موسوعة الإمام الخوئي - ج ١

الشيخ علي الغروي

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد خير خلقه وآله الطاهرين.

وبعد فيقول المعترف بذنبه المفتقر إلى رحمة ربّه محمد كاظم الطباطبائي : هذه جملة مسائل مما تعم به البلوى وعليها الفتوى ، جمعت شتاتها وأحصيت متفرقاتها عسى أن ينتفع بها إخواننا المؤمنون وتكون ذخراً ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون والله وليّ التوفيق.

[ الاجتهاد والتقليد ]

[١] مسألة ١ : يجب على كل مكلف (١).

______________________________________________________

(١) وهل هذا الوجوب شرعي ( نفسي أو طريقي أو غيري ) أو أنه عقلي؟

الصحيح أنه عقلي ومعنى ذلك أن العقل يدرك أن في ارتكاب المحرّم وترك الواجب من دون استناد إلى الحجة استحقاقاً للعقاب ، كما أن في ارتكاب المشتبهات احتمال العقاب لتنجز الأحكام الواقعية على المكلفين بالعلم الإجمالي أو بالاحتمال كما يأتي تفصيله فلا مناص لدى العقل من تحصيل ما هو المؤمّن من العقاب وهذا يحصل بأحد الأُمور الثلاثة :

فإن المجتهد إمّا أن يعمل على طبق ما قطع به بالوجدان كما في القطعيات والضروريات وهو قليل ، وإمّا أن يعمل على طبق ما قطع بحجيته من الأمارات والأُصول. كما أن المقلد يستند إلى فتوى المجتهد وهو حجة عليه على ما يأتي في مورده. وأما العامل بالاحتياط فهو يأتي بعمل يسبب القطع بعدم استحقاقه العقاب.

١

إذن وجوب الأُمور الثلاثة عقلي بمناط وجوب دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب. ويترتب عليه بطلان عمل المكلف التارك للاجتهاد والتقليد والاحتياط ، على ما نبينه في الفرع السابع إن شاء الله.

وليس هذا الوجوب غيرياً ولا طريقياً ولا نفسياً.

أمّا عدم كونه غيرياً فلأنّ مقدّمة الواجب على ما بيّناه في محلّه ليست بواجبة شرعاً ، وليس أمرها مولوياً بوجه وإنّما هي واجبة عقلاً لعدم حصول الواجب إلاّ بها.

على أنّا لو سلمنا وجوب المقدمة فليس الاحتياط مقدمة لأي واجب فان ما أتى به المكلّف إما أنه نفس الواجب أو أنه أمر مباح ، وهو أجنبي عن الواجب رأساً لا أنه مقدمة لوجود الواجب وتحققه ، بلا فرق في ذلك بين أن يكون أصل الوجوب معلوماً وكان التردد في متعلقه كما في موارد الاحتياط المستلزم للتكرار ، وبين أن يكون أصل الوجوب محتملاً كما في موارد الاحتياط غير المستلزم للتكرار ، ومعه كيف يكون الاحتياط مقدمة لوجود الواجب.

نعم ، ضمّ أحد الفعلين إلى الآخر مقدمة علمية للامتثال ، لأن به يحرز الخروج عن عهدة التكليف المحتمل. وكذلك الحال في الاحتياط غير المستلزم للتكرار ، لا أنه مقدمة وجودية للواجب ليجب أو لا يجب ، هذا كلّه في الاحتياط.

وكذلك الاجتهاد والتقليد ، لأنهما في الحقيقة عبارتان عن العلم بالأحكام ومعرفتها ، ولا يكون معرفة حكم أي موضوع مقوماً لوجود ذلك الموضوع ومقدمة لتحققه بحيث لا يتيسّر صدوره ممن لا يعلم بحكمه ، فهذا كرّد السلام فإنه ممكن الصدور ممن لا يعلم بحكمه ، وكذلك الحال في غيره من الواجبات إذ يمكن أن يأتي بها المكلف ولو على سبيل الاحتياط من دون أن يكون عالماً بحكمها ، فلا يتوقف وجود الواجب على معرفته بالاجتهاد أو التقليد.

نعم ، لا يتمكن المكلف في بعض الموارد من الإتيان بالعمل إلاّ إذا علم بما اعتبر فيه من القيود والشروط ، كما في الموضوعات المركبة مثل الصلاة والحج فإن الجاهل بأحكامهما غير متمكن على اصدارهما ، إلاّ أنه من الندرة بمكان.

٢

وأمّا عدم كونه وجوباً طريقياً فلأن المراد به ما وجب لتنجيز الواجب أو التعذير عنه وليس الاحتياط منجزاً للواقع بوجه ، لما سيأتي (١) من أن الأحكام الواقعية إنما تنجزت بالعلم الإجمالي أو بالاحتمال لمكان الشبهة قبل الفحص ، أو لوجود الأمارات القائمة عليها في مظانها كما تأتي الإشارة إليه. فالأحكام متنجزة قبل وجوب الاحتياط لا أنها تنجزت بسببه ، فلا معنى للوجوب الطريقي بمعنى المنجزية فيه ، كما لا معنى له بمعنى المعذرية لأنه لا يتصوّر في الاحتياط مخالفة للواقع ليكون وجوبه معذراً عنها ، لأنه عبارة عن إتيان الواقع على وجه القطع والبت فلا تتحقق فيه مخالفة الواقع أبداً. إذن لا معنى محصل للوجوب الطريقي في الاحتياط.

وأمّا الاجتهاد والتقليد فقد يبدو للنظر أنهما كالاحتياط لا معنى للوجوب الطريقي فيهما بالإضافة إلى التنجيز ، لأن الأحكام الشرعية كما أشرنا إليه تنجزت قبل الأمر بهما من جهة العلم الإجمالي أو الاحتمال ، لا أنها تنجزت بسببهما. ثمّ على فرض عدم العلم الإجمالي من الابتداء أو انحلاله بالظفر بجملة معتد بها ، يستند التنجيز إلى الأمارات القائمة على الأحكام في مظانها لأن بها يستحق المكلف العقاب على مخالفة الواقع لا أنها تتنجز بالاجتهاد ، ومن هنا لو ترك الاجتهاد رأساً كانت الأحكام متنجزة في حقّه واستحق بذلك العقاب على تقدير مخالفة عمله الواقع ، هذا في الاجتهاد.

ومنه يظهر الحال في التقليد ، لتنجز الأحكام الواقعية بوجود فتوى من وجب على العامي تقليده وإن ترك تقليده ، لا أنها تتنجز بالتقليد. فالوجوب الطريقي بمعنى التنجيز لا محصل له بالإضافة إلى الاجتهاد والتقليد.

نعم ، الوجوب الطريقي بمعنى المعذرية فيهما صحيح ، كما إذا أفتى المجتهد بما أدى إليه رأيه وعمل به مقلّدوه ولكنه كان مخالفاً للواقع ، فإن اجتهاده حينئذٍ كتقليد مقلديه معذران عن مخالفة عملهما للواقع ، إلاّ أن ذلك لا يصحح القول بالوجوب الطريقي في الاجتهاد وعدليه وهو ظاهر ، هذا.

ولكن الصحيح أن يقال : إن الكلام قد يفرض في موارد العلم الإجمالي بالأحكام‌

__________________

(١) راجع ص : ٦.

٣

وقد يفرض في موارد عدمه من الابتداء أو وجوده وانحلاله بالظفر بمقدار معتد به من الأحكام.

أمّا الصورة الأُولى : فالحال فيها كما بيّناه لأنه لا معنى للوجوب الطريقي حينئذٍ فإن مفروض الكلام تنجز الأحكام الواقعية بالعلم الإجمالي فلا مجال لتنجزها ثانياً بالأمر بالاحتياط أو التقليد أو الاجتهاد.

وأمّا الصورة الثانية : فلا مانع فيها من الالتزام بكون وجوب الاحتياط وعدليه طريقياً أي منجزاً للواقع وذلك : لأن أدلة الأُصول الشرعية كما بيّناه في محلّه غير قاصرة الشمول لموارد الشبهات الحكمية قبل الفحص ، ومقتضى ذلك أن الأحكام الواقعية لا تتنجز على المكلفين في ظرف عدم وصولها. إذن يكون التنجز مستنداً إلى وجوب الاحتياط أو إلى تحصيل الحجة بالتقليد أو الاجتهاد بحيث لولا الأمر بها لم يكن أي موجب لتنجز الواقع على المكلفين. ومن ثمة قلنا في محله إن إيجاب الاحتياط طريقي لا محالة ، لما أشرنا من أن أدلة الأُصول الشرعية شاملة لموارد الاحتياط وهو يقتضي عدم تنجز الأحكام قبل الوصول ، فلو وجب معه الاحتياط فمعناه أن الواقع منجز على المكلف بحيث لو ترك الواقع بتركه العمل بالاحتياط لاستحق العقاب على مخالفته ، وهو معنى الوجوب الطريقي.

ثمّ إن بما حققناه ينكشف أن مجرد وجود الحجة الواقعية لا يترتب عليه التنجيز بوجه ، لولا أدلة وجوب الاحتياط أو تحصيل الحجة بالتقليد أو الاجتهاد ، فإن الحجة الواقعية لا تزيد على الأحكام الواقعية في أنها لا تصحح العقاب ما لم تصل إلى المكلّف.

ثمّ إن كون التقليد في موارد عدم العلم الإجمالي واجباً طريقياً يبتني على أن يكون معناه تعلم فتوى المجتهد أو أخذها ، وأمّا بناءً على ما هو الصحيح عندنا من أنه العمل استناداً إلى فتوى المجتهد فالتقليد نفس العمل ولا معنى لكونه منجزاً للواقع ، فالمنجز على هذا هو الأمر بالتعلم بالتقليد أو الاجتهاد.

وأمّا عدم كونه وجوباً نفسياً فلعلّه أوضح من سابقيه وذلك لأنه لا وجه له سوى توهّم أن تعلم الأحكام الشرعية واجب بدعوى استفادته من مثل ما ورد من أن‌

٤

« طلب العلم فريضة » (١) وقوله عزّ من قائل ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (٢) وغيرهما مما يمكن الاستدلال به على هذا المدعى كما ذهب إليه الأردبيلي قدس‌سره وتبعه بعض المتأخرين ، إلاّ أنّا بيّنا في محله أن تعلم الأحكام ليس بواجب نفسي وإنما التعلم طريق إلى العمل ومن هنا ورد في بعض الأخبار « أن العبد يؤتى به يوم القيامة فيقال له : هلاّ عملت؟ فيقول : ما علمت فيقال له : هلاّ تعلمت » (٣) فترى أن السؤال أوّلاً إنما هو عن العمل لا عن التعلم ، ومنه يستكشف عدم وجوبه النفسي وأنه طريق إلى العمل وإلاّ لكان اللاّزم سؤال العبد أوّلاً عن التعلم بأن يقال له ابتداءً : « هلاّ تعلّمت » وتفصيل الكلام في عدم وجوب التعلم موكول إلى محلّه.

على أنّا لو سلّمنا وجوب التعلم فالحكم بالوجوب النفسي في تلك الطرق وجعل الاحتياط عدلاً للاجتهاد والتقليد مما لا محصّل له ، وذلك لأن الاحتياط إنما هو الإتيان بالمأمور به فهو امتثال للحكم حقيقةً ، لا أن الاحتياط تعلّم له ، لضرورة أن المحتاط جاهل بالحكم أو بالمأمور به إلاّ أنه قاطع بالامتثال وجازم بإتيانه المأمور به على ما هو عليه ، فلا وجه للوجوب النفسي في الاحتياط. نعم ، لا بأس به في التقليد والاجتهاد نظراً إلى أنهما تعلّم للأحكام ، هذا إذا فسّرنا التقليد بما يرجع إلى تعلم فتوى المجتهد.

وأمّا إذا فسّرناه بما يأتي في محلّه من أنه الاستناد في العمل إلى فتوى الغير ، وأن تعلم الفتوى ليس من التقليد في شي‌ء ، فلا يمكن أن يقال : إن التقليد تعلّم للأحكام بل‌

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٥ / أبواب صفات القاضي ب ٤ ح ١٥.

(٢) النحل ١٦ : ٤٣ ، الأنبياء ٢١ : ٧.

(٣) هذه مضمون ما رواه الشيخ في أماليه قال : حدثنا محمد بن محمد يعني المفيد قال أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد قال حدثني محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري عن أبيه عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد قال : سمعت جعفر بن محمّد عليه‌السلام وقد سئل عن قوله تعالى ( قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) فقال : إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال : كنت جاهلاً قال له : أفلا تعلّمت حتى تعمل؟ فيخصمه فتلك الحجة البالغة. راجع تفسير البرهان ج ١ ص ٥٦٠ من الطبع الحديث وكذا في البحار ج ٢ ص ٢٩ و١٨٠ من الطبعة الثانية عن أمالي المفيد.

٥

في عباداته ومعاملاته (١) أن يكون مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً (٢).

______________________________________________________

التقليد هو الاستناد إلى فتوى المجتهد والتعلم طريق إليه.

وأما احتمال أن يكون الوجوب النفسي في تلك الطرق مستنداً إلى المصلحة الواقعية الباعثة على الإيجاب الواقعي ، فيدفعه : أنه إنما يتم فيما إذا أثبتنا وجوبها شرعاً فإنه في مقام التعليل حينئذٍ يمكن أن يقال : إن وجوبها منبعث عن نفس المصلحة الواقعية ، إلاّ أنه أول الكلام لعدم قيام الدليل على وجوب الاجتهاد والاحتياط. نعم ، لا بأس بذلك في التقليد بناءً على دلالة الأدلة على وجوبه الشرعي كما بنى عليه بعض مشايخنا المحققين قدس‌سره (١).

فالمتحصّل إلى هنا : أن الاجتهاد وعدليه لا يحتمل فيها الوجوب الشرعي الأعم من النفسي والغيري والطريقي ، وإنما وجوبها متمحّض في الوجوب العقلي بالمعنى الّذي قررناه آنفاً.

(١) بل وفي عادياته. بل في كل فعل يصدر منه على ما يأتي من الماتن قدس‌سره في المسألة التاسعة والعشرين فلاحظ.

(٢) لأن الأحكام الواقعية متنجزة على كل مكلف بوجوداتها ، فلا يمكن معه الرجوع إلى البراءة العقلية أو النقلية أو استصحاب عدم التكليف في موارد الاحتمال وذلك للعلم الإجمالي بوجود أحكام إلزامية في الشريعة المقدسة إذ لا معنى للشريعة العارية عن أي حكم. ولا تجري الأُصول النافية في أطراف العلم الإجمالي أصلاً في نفسها ، أو أنها تتساقط بالمعارضة.

ثمّ لو فرضنا أن المكلف ليس له علم إجمالي بوجود أيّ حكم إلزامي من الابتداء أو أنه كان إلاّ أنه قد انحلّ بالظفر بجملة معتد بها من الأحكام ، أيضاً لم يجز له الرجوع إلى الأُصول النافية في موارد احتمالها ، وذلك لأنه من الشبهة قبل الفحص وقد بيّنا في محلّه أنه لا مورد للأصل في الشبهات الحكمية قبل الفحص ، فإن الحكم الواقعي يتنجز حينئذٍ بالاحتمال.

__________________

(١) رسالة في الاجتهاد والتقليد ( الأصفهاني ) : ١٧.

٦

والنتيجة : أن الأحكام الواقعية متنجّزة على كل مكلف إمّا للعلم الإجمالي وإمّا بالاحتمال ، وإذا لم تجر البراءة في الأحكام الواقعية عقلاً ولا نقلاً ولا استصحاب العدم ، لم يكن بدّ من الخروج عن عهدة امتثالها ، حيث إن في مخالفتها استحقاق العقاب ، وطريقه منحصر بالاجتهاد والتقليد والاحتياط وذلك لأن المكلف إمّا أن يستند في عمله إلى ما علم بحجيته وجداناً أو تعبداً فهو الاجتهاد ، وبالعمل به يقطع بأنه قد ترك الحرام وأتى بالواجب ، ويجزم بخروجه عن عهدة ما توجه إليه من الأحكام.

وإمّا أن يستند في أعماله إلى قول الغير وهو المعبّر عنه بالتقليد ، إلاّ أن القطع بفراغ الذمة بسببه إنما هو فيما إذا كان قول الغير ثابت الحجية عنده بالاجتهاد ولو بالارتكاز لارتكاز رجوع الجاهل إلى العالم عند العقلاء ، وذلك لأن قول الغير ليس بحجة عليه في نفسه ولا يمكن أن تثبت حجية قول الغير بالتقليد وقول الغير ، لأن هذا القول كالقول الأول يتوقف حجيته على دليل ، فلو توقفت حجية قول الغير على التقليد وقول الغير لدار أو تسلسل ، لأنا ننقل الكلام إلى القول الثاني ونقول إن حجيته إمّا أن تستند إلى الاجتهاد أو إلى التقليد وقول الغير ، فعلى الأول نلتزم به في القول الأول من دون تبعيد المسافة وإثبات حجيته بالقول الثاني ، وعلى الثاني ينقل الكلام إلى القول الثالث فإن حجيته إمّا أن تثبت بالاجتهاد أو بالتقليد وقول الغير. فعلى الأول نلتزم به في القول الأول من دون تبعيد المسافة ، وعلى الثاني ننقل الكلام إلى القول الرابع ، وهكذا إلى ما لا نهاية له.

فالمتحصل : أن التقليد لا يمكن أن يكون تقليدياً بوجه. نعم ، لا بأس بالتقليد في فروعه كجواز تقليد غير الأعلم أو البقاء على تقليد الميت كما يأتي في محلّه ، إلاّ أن أصل مشروعية التقليد لا بدّ أن يكون بالاجتهاد ، فالمقلد باجتهاده يعمل على فتوى المجتهد وهو يعمل على ما قطع بحجيته من الأمارات والأُصول.

وإمّا أن يعمل بالاحتياط بأن يأتي بما يحتمل وجوبه ويترك ما يحتمل حرمته ، إلاّ أن الاحتياط لا يتمشى في جميع المقامات ، إمّا لعدم إمكانه كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين ، وموارد كثرة أطراف الاحتياط بحيث لا يتمكن المكلف من إتيانها وإمّا لاحتمال عدم مشروعيته كما إذا كان محتمل الوجوب عبادة واحتمل المكلف عدم‌

٧

جواز الامتثال الإجمالي في العبادات عند التمكن من امتثالها تفصيلاً اجتهاداً أو تقليداً وحيث إنها عبادة يعتبر فيها قصد القربة ولا يتمشى ذلك مع احتمال الحرمة فلا يسوغ للمكلف الاحتياط في مثلها ، اللهُمَّ إلاّ أن يبنى على جوازه بالاجتهاد أو يقلّد من يفتي بجوازه في تلك المقامات. فالاحتياط لا يكون طريقاً إلى القطع بالفراغ في جميع الموارد.

وبما سردناه ظهر أن طريق الخروج عن عهدة الأحكام الواقعية المنجّزة على المكلفين وإن كان منحصراً بالاجتهاد والتقليد والاحتياط ، إلاّ أن الأخير ليس في عرض الأوّلين بحسب المرتبة بل في طولهما. نعم ، يصح عدّه في عرضهما من حيث العمل ، لأن العمل إما أن يكون بالاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط ، كما ظهر أن التقليد أيضاً كذلك لأنه في طول الاجتهاد بحسب المرتبة لا في عرضه. فالاجتهاد هو الأصل الوحيد وهو التصدي لتحصيل القطع بالحجة على العمل ، لأن به يقطع بعدم العقاب على مخالفة الواقع.

مباحث الاجتهاد‌

ويقع الكلام فيه من جهات :

١ ـ تعريف الاجتهاد :

الاجتهاد مأخوذ من الجُهد بالضم وهو لغة : الطاقة ، أو أنه من الجَهد بالفتح ومعناه : المشقة ويأتي بمعنى الطاقة أيضاً ، وعليه فالاجتهاد بمعنى بذل الوسع والطاقة سواء أخذناه من الجَهد بالفتح أو الجُهد بالضم وذلك لأن بذل الطاقة لا يخلو عن مشقة وهما أمران متلازمان ، هذا بحسب اللغة.

وأمّا في الاصطلاح فقد عرّفوه : باستفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي وتعريف الاجتهاد بذلك وإن وقع في كلمات أصحابنا ( قدّس الله أسرارهم ) إلاّ أن الأصل في ذلك هم العامة ، حيث عرّفوه بذلك لذهابهم إلى اعتبار الظن في الأحكام الشرعية ، ومن هنا أخذوه في تعريف الاجتهاد ووافقهم عليه أصحابنا مع عدم ملائمته لما هو المقرّر عندهم من عدم الاعتبار بالظن في شي‌ء ، وأن العبرة إنما هي بما جعلت‌

٨

له الحجية شرعاً سواء أكان هو الظن أو غيره ، فتفسير الاجتهاد بذلك مما لا تلتزم به الإمامية بتاتاً. بل يمكن المناقشة فيه حتّى على مسلك العامة لأن الدليل في الأحكام الشرعية عندهم غير منحصر بالظن فهو تفسير بالأخص. وعليه فهذا التعريف ساقط عند كلتا الطائفتين.

ومن هنا فسّره المتأخرون من أصحابنا بأنه ملكة يقتدر بها على استنباط الأحكام الشرعية. وتعريف الاجتهاد بذلك وإن لم ترد عليه المناقشة المتقدمة ، إلاّ أن الاجتهاد بهذا المعنى ليس من أطراف الوجوب التخييري الثابت للاجتهاد والتقليد والاحتياط ، وذلك لأن الأحكام الواقعية على ما بيّناه سابقاً قد تنجّزت بالعلم الإجمالي أو بالاحتمال ولأجله قد استقل العقل بلزوم تحصيل العلم بالفراغ ، وهو لا يتحصل إلاّ بالاحتياط أو بتحصيل العلم بالأحكام من دون متابعة الغير كما في الاجتهاد ، أو بمتابعته كما في التقليد ، حيث إن المكلف بتركه تلك الطرق يحتمل العقاب في كل ما يفعله ويتركه لاحتمال حرمته أو وجوبه ، والعقل مستقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب ، ومن البديهي أن المجتهد أعني من له ملكة الاستنباط من غير أن يستنبط ويتصدى لتحصيل الحجة ولا في حكم واحد ، كغيره يحتمل العقاب في كل من أفعاله وتروكه ، ومعه لا بدّ له أيضاً إما أن يكون مجتهداً أو مقلداً أو يحتاط.

وبهذا ينكشف أن الاجتهاد الّذي يعدّ عِدلاً للتقليد والاحتياط ليس هو بمعنى الملكة ، وإنما معناه : تحصيل الحجة على الحكم الشرعي بالفعل ، أعني العمل والاستنباط الخارجيين لأنه المؤمّن من العقاب ولا أثر في ذلك للملكة ، وتوضيحه :

أن ملكة الاجتهاد غير ملكة السخاوة والشجاعة ونحوهما من الملكات ، إذ الملكة في مثلهما إنما تتحقق بالعمل وبالمزاولة كدخول المخاوف والتصدي للمهالك ، فإن بذلك يضعف الخوف متدرّجاً ويزول شيئاً فشيئاً حتى لا يخاف صاحبه من الحروب العظيمة وغيرها من الأُمور المهام ، فترى أنه يدخل الأمر الخطير كما يدخل داره. وكذلك الحال في ملكة السخاوة فإن بالإعطاء متدرّجاً قد يصل الإنسان مرتبة يقدّم غيره على نفسه ، فيبقى جائعاً ويطعم ما بيده لغيره. والمتحصل أن العمل في أمثال تلك الملكات متقدم على الملكة ، وهذا بخلاف ملكة الاجتهاد لأنها إنما تتوقف على جملة‌

٩

من المبادئ والعلوم كالنحو والصرف وغيرهما ، والعمدة علم الأُصول فبعدما تعلّمها الإنسان تحصل له ملكة الاستنباط وإن لم يتصدّ للاستنباط ولا في حكم واحد ، إذن العمل أي الاستنباط متأخر عن الملكة ، فلا وجه لما قد يتوهم من أنها كسائر الملكات غير منفكة عن العمل والاستنباط ، فمن حصلت له الملكة فلا محالة اشتغل بالاستنباط ، وعليه فبمجرّد حصول الملكة له يحصل له الأمن عن العقاب. بل الاستنباط كما عرفت متأخر عن الملكة من غير أن يكون له دخل في حصولها. نعم تتقوى الملكة بالممارسة والاستنباط بعد تحققها في نفسها لا أنها تتوقف عليه في الوجود.

إذن الاجتهاد بمعنى الملكة لا يترتب عليه الأمن من العقاب ولا يكون عِدلاً للتقليد والاحتياط.

فالصحيح أن يعرّف الاجتهاد بتحصيل الحجة على الحكم الشرعي ، وهو بهذا المعنى سليم عن كلتا المناقشتين المتقدمتين.

بقي شي‌ء : وهو أن المجتهد بمعنى من له الملكة قبل أن يستنبط شيئاً من الأحكام هل يجوز تقليده؟ وهل يحرم عليه تقليد الغير؟ وهل يترتب عليه غير ذلك من الأحكام المترتبة على الاجتهاد ، أو أنها مختصة بالمجتهد الّذي تصدى لتحصيل الحجة على الأحكام أعني المستنبط بالفعل ، ولا يعمّ من له الملكة إذا لم يتصدّ للاستنباط خارجاً؟ ولكنه بحث خارج عن محل الكلام ، لأن البحث إنما هو في الاجتهاد الّذي هو عديل التقليد والاحتياط وهو من أطراف الواجب التخييري. وأما أن الأحكام المتقدمة تترتب على من له ملكة الاستنباط أو لا تترتب فيأتي عليه الكلام في البحث عن شرائط المقلد إن شاء الله.

ثمّ إن التعريف الّذي قدّمناه للاجتهاد مضافاً إلى أنه سليم عن المناقشتين المتقدمتين ، يمكن أن تقع به المصالحة بين الأخباريين والأُصوليين ، وذلك لأن الفريقين يعترفان بلزوم تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية ولا استيحاش للأخباريين عن الاجتهاد بهذا المعنى ، وإنما أنكروا جواز العمل بالاجتهاد المفسّر باستفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي ، والحق معهم لأن الاجتهاد بذلك المعنى بدعة ولا يجوز العمل على‌

١٠

طبقه ، إذ لا عبرة بالظن في الشريعة المقدسة ، بل قد نهى الله سبحانه عن اتّباعه في الكتاب العزيز وقال عزّ من قائل ( وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (١) وقال ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ... ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات.

وأمّا تحصيل الحجّة على الأحكام فهو مما لا بدّ منه عند كل من اعترف بالشرع والشريعة ، لبداهة أن الأحكام الشرعية ليست من الأُمور البديهية الّتي لا يحتاج إثباتها إلى دليل. نعم ، قد يقع الخلاف في بعض المصاديق والصغريات ، مثلاً لا يرى الأُصولي شيئاً حجة وهو حجة عند المحدّثين ، أو بالعكس إلاّ أنه غير مضرّ بالاتفاق على كبرى لزوم تحصيل الحجة على الحكم ، كيف فإنه قد وقع نظيره بين كل من الطائفتين ، فترى أن المحدّث الأسترآبادي يرى عدم حجية الاستصحاب في الأحكام الكلّية إلاّ في استصحاب عدم النسخ (٣) ويرى غيره خلافه ، هذا كلّه في الاجتهاد.

وكذلك الحال في التقليد ، إذ لا موقع لاستيحاش المحدّثين منه لأنه على ما فسّرنا الاجتهاد به من الأُمور الضرورية والمرتكزة عند العقلاء ، حيث إن من لا يتمكن من تحصيل الحجة على الحكم الشرعي أو أنه تمكن ولكنه لم يتصد لتحصيلها جاهل به كما أن من حصّلها عالم بالحكم ، وجواز رجوع الجاهل إلى العالم من الضروريات الّتي لم يختلف فيها اثنان ، وهو أمر مرتكز في الأذهان وثابت ببناء العقلاء في جميع الأعصار والأزمان.

والمتحصل إلى هنا : أن الاجتهاد بمعنى تحصيل الظن بالحكم الشرعي كما يراه المحدّثون بدعة وضلال ، إلاّ أن الأُصوليين لا يريدون إثباته وتجويزه ولا يدّعون وجوبه ولا جوازه بوجه ، بناءً على عدم تمامية مقدمات الانسداد كما هو الصحيح وأمّا الاجتهاد بمعنى تحصيل الحجة على الحكم الشرعي فهو أمر لا يسع المحدّث إنكاره وهو الّذي يرى الأُصولي وجوبه. فما أنكره المحدّثون لا يثبته الأُصوليون كما أن ما‌

__________________

(١) يونس ١٠ : ٣٦.

(٢) الحجرات ٤٩ : ١٢.

(٣) الفوائد المدنية : ١٤١ ١٤٣.

١١

يريد الأُصولي إثباته لا ينكره المحدّثون. إذن يظهر أن النزاع بين الفريقين لفظي وهو راجع إلى التسمية فإن المحدّث لا يرضى بتسمية تحصيل الحجة اجتهاداً وأما واقعة فكلتا الطائفتين تعترف به كما مر.

٢ ـ مبادئ الاجتهاد :

يتوقف الاجتهاد على معرفة اللغة العربية ، لوضوح أن جملة من الأحكام الشرعية وإن لم يتوقف معرفتها على معرفة اللّغة كوجوب مقدمة الواجب وغيره من موارد الأحكام العقلية الاستلزامية ، إلاّ أنه لا شبهة في أن أكثر الأحكام يستفاد من الكتاب والسنة وهما عربيان ، فلا مناص من معرفة اللّغة العربية في استنباطها منهما حتى إذا كان المستنبط عربي اللّسان ، لأن العربي لا يحيط بجميع اللغة العربية وإنما يعرف شطراً منها فلا بدّ في معرفة البقية من مراجعة اللّغة. ولا نقصد بذلك أن اللغوي يعتبر قوله في الشريعة المقدسة كيف ولم يقم دليل على حجيته ، وإنما نريد أن نقول إن الرجوع إلى اللّغة من الأسباب المشرفة للفقيه على القطع بالمعنى الظاهر فيه اللّفظ ولا أقل من حصول الاطمئنان بالظهور وإن لم يثبت أنه معناه الحقيقي بقوله ، وذلك لأن الفقيه إنما يدور مدار الظهور ولا يهمّه كون المعنى حقيقة أو مجازاً.

ثمّ إن بهذا الملاك الّذي أحوجنا إلى معرفة اللّغة العربية نحتاج إلى معرفة قواعدها لأنها أيضاً مما يتوقف عليه الاجتهاد وذلك كمعرفة أحكام الفاعل والمفعول ، لضرورة أن فهم المعنى يتوقف على معرفتها. نعم ، لا يتوقف الاجتهاد على معرفة ما لا دخالة له في استفادة الأحكام من أدلتها ، وذلك كمعرفة الفارق بين البدل وعطف البيان وغير ذلك مما يحتوي عليه الكتب المؤلفة في الأدب.

وأمّا علم المنطق فلا توقف للاجتهاد عليه أصلاً ، لأن المهم في المنطق إنما هو بيان ما له دخالة في الاستنتاج من الأقيسة والأشكال كاعتبار كلّية الكبرى وكون الصغرى موجبه في الشكل ، مع أن الشروط الّتي لها دخل في الاستنتاج مما يعرفه كل عاقل حتى الصبيان ، لأنك إذا عرضت على أيّ عاقل قولك : هذا حيوان ، وبعض الحيوان موذٍ ، لم يتردد في أنه لا ينتج أن هذا الحيوان موذٍ.

١٢

وعلى الجملة المنطق إنما يحتوي على مجرد اصطلاحات علمية لا تمسها حاجة المجتهد بوجه ، إذ ليس العلم به ممّا له دخل في الاجتهاد بعد معرفة الأُمور المعتبرة في الاستنتاج بالطبع.

والّذي يوقفك على هذا ، ملاحظة أحوال الرواة وأصحاب الأئمة ( عليهم أفضل الصّلاة ) لأنهم كانوا يستنبطون الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة من غير أن يتعلموا علم المنطق ويطّلعوا على مصطلحاته الحديثة.

والعمدة فيما يتوقف عليه الاجتهاد بعد معرفة اللّغة العربية وقواعدها علمان :

أحدهما : علم الأُصول ، ومساس الحاجة إليه في الاجتهاد مما لا يكاد يخفى لأن الأحكام الشرعية ليست من الأُمور الضرورية الّتي لا يحتاج إثباتها إلى دليل ، وإنما هي أُمور نظرية يتوقف على الدليل والبرهان ، والمتكفل لأدلة الأحكام وبراهينها من الحجج والأمارات وغيرهما مما يؤدي إلى معرفة الأحكام الشرعية علم الأُصول وما من حكم نظري إلاّ ويستنبط من تلك الأدلة ، فعلى المستنبط أن يتقنها ويحصّلها بالنظر والاجتهاد لأنها لو كانت تقليديةً لأدى إلى التقليد في الأحكام لأن النتيجة تتبع أخسّ المقدمتين كما تأتي الإشارة إليه في محله.

وثانيهما : علم الرجال ، وذلك لأن جملة من الأحكام الشرعية وإن كانت تستفاد من الكتاب إلاّ أنه أقل قليل ، وغالبها يستفاد من الأخبار المأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام وعلى ذلك إن قلنا بأن الأخبار المدوّنة في الكتب الأربعة مقطوعة الصدور ، أو أنها ممّا نطمئن بصدورها لأن الأصحاب عملوا على طبقها ولم يناقشوا في إسنادها وهذا يفيد الاطمئنان بالصدور ، فقد استرحنا من علم الرجال لعدم مساس الحاجة إلى معرفة أحوال الرواة كما سلك ذلك المحقق الهمداني قدس‌سره حيث قال :

ليس المدار عندنا في جواز العمل بالرواية على اتصافها بالصحة المطلوبة ، وإلاّ فلا يكاد يوجد خبر يمكننا إثبات عدالة رواتها على سبيل التحقيق لولا البناء على المسامحة في طريقها والعمل بظنون غير ثابتة الحجية. بل المدار على وثاقة الراوي أو الوثوق بصدور الرواية‌

١٣

وإن كان بواسطة القرائن الخارجية الّتي عمدتها كونها مدونة في الكتب الأربعة أو مأخوذة من الأُصول المعتبرة مع اعتناء الأصحاب بها وعدم إعراضهم عنها ، إلى أن قال : ولأجل ما تقدمت الإشارة إليه جرت سيرتي على ترك الفحص عن حالهم. انتهى.

وإنما اللاّزم حينئذٍ مراجعة أن الرواية هل هي معمول بها عندهم ، لتكون حجة أو أنها معرض عنها لتسقط عن الاعتبار. ومعه لا تمسّ الحاجة إلى علم الرجال إلاّ في بعض الموارد ، كما إذا لم يظهر لنا عمل الأصحاب على طبق الرواية أو إعراضهم عنها.

وأمّا إذا بنينا على ما هو الصحيح عندنا ، من أن عمل الأصحاب والمشايخ ( قدّس الله أسرارهم ) على طبق رواية لا يكون جابراً لضعف دلالتها ، إذ المتبع حسب سيرة العقلاء هو الظهور ، ومن الظاهر أن عملهم على طبق الرواية لا يجعلها ظاهرة في المعنى المراد كما لا ينجبر بعملهم ضعف سندها ، فإن السيرة العقلائية الّتي هي العمدة في حجية الخبر وكذا الأخبار التي ادعينا تواترها إجمالاً ، وبعض الآيات المذكورة في محلّها إنما تدل على اعتبار الخبر الموثوق أو الممدوح رواته ، أو الرواية الّتي يطمأن بصدورها عنهم لو اتفق في مورد وأمّا الخبر الضعيف فلم يدلنا دليل على اعتباره إذا عمل المشهور على طبقه. فلا محالة تزداد الحاجة إلى علم الرجال ، فإن به يعرف الثقة عن الضعيف وبه يتميز الغث عن السمين ، ومعه لا مناص من الرجوع إليه للتفتيش عن أحوال الرواة الواقعين في سلسلة السند واحداً بعد واحد ليظهر أنه موثوق به ليؤخذ بخبره أو أنه ضعيف لئلاّ يعتمد على إخباره ، حتى الرواة الواقعين في السند بعد ابن أبي عمير وزرارة وأضرابهما ممّن ادّعوا الإجماع على تصحيح ما يصح عنهم في الرجال ، وذلك لأن هذا الإجماع ليس بأزيد من الإجماعات المنقولة الّتي لا نعتمد عليها في الأحكام.

على أنه غير معلوم المراد وهل أُريد به أن السند إذا كان معتبراً إلى تلك الجماعة لم ينظر إلى من وقع بعدهم في سلسلة السند من الرواة ، بل يحكم باعتبارها ولو كان الراوي الواقع بعدهم غير معلوم الحال عندنا ليكون ذلك توثيقاً إجمالياً لهؤلاء الرواة أو أن المراد به توثيق أصحاب الإجماع في أنفسهم ليكون معناه أن الجماعة المذكورين‌

١٤

ثقات أو عدول وإن كان بعضهم واقفياً أو فطحياً أو غيرهما من الفرق ، ولم يرد توثيق لبعضهم مع قطع النظر عن هذا الإجماع ، فالسند إذا تمّ من غير ناحيتهم فهو تام من جهتهم أيضاً لأنهم ثقات أو عدول ، وأمّا من وقع في السند بعدهم فلا يكاد يستفاد توثيقه من الإجماع بوجه. وبما أن كُلا من الأمرين محتمل الإرادة في نفسه ، فيصبح معقد الإجماع مجملاً ولا يمكننا الاعتماد عليه إلاّ في المقدار المتيقن منه وهو الأخير.

والمتحصّل : أن علم الرجال من أهم ما يتوقف عليه رحى الاستنباط والاجتهاد. وأما غير ما ذكرناه من العلوم فهو فضل لا توقف للاجتهاد عليه.

٣ ـ أقسام الاجتهاد :

للاجتهاد تقسيمان :

أحدهما : تقسيمه إلى الاجتهاد الفعلي والاجتهاد بالقوة والملكة ، وذلك لأن الإنسان قد يكون له ملكة يقتدر بها على استنباط الأحكام الشرعية إلاّ أنه لم يُعمل بعدُ قدرته في الاستنباط أو أن استنبط شيئاً قليلاً من الأحكام ، وقد يكون ذا ملكة الاجتهاد ويعمل قدرته أيضاً في الاستنباط ويكون عالماً للأحكام الشرعية بالفعل وإن لم يكن علمه علماً وجدانياً بل مستنداً إلى الأدلة والحجج.

ثانيهما : تقسيمه إلى مطلق وتجزي ، وذلك لأن الملكة قد لا تختص بباب دون باب على ما تأتي الإشارة إليه ويسمّى صاحبها مجتهداً مطلقاً ، وقد تختص ببعض الأبواب دون بعض فلا يتمكن إلاّ من استنباط جملة من الأحكام لا جميعها ويسمّى صاحبها بالمتجزّي في الاجتهاد.

وحيث إن الاجتهاد موضوع لجملة من الأحكام ، فيقع الكلام في أنها هل تترتب على جميع الأقسام المتقدمة أو تختص ببعضها دون بعض ، وذلك لأن للاجتهاد أحكاماً ثلاثة :

الأول : حرمة رجوع المجتهد إلى الغير في الفتوى بالاستناد إليها في مقام الامتثال لوجوب اتباع نظره على نفسه.

الثاني : جواز رجوع الغير إليه أعني تقليده والاستناد إلى آرائه في مقام العمل.

١٥

الثالث : نفوذ قضائه وتصرفاته في أموال القصّر والتصدي لغير ذلك مما هو من مناصب الفقيه الجامع للشرائط.

ثمّ إن المناسب للبحث في المقام إنما هو خصوص الحكم الأول دون الثاني والأخير لأنهما يناسبان بحثي التقليد والقضاء ، حيث يقع فيهما الكلام في أن القاضي ومن يرجع إليه في التقليد هل يعتبر أن يكونا مجتهدين بالفعل أو يكفي كونهما ذا ملكة الاجتهاد وإن لم يستنبطا ولو حكماً واحداً؟ وكذا نتكلم في أن المتجزّي في الاجتهاد هل ينفذ قضاؤه ويجوز أن يتصدى للأُمور الحسبية وأنه هل يجوز تقليده أو أن القاضي ومن يرجع إليه في التقليد يعتبر أن يكونا مجتهدين مطلقين؟ إلاّ أنّا في المقام نشير إلى هذين البحثين أيضاً على نحو الاختصار فنقول :

لا ريب ولا إشكال في أن المجتهد المطلق الّذي قد استنبط جملة وافية من الأحكام يحرم عليه الرجوع إلى فتوى غيره ، ويجوز أن يراجع إليه في التقليد ويتصدى للقضاء ويتصرف في أموال القصّر ونحوه ، وهذا القسم من الاجتهاد هو القدر المتيقن في ترتب الأحكام المذكورة عليه. وإنما الكلام في من له الملكة المطلقة إلاّ أنه لم يتصد للاستنباط أصلاً أو استنبط شيئاً قليلاً من الأحكام ، وفي المتجزّي الّذي يتمكن من استنباط بعض الأحكام دون بعض إذا استنبط جملة منها بالفعل ، فالبحث يقع في مرحلتين :

١ ـ الاجتهاد بالقوة والملكة‌

والكلام فيه من جهات :

الاولى : في جواز رجوعه إلى الغير.

الثانية : في جواز الرجوع إليه.

الثالثة : في نفوذ قضائه وجواز تصدّيه للأُمور الحِسبية.

أمّا الجهة الاولى : فلا يترتب على البحث عنها أية ثمرة إلاّ بالإضافة إلى نفس من له الملكة ليفتي في تلك المسألة بالحرمة أو الجواز ، وذلك لأن صاحب الملكة ليس له أن يقلّد في مسألة جواز رجوع من له الملكة إلى الغير وعدمه ، فإن مشروعية التقليد‌

١٦

بالإضافة إليه أول الكلام ، فلا مناص من أن يرجع إلى الأدلة حتى ينتهي نظره إلى جواز رجوع مثله إلى الغير أو حرمته ، فتكلمنا عليه وإثباتنا جواز تقليده أو حرمته لا يكاد أن تترتب عليه ثمرة سوى أن تترجح عنده أدلة الجواز أو التحريم ليفتي على طبق الأُولى أو الثانية ، هذا.

وقد يقال بجواز رجوعه إلى الغير نظراً إلى أن الاجتهاد بالقوة والملكة ليس بعلم فعليّ للأحكام ، بل صاحبها جاهل بها بالفعل وإن كان له ملكة الاستنباط والاجتهاد ، ولا مانع من رجوع الجاهل إلى العالم. وهذا القول منسوب إلى صاحب المناهل قدس‌سره (١).

وعن شيخنا الأنصاري قدس‌سره في رسالته الموضوعة في الاجتهاد والتقليد دعوى الاتفاق على عدم الجواز لانصراف الإطلاقات الدالة على جواز التقليد عمّن له ملكة الاجتهاد ، واختصاصها بمن لا يتمكن من تحصيل العلم بها (٢).

وما أفاده قدس‌سره هو الصحيح وذلك لأن الأحكام الواقعية قد تنجزت على من له ملكة الاجتهاد بالعلم الإجمالي أو بقيام الحجج والأمارات عليها في محالّها وهو يتمكن من تحصيل تلك الطرق ، إذن لا بدّ له من الخروج عن عهدة التكاليف المتنجزة في حقه ولا يكفي في ذلك أن يقلّد الغير ، إذ لا يترتب عليه الجزم بالامتثال فإنه من المحتمل أن لا تكون فتوى الغير حجة في حقه لوجوب العمل بفتيا نفسه ونظره ، فلا يدري أنها مؤمّنة من العقاب المترتب على مخالفة ما تنجز عليه من الأحكام الواقعية والعقل قد استقل بلزوم تحصيل المؤمّن من العقاب ومع الشك في الحجية يبني على عدمها ، فإن الشك في الحجية يساوق القطع بعدمها على ما بيّناه في محله (٣).

ولا يقاس صاحب الملكة بمن ليست له ملكة الاجتهاد بالفعل إلاّ أنه يتمكن من تحصيلها لاستعداده وقابليته ولو بالاشتغال بالدراسة سنين متمادية ، وذلك لأنه غير متمكن حقيقة من تحصيل العلم التعبدي بالأحكام ولا يحتمل حرمة التقليد عليه بأن‌

__________________

(١) المناهل : ٦٩٩ سطر ١١.

(٢) الاجتهاد والتقليد : ٥٣.

(٣) مصباح الأُصول ٢ : ١١١.

١٧

يحتمل وجوب الاجتهاد في حقه ، كيف فإن الاجتهاد واجب كفائي وليس من الواجبات العينية كما هو مقتضى قوله عزّ من قائل ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (١). لدلالته على أن الاجتهاد وتحصيل العلم بالأحكام إنما يجب على طائفة من كل فرقة لا على الجميع. وهذا بخلاف صاحب الملكة إذ من المحتمل أن يجب عليه الاجتهاد وجوباً تعيينياً لتمكنه من تحصيل العلم بالأحكام ويحرم عليه التقليد لانصراف أدلة الجواز عنه ، حيث إن ظاهرها أن جواز التقليد يختص بمن لا يتمكن من تحصيل العلم بالأحكام فمثل قوله عزّ من قائل ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (٢) يختص بمن لا يكون من أهل الذكر ولو بالقوة ، لوضوح أنه لو كان خطاباً للمتمكن من تحصيل العلم بالأحكام لم يناسبه الأمر بالسؤال بل ناسب أن يأمره بتحصيل العلم بها فإن مثله لا يخاطب بذلك الخطاب. وهكذا الكلام في بقية أدلته لوضوح اختصاصها بمن لا يتمكن من تحصيل الحجة على الحكم حتى السيرة العقلائية الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم.

ودعوى : أن السيرة شاملة للمقام لأن صاحب الملكة ليس بعالم بالفعل ، مما لا يمكن التفوّه به أصلاً ، لأنه كيف يسوغ دعوى أن العقلاء يُلزمون صاحب الملكة بالرجوع إلى من يحتمل انكشاف خطئه إذا راجع الأدلة. بل قد يكون قاطعاً بأنه لو راجع الأدلة لخطّأه في كثير من استدلالاته ، ومثله لا يكون مشمولاً للسيرة العقلائية يقيناً ولا أقل من احتمال اختصاصها بمن لا يتمكن من الرجوع إلى الأدلة.

والمتحصّل : أن من له ملكة الاجتهاد سواء لم يتصدّ للاستنباط أصلاً أو استنبط شيئاً قليلاً من الأحكام لا بدّ له من أن يتّبع نظره ويرجع إلى فتيا نفسه ولا يجوز أن يقلد غيره ، والإجماع المدعى في كلام شيخنا الأنصاري قدس‌سره أيضاً مؤيد لما ذكرناه ، لعدم كونه إجماعاً تعبدياً.

أمّا الجهة الثانية : فالصحيح عدم جواز الرجوع إليه لأن الأدلة اللفظية المستدل بها‌

__________________

(١) التوبة ٩ : ١٢٢.

(٢) النحل ١٦ : ٤٣.

١٨

على جواز التقليد من الآيات والروايات ، أُخذت في موضوعها عنوان العالم والفقيه وغيرهما من العناوين غير المنطبقة على صاحب الملكة ، إذ لا يصدق عليه العالم أو الفقيه لعدم كونه كذلك بالفعل. نعم ، له قدرة المعرفة والعلم بالأحكام. وكذلك الحال في السيرة العقلائية لأنها إنما جرت على رجوع الجاهل إلى العالم ، وقد عرفت أن صاحب الملكة ليس بعالم فعلاً فرجوع الجاهل إليه من رجوع الجاهل إلى مثله ، هذا إذا لم يتصد للاستنباط بوجه.

وأمّا لو استنبط من الأحكام شيئاً طفيفاً فمقتضى السيرة العقلائية جواز الرجوع إليه فيما استنبطه من أدلته ، فإن الرجوع إليه من رجوع الجاهل إلى العالم حيث إن استنباطه بقيّة الأحكام وعدمه أجنبيان عمّا استنبطه بالفعل. نعم ، قد يقال إن الأدلة اللفظية رادعة عن السيرة وأنها تقتضي عدم جواز الرجوع إليه ، إذ لا يصدق عليه عنوان الفقيه أو العالم بالأحكام. اللهُمَّ إلاّ أن يستنبط جملة معتداً بها بحيث يصح أن يقال إنه عالم أو فقيه. ولكنه يأتي أن الأدلة اللفظية لا مفهوم لها وأنها غير رادعة عن السيرة فانتظره.

وأمّا الجهة الثالثة : فالصحيح عدم نفوذ قضائه وتصرفاته في أموال القصّر وعدم جواز تصدّيه لما هو من مناصب الفقيه ، وذلك لأن الأصل عدمه لأنه يقتضي أن لا يكون قول أحد أو فعله نافذاً في حق الآخرين إلاّ فيما قام عليه الدليل ، وهو إنما دلّ على نفوذ قضاء العالم أو الفقيه أو العارف بالأحكام أو غيرها من العناوين الواردة في الأخبار ، ولا يصدق شي‌ء من ذلك على صاحب الملكة كما يأتي تفصيل هذه الجهة وسابقتها عند التعرض لأحكام التقليد والقضاء إن شاء الله ، هذا كلّه في إحدى مرحلتي البحث في المقام.

٢ ـ التجزِّي في الاجتهاد‌

أعني من استنبط بعض الأحكام بالفعل ولا يتمكن من استنباط بعضها الآخر. والكلام فيه أيضاً من جهات :

الجهة الاولى : في إمكان التجزي واستحالته‌.

١٩

قد يقال باستحالة التجزي في الاجتهاد ، نظراً إلى أنه ملكة كملكة الشجاعة أو السخاوة وغيرهما من الملكات ، والملكة كيف نفساني بسيط غير قابل للتجزية والتقسيم من التنصيف أو التثليث أو غيرهما ، وإنما القابل لذلك هو الكم فدائماً يدور أمر الملكة بين الوجود والعدم ولا يعقل أن تتحقق متبعّضة بأن يقال : إن لفلان نصف ملكة الشجاعة أو نصف ملكة الاجتهاد ، إذن المتصدّي للاستنباط إمّا أن يكون مجتهداً مطلقاً ، وإما أن لا يتصف بالاجتهاد أصلاً فالتجزي في الاجتهاد أمر غير معقول هذا.

لكن المغالطة في هذه الدعوى بينة ، لوضوح أن مدعي إمكان التجزّي لا يريد بذلك أن ملكة الاجتهاد قابلة للتجزية ، وأن للمتجزي نصف الملكة أو ثلثها فإنه كما مرّ غير معقول ، نظير دعوى أن زيداً له نصف ملكة الشجاعة مثلاً ، بل مراده أن متعلق القدرة في المتجزّي أضيق دائرة من متعلقها في المجتهد المطلق لأنها فيه أوسع وتوضيحه : أن القدرة تتعدد بتعدد متعلقاتها ، فإن القدرة على استنباط حكم ، مغايرة للقدرة على استنباط حكم آخر ، وهما تغايران القدرة على استنباط حكم ثالث نظير القدرة على بقية الأفعال الخارجية ، فإن القدرة على الأكل غير القدرة على القيام وهما غير القدرة على التكلم وهكذا. كما أن من الواضح أن الأحكام تختلف بحسب سهولة المدرك والاستنباط وصعوبتهما ، فربّ حكم اختلفت فيه الأقوال وتضاربت أدلته وأخباره ، وحكمٍ مدركه رواية واحدة ظاهرة الدلالة وتامة السند ، ومن البديهي أن الاستنباط في الأوّل أصعب وفي الثاني أسهل. إذن يمكن أن يحصل للإنسان ملكة وقدرة على الاستنباط في مسألة لسهولة مقدماتها ومداركها ، ولا يحصل له ذلك في مسألة أخرى لصعوبة مباديها ومأخذها.

فالفرق بين الاجتهاد المطلق والتجزي إنما هو في أن أفراد القدرة ومتعلقاتها في المتجزّي أقل منها في المجتهد المطلق. فلا وجه للمناقشة في إمكان التجزّي بل في وقوعه ، فترى أن الرجل لقوّة استعداده وكثرة ممارسته في الأُمور العقلية ومباديها يتمكن من استنباط الأحكام الراجعة إلى مقدمة الواجب أو اقتضاء الأمر بالشي‌ء النهي عن ضدّه أو اجتماع الأمر والنهي أو غيرها من الأحكام الراجعة إلى المباحث‌

٢٠