موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

الثالث عشر : الخلوص ، فلو ضمّ إليه الرِّياء بطل ، سواء كانت القربة مستقلّة والرِّياء تبعاً أو بالعكس أو كان كلاهما مستقلا (١)

______________________________________________________

حرمة الرِّياء في الشريعة المقدّسة

(١) لا ينبغي الإشكال في حرمة الرِّياء في الشريعة المقدّسة ، ويكفي في حرمته الأخبار المستفيضة ، بل البالغة حدّ التواتر (١) وفي بعضها « إن كل رياء شرك » (٢) مضافاً إلى الآيات الكتابيّة التي ذمّ الله تعالى فيها المرائي في عمله ، فقد قال تعالى ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ ) (٣) وقال ( وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النّاسِ ) (٤) وقال ( كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ ) (٥) وقال ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النّاسِ ) (٦) إلى غير ذلك مما ورد في ذمّ الرِّياء ، بل حرمة الرِّياء من جملة‌

__________________

(١) وهي كثيرة جدّاً البالغة نحواً من أربعين رواية ، راجع الوسائل ١ : ٥٩ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٨ ، ١١ ، ١٢ وغيرها من الموارد.

(٢) كرواية يزيد بن خليفة. الوسائل ١ : ٧٠ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١٢ ح ٢ ، والروايات المذكورة فيها هذه الجملة وإن كانت متعدِّدة إلاّ أنّ كلّها ضعيفة ، نعم ورد في موثقة مسعدة بن زياد : « فاتّقوا الله في الرِّياء فإنّه الشِّرك بالله ... » الوسائل ١ : ٦٩ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١١ ح ١٦.

(٣) الماعون ١٠٧ : ٤ ٧.

(٤) النساء ٤ : ٣٨.

(٥) البقرة ٢ : ٢٦٤.

(٦) الأنفال ٨ : ٤٧.

١

الضروريات وممّا لا ينبغي الإشكال فيه.

إلاّ أن الكلام في موضوعه وأن المحرّم من الرِّياء أي شي‌ء فنقول : إن الرِّياء وإن كان بمفهومه اللغوي يعمّ العبادات وغيرها لأنه بمعنى إتيان العمل بداعي إراءته لغيره إلاّ أنه لا دليل على حرمته في غير العبادات ، فاذا أتى بعمل بداعي أن يعرف الناس كماله وقوّته كما إذا رفع حجراً ثقيلاً ليعرف الناس قوّة بدنه وعضلاته لم يرتكب محرماً بوجه ، وذلك لأنّ المستفاد من الأخبار الواردة في حرمة الرِّياء أن حرمته من جهة أنه شرك وإشراك ، والشرك إنّما يتحقق في العبادات ، وأمّا إذا أتى بعمل لأن يرى الناس كمال صنعه ومعرفته فهو لا يكون مشركاً بالله بوجه ، وكيف كان فلا شك في عدم حرمة الإتيان بالعمل غير العبادي رياء ، نعم لا إشكال في حسن ترك الرِّياء في جميع الأفعال الصادرة من المكلّف حتى في غير العبادات بأن يأتي بجميع أعماله لله ، إلاّ أنه على تقدير تحققه في غير المعصومين قليل غايته ، وإنما المحرّم هو أن يعبد المكلّف الله سبحانه ليريه للناس.

ثمّ إنّ المحرّم إنّما هو الرِّياء في العبادة بما أنّها عبادة ، وأما إذا أتى بالعبادة لله سبحانه إلاّ أنه قصد فيها الرِّياء لا من حيث العبادة بل من جهة أُخرى ، كما إذا أجهر فيها بداعي إعلامه للغير أنه في الدار ، أو قصد ذلك في قيامه في الصلاة ليراه غيره في الدار لئلاّ يتوحّش عن الانفراد ، لأنه أيضاً إتيان للعمل بداعي أن يريه غيره إلاّ أنه ليس رياء في العبادة حقيقة ، وإنما هو رياء في شي‌ء آخر مقارن للعبادة ، فلا إشكال في عدم بطلان العبادة بذلك لأنه لم يشرك في عبادته بل أتى بها خالصاً لوجهه الكريم ، فالرياء المحرّم هو الإتيان بالعبادة بداعي أن يري عبادته للغير.

ثمّ إنّه إذا أتى بالعبادة امتثالاً لأمر الله سبحانه من غير أن يكون لرؤية غيره مدخلية في عبادته ولو بتأكد داعيه إلاّ أنه يعلم أن غيره يرى عبادته وهو يسره فالظاهر صحّة عبادته ، وذلك لفرض عدم مدخلية رؤية الغير في عبادته وإنما محركه نحو العمل هو الامتثال وطاعة ربّه ، ورؤية الغير من الآثار المترتبة على عمله العبادي قهراً من غير أن يكون لها مدخلية فيه ولو بالتأكّد ، كما هو الحال في الصلاة في أماكن‌

٢

الاجتماع كالمساجد ، أو في مكان مكشوف وإن كان ذلك موجباً لسروره وفرحه ، ومجرّد السرور برؤية الغير وحبّه ظهور عمله لدى الغير أمر اتفاقي غير مبطل للعبادة ، لعدم صدورها إلاّ بالداعي الإلهي ، فإن مثله خارج عن الرِّياء خروجاً تخصّصيّاً موضوعياً لأنّ الرِّياء بمفهومه اللّغوي والعرفي لا يشمل مثله حيث يعتبر في مفهومه أن تكون لرؤية الغير مدخلية في عمله ، ومع فرض عدم دخالتها في العمل لا يصدق عليه الرِّياء.

ثمّ لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا صدق الرِّياء عليه فهو خارج عن الرِّياء المبغوض المحرّم قطعاً ، وذلك بقرينة ما حمل عليه أي على الرِّياء في رواياته ، حيث حمل عليه عنوان الشرك ، وورد أن كل رياء شرك ، وهذا المحمول قرينة على أن الرِّياء المحرّم المبغوض إنّما هو الرِّياء الذي يكون شركاً ، وبما أنّ مفروض المسألة عدم الإشراك في العبادة بوجه لعدم مدخلية رؤية الغير فيها على الفرض ، فهو من الرِّياء غير المحرّم شرعاً ، هذا كلّه.

مضافاً إلى صحيحة زرارة أو حسنته باعتبار إبراهيم بن هاشم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « سألته عن الرجل يعمل الشي‌ء من الخير فيراه إنسان فيسره ذلك ، قال : لا بأس ، ما من أحد إلاّ وهو يحب أن يظهر له في الناس الخير ، إذا لم يكن صنع ذلك لذلك » (١) ، وقوله : « ما من أحد » محمول على الغالب في عامّة الناس.

وأمّا ما ورد في موثقة النوفلي عن السكوني وكذا في غيرها من أنّ للمرائي علامات ثلاث : ينشط إذا رأى الناس ، ويكسل إذا كان وحده ، ويحب أن يحمد في جميع أُموره (٢) فهو غير معارض للصحيحة أو الحسنة بوجه ، وذلك لا لأجل ضعفها‌

__________________

(١) المروية في الوسائل ١ : ٧٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١٥ ح ١.

(٢) المروية في الوسائل ١ : ٧٣ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١٣ ح ١. وهذه الرواية وإن عبر عنها في كلام غير واحد بالخبر ، الدال على ضعفها لوجود النوفلي وهو حسين بن يزيد في سندها ولم يرد فيه توثيق في كتب الرجال ، إلاّ أنه بناء على ما أفاده سيِّدنا الأُستاذ ( دام ظله ) من وثاقة كل من وقع في أسانيد كتاب كامل الزيارات أو تفسير القمي ، وكان السند الواقع فيه متصلاً بالمعصوم

٣

من جهة حسين بن زياد النوفلي ، لما قرّرنا في محلِّه من أن الرجل موثق (١) ، بل لأجل أنها قاصرة الدلالة على بطلان العبادة بمجرّد السرور بظهور العمل لدى الغير ، وذلك لأنّ النشاط عند رؤية الناس يستلزم التغير في كيفية العمل لا محالة بتحسين تجويده أو بإطالة ركوعه وسجوده ونحوهما ، ولا إشكال في أنه رياء وإتيان بالعبادة بداعي غيره تعالى ، وهذا بخلاف مفروض الكلام من أنه يأتي بالعبادة بداعي أمر الله فحسب إلاّ أنه يسره رؤية الغير لعمله من غير أن تكون لرؤية الغير مدخلية في عبادته ، نعم هذا غير مناسب للمتقين إلاّ أنه مطلب آخر. على أن سرور العامل بمشاهدة غيره عمله أمر جبلي طبعي في غير المعصومين عليهم‌السلام وجماعة قليلين ، فكيف يمكن الحكم بحرمته وأن الغالب بل الجميع يرتكبون المحرّم في عباداتهم. فالمتحصل أن الرِّياء المحرّم إنما هو مختص بالعبادة فيما إذا كان لرؤية الغير مدخلية فيها بما هي عبادة.

الأنحاء المتصوّرة في الرّياء‌

والرِّياء على هذا النحو يتصور على وجوه : أحدها : أن يأتي بالعبادة خالصة لغير الله سبحانه ، بأن يكون محركه نحوها إراءة عبادته للغير من غير أن تكون مستندة إلى امتثال أمر الله سبحانه ولو على نحو التشريك. وثانيهما : أن يأتي بها بداعي كل من امتثال أمره تعالى ورؤية غيره ، بأن يكون كل من الرِّياء والامتثال له مدخلية في عمله ، فالمحرك والداعي هو مجموع طاعة الخالق والمخلوق بحيث لو كان كل منهما منفكّاً عن غيره لم تصدر منه العبادة بوجه. والحكم ببطلان العبادة في هاتين الصورتين على طبق القاعدة قلنا بحرمة الرِّياء أم لم نقل ، حتى لو فرضنا أن تلك الروايات المستفيضة بل المتواترة لم تكن أيضاً كنا حكمنا ببطلان العبادة في الصورتين المذكورتين ، وذلك لأنه يشترط في صحّة العمل العبادي استناده إلى الله سبحانه بأن يكون الداعي الإلهي مستقلا في الداعوية والمحركية ، بحيث لو كان وحده كفى في‌

__________________

عليه‌السلام لشهادة ابن قولويه وعلي بن إبراهيم ( رضوان الله عليهما ) بذلك فالرواية موثقة لوجود النوفلي في أسناد الكتابين.

(١) معجم رجال الحديث ٧ : ١٢٢.

٤

التحرّك نحوه وإصدار العبادة وأن يأتي بنيّة التقرب إليه ، فإذا أتى به لا بنيّة القربة كما في الصورة الأُولى أو بنيّة القربة ونيّة أمر آخر على نحو الاشتراك ولو كان من الأُمور المباحة كالتبريد في الوضوء ، فلا محالة وقعت العبادة باطلة ، والحكم ببطلانها حينئذ على طبق القاعدة.

فما عن السيِّد المرتضى قدس‌سره من إفتائه بصحّة العبادة المراءى فيها وأن المنفي هو القبول وترتّب الثواب عليها (١) ممّا لا يحتمل عادة إرادته هاتين الصورتين بل من المظنون قويّاً بل المطمأن به أنه أراد غيرهما كما نبيِّنه إن شاء الله تعالى (٢) ، لأن بطلان العبادة حينئذ مستند إلى فقدانها النيّة المعتبرة وإن لم يكن فيها رياء ، وعليه :

فمحل الكلام في الحكم ببطلان العبادة من جهة الرِّياء هو ما إذا كان له داعيان مستقلاّن للعبادة أحدهما : داعي الامتثال ، وثانيهما : داعي الرِّياء وإراءته العمل للغير بحيث كان كل منهما في نفسه وإن لم ينضم إليه الآخر صالحاً للداعوية والمحركية نحو العبادة على تقدير انفراده ، ولكنهما اجتمعا معاً في عبادته وانتسب العمل إليهما من جهة استحالة صدور المعلول الواحد عن علّتين مستقلتين ، فلا محالة يستند إليهما على نحو الاشتراك في التأثير وحينئذ يستند بطلانها إلى الرِّياء لتمامية شرائطها في نفسها لأنها منتسبة إلى الله سبحانه حيث صدرت عن داع قربي ، ولكنّها لما كانت على نحو الاشتراك بينه تعالى وبين غيره حكمنا ببطلانها.

أو كان داعي الامتثال مستقلا في المحركية والانبعاث بحيث لو كان وحده كفى في إصدار العبادات ، وكان داعي الرِّياء غير مستقل في الداعوية بأن لم يكن مؤثراً في البعث والعمل في نفسه إلاّ إذا ضم إليه داع آخر ، وهذا هو مراد الماتن قدس‌سره من كون داعي القربة مستقلا والرِّياء تبعاً. وهاتان الصورتان هما محل البحث في المقام ، وقد ذهب المشهور فيهما إلى بطلان العبادة بالرياء ، وخالفهم في ذلك السيِّد المرتضى قدس‌سره والتزم بصحتها وسقوط الثواب عنها وعدم قبولها للرياء.

__________________

(١) الانتصار : ١٠٠ / المسألة ٩.

(٢) في ص ١٧ ١٨.

٥

والكلام في ذلك يقع من جهتين ، إحداهما : صحّة العبادة المراءى فيها وبطلانها من جهة ما تقتضيه القاعدة في نفسها ، وثانيتهما صحتها وفسادها بالنظر إلى الأخبار الواردة في المقام.

أمّا الكلام من الجهة الأُولى فالصحيح صحّة العبادة في مفروض الصورتين حيث صدرت عن داعٍ إلهي مستقل في داعويته ، بحيث لو كان وحده كفى في الداعوية نحو العمل ، بلا فرق في ذلك بين أن ينضم إليه داع آخر غير داعي الامتثال مستقل في داعويته على تقدير وحدته ، أو تبعي لا يستقل في الداعوية في نفسه حتى ينضم إليه داع آخر ، وذلك لأن المعتبر في صحّة العبادة أن تكون صادرة عن الداعي القربي الإلهي المستقل ، وأما انحصار الداعي في ذلك وأن لا يكون معه داع آخر فهو غير معتبر في صحّتها كما يأتي تفصيله عند تعرض الماتن قدس‌سره في نفس المسألة كما إذا أتى بالعبادة بداع إلهي مستقل منضماً إلى داع آخر مباح أيضاً مستقل في داعويته أو تبعي كقصد التبريد بالوضوء ، حيث يأتي منا هناك أن العبادة إذا كانت صادرة عن داع قربي مستقل في داعويته صحت سواء كان هناك داع آخر أم لم يكن ، لعدم اعتبار انحصار الداعي بالداعي الإلهي ، فلو توضّأ بداعيين أحدهما قربي مستقل والآخر أمر آخر كالتبريد ونحوه ، يحكم بصحة وضوئه لا محالة. فالعبادة المراءى فيها محكومة بالصحة بمقتضى القاعدة.

وأمّا الكلام من الجهة الثانية فقد عرفت أن حرمة الرِّياء مما لا ينبغي الإشكال فيه بمقتضى الأخبار المستفيضة وما ورد في ذمّه من الآيات (١) بل هو في مرتبة شديدة من الحرمة حتى عبر عنه بالشرك في جملة من رواياته ، كما أن الرِّياء وجه من وجوه العمل والعبادة وليس من وجوه القصد النفساني ، لأن العمل بنفسه رياء كما في قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النّاسِ ) أو ( كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ ) وقوله تعالى ( الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ ) ، وعليه فالأخبار الواردة في حرمة الرِّياء منطبقة‌

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مواضع الآيات في صدر المسألة فلاحظ.

٦

على حرمة العبادة التي أتى بها بداعي إرائتها للناس وإراءة أنه خيّر من الأخيار ، ومع حرمة العمل ومبغوضيته كيف يمكن التقرّب به ، لأن المبغوض لا يكون مقرباً والمحرّم لا يكون مصداقاً للواجب ، فلا محالة تبطل العبادة بذلك هذا.

على أن في الأخبار الواردة في الرِّياء مضافاً إلى دلالتها على حرمته دلالة واضحة على بطلان العمل المأتي به رياءً ، وأنه مردود إلى من عمل له وغير مقبول ، وفي بعضها أن الله سبحانه يأمر به ليجعل في سجين ، إلى غير ذلك من الأخبار ، وهذه الأخبار وإن كان أغلبها ضعيفة إلاّ أن استفاضتها بل الاطمئنان بصدور بعضها لو لم ندع العلم كافية في الحكم باعتبارها ، على أن بعضها معتبرة في نفسه.

فقد روى البرقي في المحاسن عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « يقول الله عزّ وجلّ : أنا خير شريك فمن عمل لي ولغيري فهو لمن عمله غيري » (١) هكذا في نسخة الوسائل المطبوعة جديداً وقديماً ، والظاهر أنها غلط. وفي نسختنا المصححة من الوسائل « فهو كمن عمله غيري » والظاهر سقوط اللاّم عن قوله « غيري » وعليه فالرواية هكذا : « من عمل لي ولغيري فهو كمن عمله لغيري » وعليه فهي كالصريح في بطلان العبادة بالرياء حيث نزلها سبحانه منزلة العمل الذي أتى به خالصاً لغيره تعالى ، ومن الظاهر أن العمل لغيره مما لا يحسب من العمل لله في ديوانه بل يحسب لمن أتى له لأنه خير شريك ، فكأنه مما لم يأت به (٢) وأي شي‌ء أصرح في بطلان العمل من هذا التعبير؟

والرواية لا بأس بها من حيث سندها إلاّ من جهة والد البرقي ، حيث ذكر‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٧٢ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١٢ ح ٧. المحاسن ١ : ٣٩٢ / ٨٧٥.

(٢) بل في موثقة مسعدة بن زياد « ... إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء : يا كافر يا فاجر يا غادر يا خاسر ، حبط عملك وبطل أجرك فلا خلاص لك اليوم ... » الوسائل ١ : ٦٩ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١١ ح ١٦. وفي موثقة السكوني « ... إن الملك ليصعد بعمل العبد ... يقول الله عزّ وجلّ : اجعلوها في سجين ، إنه ليس إياي أراد به » الوسائل ١ : ٧١ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١٢ ح ٣.

٧

النجاشي في حقه أنه ضعيف في حديثه (١) وعن ابن الغضائري : أن حديثه يعرف وينكر (٢) ، إلاّ أن الشيخ قدس‌سره وثقه صريحاً (٣) وعليه فالرواية معتبرة ، بل لا معارضة بين توثيق الشيخ إياه وبين ما حكي عن النجاشي وابن الغضائري أصلاً لأن الظاهر أن كلام النجاشي ( ضعيف في حديثه ) لا تعرض له إلى نفي وثاقة الرجل بل هو بمعنى ضعف رواياته لأنه يروي عن الضعفاء ، ومن هنا قد يقبل حديثه وقد ينكر كما في كلام ابن الغضائري ، فلا تنافي بين كلامهما وكلام الشيخ قدس‌سره.

هذا ولكن السيِّد المرتضى قدس‌سره ذهب إلى صحّة عبادة المرائي وإسقاطها الإعادة والقضاء ، وغاية الأمر أنها غير مقبولة وأن عاملها لا يثاب ، بدعوى أن الأخبار الواردة في حرمة الرِّياء إنّما تدلّ على نفي قبول العبادة المراءى فيها ، ونفي القبول أعم من البطلان حيث قد يكون العمل صحيحاً ولكنه غير مقبول ، وقد قال الله سبحانه ( إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (٤) لأن من الظاهر أن عمل غير المتقين أيضاً صحيح إلاّ أنه غير مقبول عنده تعالى (٥).

والجواب عن ذلك بوجوه :

الأوّل : أن الأخبار الواردة في المقام غير منحصرة بما اشتمل على نفي القبول ، لأن منها ما هو كالصريح في بطلان العبادة بالرياء كما قدّمناه عن البرقي في المحاسن عن أبيه.

الثاني : هب أن الأخبار منحصرة بما ينفي القبول ، إلاّ أنه ليس بأعم من البطلان بل هو هو بعينه ، وذلك لأن النفي إنما هو نفي القبول في مقام المولوية والآمرية لا في‌

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٣٥ / ٨٩٨.

(٢) مجمع الرجال ٥ : ٢٠٥.

(٣) وثقه في كتاب الرجال في أصحاب الرضا عليه‌السلام ، ٣٦٣ / باب الميم رقم : ٤ ، مضافاً إلى أنه واقع في أسانيد كامل الزيارات أيضا.

(٤) المائدة ٥ : ٢٧.

(٥) الانتصار : ١٠٠ / المسألة ٩.

٨

مقام نفي الثواب ، ومع صحّة العمل لا معنى لعدم القبول ، فنفيه عين بطلان العمل وعدم صحّته وهو بمعنى عدم احتسابه عملاً. وبهذا المعنى أيضاً يستعمل في عرفنا اليوم فيقال لا أقبل ذلك منك ، بمعنى لا أحسبه عملاً لك فهو كالعدم ، نعم قد يرد أن العمل الفلاني لا يثاب عليه ، ولا إشكال أنه أعم من البطلان ، إلاّ أنه أمر آخر غير نفي القبول.

وأمّا الآية المباركة الواردة في قضيّة ابني آدم ( إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (١) فهي أجنبية عمّا نحن بصدده ، لأن المتقين في الآية المباركة بمعنى المؤمنين ، أي من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر ، والقاتل في الآية المباركة لم يكن مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر ، ولذا كان مخلداً في النار في التابوت ، ويؤيده تفسيره بالشيعة في زماننا بمعنى المؤمن في كل عصر. ومن الظاهر أن غير المؤمن لا يتقبّل عمله لبطلانه وعدم إيمان فاعله ، فالآية المباركة غير راجعة إلى ما نحن فيه.

ثمّ لو فسرنا المتقين بمن اجتنب عن المحرمات وأتى بالواجبات فلا مناص من التأويل في ظاهر الآية المباركة بحملها على عدم الثواب بمرتبته الراقية وعدم القبول الكامل الحسن ، وذلك لضرورة أنّ أعمال غير المتقين أعني الفسقة أيضاً مقبولة وهي ممّا يثاب عليه ، وكيف يمكن أن يدعى أن من ارتكب شيئاً من الفسق لا يقبل عمله ولا يثاب عليه مع صراحة الكتاب العزيز في أنه مما يثاب عليه ويعاقب لقوله تعالى ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (٢) وعليه لا بدّ من حمل نفي القبول في الآية المباركة على أن عمل غير المتقين بالمعنى الأخير ممّا لا يثاب عليه بثواب كامل ولا يقبل بقبول حسن.

الثالث : أن دلالة الأخبار الواردة في المقام على حرمة العبادة المراءى فيها كافية‌

__________________

(١) المائدة ٥ : ٢٧.

(٢) الزّلزلة ٩٩ : ٧ ، ٨.

٩

وسواء كان الرِّياء في أصل العمل (١) أو في كيفيّاته (٢)

______________________________________________________

في الحكم بالفساد وإن لم نفرض لها دلالة على البطلان ، لما مرّ من أن الرِّياء وجه من وجوه العمل ، ومع حرمة العمل ومبغوضيته كيف يمكن التقرب به ، وكيف يمكن أن يكون المحرّم مصداقاً للواجب.

فالمتحصل إلى هنا أن الصحيح هو ما ذهب إليه المشهور من بطلان العبادة بالرياء. هذا تمام الكلام في أصل حرمة الرِّياء وفي بطلان العبادة به. ويقع الكلام بعد ذلك في خصوصياته ، لأن الرِّياء قد يتحقق في أصل العمل وأُخرى في كيفياته وثالثة في جزء من أجزائه ، وهو قد يكون جزءاً وجوبياً وأُخرى استحبابيا.

(١) كما إذا أتى بالصلاة أو بالوضوء أو بغيرهما من العبادات بداعي إراءتها للناس على تفصيل قد عرفت ، وعرفت الوجه في بطلانها.

الرِّياء في كيفيّات العمل‌

(٢) الرِّياء في الكيفية مع إتيان أصل العمل بداعي الله سبحانه على قسمين ، لأن الكيفية المراءى فيها قد تكون متحدة الوجود مع العبادة خارجاً ، كما إذا صلّى في المسجد رياء وإن كان أصل الصلاة مستنداً إلى الداعي الإلهي ، إلاّ أن الحصّة الخاصّة من الصلاة أعني الصلاة في المسجد صادرة بداعي الرِّياء ، ونظيره ما إذا صلّى بوقار وإطالة رياء للنشاط الحاصل له عند رؤية الناس. وأُخرى تكون موجوداً عليحدة ولا تتحد مع العبادة في الوجود ، وهذا كما إذا صام لله إلاّ أنه قرأ الأدعية في صيامه بداعي الرِّياء ، أو صلّى لله وتحنك رياء ، لأن التحنّك وقراءة الأدعية أمران آخران غير الصيام والصلاة.

أمّا الرِّياء في الكيفيّة المتحدة مع العمل في الوجود فهو موجب لبطلان العبادة لا محالة ، لأن الحصّة الخاصّة من العبادة أعني الموجود الخارجي قد صدرت عن داع‌

١٠

أو في أجزائه (*) (١)

______________________________________________________

غير إلهي أعني داعي الرِّياء فهي محرمة ومبغوضة ، والمبغوض كيف يقع مقرّباً والمحرّم لا يمكن أن يقع مصداقاً للواجب فتبطل.

وأما الرِّياء في الكيفية المنحازة عن أصل العمل فلا موجب لكونه مبطلاً للعبادة لأن المبغوض والمحرّم شي‌ء والعبادة شي‌ء آخر ، ولا تسرى حرمة أحدهما إلى الآخر ، ولا يمكن أن يقال إنه أمر قد أشرك فيه غيره سبحانه معه ، بل هما أمران أحدهما أتى به لله والآخر أتى به لغيره ولعله ظاهر.

الرِّياء في أجزاء العمل‌

(١) إذا أتى بجزء من أجزاء العمل العبادي بداعي الرِّياء فان اقتصر عليه فلا إشكال في بطلان عبادته ، لأن الجزء المأتي به رياء محكوم بالحرمة والبطلان فهو كالعدم وكأنه لم يأت به أصلاً ، والعبادة تقع باطلة فيما إذا نقص عنها جزؤها ، وأما إذا لم يقتصر عليه بل ندم ثمّ أتى به عن داع قربي إلهي فان كان العمل مما يبطل بزيادة جزئه عمداً كالصلاة فأيضاً يحكم ببطلان العبادة ، لأن السجدة المأتي بها رياء مثلاً أمر زائد أتى به عمداً ، والمفروض أن الزيادة العمدية موجبة لبطلان الصلاة ، وأما إذا لم يبطل العمل بالزيادة العمدية كما في الوضوء فان استلزم الإتيان بالجزء مرّة ثانية على وجه صحيح كغسل اليد اليمنى مثلاً البطلان من شي‌ء من النواحي كما إذا أوجب الإخلال بالموالاة المعتبرة في الوضوء بأن كان موجباً لجفاف الأعضاء المتقدِّمة فأيضاً لا بدّ من الحكم ببطلان العبادة.

وأمّا إذا لم يقتصر على الجزء المأتي به رياءً بل أتى به ثانياً بقصد امتثال أمر الله سبحانه ، ولم يكن العمل كالصلاة مما يبطل بالزيادة عمداً ، ولم يستلزم البطلان من‌

__________________

(*) في إطلاقه إشكال بل منع ، وكذلك الأجزاء المستحبّة.

١١

ناحية أُخرى كالإخلال بالموالاة في الوضوء ، فهل يكون الرِّياء المتحقق في جزء منه كغسل اليد اليمنى مثلاً موجباً لبطلانه وإن ندم وأتى به مرّة أُخرى بداعٍ قربي لأن الشي‌ء لا ينقلب عما وقع عليه ، فالوضوء ممّا تحقق الرِّياء في أثنائه سواء ندم بعد ذلك وأتى بالجزء ثانياً أم لم يندم عليه ، أو أنه لا يوجب البطلان؟ وجهان بل قولان.

قد يقال ببطلان العمل بذلك تمسكاً بإطلاقات الأخبار الواردة في المقام ، لأنه يصدق أنه عمل لله ولغيره فهو لغيره ، أو كمن عمله لغيره (١) وهو مما أدخل فيه رضا أحد من الناس (٢) إلى غير ذلك من الإطلاقات.

إلاّ أنّ الصحيح عدم بطلان العبادة بذلك ، والوجه فيه أن الشركة إنما تتحقّق فيما إذا كان العمل واحداً وأتى به لله ولغيره ، فمثله يحسب من شريكه في العبادة ولا يحسب من الله لأنه خير شريك ، وأما مع التعدّد والإتيان ببعضه لله والاشتراك في بعضه فلا معنى للشركة فيما أتى به لله ، وإنما الشركة في ذلك الجزء الذي أتى به أوّلاً بداعي غيره تعالى فهو محسوب لذلك الغير ، فإذا لم يقتصر عليه بل أتى به ثانياً بداع قربي إلهي فيصدق حقيقة أنه عمل أتى به بأجمعه لله وبالداعي الإلهي القربي ، فحيث إن ما أتى به بداعي الله سبحانه من غسل الوجه والمسح وغسل اليد اليمنى ثانياً مثلاً مما لا اشتراك فيه فلا موجب لاحتسابه للغير الذي هو مضمون رواية البرقي (٣) وهي العمدة في المقام ، وكذلك الحال في بقيّة الأخبار ، لأنّ إتيان العمل له ولغيره إنما يتحقق مع وحدة العمل حتى يقع فيه الاشتراك ، وأمّا مع التعدّد وكون بعضه خالصاً له تعالى فلا معنى للاشتراك في ذلك البعض فلا موجب لبطلانه ، وإنما الباطل هو الجزء الذي أتى به اشتراكا.

__________________

(١) هذا مضمون صحيحة هشام بن سالم التي رواها البرقي وتقدّمت في ص ٧.

(٢) هذه الجملة وردت في رواية زرارة وحمران عن أبي جعفر عليه‌السلام ، الوسائل ١ : ٦٧ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١١ ح ١١.

(٣) المتقدّمة في ص ٧.

١٢

وأمّا ما في بعض الروايات من قوله عليه‌السلام : « لو أن عبداً عمل عملاً يطلب به وجه الله والدار الآخرة وأدخل فيه رضا أحد من الناس كان مشركاً » (١) فليس معناه أن الرِّياء إذا تحقق في أثناء العمل وفي جزء منه يحكم ببطلانه لإشراك فاعله ، وبعبارة أُخرى إذا كانت العبادة ظرفاً للرياء يحكم ببطلانها ، بل معناه أن العمل بتمامه إذا صدر عن داع ريائي يحكم ببطلانه ، وذلك لأنه لا معنى لإدخال رضا الغير في عمل نفسه ، إذ الرضا من الأفعال القلبية القائمة بالغير فكيف يدخل ذلك في عمل شخص آخر ، فلا معنى له إلاّ كون رضا الغير مما له مدخلية في عمله وهو عبارة أُخرى عن إتيان العبادة بداعي رضا الغير ، وقد عرفت أن العمل إذا صدر بداعي إراءته للغير أو رضائه يحكم ببطلانه وفساده. وأين هذا عما نحن فيه ، أعني ما إذا أتى بجميع أجزاء العمل بداعي الله سبحانه إلاّ في جزء من أجزائه ثمّ ندم وأتى به مرّة أُخرى على وجه صحيح ، فالرواية لا دلالة لها على البطلان في مفروض المسألة ، هذا كلّه.

ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك وبنينا على المسامحة العرفية بأن قلنا إنّ الوضوء عمل مركّب فهو شي‌ء واحد عرفاً ، وقد تحقق الرِّياء في ذلك الأمر الواحد مع أن العرف لا يراه شيئاً واحداً أيضاً لا نحكم ببطلانه ، وذلك لأن الباطل أو المحرّم إنما هو مجموع العمل بما هو مجموع ، وأما إذا قسمناه وأخذنا بالمقدار الذي صدر منه عن الداعي الإلهي فهو ليس شيئاً وقع الرِّياء في أثنائه.

وبالجملة : العرف لا يحكم إلاّ بوقوع الرِّياء في مجموع العمل لا في جميع أجزائه ، فما صدر من المجموع بالداعي الصحيح مما لا إشكال في صحّته. هذا كله في الجزء الوجوبي ، ومنه يظهر الحال في الجزء المستحب.

__________________

(١) وهو ما رواه الحلبي عن زرارة وحمران عن أبي جعفر عليه‌السلام المروي في الوسائل ١ : ٦٧ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١١ ح ١١.

١٣

بل ولو كان جزءاً مستحبّاً على الأقوى (١)

______________________________________________________

الرِّياء في الجزء المستحب‌

(١) قد ظهر الحال في ذلك مما بيّناه في الرِّياء في الجزء الوجوبي ، لأن الرِّياء في مثل القنوت إنما يوجب بطلان ذلك الجزء المستحب وهو الذي أشرك فيه مع الله تعالى غيره فيحكم ببطلانه دون مجموع العمل كما مرّ في الجزء الوجوبي. وبالجملة : إنه إذا قلنا بعدم بطلان العبادة بإتيان الجزء الوجوبي رياء فلا نقول ببطلانها عند إتيان الجزء الاستحبابي بداعي الرِّياء كما عرفت.

وهل يحكم ببطلان العبادة بإتيان الجزء المستحب بداعي الرِّياء فيما إذا قلنا بذلك في الجزء الوجوبي ، أو لا نقول ببطلانها من جهة الرِّياء في الجزء المستحب؟ الصحيح هو الثاني ، وأن الرِّياء في الجزء المستحب لا يوجب بطلان العبادة وإن قلنا ببطلانها بالرياء في الجزء الواجب. والسر في ذلك ما ذكرناه في بحث الأُصول من أنه لا معنى متحصل للجزء المستحب ، حيث إن وجوب شي‌ء مع كون جزئه مستحباً أمران متنافيان (١) ، ولا يمكن أن يكون المستحب جزءاً من ماهية الواجب ، لاستحالة تقوم الماهية الواجبة بالأمر المستحب الذي له أن يأتي به وله أن يتركه ، كما أنه لا يمكن أن يكون جزءاً من فردها ، حيث إن الواجب إذا كان مركباً من أُمور متعدِّدة وأتى بها المكلّف خارجاً كان ذلك فرداً من الماهية الواجبة ، ومع عدم كون المستحب أو غيره جزءاً من الماهية كيف يعقل أن يكون جزءاً من فردها ومصداقها ، فلا معنى للجزء المستحب إلاّ أحد أمرين :

أحدهما : أن يكون الأمر المستحب عبادة مستقلّة في نفسها إلاّ أن ظرفها هو العبادة الواجبة ، فكما قد يستحب إتيان بعض الأُمور قبل العبادة أو بعدها كذلك لا مانع من استحباب بعض الأُمور في أثنائها على أن يكون ظرف ذلك المستحب هو العبادة الواجبة ، فهما عبادتان إحداهما ظرف والأُخرى مظروف ، ومن الظاهر أن‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٣٠٠.

١٤

وسواء نوى الرِّياء من أوّل العمل أو نوى في الأثناء (١)

______________________________________________________

العبادة المظروفة إذا بطلت للرياء لا يقتضي ذلك بطلان ظرفها لأنهما عبادتان ، ولا وجه لإسراء البطلان من أحدهما إلى الآخر ، وقد أسلفنا أن ما ورد في بعض الروايات من حرمة إدخال رضا أحد في العبادة ليس معناه حرمة جعل العبادة ظرفاً للرِّياء ، بل معناه حرمة الإتيان بالعبادة بداعي رضا غير الله على أن يكون لرضا غيره مدخلية في عبادته.

وثانيهما : أن يكون ما نسميه بالجزء المستحب موجباً لحدوث خصوصية في العبادة ، بها تصير أرجح الأفراد وأفضلها ويكون ثوابها أكثر من بقيّة الأفراد من غير أن يكون عبادة في نفسها ، كما هو الحال في الجماعة في الصلاة ، حيث إنها أي الجماعة ليست مستحبّة في نفسها ، وإنما هي توجب حدوث مزيّة في ذلك الفرد بها تكون أرجح من غيره ويكون ثوابه أكثر من بقيّة الأفراد الواجبة ، ولا يبعد أن يكون القنوت أيضاً من هذا القبيل ، وهذا يرجع في الحقيقة إلى التقييد وأن الصلاة المتقيّدة بالقنوت في أثنائها أو بأمر آخر قبلها أو بعدها أرجح من غيرها ، وثوابها أزيد من ثواب بقيّة الأفراد.

فإذا فرضنا أن التقييد حصل على وجه محرّم مبغوض فكأن التقييد المستحب لم يكن ، فلا يترتب على العبادة مزيّة راجحة إلاّ أنها تقع صحيحة في نفسها.

(١) وذلك للإطلاق ، حيث إن ما دلّ على بطلان العبادة التي أشرك فيها مع الله غيره غير مختص بما إذا كان الإشراك من أوّل العمل ، بل إذا تحقق في أثنائه أيضاً يصدق عليه عنوان الرِّياء ويقال إنه أشرك في عمله مع الله غيره فيبطل ، نعم إذا حدث ذلك في أثناء العبادة إلاّ أنه لم يقتصر على ذلك الجزء الصادر بداعي غير الله بل أتى به ثانياً بداعي امتثال أمر الله سبحانه دخل ذلك في المسألة المتقدِّمة أعني الرِّياء في جزء العمل ، ويأتي فيه التفصيل المتقدِّم بعينه.

١٥

وسواء تاب منه أم لا (١) ، فالرِّياء في العمل بأي وجه كان مبطل له لقوله تعالى على ما في الأخبار (*) : « أنا خير شريك ، من عمل لي ولغيري تركته لغيري » (٢) هذا ولكن إبطاله إنّما هو إذا كان جزءاً من الداعي على العمل ولو على وجه التبعيّة ، وأمّا إذا لم يكن كذلك بل كان مجرّد خطور في القلب من دون أن يكون جزءاً من الداعي فلا يكون مبطلاً (٣) وإذا شكّ حين العمل (٤) في أنّ داعيه محض القربة أو مركّب منها ومن الرِّياء فالعمل باطل (**) لعدم إحراز الخلوص الذي هو الشرط في الصحّة (٥).

______________________________________________________

التوبة من الرِّياء‌

(١) حيث إن الندم على ما ارتكبه من الرِّياء وعبادته لفقير مثله عند التوجه إلى عظمة الربّ الجليل إنما يوجب إسقاط العقاب ، لأن التائب من ذنب كمن لا ذنب له إلاّ أنه لا يوجب انقلاب الشي‌ء عما وقع عليه فإنه أمر مستحيل ، والمفروض أن العمل قد صدر عن داع ريائي باطل فلا ينقلب إلى الصحّة بتوبته وندمه.

(٢) قدمنا نسخة الوسائل المصحّحة (٣) وأن الرواية فيها هكذا : « فهو كمن عمله غيري ».

(٣) وقد عرفت تفصيل الكلام في ذلك في أوّل المسألة فلا نعيد.

الشكّ في الداعي وأنه الرِّياء أو غيره‌

(٤) ولم يتعرض لما إذا شك في ذلك بعد العمل ، لوضوحه حيث إنه محكوم بالصحّة حينئذ لقاعدة الفراغ.

(٥) لا يبعد أن يكون المفروض في المسألة مستحيلاً في غير الوسواسي ، وذلك لما‌

__________________

(*) الوارد في الأخبار قوله عزّ من قائل : فهو لمن عمل له أو فهو لمن عمله غيري.

(**) هذا الشك يناسب الوسواسي ، وعلى تقدير تحققه في غيره فالحكم بالبطلان ليس على إطلاقه.

(١) في ص ٧.

١٦

مرّ غير مرّة من أن الأُمور النفسانية مما لا واقع لها غير وجودها في النفس ، وعلم النفس بها حضوري وغير حصولي ، وما هذا شأنه كيف يقبل الشك والترديد؟ وكيف يعقل أن يشك الإنسان في أني قاطع أو لست بقاطع ، أو أني قاصد لأمر الله محضاً أو غير قاصد له ، وقاصد للرياء أو غير قاصد له وهكذا ، فالشك في القصد والداعي أمر غير معقول.

ثمّ على تقدير معقوليته فالصحيح أن يفصل في المسألة : لأن الشك في أن داعيه هو الرِّياء إن كان من جهة احتماله الرِّياء على الكيفية المتقدّمة في الصورتين الأُوليين اللّتين حكمنا ببطلان العبادة فيهما على طبق القاعدة ، وهما ما إذا أتى بالعبادة بداعي كل من الامتثال والرِّياء من غير أن يكون شي‌ء منهما مستقلا في داعويته وإنما يكون داعياً عند انضمامه إلى الآخر ، وما إذا كان داعي الرِّياء مستقلا في داعويته وكان قصد الامتثال غير مستقل بحيث لا يقتضي إصدار العمل إلاّ إذا ضمّ إلى غيره ، فلو احتمل أن داعيه للعبادة هو مجموع قصد الامتثال والرِّياء أو أنه هو الرِّياء وقصد الامتثال تبعي غير مستقل ، فالأمر حينئذ كما أفاده في المتن ، حيث إن إتيان العبادة بالداعي القربي المستقل في داعويته شرط في صحّتها وهو غير محرز فالعبادة باطلة.

وأمّا إذا احتمل الرِّياء في غير الصورتين المذكورتين ، كما إذا علم بأن له داعياً قربياً مستقلا في داعويته ويحتمل أن يكون له أيضاً داعٍ آخر ريائي مستقل ، أو على وجه غير الاستقلال ، فلا مجال حينئذ للحكم بالبطلان بوجه ، حيث إنّ شرط صحّة العبادة وهو صدورها عن داع إلهي مستقل محرز عنده ، واحتمال أن يكون هناك داع آخر ريائي يندفع بالأصل لأنه أمر حادث مسبوق بالعدم.

وبعبارة واضحة : لا يعتبر في صحّة العبادة أن تكون خالصة من غير الداعي الإلهي المستقل ، ومن هنا لو كان الداعي الآخر المستقل أو غير المستقل أمراً آخر غير الرِّياء من قصد التبريد أو غيره لقلنا بصحّة العبادة ، لاشتمالها على شرطها وهو صدورها عن داع قربي مستقل في داعويته. فالخلوص غير معتبر ، وإنما البذرة الفاسدة بل المفسدة هو وجود الداعي الريائي المستقل أو غير المستقل ، وحيث إنها‌

١٧

وأمّا العجب (١)

______________________________________________________

أمر حادث مسبوق بالعدم فيمكن إحراز عدمها بالاستصحاب وبه نحكم بصحّة العبادة لا محالة.

فالمتحصل : أن الشك في وجود داعي الرِّياء على تقدير معقوليته لا يوجب البطلان إلاّ في الصورتين المذكورتين ، ومن هنا ينفتح باب عظيم الفائدة للوسواسيين ومن يحذو حذوهم ، حيث إنهم محرزين للداعي الإلهي المستقل ، ولكنهم يحتملون وجود داع ريائي آخر أيضاً في عملهم وهو مندفع بالأصل. فالصحيح هو التفصيل في المسألة ، بل هذا ليس بتفصيل في الحقيقة ، لأن بطلان العبادة في تلك الصورتين غير مستند إلى الرِّياء ، بل لو كان جزء الداعي هو أمراً آخر مباح كقصد التبريد أو غيره أيضاً لقلنا ببطلان العبادة لفقدها للشرط وهو صدورها عن داع قربي مستقل في الداعوية. ومن هنا قلنا إن ما نسب إلى السيِّد المرتضى قدس‌سره من عدم بطلان العبادة بالرياء مما لا نحتمل عادة إرادته لهاتين الصورتين ، لأن بطلان العبادة حينئذ غير مستند إلى الرِّياء كما عرفت.

العُجب وأحكامه‌

(١) الكلام في ذلك يقع في جهات :

الاولى : في بيان مفهوم العجب لغة. الثانية : في بيان منشئه وسببه. الثالثة : في حكمه الشرعي من الحرمة والإباحة. الرابعة : في أن العجب المتأخر يوجب بطلان العبادة أو لا. الخامسة : في بطلان العبادة بالعجب المقارن وعدمه. وهذه هي جهات البحث يترتب بعضها على بعض.

أمّا الجهة الأُولى : فالعجب على ما يظهر من أهل اللغة معناه إعظام العمل واعتقاد أنه عظيم إما لكيفيته كما إذا كانت صلاته مع البكاء من أوّلها إلى آخرها. وإمّا لكميّته كما إذا أطال في صلاته أو سجدته ونحوهما ، كما حكى بعض مشايخنا ( قدس الله‌

١٨

أسرارهم ) عن بعضهم أنه سجد بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر ، ولأجل هذا وذلك اعتقد أن عمله عظيم. وإما من جهة عمله وكونه صادراً منه وأنه عظيم إذا صدر منه دون ما إذا صدر من غيره كما إذا كان ملكاً من الملوك فسجد وتخضع وتذلل ، حيث إن الخضوع من الملك عظيم لأن فعل العظيم عظيم ، فيرى أنه على عظمته يصلّي ويصوم ولا يصلِّي من دونه بمراحل فلذا يعظم عمله ويعتقده عظيماً. هذا كلّه في مفهوم العجب.

وأمّا الجهة الثانية : فالعجب إنما ينشأ عن انضمام أمر صحيح مباح إلى أمر باطل غير صحيح ، لأنه ينشأ عن ملاحظة عمله وعبادته حيث وعد الله سبحانه لها الجنّة والحور والثواب ، وأن فاعلها ولي من أولياء الله سبحانه وأن نوره يظهر لأهل السماء كما يظهر نور الكواكب لأهل الأرض ، إلى غير ذلك من الآثار التي نطقت بها الأخبار والآيات. وهذا في نفسه أمر صحيح مباح ، فإذا انضم إليه الجهل والغفلة عن عظمة الله سبحانه ونعمه فيحصل له العجب ويعظم عمله وعبادته ، لأنه لو كان عالماً بعظمة الله جلّت آلاؤه وبنعمته التي أنعمها عليه ، ليرى أن عبادته هذه لا تسوى ولا تقابل بجزء من ملايين جزء من تلك النعم ، وأنها هي بجنب عظمته تعالى كالعدم.

فإذا زاد عليه علمه بأن العبادة التي تعجبها لم تصدر منه باستقلاله وإنما صدرت عنه بتوفيق الله وإفاضته لم يبق له عجب في عمله بوجه ، ومن هنا نرى أن العبّاد والزهّاد يتخضّعون في عباداتهم بأكثر ممن يتخضع لله غيرهم ، لالتفاتهم إلى صغر عملهم بجنب آلائه وعظمته ، وعلمهم بأن العمل إنما يصدر منهم بإفاضة الله تعالى لا باستقلالهم ومعه لا يرون عملاً يعجب به ، حيث ليست نسبة أعمالهم إلى نعمه تعالى كنسبة ما يبذله الفقير بالإضافة إلى ما يعطيه الملك ، مثلاً يبذل ألف دينار والفقير يعطي باقة من الكراث ، فيقابل ما أعطاه الفقير لما أعطاه الملك بنسبة الواحد أو الأقل إلى ألف أو الأكثر ، حيث يصدر العمل من كل منهما باستقلاله ، وهذا بخلاف عمل العبيد بالإضافة إلى نعمه جلت عظمته ، حيث إن عملهم لا يصدر منهم باستقلالهم حتى يقابل بتلك النعم ولو بنسبة الواحد إلى الملايين وإنما يصدر عنهم بإفاضته ، ومن‌

١٩

هنا ورد في بعض الأخبار (١) إنِّي أولى بحسناتك منك.

فالمتحصل : أن المنشأ للعجب إنما هو الجهل ، بل قد يبلغ مرتبة يرى أن الله لا يستحق ما أتى به من العبادة ولذا يمنّ بها عليه ، نعوذ بالله منه ومن أمثاله ، وذلك لأنه لا يعلم بأنعمه ويرى أن نعمته تعالى لا تقضي إلاّ الإتيان بالفرائض فحسب ولم يعط ما يستحق به أكثر من الفرائض ، فيأتي بصلاة الليل ويمن بها على الله ، لاعتقاده عدم استحقاقه تعالى لها ، وأنها تفضل من العبد المسكين في حق الله جلّت عظمته فقد يتعجب عن عدم قضاء حاجته مع أنه أتى بما فوق ما يستحقه الله تعالى على عقيدته ، وهذا يسمّى بالإدلال ، وهو أعظم من المرتبة المتقدمة من العجب. وعن بعض علماء الأخلاق أن العجب نبات حبه الكفر. ولو أبدل الكفر بالجهل لكان أصح. ويؤيد ما ذكرناه ما يأتي من الكلام المحكي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام فانتظره.

الجهة الثالثة : قد اتضح مما ذكرناه في المقام أن العجب من الأوصاف النفسانية الخبيثة كالحسد وغيره من الأوصاف النفسانية التي تترتب عليها أفعال قبيحة ، وهي خارجة عن الأفعال التي تصدر عن المكلفين فلا حكم لها بوجه ، فهي غير محرمة ولا مباحة كالحسد ونحوه ، وما يعقل أن يتعلق به حكم شرعي أحد أمرين :

أحدهما : أن يجب شرعاً إعمال عمل يمنع عن حدوث تلك الصفة في النفس ، وهو التفكّر في عظمة الله ونعمه وفيما يصدر منه من العمل وأنه لا يصدر منه باستقلاله.

وثانيهما : أن يجب إعمال عمل يزيل تلك الصفة على تقدير حصولها في النفس ، كما إذا كبر وبلغ وهو معجب بعمله ، فيجب عليه أن يتفكر فيما ذكرناه حتى يزيل عن نفسه هذه الصفة.

وهذان قابلان للوجوب شرعاً ، إلاّ أن الأخبار الواردة في المقام مما لا يستفاد منه وجوب التفكّر في الشريعة المقدّسة قبل حصول هذه الصفة أو بعده ، ليمنع عن حدوثها أو يزيلها بعد تحققها. ويؤيد ما ذكرناه ما حكي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في‌

__________________

(١) كما في الحديث القدسي ، أُصول الكافي ١ : ١٥٢ / ٦.

٢٠