موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

فصل

في الاستحاضة‌

دم الاستحاضة من الأحداث الموجبة للوضوء والغسل إذا خرج إلى خارج الفرج ولو بمقدار رأس إبرة ، ويستمرّ حدثها ما دام في الباطن باقياً ، بل الأحوط‌

______________________________________________________

فصل في الاستحاضة

الاستحاضة لغة (١) هو أن يستمر الدم بالمرأة ، لأنها استفعال من الحيض الذي هو بمعنى الدم.

وبحسب الاصطلاح هو الدم الخارج من المرأة غير الحيض ودم القرحة أو الجرح وإن لم يكن له استمرار بوجه ، كما إذا رأت الدم بعد العشرة ولو قليلاً أو رأته في غير أيام عادتها ولو قبل العشرة ، فإنه من الاستحاضة وإن لم يكن مستمراً.

ولا ثمرة في تحقيق معناها اللغوي والاصطلاحي وبيان ما به يفترق أحدهما عن الآخر ، وإنما المهم تحقيق الأثر الذي يترتب عليها من الحكم بوجوب الغسل لكل صلاة كما في الاستحاضة الكثيرة ، أو الغسل في كل يوم مرة واحدة كما في المتوسطة ، أو الوضوء لكل صلاة كما في القليلة ، وأن هذه الأحكام تترتب على أي شي‌ء ، فنقول :

__________________

(١) لسان العرب ٧ : ١٤٢ مادّة حيض.

١

إجراء أحكامها (*) إن خرج من العرق المسمّى بالعاذل إلى فضاء الفرج وإن لم يخرج إلى خارجه ، وهو في الأغلب أصفر بارد رقيق يخرج بغير قوة ولذع وحرقة بعكس الحيض ، وقد يكون بصفة الحيض ، وليس لقليله ولا لكثيره حدّ ، وكل دم ليس من القرح أو الجرح ولم يحكم بحيضيته فهو محكوم بالاستحاضة ، بل لو شك فيه ولم يعلم بالأمارات كونه من غيرها يحكم عليه بها على الأحوط.

______________________________________________________

تحقيق ما له الأثر

إن الفقهاء ( قدس الله أسرارهم ) ذكروا أن كل دم خرج عن المرأة بطبعها ولم يكن دم حيض فهو استحاضة يجب معه الغسل لكل صلاة أو في كل يوم أو يجب معه الوضوء لكل صلاة. والمراد بما يخرج من المرأة بطبعها هو إخراج دم القرحة أو الجرح ونتيجة ذلك أن الدم الذي تراه المرأة غير دم الحيض والقرحة والجرح فهو استحاضة يترتب عليه الآثار المتقدمة ، هذا ما ذكروه في المقام.

هل يوجد فاصل بين الدمين

ولا بدّ من التكلّم في أنه هل يمكن أن يكون الدم الخارج من المرأة غير متّصف بالحيض ولا بدم القرحة أو الجرح ولا بالاستحاضة ، فلا يجب على المرأة شي‌ء من الأحكام المترتبة على الحيض والأحكام المترتبة على الاستحاضة ، أو أنه لا فاصل بينهما وأن كل دم لم يكن بدم حيض وقرحة فهو استحاضة؟

ذكر المحقق قدس‌سره في شرائعه أن كل دم تراه المرأة ولم يكن بحيض ولا بدم قرح ولا جرح فهو استحاضة. (٢) وأورد عليه السيد قدس‌سره في المدارك بأن هذه الكلية إنما تتم فيما إذا قيدت‌

__________________

(*) والأظهر عدمه كما مرّ نظيره في بحث الحيض.

(١) الشرائع ١ : ٣٧ / في الاستحاضة.

٢

بغير دم النفاس ، وذلك لأنه دم ليس بحيض ولا قرح ولا جرح ، ومع ذلك ليس باستحاضة (١).

وما أفاده قدس‌سره وإن كان صحيحاً لكنه غير وارد على المحقق ، لأن نظره إلى غير دم الولادة ، وهو ظاهر.

ثم ذكر أن الكلية المذكورة لا بدّ من تقييدها بما إذا كان الدم واجداً لأوصاف الاستحاضة من كونه بارداً وأصفر ونحوهما من الأوصاف.

ولازم هذا التقييد تحقق الفاصل بين دمي الحيض والاستحاضة ، كما إذا رأت المرأة الدم بعد العشرة أسود ، فإنه ليس بحيض لأن أكثره عشرة أيام ، وليس باستحاضة لعدم اتصافه بأوصافها لفرض كونه أسود. وكذلك الحال فيما إذا رأت ذات العادة دماً أسود أقل من ثلاثة أيام ، فإن مثله لا يكون حيضاً لكونه أقل من ثلاثة أيام ، ولا يكون استحاضة لعدم كونه واجداً لأوصافها.

وقد بنينا على أن دم الاستحاضة لا بدّ من أن يكون واجداً لأوصافها ، والفاقد ليس باستحاضة إلاّ أن يدل دليل على أنه استحاضة ، كما هو الحال في الحيض لاشتراطه بأن يكون واجداً للصفات ، ولا يحكم على الفاقد بالحيضية إلاّ أن يدل دليل على أنه حيض ، كالصفرة التي تراها ذات العادة في أيام عادتها ، لأنها حيض بمقتضى النص الدال على أن ما تراه المرأة في أيام عادتها من حمرة أو صفرة فهو حيض (٢) هذا.

ولا يمكن المساعدة على ما ذهب إليه ، لأنه مخالف لما هو المتسالم عليه بين الأصحاب من الحكم بالاستحاضة في الموارد المذكورة ، وما ادعاه من أن الأخبار تدل على ذلك غير صحيح ، إذ لا دلالة في الروايات على أن دم الاستحاضة مطلقاً لا بدّ من أن يكون واجداً لأوصاف الاستحاضة المذكورة ، وإنما دلت الأخبار على أن في موارد دوران الدم بين كونه حيضاً أو استحاضة إذا كان واجداً لأوصاف الحيض‌

__________________

(١) المدارك ٢ : ٩ / في الاستحاضة.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٧٨ / أبواب الحيض ب ٤.

٣

يحكم بحيضيته ، وإذا كان واجداً لأوصاف الاستحاضة يحكم بكونه استحاضة ، لا أنها تدل على أن دم الاستحاضة دائماً لا بدّ أن يكون واجداً لتلك الأوصاف ، وإليك بعضها :

صحيحة معاوية بن عمّار ، قال « قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن دم الاستحاضة والحيض ليسا يخرجان من مكان واحد ، إن دم الاستحاضة بارد ، وإن دم الحيض حارّ » (١).

وحسنة حفص بن البَختَري ، قال : « دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام امرأة فسألته عن المرأة يستمر بها الدم فلا تدري أحيض هو أو غيره؟ قال فقال لها : إن دم الحيض حار عبيط أسود له دفع وحرارة ، ودم الاستحاضة أصفر بارد ، فإذا كان للدم حرارة ودفع وسواد فلتدع الصلاة ، قال : فخرجت وهي تقول : والله أن لو كان امرأة ما زاد على هذا » (٢).

ومعتبرة إسحاق بن جَرير حيث ورد فيها : « دم الحيض ليس به خفاء ، هو دم حار تجد له حرقة ، ودم الاستحاضة دم فاسد بارد ... » (٣).

ومرسلة يونس عن غير واحد وقد ورد فيها « إن دم الحيض أسود يعرف » وأن المرأة « إن اختلطت الأيام عليها وتقدمت وتأخرت وتغير عليها الدم ألواناً فسنتها إقبال الدم وإدباره وتغير حالاته » وغير ذلك من الجملات (٤).

وهي ولا سيما الأخيرة حيث إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن فيها السُّنة الأُولى وأن ذات العادة تأخذ بعادتها ، وبعد ذلك بيّن أوصاف الاستحاضة وأن بها‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٧٥ / أبواب الحيض ب ٣ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٧٥ / أبواب الحيض ب ٣ ح ٢.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٧٥ / أبواب الحيض ب ٣ ح ٣.

(٤) الوسائل ٢ : ٢٧٦ / أبواب الحيض ب ٣ ح ٤ ، ٢٨١ / ب ٥ ح ١ ، ٢٨٧ / ب ٧ ح ٢ ، ٢٨٨ / ب ٨ ح ٣.

٤

يحكم بالاستحاضة عند دوران الأمر بينهما كما تراها واردة في مقام دوران الأمر بين الحيض والاستحاضة ، وأن تلك الأوصاف والعلائم إنما يحكم بها بالاستحاضة في هذه الموارد ، ولا دلالة لها على أن الاستحاضة ملازمة لتلك الصفات وأنه لا يحكم على الفاقد لها بالاستحاضة حتى فيما إذا لم تحتمل الحيضية هناك كما في المثالين المتقدمين.

ذكرنا أن الفقهاء ( قدس الله أسرارهم ) ذكروا أن كل دم يخرج من المرأة بطبعها ولم يكن دم حيض أو من القرح أو الجرح فهو استحاضة ، ولم يستثنوا دم النفاس ولعلّه مستند إلى وضوحه أو إلى أن دم النفاس عندهم هو دم الحيض ، لأنه حيض محتبس فحكمه حكمه.

وكذا لم يتعرّضوا لدم العُذرة ، لوضوح عدم كونه من الحيض والاستحاضة على ما بيّنوه عند اشتباه دم الحيض بدم العذرة.

ويمكن أن يقال : إن تقييد الدم الخارج من المرأة بكونه خارجاً بحسب طبعها يغني عن استثناء دم الولادة والعُذرة والقرح ، لأنها لا تخرج من المرأة بطبعها وإنما تخرج منها بسبب من الأسباب ، فالدم الخارج من المرأة بحسب الطبع منحصر في الحيض والاستحاضة.

وحاصل كلامهم : أن الدم الذي لا يحكم بحيضيته ملازم لكونه استحاضة.

وقد ناقش فيه بعضهم كما مر من جهة أن الاستحاضة لها أمارات وصفات ، ومع عدم وجدان الدم لها لا يحكم عليه بكونه استحاضة وإن لم يكن بحيض أيضاً.

ويدفعها ما ذكرناه من أن الأخبار الواردة في إثبات صفات الاستحاضة لا دلالة لها على أن الاستحاضة لا يمكن انفكاكها عن الصفرة مثلاً ، وإنما دلت على أن الصفرة تلازم الاستحاضة عند اشتباه الحيض بالاستحاضة ودوران الأمر بينهما ، لا أن الاستحاضة تلازم الصفرة مثلاً دائماً وفي جميع الموارد ، فما أفاد المناقش لا يمكن المساعدة عليه ، وهذا كله في المقدمة.

وبعد ذلك يقع الكلام في أنه هل هناك تلازم بين الأمرين واقعاً ، وأن الدم إذا لم يكن‌

٥

حيضاً أو غيره من المستثنيات فهو استحاضة واقعاً ، أو يمكن أن يوجد دم ليس بحيض ولا هو باستحاضة؟

ظاهر كلماتهم الذي ادعوا عليه الإجماع هو التلازم الدائمي وأن كل دم لم يحكم بحيضيته فهو استحاضة واقعاً ، بلا فرق في ذلك بين أقسام المرأة حتى اليائسة والصغيرة التي هي قابلة لأن ترى الاستحاضة كما إذا لم تكن مرتضعة ، فيقع الكلام حينئذ في صحة الملازمة المدعاة وثبوت كليّتها فنقول :

المستحاضة الواردة في الأخبار المتقدمة هي المستحاضة لغة أعني المرأة التي لا ترى الطّهر كما في بعض الروايات ، وهي المعبر عنها بالمستمرة الدم ولا إشكال في أن حكمها هو الذي اشتملت عليه الأخبار المتقدمة من مراعاة الأوصاف والأمارات وأن الدم غير الواجد لصفات الحيض وأماراته ككونه في أيام العادة فهو استحاضة يترتب عليه جميع الآثار المترتبة على دم الاستحاضة من وجوب الغسل لكل صلاة أو الغسل مرة في كل يوم أو التوضؤ لكل واحدة من صلواتها.

إلاّ أن الاستحاضة المعنونة في كلمات الفقهاء ليست هي الاستحاضة اللغوية أعني مستمرة الدم ، وإنما يراد بها الدم الذي لا يحكم بحيضيته ولا يكون من بقية الأقسام المستثناة وإن لم يستمر دمها ، كما إذا رأت الدم بعد عادتها وقبل انقضاء أقل الطّهر ، فإنه لا بدّ وأن يكون استحاضة سواء أكان لونه أسود أم كان أصفر ، مع عدم كون المرأة مستمرة الدم ، وهذه هي الاستحاضة الاصطلاحية ، وإجراء الأحكام المترتبة على المستحاضة اللغوية على المستحاضة الاصطلاحية يحتاج إلى دلالة الدليل عليه.

التحاق الاستحاضة الاصطلاحية باللغوية

ولا بدّ من التكلم في أن الدليل هل دلّ على التحاق المستحاضة المصطلحة بالمستحاضة اللغوية أم لم يدل؟

أمّا المرأة التي هي في سن من تحيض أعني غير الصغيرة واليائسة فلا ينبغي‌

٦

الإشكال في أنها إذا رأت دماً ولم يحكم بحيضيته فهو استحاضة وإن لم تكن المرأة مستمرّة الدم ، لأجل الملازمة الواقعية على ما تدل عليه الأخبار الآتية ، وما ادعوه من التلازم بين الأمرين صحيح في مثلها ، فإذا رأت بعد عادتها وقبل انقضاء أقل الطهر دماً فلا مناص من الحكم عليه بالاستحاضة وإن لم يكن واجداً لأوصافها كما إذا كان أسود وإن لم تكن المرأة مستمرّة الدم ، وذلك لدلالة جملة من الأخبار الواردة في حيض الحامل على التلازم المدعى بين الأمرين في مثلها.

منها : صحيحة إسحاق بن عمّار ، قال « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المرأة الحبلى ترى الدم اليوم واليومين ، قال : إن كان دماً عبيطاً فلا تصلِّي ذينك اليومين وإن كان صفرة فلتغتسل عند كل صلاتين » (١).

وقد تعرّضنا سابقاً لهذه الرواية وقلنا : إن ما ربما يتوهم من كونها منافية للأخبار الدالّة على أن أقل الحيض ثلاثة أيام لقوله عليه‌السلام « ترى الدم اليوم واليومين » مندفع بأنها ناظرة إلى حكم المرأة حين رؤيتها الدم ، وتدل على أن وظيفتها الظاهرية هي أن تترك الصلاة إذا كان الدم عبيطاً ، وأمّا بحسب الواقع فهو متوقف على أن يكون الدم مستمراً ثلاثة أيام ، ومع عدمه يستكشف عدم كونه حيضاً ، فلا إشكال في الرواية من هذه الجهة.

وقد دلت هذه الرواية على أن الدم في أمثال الحامل ممن تحيض إذا لم يمكن أن يكون حيضاً لعدم كونه عبيطاً مثلاً فهو استحاضة يجب معها أن تغتسل عند كل صلاتين ، وإنما عبرت بالصفرة من جهة خصوصية المورد ودورانه بين الأحمر والأصفر ، لا لأن الصفرة لازم غير مفارق للاستحاضة ، فالحكم بوجوب الصلاة والغسل مترتب على عدم كون الدم دم حيض بأن لا يكون عبيطاً.

ومنها : صحيحة أبي المَغراء ، قال « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحبلى قد استبان ذلك منها ، ترى كما ترى الحائض من الدم ، قال : تلك الهراقة ، إن كان دماً‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٣١ / أبواب الحيض ب ٣٠ ح ٦.

٧

كثيراً فلا تصلين ، وإن كان قليلاً فلتغتسل عند كل صلاتين » (١).

وهي أيضاً تدل على أن الدم الذي لا يمكن الحكم بحيضيته لعدم كونه واجداً لأوصافه وأماراته يجب معه الغسل والصلاة ، بمعنى أن ما لا يمكن أن يكون حيضاً فهو استحاضة.

ومنها : وهي أظهر من سابقتيها صحيحة الحسين الصحّاف قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إن أُمّ ولدي ترى الدم وهي حامل ، كيف تصنع بالصلاة؟ قال فقال لي : إذا رأت الحامل الدم بعد ما يمضي عشرون يوماً من الوقت الذي كانت ترى فيه الدم من الشهر الذي كانت تقعد فيه ، فإن ذلك ليس من الرحم ولا من الطمث ، فلتتوضأ وتحتشي ... » (٢).

حيث تدل بتعليلها على أن كل دم لم يكن بحيض فهو استحاضة ، حيث قال « فإن ذلك ليس من الرحم ولا من الطمث » فعلم من ذلك أن الدم الخارج من المرأة التي في سن من تحيض إذا لم يكن بحيض فهو استحاضة.

والوجه في كونها أظهر من سابقتيها اشتمالها على كلمة فاء التفريع ، حيث فرّعت وجوب التوضؤ والاحتشاء على مجرّد رؤية الدم ، لأنه قال عليه‌السلام « إذا رأت الحامل الدم ... ليس من الرحم ولا من الطمث فلتتوضأ » حيث تفرع وجوب الوضوء على مجرد رؤية الدم ، والدم الذي يوجب تحققه الوضوء منحصر في دم الاستحاضة.

فهذه الروايات تدلنا على وجود الملازمة الواقعية بين عدم كون الدم حيضاً إذا كان الدم ممّن هي في سن من تحيض وبين كونه استحاضة ، وأن حكم الاستحاضة المصطلحة هو حكم الاستحاضة اللغوية.

وأمّا الصغيرة واليائسة فالحكم بالاستحاضة فيهما وإن كان مورد التسالم بين الأصحاب إلاّ أنه مما لا يمكن المساعدة عليه ، لأن مدرك حكمهم بأن الدم الذي لا يكون بحيض فهو استحاضة حتى في حق الصغيرة واليائسة هو السيرة وجريان‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٣١ / أبواب الحيض ب ٣٠ ح ٥.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٣٠ / أبواب الحيض ب ٣٠ ح ٣.

٨

عادتهم على معاملة الاستحاضة مع الدم غير المتصف بالحيضية.

ويدفعه : أن السيرة لا يمكن إحرازها في المسائل التي يقل الابتلاء بها ، ومن الظاهر أن رؤية الصغيرة واليائسة الدم غير المتصف بالحيضية إنما يتحقق مرة في عشرة آلاف أو أقل أو أكثر ، ولا مجال للسيرة في مثله ، وإن اعتمدوا على الإجماع المنقول في ذلك فهو مضافاً إلى عدم حجيته يقتصر فيه على المقدار المتيقن وهو المرأة التي في سن من تحيض.

وإن أرادوا الحكم بالاستحاضة في الصغيرة واليائسة بالأخبار المتقدمة فدون تتميمه خرط القتاد ، وذلك لأنها بأجمعها واردة في من يمكن أن تكون حائضاً تارة ويمكن أن تكون مستحاضة اخرى ، ودار أمر الدم بين الحيض والاستحاضة ولم يكن واجداً لأوصاف الحيض وأماراته ، فقد دلّت في ذلك على أن الدم استحاضة.

ويظهر صدق ما ذكرنا بالتأمل في الأخبار المتقدمة ولا سيما صحيحة الصحّاف حيث دلت على أن النفساء بعد ما مضى عليها عشرون يوماً من وقت حيضها في الشهر الذي ترى فيه الدم إذا رأت دماً فلتتوضأ وتحتشي.

ومن الظاهر أن الحامل يمكن أن تكون حائضاً كما يمكن أن تكون مستحاضة ، ودلت في مثلها على أن الدم إذا لم يمكن أن يكون حيضاً بالإمكان القياسي بأن لم يكن واجداً لأوصافه وشروطه حكم عليه بأنه استحاضة.

وكذلك الحال في روايتي أبي المَغراء وإسحاق بن عمار ، حيث دلتا على أن الحامل التي قد ترى الحيض وقد ترى الاستحاضة إذا رأت الدم ، فإن كان واجداً للأمارات المعتبرة في الحيض من الكثرة الملازمة للحمرة والسواد المعبر عنه بالدم البَحراني أو كونه عبيطاً فهو حيض إذا دام ثلاثة أيام ، وإذا لم يمكن أن يكون حيضاً بالإمكان القياسي لعدم وجدانه الشروط والقيود المعتبرة في الحيض فهو استحاضة.

وكيف كان فالأخبار الدالة على الملازمة الواقعية بين عدم كون الدم حيضاً وكونه استحاضة مختصة بالمرأة القابلة للاتصاف بالحيض والاستحاضة ودار أمر الدم بينهما فلا تشمل الصغيرة واليائسة اللتين لا يحتمل فيهما الحيض بوجه ، وهما غير قابلتين‌

٩

للاتصاف بالتحيض لاشتراط الحيض بالبلوغ وعدم اليأس ، ومعه لا يدور أمر الدم فيهما بين الحيض والاستحاضة ليقال إنه استحاضة لعدم إمكان أن يكون حيضاً بالإمكان القياسي.

على أنّ بعض الروايات مشتملة على لفظ المرأة (١) ، والصغيرة ليست بمرأة ، واليائسة وإن كانت كذلك إلاّ أن مقتضى الأخبار المتقدمة أن مورد الحكم بالاستحاضة ليست هي مطلق المرأة ، بل المرأة القابلة لأن تحيض تارة وتستحاض اخرى ، واليائسة ليست كذلك.

نعم ، يمكن الحكم بالاستحاضة في اليائسة بالأخبار الواردة في الاستحاضة ، وأن المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكل صلاتين ، وإن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل مرة لكل يوم والوضوء لكل صلاة (٢) وغيرها من الأخبار المشتملة على أحكام المستحاضة.

وذلك لما قدّمناه من أن المراد بالاستحاضة في الأخبار هو الاستحاضة لغة ، أعني كون المرأة مستمرّة الدم ، وعليه فإذا فرضنا أن اليائسة استمرّ بها الدم شهراً أو شهرين أو ثلاثة أشهر فهي مستحاضة لغة ، وتشملها إطلاق الروايات المتكفلة لبيان وظائف المستحاضة اللغوية.

ولا يجري هذا البيان في الصغيرة فيما إذا رأت الدم شهراً أو شهرين أو أكثر ، وذلك لأنّ الاستحاضة لغة وإن كانت صادقة على ذلك في نفسها ، إلاّ أن الأخبار الواردة في المستحاضة بعضها مقيد بالمرأة ، والصغيرة ليست كذلك ، على أن الاستحاضة من الحيض فمع عدم إمكان الحيض من الصغيرة لا معنى لكونها مستحاضة.

بل يمكن الحكم باستحاضتها ووجوب ترتيب آثارها على نفسها حتى فيما إذا كانت مستحاضة اصطلاحاً ولم يستمر دمها شهراً أو شهرين أو أكثر بالأخبار الدالة‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٢ ، ٣٧٦ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٢ ، ٣ ، ٤ ، ١١.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٧١ / أبواب الاستحاضة ب ١.

١٠

على أن المرأة إذا رأت الدم بعد أيام النفاس أو الحيض فهو استحاضة (١) ، تصلِّي وتغتسل وترتب على نفسها آثار المستحاضة بضميمة عدم القول بالفصل القطعي.

وذلك كما إذا فرضنا أن المرأة رأت الدم بعد حيضها الذي تكون يائسة بعدها ، أو رأته بعد نفاسها الذي تتصف باليأس بعده ، فإنها مشمولة لتلك الأخبار الدالّة على أن الحائض أو النفساء إذا رأت الدم بعد أيام حيضها أو نفاسها فهو استحاضة يجب معها الاغتسال والوضوء ، فإذا وجب على اليائسة أحكام المستحاضة واتصفت بكونها مستحاضة في هذه الصورة حكم عليها بالاستحاضة في بقية الصور بعدم القول بالفصل القطعي. هذا كله في اليائسة.

وأمّا الصغيرة فلا دليل على أن ما تراه من الدم استحاضة ، وقد عرفت أن الأخبار المتقدِّمة موردها ما إذا كانت المرأة قابلة لأن تحيض تارة ولأن تستحاض اخرى ، ولم يمكن أن يكون الدم حيضاً بالإمكان القياسي ، والصغيرة ليست كذلك كما عرفت ، على أن بعض الروايات مشتملة على لفظ المرأة ، والصغيرة ليست بمرأة ، اللهمّ إلاّ أن يقوم إجماع قطعي على أن ما تراه الصغيرة من الدم استحاضة ، وإلاّ فما يظهر من كلماتهم من التسالم على استحاضتها قابل للمناقشة كما مرّ.

هذا كلّه في غير دم الجرح والقرح.

دم القرح والجرح

أمّا دم القرح والجرح فلا إشكال في أن دم القرح الواقع في فضاء الفرج كدم القرحة الخارجة عن فضائه في عدم كونه استحاضة ، فإنه كالدم الخارج من القرحة في يدها.

وإنما الكلام في الدم الخارج من القرحة في داخل الرحم فهل يحكم عليه بالاستحاضة أو لا؟

قد يقال إنه من الاستحاضة تمسكاً بإطلاق الأخبار الواردة في أن الدم الخارج من‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧١ / أبواب الاستحاضة ب ١ ، ٣٨٢ / أبواب النفاس ب ٣ وغيرهما.

١١

المرأة إذا لم يكن حيضاً بأن كان صفرة فهو استحاضة (١) ، فإنها شاملة للدم الخارج من القرحة في الرحم ، فإنه دم ليس بحيض ، أو أنه دم أصفر فهو استحاضة لا محالة هذا.

ولكنّا لم نقف على هذا الإطلاق في الروايات ، وذلك لأنها بأجمعها وردت في المرأة القابلة لأن ترى الحيض تارة ولا تراه اخرى وأنه إذا لم يكن واجداً لأوصاف الحيض فهو استحاضة ، بمعنى أن نفس الدم الذي كنا نحكم بحيضيته لو كان واجداً للصفات هو الذي نحكم بكونه استحاضة إذا لم يشتمل على تلك الصفات عند دوران الأمر بين الحيض والاستحاضة.

ومن الظاهر أن دم القرحة ليس كذلك ، لأنه لو كان واجداً لأوصاف الحيض لم يكن بحيض ، ولا يكون أمر الدم حينئذ دائراً بين الحيض والاستحاضة ليحكم باستحاضته إذا نفي عنه الحيضية ، للعلم بأنه دم القرحة ، ومعه كيف يحكم بكونه استحاضة إذا لم يكن واجداً لأوصاف الحيض.

نعم ، هناك رواية واحدة قد يتوهم إطلاقها وشمولها للدم الخارج من القرح الداخلي ، وهي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : إذا أرادت الحائض أن تغتسل فلتستدخل قطنة ، فإن خرج فيها شي‌ء من الدم فلا تغتسل ، وإن لم تر شيئاً فلتغتسل ، وإن رأت بعد ذلك صفرة فلتتوضأ ولتصلّ » (٢).

بدعوى أن قوله عليه‌السلام « وإن رأت بعد ذلك صفرة فلتتوضأ » غير مقيد بشي‌ء فيشمل الصفرة الخارجة من القرحة الداخلية.

وهذه الرواية قد تقدم الكلام فيها في بعض الأبحاث السابقة وقلنا أن نسخة الوسائل غير مشتملة على كلمة الصفرة ، وهي موجودة في الكافي (٣) والتهذيب (٤)

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٧٨ ، ٢٨٠ / أبواب الحيض ب ٤ ح ١ ، ٤ ، ٧ ، ٨.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٠٨ / أبواب الحيض ب ١٧ ح ١.

(٣) الكافي ٣ : ٨٠ / ٢.

(٤) التهذيب ١ : ١٦١ / ٤٦٠.

١٢

فليراجع ، وذكرنا أيضاً أن هذه الرواية من الأدلّة الدالة على أن الاغتسال إنما يجب بانقطاع الدم من الخارج والداخل ، ولا يجب مع وجوده في المجرى وفضاء الفرج.

وكيف كان هي أيضاً لا إطلاق لها لعين ما قدمناه في الجواب عن دعوى الإطلاق في الأخبار ، على أن قوله عليه‌السلام « وإن رأت بعد ذلك صفرة فلتتوضأ » إنما هو في قبال ما إذا خرج فيها شي‌ء من الدم فلا تغتسل ، ومعناه أنها مع الصفرة لا تعتني باحتمال الحيض ، فالجملة المذكورة مسوقة لبيان ذلك لا أنها مسوقة لبيان أن ما كان من الصفرة ولو من القرح والجرح فهو استحاضة.

مع أن الرواية محمولة على ما إذا رأت الصفرة قبل انقضاء عشرة أيام ، وذلك لأنها لو كانت خارجة بعدها لم يفرق في الحكم بعدم كونها حيضاً وبوجوب الوضوء والصلاة بين كونه أصفر وكونه أحمر ، فالتقييد بكونه أصفر إنما يصح فيما إذا كان قبل العشرة ، إذ لو كان الدم الخارج قبلها أحمر لحكم بحيضيته ، لأنّ ما تراه المرأة قبل العشرة فهو من الحيضة الأُولى ، وأمّا إذا رأت صفرة بعد رؤيتها الدم أيام عادتها وقبل انقضاء العشرة فهي استحاضة ، لأن الصفرة في غير أيام العادة ليست بحيض ، وإذا كان الأمر كذلك فيظهر أن الحكم بالاستحاضة في الصفرة إنما هو فيما لو كانت الصفرة متبدلة بالحمرة لحكمنا بكونها حيضاً ، وهذا غير متحقق في الدم الخارج من القرح الداخلي ، لأنه لو كان في أعلى مراتب الحمرة أيضاً لم نقل بحيضيته للعلم بأنه من القرح ، فكيف يحكم باستحاضته إذا لم يكن واجداً لأوصاف الحيض. هذا كله في واقع الدم الخارج من المرأة.

الشك في أنّ الدم استحاضة

وقد تلخص من جميع ما ذكرناه في المقام أن الدم الخارج من المرأة بحسب الواقع ونفس الأمر منحصر في دم الحيض والاستحاضة والعُذرة والقرحة والولادة.

وأمّا إذا شك في أن الدم الخارج استحاضة أو ليس باستحاضة فيما إذا علمنا بعدم كونه حيضاً ، بأن دار أمر الدم بين الاستحاضة ودم القرح مثلاً وأمّا مع الشك في كونه‌

١٣

حيضاً أيضاً فقد قدمنا الكلام عليه في بحث الحيض فلا نعيد فهل مقتضى الأصل العملي أو الدليل الاجتهادي الحكم بكونه استحاضة أو أن مقتضاهما أمر آخر؟ فله صورتان :

الصورة الأُولى : ما إذا شك في أنه دم حيض أو استحاضة ، وقد تكلمنا في هذا مفصلاً في بحث الحيض (١) وقلنا إن المستفاد من الأخبار أنه لا بدّ من الرجوع إلى الأمارات والصفات ، فإن كان الدم واجداً لصفات الحيض وشروطه ، بأن كان الدم في أيام العادة أو غيرها وكان أحمر واستمر ثلاثة أيام إلى ما لا يزيد على عشرة أيام وقد تخلل بينه وبين الحيض السابق أقل الطهر فهو حيض.

وأمّا إذا لم يكن واجداً لصفات الحيض المذكورة ، أي لم يمكن أن يكون حيضاً بالإمكان القياسي وبالنظر إلى الشروط والصفات فهو ليس بحيض ، والحكم بعدم كونه حيضاً ملازم واقعاً لكونه دم استحاضة لما مر هناك.

ويكفي في الحكم بالاستحاضة حينئذ ما ذكرناه هناك أيضاً من التمسك بإطلاق ما دلّ على وجوب الصلوات الخمسة وغيرها من الواجبات على كل مكلف ، فإن الخارج من تلك المطلقات هو المرأة الحائض أعني ما إذا علمنا بأن الدم حيض ، وأمّا إذا شككنا في ذلك فمقتضى الإطلاقات وجوب الصلاة والصيام وغيرها على المرأة.

نعم ، لا بدّ حينئذ من أن تغتسل ، إذ لو صلّت ولم تغتسل لعلمنا ببطلان صلاتها على كل تقدير ، وذلك لأنها إما كانت حائضاً أو مستحاضة ، والاغتسال واجب على كلتا الصورتين ، ومع تركه يقطع ببطلان صلاتها كما مر في محلِّه ، وإنما ذكرناه في المقام للإشارة والتنبيه.

الصورة الثانية : ما إذا علمنا بعدم كون الدم حيضاً ولكن شك في أنه دم استحاضة أو دم قرح أو غيرهما. ولهذه الصورة أيضاً صورتان :

إحداهما : ما إذا لم يعلم وجود السبب لمثل دم القرح أو الجرح ، ولكن المرأة‌

__________________

(١) في شرح العروة ٧ : ٩٣.

١٤

احتملت أن يكون الدم الخارج منها استحاضة أو دم قرحة في باطنها وإن لم تعلم بوجود القرحة.

وثانيتهما : ما إذا علمت بوجود السبب لدم القرح أو غيره ، كما لو كانت عالمة بأن في رحمها قرحة لكنها لا تدري أن الدم الخارج استحاضة اقتضاها طبعها أو أنه دم يخرج من القرحة الموجودة في رحمها.

إذا لم يعلم السبب للدم الخارج

أمّا الصورة الأُولى فمقتضى القاعدة والأصل عدم الحكم بكونه استحاضة حينئذ وذلك لعدم إمكان التمسّك في الحكم باستحاضته بالأخبار المتقدِّمة ، لورودها بأجمعها كما ذكرنا فيما إذا تردّد الدم بين الحيض والاستحاضة ، وأمّا إذا علمنا بعدم كونه حيضاً وتردّد الدم بين الاستحاضة وغيرها فلا دلالة في الأخبار على أنه استحاضة ، فالأخبار غير شاملة للمقام.

وحيث إن الشبهة مصداقية وموضوعية فلا يمكن التمسك فيها بما ورد في أحكام المستحاضة من الاغتسال لكل صلاتين أو لكل يوم ونحو ذلك لعدم العلم بكونه دم استحاضة ، كما أن الأصل يقتضي عدم ترتيب آثار الحدث عليه ، لأن المرأة إما أن تكون طاهرة قبل خروج الدم المشكوك وإما أن تكون محدثة ، فإن كانت طاهرة وشككنا في صيرورتها محدثة بهذا الدم أو عدمها فالأصل يقتضي بقاء طهارتها وعدم صيرورتها محدثة. وإذا كانت محدثة فتشك في حدوث سبب ثان للحدث في حقها وعدمه ، والأصل يقتضي عدم تحقق سبب آخر للحدث في حقها ، هذا.

ولكن الصحيح وفاقاً لأكثر الفقهاء هو الحكم على الدم بالاستحاضة حينئذ وذلك للسيرة العقلائية الجارية على البناء على السلامة في كل شي‌ء شك في سلامته وهو المعبر عنه بأصالة السلامة ، فإذا شكت المرأة في أنها سليمة أو أنها ذات قرحة وعلّة فلا مناص من البناء على سلامتها عن العيب والعلّة ، وهكذا الأمر في غير القرح ممّا يعد عيباً وعلى خلاف السلامة والخلقة الأصلية.

١٥

فإذا ثبت شرعاً أنها ليست بذات قرحة وعلة فلا محالة يتعين أن يكون الدم استحاضة ، لدوران الأمر بينهما على الفرض ، والاستحاضة وإن كانت مسببة عن علّة لا محالة ، فإن المرأة لو كانت سليمة وغير ذات علة وإن لم توجد إلاّ نادراً لا تبتلي بالاستحاضة أبداً ، فهي على خلاف الخلقة الأصلية إلاّ أنها لما كانت كثيرة التحقق في أكثر النساء بل جميعهن فلذا لا تعد الاستحاضة عيباً ، فكأنها صارت طبيعة ثانية للنساء لا يمكن دفع احتمالها بأصالة السلامة.

ونظير ذلك ما ذكروه في الأغلف من العبيد المجلوبين من بلاد الكفر من أن الغُلفة وإن كانت زائدة على الخلقة الأصلية إلاّ أنها لتحققها في الأكثر أو الجميع عدت طبيعة ثانوية ولا تعد نقصاً وعيباً.

وكيف كان فمقتضى أصالة السلامة التي هي أصل عقلائي هو الحكم بكون الدم استحاضة حينئذ.

ويدلُّ على ذلك أيضاً سكوت الأخبار الواردة في المقام على كثرتها عن التعرض لما إذا احتمل أن يكون الدم من القرحة ، حيث لا تعرض فيها لحكمه لا من الأئمة عليهم‌السلام ولا من الرواة ، فلو كان له حكم آخر غير أحكام الاستحاضة التي رتبوها على ما إذا لم يكن الدم حيضاً لبينه الأئمة ( سلام الله عليهم ) وتعرضوا له لا محالة ، فسكوتهم عن ذلك دليل على أن احتمال كون الدم من القرح ونحوه ملغى في نظرهم.

بل في مرسلة يونس القصيرة تعرضوا لكون الدم من القرحة فيما إذا رأت الدم يوماً أو يومين وانقطع ولم تر الدم بعد ذلك إلى عشرة أيام حيث قال : « لم يكن من الحيض إنما كان من علّة ، إما قرحة في جوفها وإما من الجوف ، فعليها أن تعيد الصلاة تلك اليومين التي تركتها ، لأنها لم تكن حائضاً ... » (١) إلاّ أنها صرحت أن حكمها حينئذ حكم الاستحاضة ، حيث نفت عنها الحيض وأوجبت عليها القضاء ، وهذا لا يتحقق‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٩٩ / أبواب الحيض ب ١٢ ح ٢.

١٦

[٧٨٧] مسألة ١ : الاستحاضة ثلاثة أقسام‌ : قليلة ومتوسّطة وكثيرة ، فالأُولى أن تتلوث القطنة بالدم من غير غمس فيها‌ ، وحكمها (١) وجوب الوضوء لكل صلاة‌

______________________________________________________

إلاّ في المستحاضة ، ومعناه أن كون الدم من القرح لا أثر له ، وإنما هو محسوب من الاستحاضة. هذا كله في الصورة الأُولى.

وأمّا الصورة الثانية فقد اتضح أن مقتضى الأصل والقاعدة عدم الحكم بالاستحاضة حينئذ ، ولا تجري في هذه الصورة أصالة السلامة ، للقطع بوجود العيب في المرأة.

وأمّا استصحاب عدم كون الدم دماً آخر ففيه :

أولاً : أنه لا مجرى له في نفسه ، إذ لا أثر شرعي يترتب على عدم كون الدم دماً آخر ، اللهمّ إلاّ أن يريد به إثبات الاستحاضة وهو من الأُصول المثبتة ولا اعتبار به.

وثانياً : أنها معارضة بأصالة عدم كون الدم استحاضة إما على نحو العدم الأزلي وأن المرأة لم تكن متصفة بالاستحاضة قبل خلقتها ، والأصل عدم اتصافها بها بعد وجودها ، وإما على نحو العدم النعتي واستصحاب عدم خروج الدم من رحمها ، للقطع بعدم خروج الدم من رحمها قبل ذلك ، والأصل أنه الآن كما كان.

وأصالة عدم الاستحاضة ممّا لها أثر شرعي ، وهو عدم ترتب شي‌ء من آثار الاستحاضة عليها ، فلولا المعارضة لم يكن مانع من جريانها ، وهذا بخلاف أصالة عدم خروج دم آخر ، فإنه لا يجري في نفسه لعدم ترتب أثر شرعي عليه مع قطع النظر عن المعارضة.

أقسام الاستحاضة ، وهي ثلاثة : القليلة :

(١) يعني حكم الاستحاضة القليلة ، وهو أمران :

أحدهما : أنها تبدل القطنة لكل صلاة.

ثانيهما : أنها تتوضأ لكل صلاة.

فالمستحاضة كالمسلوس والمبطون إذا تطهرا من الحدث السابق على الصلاة ، فما‌

١٧

يخرج بعد طهارتهم من البول والغائط والدم في حال الصلاة لا يكون حدثاً ناقضاً للطهارة.

أمّا وجوب تبديل القطنة عليها فلم يرد ذلك في نص ، إلاّ أن المعروف بين الأصحاب ذلك ، وقد استدلوا عليه بوجوه.

منها : دعوى الإجماع على أن المستحاضة يجب عليها أن تبدل القطنة لكل صلاة.

وفيه : أن الإجماع غير متحقق في المسألة ، لذهاب الأكثر من المتأخرين إلى عدم الوجوب ، على أنه على تقدير تمامية الإجماع ليس إجماعاً تعبّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم عليه‌السلام ، وإنما هو معلوم المدرك أو محتملة ، وهو الوجهان الآتيان في الاستدلال ، ولا يمكن الاعتماد على مثله.

ومنها : أنّ دم الاستحاضة ممّا لا يجوز الصلاة في قليل منه ، كما هو الحال في دم الحيض والنفاس ، ولأجل ذلك لا بدّ من تبديل القطنة لكل صلاة حتى لا تبطل صلاتها.

وفيه أوّلاً : أن كون دم الاستحاضة مانعاً عن الصلاة بقليله وكثيره ليس بثابت إذ لم يرد فيه رواية ، وإنما وردت الرواية في دم الحيض (١) ، والأصحاب ألحقوا المستحاضة والنفساء بالحائض من دون أن تشملهما الرواية ، والحكم في الحيض غير تام لضعف الرواية فضلاً عمّا الحق به.

وثانياً : لو سلمنا أن دم الاستحاضة والحيض سيّان من هذه الجهة ، فالمقدار الثابت هو عدم جواز الصلاة في ثوب فيه شي‌ء من هذه الدماء ولو قليلاً إذا كان الثوب ممّا تتم فيه الصلاة منفرداً ، وأمّا ما لا تتم فيه الصلاة فمقتضى الرواية الدالّة على أن ما لا تتم فيه الصلاة وحده لا بأس بالصلاة فيه ولو كان متنجساً (٢) عدم كون دم الحيض والاستحاضة فيما لا تتم فيه الصلاة مانعاً عن الصحة.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٣٢ / أبواب النجاسات ب ٢١ ح ١ وهي ضعيفة بأبي سعيد المكاري.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٥٥ / أبواب النجاسات ب ٣١.

١٨

فإن قلت : إن الرواية الدالة على أن ما لا تتم فيه الصلاة تجوز الصلاة فيه لو كان نجساً ، معارض بما دلّ على أن دم الحيض وما الحق به مانع عن الصلاة بقليله وكثيره ومع المعارضة لا يمكن الاعتماد عليها.

قلت : لو سلمنا ثبوت الرواية الدالة على مانعية دم الاستحاضة عن الصلاة كما إذا ألحقناه بدم الحيض وأغمضنا عن سند الرواية الواردة فيه ، فالمعارضة بينهما بالعموم من وجه ، ومعه إن قدمنا الرواية الدالة على جواز الصلاة فيما لا تتم فيه الصلاة ولو كان متنجساً على معارضها بدعوى أنها مشتملة على أداة العموم أعني قوله عليه‌السلام : كل ما لا تتم فيه الصلاة والعام متقدم على المطلق فهو.

وإذا لم نقل بذلك من جهة أن العموم فيها من جهة أفراد ما لا تتم فيه الصلاة لا بالنظر إلى النجاسة والحكم المترتب على ما لا تتم فيه الصلاة ، فالقاعدة تقتضي تساقطهما والرجوع إلى الدليل الفوق ، وهو قد دلّ على جواز الصلاة فيما دون الدرهم من الدم ، ولا مخصص لإطلاقه ، لسقوط المقيد عن الحجية بالمعارضة.

وثالثاً : لو أغمضنا عن تمام ذلك وقلنا إن دم الاستحاضة بقليله وكثيره مانع عن الصلاة ، بلا فرق في ذلك بين ما تتم فيه الصلاة وما لا تتم فيه الصلاة ، لم يمكن الاستدلال بذلك في المقام ، وذلك لأن القطنة ليست من قبيل ما يصلى فيه ليقال إنها مما تتم فيه الصلاة أو مما لا تتم فيه ، وإنما هي محمولة ، والمحمول المتنجس ولو بدم الاستحاضة لا يمنع عن الصلاة ، إذ لا يصدق أنها صلّت في القطنة.

ورابعاً : لو أغمضنا عن ذلك أيضاً وقلنا إن دم الاستحاضة مانع عن الصلاة فيه حتى فيما هو من قبيل المحمول منعنا عن كونه كذلك في المقام ، لأنه إنما يكون مانعاً فيما إذا كان المصلي طاهراً من الدم ، وأمّا في مثل المقام فلا يمنع ، لأنها ذات الدم على الفرض ، وإذا بدلت القطنة تتلوث القطنة الجديدة بدم الاستحاضة ، إذ لو لم يجر فيها الدم فهي طاهرة وليست بمستحاضة ، والمفروض أن دم الاستحاضة مانع عن الصلاة فما فائدة التبديل حينئذ ، وحيث إن الدم في القطنة المتبدلة غير مانع عن الصلاة عندهم ، فمن هنا يستكشف أن دم الاستحاضة غير مانع عن صلاة المستحاضة فيما‌

١٩

تحمله من القطنة. فهذا الوجه غير تام أيضاً.

ومنها : أنّ الدليل على وجوب تبديل القطنة في الاستحاضة القليلة إنما هو النص الوارد على وجوبه في المستحاضة الكثيرة (١) ، وذلك لعدم إمكان التفكيك بين أقسام الاستحاضة في ذلك بعد ورود النص عليه في قسم منها ، هذا.

وفيه : أن النص الدال على وجوب التبديل في الاستحاضة الكثيرة لو تم ولم نناقش في دلالته فهو مختص بالكثيرة ، ولا وجه للتعدي عنها إلى غيرها.

ودعوى أنه لا يمكن التفكيك بين أقسام الاستحاضة مدفوعة بأنه قياس ، إذ بأي ملازمة عقلية يثبت حكم الكثيرة في القليلة ، مع أنّا نرى أن أحكامهما مختلفة ، فإن المستحاضة القليلة يجوز لها الدخول في المساجد والمرور من المسجدين ويجوز لزوجها أن يأتيها ، وهذا بخلاف المستحاضة بالكثيرة فهي مورد الخلاف في تلك الأحكام.

وعليه فالصحيح أنه لا دليل على وجوب تبديل القطنة في الاستحاضة القليلة وإنما هو حكم مشهوري ، والشهرة في الفتوى لا تكون دليلاً على الحكم الشرعي مضافاً إلى أن تبديل القطنة في المستحاضة القليلة لو كان واجباً في حقها لأُشير إليه في شي‌ء من تلك الأخبار الواردة في مقام البيان ، فسكوتهم عليهم‌السلام وعدم تعرضهم لذلك أقوى دليل على عدم الوجوب.

هذا كلّه في الحكم الأول على المستحاضة بالقليلة.

وأمّا وجوب الوضوء عليها لكل صلاة فهو ممّا تسالم عليه الأصحاب قدس‌سرهم ولم ينسب الخلاف فيه إلاّ إلى ابن أبي عقيل وابن الجنيد (٢) ، حيث نسب إلى ابن أبي عقيل أن الاستحاضة القليلة ليست من الأحداث أصلاً ، ولا يجب فيها شي‌ء لا الغسل ولا الوضوء.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٢ ، ٣٧٥ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٣ ، ١٠.

(٢) نسبه إليهما في المعتبر ١ : ٢٤٤ / في الاستحاضة ، وفي المختلف ١ : ٢٠٩ ٢١٠ / في الاستحاضة.

٢٠