفوحاً » (١) بدعوى عدم شموله لدم ما لا نفس له ودلالته على طهارته ، وإن كان قد عرفت عدم دلالته على نجاسة الدم المسفوح فكيف بالاستدلال بها على طهارة غيره ، أو استنادهم إلى أحد الوجوه الآتية في الاستدلال.

الثاني : ما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من أنه كان لا يرى بأساً بدم ما لم يذك يكون في الثوب فيصلي فيه الرجل ، يعني دم السمك وقد رواه في الوسائل عن السكوني ، ونقل أنّ الشيخ رواه بإسناده عن النوفلي (٢). ويردّه : أنه على تقدير تمامية سنده فإنما يدل على ثبوت العفو عن دم السمك في الصلاة وكلامنا في طهارته لا في ثبوت العفو عنه.

الثالث : الأخبار الواردة في نفي البأس عن دم البق والبرغوث ، منها : ما رواه عبد الله بن أبي يعفور قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في دم البراغيث؟ قال : ليس به بأس ، قلت : إنه كثير ويتفاحش ، قال : وإن كثر ... » (٣). ومنها : مكاتبة محمد بن ريان قال : « كتبت إلى الرجل عليه‌السلام : هل يجري دم البق مجرى دم البراغيث؟ وهل يجوز لأحد أن يقيس بدم البق على البراغيث فيصلي فيه ، وأن يقيس على نحو هذا فيعمل به؟ فوقّع عليه‌السلام : يجوز الصلاة والطهر أفضل » )٤( ومنها غير ذلك من الأخبار.

والجواب عن ذلك : أن هذه الأخبار إنما وردت في خصوص البق والبرغوث ولا مسوّغ للتعدِّي عن موردها ، ثم لو تعدّينا فإنما نتعدّى إلى مثل الذباب والزنبور وغيرهما مما لا لحم له لا إلى مثل السمك الكبير والحيّة ونحوهما ، ولم يرد دليل على‌

__________________

(١) الأنعام ٦ : ١٤٥ ، ونصّها ( إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ).

(٢) ، (٣) ، (٤) الوسائل ٣ : ٤٣٦ / أبواب النجاسات ب ٢٣ ح ٣.

٨

وكذا ما كان من غير الحيوان كالموجود تحت الأحجار عند قتل سيد الشهداء ( أرواحنا فداه ) (١) ويستثنى من دم الحيوان ، المتخلف في الذبيحة بعد خروج المتعارف (٢)

______________________________________________________

عدم نجاسة الدم مما لا نفس له بهذا العنوان ، وعليه فلا مناص من الحكم بنجاسة الدم مطلقاً ولو كان مما لا نفس له كما يقتضيه عموم أدلة نجاسته على ما قدمناه وبنينا عليه. نعم ، من يرى عدم تمامية العموم في المسألة له أن يرجع إلى قاعدة الطهارة فيما لا نفس له ، اللهمّ إلاّ أن نعتمد على ما استدللنا به على طهارة بول ما لا نفس له أعني موثقة (١) حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه‌السلام قال : « لا يفسد الماء إلاّ ما كانت له نفس سائلة » (٢) وغيرها مما ورد بمضمونها حيث أخذنا بإطلاقها وقلنا أنها تقتضي عدم نجاسة الماء بدمه وبوله وميتته وغيرها مما ينجس الماء إذا كان من الحيوانات التي لها نفس سائلة ، ولكنّا لم نرَ من الفقهاء من استدل بها على طهارة بوله ودمه.

(١) قدّمنا وجهه آنفاً.

(٢) المسألة متسالم عليها بين الأصحاب ولم يقع في ذلك خلاف وإنما الكلام في مدركها.

__________________

(١) ولا يخفى أن في سندها أحمد بن محمد عن أبيه ، والظاهر أنه أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد ، وهو وإن كان من مشايخ الشيخ المفيد إلاّ أنه لم تثبت وثاقته بدليل ، وكونه شيخ إجازة لا دلالة له على الوثاقة بوجه ، فالوجه في كون الرواية موثقة أن في سندها محمد بن أحمد بن يحيى ، وللشيخ قدس‌سره إليه طرق متعددة وهي وإن لم تكن صحيحة بأسرها ، إلاّ أن في صحة بعضها غنى وكفاية ، وذلك لأن الرواية إما أن تكون من كتاب الراوي أو من نفسه ، وعلى كلا التقديرين يحكم بصحة رواية الشيخ عن محمد بن أحمد لتصريحه في الفهرست بأن له إلى جميع كتب محمد بن أحمد ورواياته طرقاً متعدِّدة [ الفهرست : ١٤٤ ] وقد عرفت صحة بعضها ، وإذا صحّ السند إلى محمد ابن أحمد بن يحيى صح بأسره لوثاقة الرواة الواقعة بينه وبين الإمام عليه‌السلام وبهذا الطريق الذي أبديناه أخيراً يمكنك تصحيح جملة من الروايات التي تقدمت في تضاعيف الكتاب أو لم تتقدم.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٦٤ / أبواب النجاسات ب ٣٥ ح ٢.

٩

وما استدلّ به على طهارة الدم المتخلف أُمور :

الأوّل : الإجماع ، وقد مرّ غير مرّة أن الإجماع إنما يعتمد عليه فيما إذا كان تعبدياً كاشفاً عن رأيه عليه‌السلام وليس الأمر كذلك في المقام للاطمئنان ولا أقل من احتمال أن يكون مدرك المجمعين أحد الوجوه الآتية في الاستدلال.

الثاني : أن لحم كل ذبيحة يشتمل على مقدار من الدم ولو مع المبالغة في غسله وقد حكم بحلية أكله شرعاً مع ما فيها من الدم ، وهي أخص من الطهارة ، لأنّ حلية الأكل من طواري الأشياء الطاهرة لعدم جواز أكل النجس شرعاً ، فهذا يدلّنا على طهارة الدم المتخلف في الذبيحة. وهذا الوجه إنما يتم فيما يتبع اللحم من الأجزاء الدموية المستهلكة في ضمنه ولذا يحل أكله ، والأمر فيه كما أُفيد ونزيد عليه أن موضع الذبح لا يمكن تخليصه من الدم عادة ، بل ترى أن الدم يتقاطر منه إذا عصر وإن غسل متعدِّداً ، ومعه حكم الشارع بطهارته بعد غسله وهذا كاشف عن طهارة الدم المتخلف في المذبح وغيره من أجزاء الذبيحة ، إلاّ أنه لا يتم في الأجزاء الدموية المستقلة في الوجود كما يوجد في بطن الذبيحة أو في قلبها أو في سائر أجزائها بحيث إذا شق سال منه دم كثير فإنها غير محللة الأكل شرعاً ، فهذا الوجه لا يقتضي طهارة الدم المتخلف مطلقاً.

الثالث : وهو الوجه الصحيح ، استقرار سيرة المتشرعة المتصلة بزمان المعصومين عليهم‌السلام على عدم الاجتناب عما يتخلف في الذبيحة من الدم كان تابعاً للحمها أم لم يكن ، مع كثرة ابتلائهم بالذبائح من الإبل والغنم والبقر ، ولا سيما في الصحاري والقفار الخالية عن الماء فإنهم غير ملتزمين بتطهير لحمها وما يلاقيه من أثوابهم وأبدانهم ، بل ولا يمكن تطهيره بتجريده من الدم إلاّ يجعله في الماء مدة ثم غسله وعصره ونحو ذلك مما نقطع بعدم لزومه شرعاً ، ومع هذا لو كان الدم المتخلف في الذبيحة نجساً لبان وذاع ، وبهذه السيرة نخرج عن عموم ما دل على نجاسة الدم ، ولولاها لم نتمكن من الحكم بطهارة الدم المتخلف بوجه لعموم نجاسته. نعم ، بناء على عدم نجاسة مطلق الدم لعدم تمامية العموم لا مانع من التمسك بقاعدة الطهارة في الحكم بطهارة الدم المتخلف.

١٠

سواء كان في العروق أو في اللّحم أو في القلب أو في الكبد فإنّه طاهر (١).

نعم ، إذا رجع دم المذبح إلى الجوف لرد النفس ، أو لكون رأس الذبيحة في علو كان نجساً (٢)

______________________________________________________

(١) هل الحكم بالطهارة يختص بالمتخلف في الأجزاء المحللة أكلها أو أنه يعم المتخلف فيما يحرم أكله أيضاً كالطحال والنخاع ونحوهما من الحيوانات المحللة؟

يختلف هذا باختلاف الوجوه المتقدمة في المسألة ، فإن كان مدرك الحكم بطهارة الدم المتخلف هو الإجماع ، فلا مناص من الاقتصار في الحكم بالطهارة بما يتخلف في الأجزاء المحللة دون الأعضاء المحرمة في الذبيحة لأنه دليل لبي يقتصر فيه على مورد اليقين ، بل ولا علم بانعقاد الإجماع على طهارة المتخلف في الأعضاء المحرّمة أصلاً مع وجود المخالف في المسألة ، فإذا لم يثبت المخصص فلا محالة يرجع إلى عموم العام. اللهمّ إلاّ أن يقال بعدم ثبوت العموم فان المرجع على هذا إنما هو قاعدة الطهارة في المتخلف في العضو المحرّم أكله ، وكذلك الحال فيما إذا كان مدركه هو الوجه الثاني ، لعدم حلية أكل مثل الطحال حتى يدعى أن الحلية أخص من الطهارة بالتقريب المتقدم.

وأما إذا اعتمدنا في ذلك على الوجه الأخير أعني السيرة المتشرعية الجارية على عدم لزوم الاجتناب عن الدم المتخلف في الذبيحة فلا بد من الالتزام بطهارته مطلقاً ، بلا فرق في ذلك بين الدم المتخلف في الأعضاء المحللة وبين المتخلف في الأعضاء المحرّمة ، لأنّ السيرة قائمة على طهارته في كلا الموردين.

(٢) لا إشكال في نجاسة الدم الداخل إلى جوف الذبيحة بعد خروجه عن المذبح ، للأدلّة المتقدمة التي دلّت على نجاسته مطلقاً ، كما لا إشكال في نجاسة ما أصابه ذلك الدم من لحم ودم وعرق وغيرها مما يلاقيه في جوف الذبيحة ، هذا فيما إذا رجع الدم إلى جوف الذبيحة بنفسه أو لرد النفس بعد خروجه عن مذبحها ، وأما فرض رجوع الدم إلى جوفها قبل خروجه عن المذبح بأن رجع إليه بعد وصوله إلى منتهى الأوداج فالظاهر أنه فرض أمر مستحيل ، وذلك لأنّ الذبح إنما يتحقق بقطع أوداج أربعة أحدها : الحلقوم وهو مجرى الطعام ومدخله. وثانيها : مجرى النفس. وثالثها ورابعها :

١١

عرقان من اليمين واليسار يسميان بالوريد وهما مجرى الدم فاذا قطع الوريد فلا محالة يخرج الدم من مفصله فكيف يرجع إلى الجوف قبل خروجه عنه ، ولا يمكن للنفس أن يجذب الدم من الوريد الذي هو مجرى الدم ، نعم يجذبه من مجرى النفس إلاّ أنه بعد خروج الدم من الوريد ولا يمكنه ذلك قبل خروجه.

ثم إن هناك صورة أُخرى وهي عدم خروج الدم من الذبيحة أصلاً ، وهذا قد ينشأ من الخوف العارض على الحيوان وانجماد الدم بسببه ، وأُخرى يحصل بوضع اليد على مقطع الذبيحة وسد الطريق ، وثالثة يتحقق بالنار ، فان وضعها على المقطع يوجب التيامه وبه ينسد الطريق من دون أن يرجع الدم إلى الداخل كما في الصورة المتقدمة فهل يحكم بطهارته حينئذ؟ الصحيح أنه محكوم بالنجاسة بل الذبيحة ميتة محرّمة والوجه في ذلك أن التذكية تتحقق بأمرين أعني خروج الدم وتحرك الذبيحة ، لأنه مقتضى الجمع بين ما دلّ على اشتراط التذكية بخروج الدم فحسب (١) وما دلّ على اعتبار تحرك الذبيحة في تحققها (٢) وحيث إن مفروض المسألة عدم خروج الدم من الذبيحة فلا يمكن الحكم بتذكيته.

ثم إنه إذا اكتفينا في تحقق التذكية بمجرد الحركة أو قلنا بكفاية كل واحد من الأمرين كما ذهب إليه بعضهم فلا إشكال في جواز أكل الذبيحة ، لوقوع التذكية عليها على الفرض ، ولا يمكن الحكم بطهارة دمها ، لأن الدليل على طهارة الدم المتخلف منحصر بالسيرة المتشرعية ، ولم نتحقق سيرتهم على عدم الاجتناب من دم الذبيحة في مفروض المسألة لندرة الابتلاء به ومعها لا طريق إلى إحراز السيرة بوجه. هذا كله في صورة العلم بالحال وأن الدم الموجود من المتخلف في الذبيحة أو مما دخل إلى الجوف بعد الخروج ، وأما إذا شككنا في ذلك ولم نحرز أنه من المتخلف أو من غيره‌

__________________

(١) ففي ما رواه زيد الشحام : « إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس » الوسائل ٢٤ : ٢٥ / أبواب الذبائح ب ١٢ ح ٣.

(٢) عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « في كتاب علي عليه‌السلام إذا طرفت العين أو ركضت الرجل أو تحرك الذنب فكل منه فقد أدركت ذكاته » إلى غير ذلك من الأخبار المروية في الوسائل ٢٤ : ٢٣ / أبواب الذبائح ب ١١ ح ٦ وغيره.

١٢

ويشترط في طهارة المتخلف أن يكون مما يؤكل لحمه على الأحوط ، فالمتخلف من غير المأكول نجس على الأحوط (١).

[١٨٤] مسألة ١ : العَلَقة المستحيلة من المني نجسة ، من إنسان كان أو من غيره ، حتى العلقة في البيض ، والأحوط الاجتناب عن النقطة من الدم الذي يوجد في البيض (٢).

______________________________________________________

فيأتي حكمه عند ما يتعرض له الماتن إن شاء الله (١).

(١) أمّا إذا كان مدرك الحكم بطهارة الدم المتخلف في الذبيحة هو الإجماع فلأنه دليل لبي ولا بد من الاقتصار فيه على المورد المتيقن وهو الدم المتخلف في الحيوانات المحللة ، وأما إذا كان مدركه هو الوجه الثاني فلوضوح اختصاصه بما إذا كانت الذبيحة محللة الأكل وهو مفقود في الحيوانات المحرمة. وأما إذا اعتمدنا في ذلك على الوجه الأخير أعني السيرة المتشرعية فالسر في عدم الحكم بطهارة الدم المتخلف في الحيوانات المحرمة إنما هو قلة الابتلاء بذبح ما لا يؤكل لحمه كالسباع ولا يمكن معها إحراز سيرتهم بوجه ، فلا مناص من الحكم بنجاسة الدم المتخلف في غير الحيوانات المحللة للعموم وإن كان الذوق يقتضي إلحاق الحيوانات المحرمة بالمحللة طهارة ونجاسة ولكن الدليل لا يساعد عليه ، إلاّ أن نمنع العموم فإنه لا مانع حينئذ من الرجوع إلى قاعدة الطهارة في الدم المتخلف في الحيوانات المحرمة ، لأن المتيقن إنما هو نجاسة الدم المسفوح أعني الخارج بالذبح ، وغيره مشكوك النجاسة ومقتضى قاعدة الطهارة طهارته.

(٢) ما أفاده قدس‌سره في الموارد الثلاثة إنما يتم عند من يرى تمامية العموم لأنّ اللاّزم حينئذ أن يحكم بنجاسة كل ما صدق عليه أنه دم سواء أكان من أجزاء الحيوان أم لم يكن ، وأما إذا ناقشنا في العموم ولم نحكم بنجاسة مطلق الدم فلا مناص من الاقتصار على المقدار المتيقن منه وهو الدم المسفوح الذي يعدّ من أجزاء الحيوان‌

__________________

(١) في ص ١٩.

١٣

لكن إذا كانت في الصفار وعليه جلدة رقيقة لا ينجس معه البياض (*) (١) إلاّ إذا تمزّقت الجلدة.

[١٨٥] مسألة ٢ : المتخلف في الذبيحة وإن كان طاهراً لكنه حرام (٢)

______________________________________________________

أو الإنسان ، وأما العلقة التي لا تعد من أجزائهما لاستقلالها وهما ظرف لتكونها فللتردّد في الحكم بنجاستها كما عن الأردبيلي (٢) والشهيد (٣) وكاشف اللثام (٤) قدس‌سرهم مجال واسع ، بل جزم صاحب الحدائق بطهارتها (٥) ، وعليه فان تمّ الإجماع على أن المتكون في الحيوان كأجزائه فهو وإلاّ فلا بد من الحكم بطهارة العلقة في مثل الحيوان والإنسان.

ثم إنّه لو بنينا على التعدي إلى المتكون في جوفهما وقلنا بنجاسته فنطالب الدليل على التعدِّي إلى ما لا يعدّ جزءاً منهما ولا هو متكون فيهما كالعلقة في البيض ، فلو تعدينا إلى كل ما هو مبدأ نشوء حيوان أو آدمي وقلنا بنجاسة العلقة في البيض أيضاً فلنا أن نطالب الدليل على التعدي إلى ما لا يعد جزءاً من الحيوان أو الإنسان ولا يتكون فيهما ولا هو مبدأ نشوء للحيوان أو الآدمي كالنقطة من الدم الموجودة في صفار البيض لعدم كونها مبدءاً لنشو شي‌ء.

(١) لأن الجلدة مانعة من سراية النجاسة إلى البياض ، وكذلك الحال فيما إذا كانت النقطة على الغطاء الرقيق الذي هو محيط بالصفار ، فان النقطة بعد أخذها منه يبقى كل من الصفار والبياض على طهارتهما ، لعدم ملاقاتهما مع الدم.

(٢) أشار بذلك إلى خلاف صاحب الحدائق قدس‌سره حيث ذهب إلى عدم‌

__________________

(١) بل لا ينجس الصفار أيضاً إذا احتمل في طرفه أيضاً وجود جلدة رقيقة.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٣١٥.

(٣) الذكرى : ١٣.

(٤) كشف اللثام ١ : ٤٢٠.

(٥) الحدائق ٥ : ٥١.

١٤

حرمة الدم المتخلف مطلقاً ناسباً عدم الخلاف في حليته إلى الأصحاب (١) واستدلّ عليه بوجوه منها : قوله عزّ من قائل ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ... ) (٢) بدعوى أنه يقتضي حلية أكل الدم المتخلف في الذبيحة.

ومنها : الأخبار الواردة في عد محرمات الذبيحة ولم تذكر الدم من محرماتها ، ثم استضعف دلالتها. والوجه في استضعافه أن الأخبار المذكورة غير واردة في مقام حصر المحرمات كي تدل على حلية غير ما عدّ فيها من المحرمات وإنما وردت لبيان حرمة الأُمور المذكورة فيها فحسب ، ومعه يمكن أن يكون في الذبيحة محرم آخر كيف وقد دلّ قوله تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ... ) (٣) كبعض الروايات (٤) على أن الدم من جملة المحرمات. ومن هذا يظهر أن نسبة عدم الخلاف في حلية أكل الدم المتخلف إلى الأصحاب غير واقعة في محلها ، لأنه مع دلالة الآية المباركة والأخبار على حرمة أكله مطلقاً كيف يمكنهم الذهاب إلى حليته. ودعوى أن الحرمة مختصة بالدم المسفوح تحتاج إلى دليل وهو مفقود على الفرض.

وأما الوجه الأول من استدلاله ففيه : أنه لم يبين كيفية استدلالة بالآية المباركة وكلامه في تقريب دلالتها مجمل ، فان كان نظره إلى أن الآية المباركة دالة على حصر المحرمات فيما ذكر فيها من الأُمور كما هو مقتضى كلمة « إلاّ » الواقعة بعد النفي ولم يعد منها الدم المتخلف ، فيدفعه : أن الحصر في الآية المباركة لا يمكن أن يكون حقيقياً لاستلزامه تخصيص الأكثر المستهجن ، لوضوح أن المحرّمات غير منحصرة في تلك الأُمور فإن منها السباع ومنها المسوخ ومنها أموال الناس بغير إذنهم ومنها غير ذلك‌

__________________

(١) الحدائق ٥ : ٤٥.

(٢) الأنعام ٦ : ١٤٥.

(٣) المائدة ٥ : ٣.

(٤) الوسائل ٢٤ : ٩٩ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ١ ح ١ ، ٣.

١٥

مما يحرم أكله شرعاً ، فلا محيص من تأويله إما بحمله على الحصر الإضافي بدعوى أن المحرمات بالإضافة إلى ما جعلته العرب محرّماً على أنفسها في ذلك العصر منحصرة في تلك الأُمور ، وإما بحمله على زمان نزول الآية المباركة وانحصار المحرمات فيها في ذلك الزمان للتدرج في بيان الأحكام ، وعلى أيّ حال لا يستفاد من الآية المباركة حلية أكل الدم المتخلف بوجه.

وإن كان نظره قدس‌سره إلى توصيف الدم في الآية المباركة بكونه مسفوحاً وأن مفهوم الوصف يقتضي حلية غير المسفوح منه فيتوجه عليه : أنّا وإن التزمنا بمفهوم الوصف أخيراً إلاّ أن مفهومه على ما شرحناه في محله أن الحكم لم يترتب على طبيعة الموضوع أينما سرت لاستلزام ذلك لغوية التوصيف إلاّ فيما إذا كان له فائدة ظاهرة فيستفاد منه أن الحكم مترتب على حصة خاصة منها ، مثلاً إذا ورد أكرم الرجل العادل ، يدل توصيف الرجل بالعدالة على أن طبيعية على إطلاقه غير واجب الإكرام وإلاّ لم يكن وجه لتقييده بالعدالة بل إنما يجب إكرام حصة خاصة منه وهو الرجل المتصف بالعدل ، ولكن لا دلالة له على أن فاقد الوصف أعني المتصف بصفة أُخرى غير محكوم بذلك الحكم ولو بسبب وصف آخر (١) وعلى الجملة أن التوصيف وإن كان ظاهراً في الاحتراز إلاّ أنه لا يدل على نفي الحكم عن غير موصوفه ، فالآية لا دلالة لها على عدم حرمة الدم غير المسفوح ، ويشهد بذلك أن صاحب الحدائق قدس‌سره لا يرى طهارة غير المسفوح من الدماء كالدم الخارج عند حك البدن والخارج من الجروح ودم الحيض وغيرها مما لا يصدق عليه عنوان المسفوح. بل يمكن أن يقال : إن المسفوح بمعنى المراق فكل دم تجاوز عن محله فهو مسفوح ومراق ولا اختصاص له بالدم الخارج بالذبح ، فاذا شق بطن الذبيحة فسال منه الدم فهو دم مسفوح ومراق فيحرم أكله ، وينحصر غير المسفوح بما يتبع اللحم ويعد جزءاً منه هذا كله مضافاً إلى دلالة الآية المتقدمة وبعض الأخبار على حرمة مطلق الدم.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ١٣٣.

١٦

إلاّ ما كان في اللّحم مما يعد جزءاً منه (١).

[١٨٦] مسألة ٣ : الدم الأبيض إذا فرض العلم بكونه دماً نجس (٢) كما في خبر فصد العسكري ( صلوات الله عليه ) (٣) وكذا إذا صب عليه دواء غيّر لونه إلى البياض.

[١٨٧] مسألة ٤ : الدم الذي قد يوجد في اللّبن عند الحلب نجس ومنجس للّبن (٤).

[١٨٨] مسألة ٥ : الجنين الذي يخرج من بطن المذبوح ويكون ذكاته بذكاة أُمّه تمام دمه طاهر ولكنّه لا يخلو عن إشكال (*) (٥).

______________________________________________________

(١) بأن كان تابعاً للحم وإن لم يكن مستهلكاً في ضمنه بحيث لو عصر قطرت منه قطرات من الدم كما هو الحال في الكبد غالباً لأن الدم فيه أكثر ، والوجه في ذلك كما قدمناه هو السيرة المتشرعية ، وعدم إمكان تخليص اللحم من الدم إلاّ ببعض المعالجات المعلوم عدم لزومه في الشرع كما مر.

(٢) لأنه بعد العلم بكونه دماً وعدم انقلابه شيئاً آخر لا مناص من الحكم بحرمته ونجاسته ، لأنهما مترتبان على طبيعي الدم وإن زال عنه لونه بدواء أو بغيره ، فان اللون لا مدخلية له في نجاسته وحرمته.

(٣) ورد في بعض الأخبار أنه عليه‌السلام فصد وخرج منه دم أبيض كأنه الملح (٢) وفي بعضها الآخر : فخرج مثل اللبن الحليب ... (٣).

(٤) لما مرّ من عموم نجاسة الدم ، بل يمكن أن يقال : إنه من الدم المسفوح بالتقريب المتقدِّم ولا نعيد.

(٥) تبع الماتن قدس‌سره في حكمه هذا ثم الاستشكال فيه صاحب الجواهر‌

__________________

(١) والأحوط لزوماً الاجتناب عنه.

(١) كما رواه في الوسائل ١٧ : ١٠٨ / أبواب ما يكتسب به ب ١٠ ح ١.

(٢) الخرائج والجرائح ١ : ٤٢٣ ح ٣.

١٧

[١٨٩] مسألة ٦ : الصيد الذي ذكاته بآلة الصيد في طهارة ما تخلف فيه بعد خروج روحه إشكال (١) وإن كان لا يخلو عن وجه (*). وأما ما خرج منه فلا إشكال في نجاسته (٢).

[١٩٠] مسألة ٧ : الدم المشكوك في كونه من الحيوان (٣) أو لا محكوم‌

______________________________________________________

( قدس‌سره ) فإنه أيضاً بعد أن نفى البعد من إلحاق ما حكم الشارع بتذكيته بذكاة أُمه والحكم بطهارة تمام دمه استشكل فيه (٢) والإشكال في محله لأن مدرك طهارة الدم المتخلف منحصر في السيرة كما عرفت ، والمتيقن من موارد قيامها إنما هو طهارة الدم المتخلف في الحيوان بعد ذبحه وخروج المقدار المتعارف من دمه. وأما تمام دم الجنين بعد ذبح امه فقيام السيرة على طهارته غير معلوم فلا مناص من الحكم بنجاسته بمقتضى عموم ما دلّ على نجاسة الدم ، اللهُمَّ إلاّ أن يذبح ثانياً. نعم ، بناء على عدم تمامية العموم المذكور يمكن الحكم بطهارة تمام دم الجنين بقاعدة الطهارة إلاّ أنه فرض أمر غير واقع لتمامية العموم.

(١) لا إشكال في طهارة الدم المتخلف فيما صاده الكلب المعلّم أو صيد بآلة الصيد لعين ما قدّمناه في طهارة الدم المتخلف في الذبيحة من قيام السيرة القطعية على طهارته ، فإن المتشرعة يعاملون مع الدم المتخلف في كل من الصيد والذبيحة معاملة الطهارة ولا يجتنبون عنه ، ولم يسمع إلى الآن أحد ذبح ما صاده من الحيوانات ذبحاً شرعياً ليخرج منه المقدار المتعارف من الدم ولم يردع الشارع عن عملهم هذا ، وبذلك نخرج عن عموم ما دلّ على نجاسة الدم مطلقاً.

(٢) لعموم ما دلّ على نجاسة الدم ، ولأنه من الدم المسفوح كما مر.

(٣) بأن علمنا بكون مائع دماً وشككنا في أنه دم حيوان أو غيره ، لاحتمال كونه آية نازلة من السماء أو مما كان يوجد تحت الأحجار عند قتل سيد الشهداء ( أرواحنا فداه ).

__________________

(*) وهو الأظهر.

(١) الجواهر ٥ : ٣٦٥.

١٨

بالطهارة (١) كما أن الشي‌ء الأحمر الذي يشك في أنه دم أم لا كذلك (٢) وكذا إذا علم أنه من الحيوان الفلاني ولكن لا يعلم أنه مما له نفس أم لا كدم الحية والتمساح (٣) وكذا إذا لم يعلم أنه دم شاة أو سمك (٤) فإذا رأى في ثوبه دماً لا يدري أنه منه أو من البق أو البرغوث يحكم بالطهارة. وأما الدم المتخلف في الذبيحة إذا شكّ (٥) في أنّه من القسم الطاهر أو النجس فالظاهر الحكم بنجاسته عملاً‌

______________________________________________________

(١) إمّا لاستصحاب عدم كونه من الحيوان على نحو استصحاب العدم الأزلي أو لأصالة الطهارة ، وقد ذكرنا سابقاً أن عموم ما دلّ على نجاسة الدم مختص بدم الحيوان ولا يشمل غيره.

(٢) لأصالة الطهارة أو لاستصحاب عدم كونه دماً على نحو العدم الأزلي ، ولا يعارضه أصالة عدم كونه شيئاً آخر لعدم ترتب أثر عليها.

(٣) بأن يكون الشك في نجاسة دمه ناشئاً عن الشك في نفسه ، كما إذا شك في أنه مما له نفس سائلة أو لا نفس له ، ولا إشكال في الحكم بطهارته إما لأصالة الطهارة أو لأصالة عدم كون الحيوان مما له نفس سائلة.

(٤) بأن يكون الشك في نجاسة الدم ناشئاً عن الجهل بحاله وأنه من الشاة أو من السمك مثلاً مع العلم بحالهما ، وأن أحدهما المعيّن ذو نفس سائلة دون الآخر ، فيحكم بطهارته لأصالة الطهارة أو لأصالة عدم كونه من الشاة.

(٥) الشك في ذلك إما من ناحية الشك في رجوع الدم الخارج إلى جوف الذبيحة لرد النفس ، وإما من ناحية الشك في خروج المقدار المتعارف من الدم بالذبح لاحتمال كون رأسه على علو.

أمّا إذا شككنا في نجاسته من ناحية رجوع الدم فلا إشكال في الحكم بطهارته وهذا لا لأصالة عدم رد النفس كما اعتمد عليها الماتن قدس‌سره لوضوح أنه ليس بحكم شرعي ولا هو موضوع له ، واستصحابه مما لا يترتب عليه أثر إلاّ على القول بالأُصول المثبتة ، لأن استصحاب عدم رد النفس وعدم الرجوع لا يثبت أن الباقي من‌

١٩

الدم المتخلف الطاهر إلاّ بالتلازم العقلي ، بل الوجه في ذلك هو استصحاب بقاء الدم المشكوك فيه في الجوف وعدم خروجه إلى الخارج حين الذبح فيحكم بطهارته وطهارة ما لاقاه من الدم المتخلف ، وعلى تقدير الإغماض فيرجع إلى استصحاب الطهارة أو إلى أصالة الطهارة.

وقد يتوهّم أنّ الدم المتخلف المردد بين القسم الطاهر والنجس بما أنه مسبوق بالنجاسة للعلم بنجاسته حال كونه في عروق الحيوان في حياته فإذا شككنا في طروّ الطهارة عليه نستصحب بقاءه على نجاسته.

ويدفعه : أنه لا دليل على نجاسة الدم حال كونه في العروق ، وإنما يحكم بنجاسته بعد خروجه عنها ، على أنه لو صح ذلك كان ما ذكرناه من الاستصحاب حاكماً على استصحاب النجاسة.

وقد يقال : إن الأصل في الدماء هو النجاسة فكل دم شك في طهارته ونجاسته يبنى على نجاسته ، وذلك لموثقة عمّار « في ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب؟ فقال : كل شي‌ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه إلاّ أن ترى في منقاره دماً فإن رأيت في منقاره دماً فلا تتوضأ منه ولا تشرب » (١) لأن ظاهرها نجاسة الدم وإن احتمل أنه من الدم الطاهر.

وأما ما يتوهم من أن إطلاق الموثقة يعارضه إطلاق ذيلها حيث رواها الشيخ قدس‌سره مذيّلة بقوله : « وسئل عن ماء شربت منه الدجاجة ، قال : إن كان في منقارها قذر لم يتوضأ منه ولم يشرب وإن لم يعلم أن في منقارها قذراً توضأ منه واشرب (٢) ، لأنه صريح في اختصاص المنع عن التوضؤ بالماء المذكور بصورة العلم بوجود القذر في منقار الدجاجة ، فيدور الأمر بين رفع اليد عن صدر الرواية وحمله على صورة العلم بنجاسة ما في منقار الطيور من الدم وبين رفع اليد من إطلاق ذيلها وتقييده بغير الدم من القذارات ، وحيث إنه لا قرينة على أحد التصرفين فتصبح‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٣٠ / أبواب الأسآر ب ٤ ح ٢ ، ٣ : ٥٢٨ / أبواب النجاسات ب ٨٢ ح ٢.

(٢) الإستبصار ١ : ٢٥ / ٦٤ ، الوسائل ١ : ٢٣١ / أبواب الأسآر ب ٤ ح ٣.

٢٠