موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

العقلية عدم البيان ، ومع حكم الشارع بالبناء على الحالة السابقة يثبت البيان ، وينتفي موضوع حكم العقل بالبراءة. وكذا الكلام في سائر الاصول العقلية من الاحتياط والتخيير.

وأمّا الاصول الشرعية ، فحال الاستصحاب معها حال الأمارات مع الاستصحاب في أنّ تقدمه عليها من باب الحكومة ، ووجهه يظهر مما تقدم ، ولا سيما مع كونه من الأمارات في الحقيقة.

المرحلة الثالثة : في تعارض الاستصحابين ، وقبل التعرض لحكم تعارض الاستصحابين لا بدّ من التنبيه على أمر قد تقدم ذكره في بحث الترتب (١) وهو : أنّ تنافي الحكمين تارةً يكون في مقام الجعل ، وهو على قسمين : أحدهما أن يكون التنافي بينهما ذاتياً بحيث يلزم من جعلهما اجتماع النقيضين أو الضدين ، كما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وعدم وجوبه ، أو بين وجوب شيء وحرمته.

ثانيهما : أن يكون التنافي بينهما عرضياً ، كما في دوران الأمر بين وجوب الظهر والجمعة ، إذ لا منافاة بين وجوب الظهر ووجوب الجمعة ذاتاً بحيث يلزم من اجتماعهما محذور اجتماع النقيضين أو الضدين ، إلاّأ نّه بعد العلم الاجمالي بعدم جعل أحدهما ، يكون جعل أحدهما منافياً لجعل الآخر ، ولذا يسمى بالتنافي العرضي. والحكم في كليهما الرجوع إلى المرجحات السندية ، وسيأتي الكلام فيها في مبحث التعادل والترجيح (٢) إن شاء الله تعالى.

واخرى يكون التنافي بين الحكمين في مقام الامتثال لعدم قدرة المكلف على امتثالهما ، والحكم فيه وجوب الأخذ بالأهم ، أو بما لا بدل له ، أو ما اخذت فيه

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٣ : ١ وما بعدها.

(٢) في ص ٤٩٥ وما بعدها.

٣٠١

القدرة العقلية ، وترك ما اخذت فيه القدرة الشرعية على ما يأتي أيضاً في مبحث التعادل والترجيح (١) إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ التنافي بين الاستصحابين أيضاً قد يكون بحسب مقام الجعل وقد يكون بحسب مقام الامتثال ، فإن كان التنافي بينهما في مقام الامتثال لعجز المكلف عن العمل بكليهما ، كما إذا شك في بقاء نجاسة المسجد وارتفاعها بالمطر مثلاً مع الشك في إتيان الصلاة وهو في الوقت ، فالحكم فيه ما تقدم من الأخذ بالأهم وبغيره من الامور المذكورة.

وقد يتوهّم عدم جواز الأخذ بالأهم وبغيره من الامور المذكورة في المقام ، إذ الاستصحاب شيء واحد ، ونسبة قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» إلى جميع أفراده على حد سواء ، بلا فرق بين كون المورد أهم أو غيره ، وبين كونه مما لا بدل له أو مما له بدل ، وبين كون المأخوذ فيه القدرة العقلية أو الشرعية.

لكنّه مدفوع بأنّ الاستصحاب وإن كان شيئاً واحداً ، إلاّأنّ العبرة في الرجوع إلى الامور المذكورة بما تعلق به اليقين والشك ، لا بنفس الاستصحاب ، فكما أنّه إذا احرز وجوب الصلاة ووجوب الازالة بالوجدان يجب الأخذ بالأهم منهما ، فكذا إذا احرزا بالاستصحاب.

ولا يخفى أنّ هذا النوع من التنافي بين الاستصحابين خارج عن محل الكلام ، وإنّما ذكر لتمامية الأقسام ، إذ الكلام في تعارض الاستصحابين ، وهذا التنافي خارج عن باب التعارض وداخل في باب التزاحم ، وملخص الفرق بينهما : أنّ التعارض عبارة عن تنافي الحكمين في مقام الجعل بحسب مقام الثبوت ، فيكون

__________________

(١) في ص ٤٣٠ وما بعدها.

٣٠٢

بين دليليهما التكاذب في مقام الاثبات ، كما إذا دل دليل على وجوب شيء والآخر على عدم وجوبه أو على حرمته ، أمّا التزاحم فهو عبارة عن تنافي الحكمين بحسب مقام الفعلية دون مقام الجعل ، فلا يكون بين دليليهما التكاذب ، ولكن فعلية أحدهما مانعة عن فعلية الآخر ، لانتفاء موضوعه ، فان وجوب الازالة عن المسجد يوجب عجز المكلف عن الاتيان بالصلاة ، فينتفي وجوب الصلاة فعلاً بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة ـ إذ القدرة مأخوذة في موضوع جميع التكاليف ، وفعلية كل حكم بفعلية موضوعه.

وإن كان التنافي بين الاستصحابين بحسب مقام الجعل لا بحسب مقام الامتثال ، فقد يكون الشك في أحدهما مسبباً عن الشك في الآخر ، وقد لا يكون كذلك ، فإن كان الشك في أحدهما مسبباً عن الشك في الآخر يجري الاستصحاب في السبب فقط دون المسبب. وليس المراد من السبب في المقام هو السبب التكويني ، إذ مجرد كون الشيء مسبباً عن الآخر لا يوجب عدم اجتماعه مع السبب في الحكم ، فانّه لا منافاة بين كونه مسبباً عنه تكويناً وبين كونه معه من حيث الحكم في عرض واحد ، بل المراد هو السبب الشرعي المعبّر عنه بالموضوع ، فإن كان المستصحب في أحد الاستصحابين موضوعاً للمستصحب في الاستصحاب الآخر ، فجريان الاستصحاب في الموضوع يغني عن جريانه في الحكم ، إذ بعد ثبوت الموضوع بالتعبد الشرعي يكون ثبوت الحكم من آثاره ، فلا حاجة إلى جريان الاستصحاب فيه.

والسر في ذلك : أنّ الأحكام مجعولة بنحو القضايا الحقيقية ، فاذا ثبت الموضوع بالوجدان أو بالأمارة أو بالأصل يترتب عليه الحكم لا محالة. فاذا ثبت كون شيء خمراً وهو الصغرى ، فتنضم إليه الكبرى المجعولة بنحو القضايا الحقيقية ، وهي قولنا : الخمر حرام ، فتترتب النتيجة لا محالة ، غاية الأمر أنّ

٣٠٣

ثبوت الصغرى تارةً يكون بالوجدان واخرى بالتعبد ، فاذا غسلنا ثوباً متنجساً بماء مستصحب الطهارة مثلاً ، يحكم بطهارة الثوب لأنّ الموضوع للحكم بطهارته غسله بماء طاهر ، وقد ثبتت طهارة الماء بالتعبد ، والغسل به بالوجدان ، فيترتب عليه الحكم بطهارة الثوب في مرحلة الظاهر ، وإن احتملت نجاسته في الواقع ، وهذا الذي ذكرناه ـ من الحكم بالطهارة في الظاهر ـ هو مراد صاحب الكفاية من قوله : إنّ من آثار طهارة الماء طهارة الثوب المغسول به (١) إذ ليس مراده حصول الطهارة الواقعية للثوب المتنجس المغسول بماء مستصحب الطهارة كما هو ظاهر.

وربّما يتوهّم أنّه من هذا القبيل ما إذا شك في جواز الصلاة في جلد حيوان للشك في كونه مأكول اللحم ، فانّ الشك في جواز الصلاة في جلده مسبب عن الشك في حلية لحمه ، وجوازها فيه أثر من آثار حلية لحمه ، فاذا احرزت حليته بأصالة الحل يترتب عليها الحكم بجواز الصلاة في جلده أو غير الجلد من أجزائه.

لكنّه فاسد ، لأنّ أصالة الحل إنّما تفيد الترخيص الفعلي بمعنى عدم العقاب عليه على تقدير حرمته واقعاً ، وجواز الصلاة ليس مترتباً على الحلية الفعلية ، بل على حلية لحم الحيوان بطبعه ، فانّه إذا اضطر إنسان إلى أكل لحم الأسد مثلاً يحل له أكله ، ومع ذلك لا تجوز الصلاة في جلده يقيناً. وإذا كان لحم الغنم حراماً على أحد فعلاً لكونه مضراً له ، لا تكون هذه الحرمة موجبةً لعدم جواز الصلاة في جلده. نعم ، لو كان حيوان مما حلّ لحمه بطبعه ، وشك في بقاء حليته للشك في عروض ما يوجب حرمته كالجلل ووطء الانسان ، فيجري فيه

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٣١.

٣٠٤

استصحاب عدم عروض ما يوجب حرمته ويحكم ببقاء حليته الأصلية ، ويترتب عليه جواز الصلاة في جلده أيضاً.

وأمّا إن لم يكن الشك في مورد أحد الاستصحابين مسبباً عن الشك في مورد الآخر ، بل كان التنافي بينهما للعلم الاجمالي بعدم مطابقة أحدهما للواقع ، فكون أحدهما مطابقاً للواقع يوجب مخالفة الآخر للواقع ، فهو على قسمين :

أحدهما : ما تلزم من إجراء الاستصحاب في الطرفين المخالفة العملية القطعية ، كما إذا علمنا بطهارة إناءين ثمّ علمنا بطروء النجاسة على أحدهما إجمالاً ، فان إجراء استصحاب الطهارة في كلا الاناءين موجب للمخالفة العملية القطعية ، ففي مثل ذلك يسقط كلا الاستصحابين عن الحجية ولايمكن التمسك بواحد منهما ، لعين ما ذكرناه من الوجه في عدم جريان البراءة في أطراف العلم الاجمالي (١) ، فان إجراء الاستصحاب في كلا الطرفين موجب للمخالفة القطعية والترخيص في المعصية وهو قبيح. وجريانه في أحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجّح ، وفي أحدهما المخيّر يحتاج إلى دليل ، وإن كان المحذور العقلي منتفياً.

ثانيهما : ما لا تلزم فيه من إجراء الاستصحاب في الطرفين مخالفة عملية وتلزم المخالفة الالتزامية فقط ، وهو العلم بمخالفة أحد الاستصحابين للواقع ، كما إذا علمنا بنجاسة إناءين تفصيلاً ثمّ علمنا بطهارة أحدهما إجمالاً ، فانّه لا تلزم من إجراء استصحاب النجاسة في كليهما والاجتناب عنهما مخالفة عملية ، ففي مثل ذلك ذهب الشيخ (٢) قدس‌سره إلى عدم جريان الاستصحاب فيهما ،

__________________

(١) راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ٤٠٣ وما بعدها.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٧٤٤ ـ ٧٤٥.

٣٠٥

وتبعه المحقق النائيني (١) قدس‌سره واختار صاحب الكفاية (٢) قدس‌سره جريان الاستصحاب فيهما ، لوجود المقتضي وهو شمول أدلة الاستصحاب ، وعدم المانع وهو لزوم المخالفة العملية.

ولا تظهر ثمرة بين القولين في نفس الاناءين ، لوجوب الاجتناب عنهما على كلا القولين. أمّا على مختار الشيخ قدس‌سره فللعلم الاجمالي بالنجاسة. وأمّا على مختار صاحب الكفاية قدس‌سره فلاستصحابها. وإنّما تظهر الثمرة بينهما في الملاقي لأحد الاناءين ، إذ يحكم بنجاسته على مسلك صاحب الكفاية ، فانّه بعد الحكم بنجاسته بالتعبد يحكم بنجاسة الملاقي أيضاً ، بخلاف مسلك الشيخ قدس‌سره فانّ الملاقي لبعض أطراف العلم الاجمالي لايكون محكوماً بالنجاسة على ما تقدم ذكره (٣). ولأجل هذه الثمرة لا بدّ من تحقيق المقام والتكلم في جريان الاستصحاب وعدمه ، فنقول :

استدل الشيخ قدس‌سره لعدم جريان الاستصحاب باجمال دليل الاستصحاب بالنسبة إلى المقام ، بتقريب أنّ مقتضى إطلاق الشك في قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» هو شموله للشك المقرون بالعلم الاجمالي وجريان الاستصحاب في الطرفين ، ومقتضى إطلاق اليقين في قوله عليه‌السلام : «ولكن تنقضه بيقين آخر» هو شموله للعلم الاجمالي وعدم جريان الاستصحاب في أحدهما ، ولايمكن الأخذ بكلا الاطلاقين ، لأن مقتضى الاطلاق الأوّل هو الايجاب الكلي وجريان الاستصحاب في الطرفين ، ومقتضى

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢٦٩ ـ ٢٧٠ ، فوائد الاصول ٤ : ٦٩٣.

(٢) كفاية الاصول : ٤٣٢.

(٣) في الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ٤٧١ وما بعدها.

٣٠٦

الاطلاق الثاني هو السلب الجزئي وعدم جريانه في أحدهما ، ولا خفاء في مناقضة السلب الجزئي مع الايجاب الكلي ، ولا قرينة على تعيين الأخذ بأحدهما ، فالدليل يكون مجملاً من هذه الجهة ، فلا يمكن التمسك به لجريان الاستصحاب في المقام.

وفيه أوّلاً : أنّ الظاهر كون المراد من اليقين في قوله عليه‌السلام : «ولكن تنقضه بيقين آخر» هو خصوص اليقين التفصيلي لا الأعم منه ومن الاجمالي ، إذ المراد نقضه بيقين آخر متعلق بما تعلق به اليقين الأوّل ، وإلاّ لا يكون ناقضاً له ، فحاصل المراد هكذا : كنت على يقين من طهارة ثوبك ، فلا تنقضه بالشك في نجاسة الثوب ، بل انقضه باليقين بنجاسته ، فلا يشمل اليقين الاجمالي لعدم تعلقه بما تعلق به اليقين الأوّل ، بل تعلق بعنوان أحدهما ، فلا مانع من التمسك باطلاق الشك في قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» وجريان الاسصتحاب في الطرفين.

وثانياً : أنّه ليس هذا الذيل وهو قوله عليه‌السلام : «ولكن تنقضه بيقين آخر» موجوداً في جميع أدلة الاستصحاب ، واجمال الدليل الموجود فيه هذا الذيل لا يمنع من التمسك بدليل آخر ليس فيه هذا الذيل الموجب للاجمال ، فانّ إجمال الدليل عبارة عن عدم الدلالة لا الدلالة على العدم.

وهذا الذي ذكره الشيخ قدس‌سره راجع إلى المانع الاثباتي من جريان الاستصحاب في المقام ، وقد عرفت جوابه.

وذكر المحقق النائيني (١) قدس‌سره مانعاً ثبوتياً عن جريانه بمعنى عدم

__________________

(١) لمزيد الاطلاع راجع أجود التقريرات ٣ : ٨٩ و ٤١٤.

٣٠٧

إمكان التعبد بالاستصحاب في الطرفين مع العلم الوجداني بمخالفة أحدهما للواقع ، بيانه : أنّ الأصل لو كان من الاصول غير المحرزة ـ أي الاصول التي ليست ناظرةً إلى الواقع ، بل مفادها تعيين الوظيفة الفعلية في ظرف الشك كأصالة الاحتياط ـ فلا مانع من جريانه في أطراف العلم الاجمالي ، فانّ العلم الاجمالي بحلية النظر إلى إحدى الامرأتين لكونها من المحارم لا يمنع من جريان أصالة الاحتياط في الطرفين ، إذ معنى الاحتياط هو ترك الحلال مقدمة لترك الحرام ، فلا تنافي بين العلم الاجمالي وأصالة الاحتياط ، بخلاف ما إذا كان الأصل من الاصول المحرزة الناظرة إلى الواقع كالاستصحاب ، فان جريانه في الطرفين مع العلم بمخالفة أحدهما للواقع غير معقول ، فانّ التعبد بالبناء العملي على نجاسة كلا الاناءين لا يجتمع مع العلم بطهارة أحدهما ، فاطلاق دليل الاستصحاب وإن كان ظاهراً في الشمول للشك المقرون بالعلم الاجمالي ، فلا قصور في مقام الاثبات ، إلاّأ نّه لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظهور لأجل المحذور الثبوتي.

ويمكن الجواب عنه نقضاً وحلاً. أمّا النقض فهو أنّه إذا كان أحد جنباً وأتى بالصلاة ، فشك بعد الفراغ عنها في أنّه اغتسل قبل الصلاة أم لا ، فيحكم بصحة الصلاة المأتي بها بمقتضى قاعدة الفراغ ، وبوجوب الغسل عليه للصلوات الآتية وسائر الواجبات المشروطة بالطهارة من الحدث الأكبر بمقتضى استصحاب بقاء الحدث مع العلم الاجمالي بمخالفة أحد الأصلين للواقع ، مع أنّ قاعدة الفراغ أيضاً من الاصول المحرزة لو لم تكن من الأمارات.

وأمّا الحل ، فهو أنّه إن اريد جريان الاستصحاب في الطرفين بنحو الكلي المجموعي بأن يتعبد بنجاسة مجموع الاناءين من حيث المجموع ، فلا إشكال في

٣٠٨

عدم جريان الاستصحاب في الطرفين بهذا المعنى ، إذ موضوع الاستصحاب هو الشك وليس لنا شك في نجاسة المجموع من حيث المجموع ، بل لنا علم بعدم نجاسة المجموع من حيث المجموع ، إذ المفروض العلم الاجمالي بطهارة أحدهما ، فبعد العلم بعدم نجاسة المجموع من حيث المجموع كيف يمكن جريان استصحاب النجاسة في المجموع من حيث المجموع ، بل لا مجال لجريان الاصول غير المحرزة أيضاً في أطراف العلم الاجمالي بهذا المعنى المجموعي ، لما ذكرناه من انتفاء الشك باعتبار لحاظ المجموع من حيث المجموع ، ليكون مورداً لأصل من الاصول المحرزة أو غير المحرزة.

وإن اريد جريان الاستصحاب في الطرفين بنحو الكلي الاستغراقي ، بأن يتعبد بالاستصحاب في كل واحد من الطرفين مع قطع النظر عن الآخر ، فلا محذور فيه أصلاً ، لوجود الشك في كل واحد من الطرفين مع قطع النظر عن الآخر. والعلم الاجمالي بطهارة أحدهما لا يمنع عن جريان استصحاب النجاسة في خصوص كل منهما ، غاية الأمر أنّ العلم المذكور هو السبب لعروض الشك في كل واحد من الطرفين ، ولولا العلم الاجمالي لكانت نجاسة كل منهما محرزة بالعلم التفصيلي.

فتحصّل مما ذكرناه : أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب في المقام لا إثباتاً ـ على ما ذكره الشيخ قدس‌سره ـ ولا ثبوتاً ـ على ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره ـ ومن العجب أنّهما قدس‌سرهما قد التزما (١) بجريان الاستصحاب في المتلازمين مع العلم الاجمالي بمخالفة أحد الاستصحابين للواقع ، كما إذا توضأ أحد غفلةً بمائع مردد بين الماء والبول ، فالتزما بكونه محدثاً وبطهارة بدنه ، للاستصحاب فيهما مع العلم بمخالفة أحد الاستصحابين للواقع ، للملازمة

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٧٤٦ ، أجود التقريرات ٤ : ٢٧١.

٣٠٩

الواقعية بين بقاء الحدث ونجاسة البدن ، وبين طهارة البدن ورفع الحدث. ولم يظهر وجه للفرق بين المقام وبين المثال المذكور فيما ذكراه قدس‌سرهما من المانع الثبوتي أو الاثباتي.

وإن شئت قلت : في المقام أيضاً تلازم بين نجاسة أحد الاناءين وطهارة الآخر ، غاية الأمر أنّ التلازم في المقام عرضي للعلم الاجمالي بطهارة أحدهما ، والتلازم في المثال ذاتي بين بقاء الحدث ونجاسة البدن ، وهذا لا يوجب التفكيك بينهما فيما هو ملاك جريان الاستصحاب.

نعم ، لا يمكن جريان الاستصحاب في المتلازمين فيما إذا دل دليل من الخارج على عدم جواز التفكيك بينهما في الحكم مطلقاً لا في الحكم الواقعي ولا في الحكم الظاهري ، كما في الماء المتمم كراً ، فاذالم نستفد من الأدلة طهارته ولا نجاسته ووصلت النوبة إلى الأصل ، يكون مقتضى الاستصحاب في المتمم ـ بالفتح ـ هو النجاسة ، وفي المتمم ـ بالكسر ـ هو الطهارة ، مع العلم بمخالفة أحد الاستصحابين للواقع ، ولايمكن الأخذ بكلا الاستصحابين لا للعلم الاجمالي المذكور ، بل للاجماع على عدم جواز التفكيك بين أجزاء ماء واحد في الحكم بنجاسة بعض وطهارة بعض ، فيسقط الاستصحابان عن مقام الحجية ، إذ الأخذ بهما مخالف للاجماع ، وبأحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجّح ، وبأحدهما المخيّر يحتاج إلى دليل ، فلا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر كأصالة الطهارة.

فالذي تحصّل مما ذكرناه : أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي إلاّالمخالفة العملية القطعية ، أو الدليل الخارجي الدال على عدم جواز التفكيك كما مثلناه.

وأمّا الأمارات فلا يمكن الأخذ بها في أطراف العلم الاجمالي ولو لم تلزم منه

٣١٠

المخالفة العملية ، كما إذا قامت بينة على نجاسة هذا الاناء بخصوصه ، وقامت بينة اخرى على نجاسة ذاك الاناء مع العلم الاجمالي بطهارة أحدهما ، وذلك لحجية الأمارات بالنسبة إلى اللوازم ، فتدل الأمارة الدالة على نجاسة هذا الاناء على طهارة الاناء الآخر بالملازمة ، وكذا الأمارة الاخرى ، فيقع التعارض بينهما باعتبار الدلالة المطابقية في أحدهما ، والالتزامية في الآخر ، فيعامل معهما معاملة المتعارضين.

المرحلة الرابعة : في تعارض الاستصحاب مع بعض قواعد اخر مجعولة في الشبهات الموضوعية كأصالة الصحة وقاعدتي الفراغ والتجاوز والقرعة وقاعدة اليد.

٣١١
٣١٢

قاعدة الفراغ والتجاوز

٣١٣
٣١٤

[الكلام في قاعدة الفراغ والتجاوز]

إعلم أنّ التباني على صحة العمل الصادر من الغير هو المسمّى بأصالة الصحة ، والتباني على صحة العمل الصادر من نفس المكلف هو المسمّى بقاعدة الفراغ أو التجاوز ، فاذا وقع التعارض بين الاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز ، لا إشكال في تقدم قاعدة الفراغ والتجاوز عليه ، وإنّما الكلام في وجه التقدم فنقول :

الظاهر من الأدلة كون القاعدة من الأمارات ، فانّ الشك في صحة العمل بعد الفراغ أو بعد التجاوز ناشئ من احتمال الغفلة والسهو ، إذ ترك الجزء أو الشرط عمداً لا يجتمع مع كون المكلف في مقام الامتثال ، وأصالة عدم الغفلة من الاصول العقلائية الناظرة إلى الواقع ، فانّ سيرة العقلاء جارية على عدم الاعتناء باحتمال الغفلة ، والأخبار الواردة في قاعدة الفراغ والتجاوز أيضاً دالة على كونها من الأمارات لا من الاصول المقررة للشاك في مقام العمل ، فان قوله عليه‌السلام : «بلى قد ركعت» في خبر (١) الفضيل بن يسار الوارد في الشك في

__________________

(١) نقل في الوسائل عن محمّد بن الحسن باسناده عن فضالة عن أبان عن الفضيل بن يسار قال : «قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : أستتم قائماً فلا أدري ركعت أم لا؟ قال عليه‌السلام : بلى قد ركعت فامض في صلاتك» وأيضاً في الوسائل عنه عن صفوان

٣١٥

الركوع ، إخبار عن الواقع ، وكذا قوله عليه‌السلام : «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك ...» (١) وكذا قوله عليه‌السلام : «وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك ...» (٢).

وبالجملة : لا ينبغي الاشكال في كون القاعدة من الأمارات ، وحينئذ إن قلنا بكون الاستصحاب من الاصول ، فقد ظهر وجه تقدمها عليه مما ذكرناه في تقدم سائر الأمارات على الاصول من أنّ الاصول وظائف مقررة للشاك في مقام العمل ، فلا مجال للأخذ بها بعد إثبات الواقع ـ ولو بالتعبد الشرعي ـ لقيام

__________________

عن حماد بن عثمان قال : «قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : أشك وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا؟ فقال عليه‌السلام : قد ركعت امضه» وأيضاً في الوسائل عنه عن أبي جعفر عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن أبان بن عثمان عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله قال : «قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال عليه‌السلام : قد ركع» [الوسائل ٦ : ٣١٧ ـ ٣١٨ / أبواب الركوع ب ١٣ ح ٣ و ٢ و ٦].

(١) نقل في الوسائل عن المفيد باسناده عن الحسين بن سعيد عن فضالة عن أبان بن عثمان عن بكير بن أعين قال : «قلت له : الرجل يشك بعد ما يتوضأ؟ قال عليه‌السلام : هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك» [الوسائل ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٧ ، الحديث ينقله الشيخ الطوسي قدس‌سره باسناده عن الحسين بن سعيد].

(٢) نقل في الوسائل عن محمّد بن علي بن الحسين باسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنّه قال : «إذا شك الرجل بعدما صلى فلم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً وكان يقينه حين انصرف أنّه كان قد أتم لم يعد الصلاة وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك» [الوسائل ٨ : ٢٤٦ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٧ ح ٣].

٣١٦

الأمارة ، وإن قلنا بكون الاستصحاب أيضاً من الأمارات ـ كما التزم به المحقق النائيني (١) قدس‌سره وتبعناه (٢) ـ فقد ذكر المحقق المزبور أنّ القاعدة حاكمة على الاستصحاب ، لأن أدلة القاعدة واردة في موارد جريان الاستصحاب (٣) ، كما في الشك في الركوع بعد الدخول في السجود ، فأدلة القاعدة ناظرة إلى أدلة الاستصحاب وشارحة لها.

وفيه : أنّ الحكومة بالمعنى المصطلح هو كون الحاكم بمدلوله اللفظي ناظراً إلى المحكوم وشارحاً له ، بحيث لو لم يكن الدليل المحكوم موجوداً لكان الدليل الحاكم لغواً ، كقوله عليه‌السلام : «لا شك لكثير الشك ...» (٤) فانّه حاكم على قوله عليه‌السلام : «إذا شككت فابن على الأكثر ...» (٥) لكونه شارحاً له بمدلوله اللفظي ، إذ لو لم يكن للشك حكم من الأحكام ، لكان قوله عليه‌السلام : «لا شك لكثير الشك» لغواً.

والمقام ليس كذلك ، إذ قوله عليه‌السلام : «بلى قد ركع» ليس شارحاً لقوله عليه‌السلام : «إن كنت على يقين من طهارتك فلا تنقض اليقين بالشك» بحيث لو لم يكن قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» لزم كون قوله

__________________

(١) ذكر قدس‌سره في أوّل بحث الاستصحاب أنّ الصحيح كونه من الاصول العملية فلاحظ أجود التقريرات ٤ : ٦.

(٢) راجع ص ١٨٥.

(٣) لاحظ أجود التقريرات ٤ : ٢٠٩ ، فوائد الاصول ٤ : ٦١٩.

(٤) لم نعثر عليه بلفظه وإنّما ورد ما يدل على الحكم في الوسائل ٨ : ٢٢٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ١٦.

(٥) الوسائل ٨ : ٢١٢ و ٢١٣ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٨ ح ١ و ٣ (باختلاف يسير).

٣١٧

(عليه‌السلام) : «بلى قد ركع» لغواً ، فانّه لا مانع من جعل قاعدة كلية ، وهي البناء على صحة العمل مع الشك في صحته بعد الفراغ عنه ، ولو لم يكن الاستصحاب مجعولاً أصلاً. وما ذكره قدس‌سره ـ من أنّ أدلة القاعدة واردة في موارد جريان الاستصحاب ـ صحيح ، إلاّأ نّه لا يقتضي الحكومة بالمعنى المصطلح ، كما هو ظاهر.

والتحقيق أن تقديم القاعدة على الاستصحاب إنّما هو من باب التخصيص ، وذلك لأن أغلب موارد العمل بالقاعدة يكون مورداً لجريان الاستصحاب ، كما في الشك في الركوع بعد الدخول في السجود ، فانّه مع الغض عن قاعدة التجاوز كان مقتضى الاستصحاب الحكم بعدم الاتيان بالركوع ، فلا بدّ من تخصيص أدلة الاستصحاب بأدلة القاعدة ، وإلاّ يلزم حمل القاعدة على النادر ، ولا يمكن الالتزام به. ولا يمنع من التخصيص كونهما عامين من وجه ، إذ وجه التخصيص في العموم المطلق أنّه لو لم يخصص لزمت لغوية الخاص رأساً ، وفي المقام لو لم يخصص أحد العامين من وجه ـ وهو أدلة الاستصحاب ـ يلزم حمل العام الآخر ـ وهو أدلة القاعدة ـ على الفرد النادر ، وهو بحكم اللغو ، فليس الملاك في التخصيص كون النسبة هي العموم المطلق ، بل الملاك لزوم لغوية أحد الدليلين على تقدير عدم الالتزام بتخصيص الدليل الآخر على ما ذكرناه.

ولم يوجد مورد من موارد العمل بالقاعدة لم يكن الاستصحاب فيه مخالفاً لها ، إلاّموردين :

أحدهما : ما إذا كان لشيء حالتان متضادتان ، وشك في المتقدم والمتأخر منهما بعد الفراغ من العمل ، كمن كان محدثاً ومتوضئاً قبل الصلاة ، وبعد الفراغ منها شك في تقدم الحدث على الوضوء وتأخره عنه ، ففي مثله يحكم بصحة الصلاة لقاعدة الفراغ ، ولا مجال لجريان الاستصحاب ، للتعارض على مسلكنا ،

٣١٨

ولعدم المقتضي لعدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين على مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره على ما تقدّم (١).

ثانيهما : ما إذا كان الاستصحاب مطابقاً للقاعدة ، كما إذا شك بعد الفراغ من الصلاة في طروء مانع من موانع الصلاة حين الاشتغال بها ، فانّ استصحاب عدم طروء المانع موافق لقاعدة الفراغ كما هو ظاهر.

هذا تمام الكلام في تعارض الاستصحاب مع قاعدة الفراغ ، وحيث إنّ قاعدة الفراغ من القواعد المهمة ، وتكون نظرية من جهات شتى ، ينبغي صرف عنان الكلام إليها والتعرض لها من تلك الجهات استطراداً ، وإن كان خارجاً عن محل الكلام ، فيقع الكلام فيها في جهات :

الجهة الاولى : هل هي من المسائل الاصولية أو من القواعد الفقهية؟ وقد ذكرنا في محلّه (٢) أنّ الميزان في كون المسألة اصوليةً أمران كل واحد منهما يرجع إلى الآخر :

الأوّل : أن تكون كبرى المسألة بعد ضم الصغرى إليها منتجةً للحكم الفرعي الكلي ، كالبحث عن حجية الخبر مثلاً ، فانّه بعد ضم الصغرى ـ وهي قيام الخبر على وجوب شيءٍ مثلاً ـ إلى الكبرى وهي حجية الخبر ، تكون النتيجة وجوب هذا الشيء ، فيقال : هذا ما دلّ الخبر على وجوبه ، وكل ما دلّ الخبر على وجوبه واجب لكون الخبر حجة ، فينتج أنّ هذا واجب ، وهذا بخلاف المسائل الفقهية ، فانّ ضم الصغرى إليها لا ينتج إلاّالحكم الجزئي كالحكم بطهارة الماء مثلاً ، فيقال : هذا ماء ، وكل ماء طاهر ، فينتج أنّ هذا طاهر ،

__________________

(١) في التنبيه العاشر ، راجع ص ٢٤٥.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٤.

٣١٩

وليس هو إلاّحكم جزئي.

الثاني : أنّ تطبيق القواعد الاصولية على المصاديق إنّما هو بيد المجتهد وليس للمقلد حظ فيه ، فان تطبيق حلية ما لا نص فيه على شرب التتن مثلاً بيد المجتهد ، فانّه بعد الفحص وعدم وجدان نص فيه ، يحكم بأ نّه مما لا نص فيه ، فهو حلال. وهذا بخلاف المسائل الفقهية ، فان تطبيقها بيد المقلد ، كحرمة الخمر مثلاً فانّ المجتهد يفتي بها ، وأمّا تطبيق الخمر على مائع في الخارج فهو بيد المقلد ، وربما يقع الاختلاف بين المجتهد والمقلد في التطبيق ، فيرى أحدهما أنّه خمر والآخر أنّه خلٌ مثلاً ، ولكلٍ منهما العمل بعلمه ، وليس للمقلد الرجوع إلى المجتهد في التطبيق إلاّمن باب الرجوع إلى العادل ، بناءً على حجية خبر العادل في أمثال هذه الموضوعات.

إذا عرفت ما ذكرناه من الضابطة للمسائل الاصولية ، تعرف أنّ قاعدة الفراغ ليست من المسائل الاصولية ، بل من المسائل الفقهية ، فان ضم الصغرى إليها لا ينتج إلاّالحكم الجزئي ، فيقال : هذا الشك شك بعد الفراغ ، والشك بعد الفراغ مما لا أثر له ولا يعتنى به. وأيضاً تطبيق قاعدة الفراغ على الجزئيات إنّما هو بيد المقلد ، فانّه يرى أنّ هذا الشك المتعلق بعدد الركعات مثلاً إنّما حدث بعد الفراغ من الصلاة.

فتحصّل : أنّ قاعدة الفراغ من القواعد الفقهية ، وإن كانت هي بنفسها من نتائج المسائل الاصولية ، لكونها مستفادة من الأخبار بمقتضى حجية الظواهر وحجية الأخبار من حيث السند ، والبحث عن حجية الظواهر وحجية السند من المسائل الاصولية.

الجهة الثانية : في أنّ قاعدة الفراغ من الاصول العملية المقررة للشاك في مقام العمل ، أو من الأمارات الناظرة إلى الواقع الكاشفة عنه كشفاً ناقصاً

٣٢٠