موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ مرتضى البروجردي

١
٢

٣
٤

بسم‌ ‌الله‌ الرحمن‌ الرحيم‌

الحمد لله‌ رب‌ العالمين‌ و‌صلي‌ ‌الله‌ ‌علي‌ نبيّنا ‌محمّد‌ وآله‌ الطاهرين‌ ولعنة ‌الله‌ ‌علي‌ أعدائهم‌ أجمعين‌ ‌إلي‌ قيام‌ يوم‌ الدين‌.

٥
٦

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الصلاة‌

مقدمة : في فضل الصلاة اليومية وأنها أفضل الأعمال الدينية

اعلم أن الصلاة أحب الأعمال إلى الله تعالى ، وهي آخر وصايا الأنبياء عليهم‌السلام (١) ، وهي عمود الدين ، إذا قُبلت قُبل ما سواها ، وإن رُدّت رُدّ ما سواها (٢) ، وهي أوّل ما ينظر فيه من عمل ابن آدم ، فان صحّت نظر في عمله ، وإن لم تصح لم ينظر في بقيّة عمله (٣) ، ومَثَلها كمثَل النهر الجاري فكما أنّ من اغتسل فيه في كل يوم خمس مرات لم يبق في بدنه شي‌ء من الدرن ، كذلك كلّما صلى صلاة كفّر ما بينهما من الذنوب (٤) ، وليس ما بين المسلم وبين أن يكفر إلا أن يترك الصلاة (٥) ، وإذا كان يوم القيامة يدعى بالعبد فأوّل شي‌ء‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٨ / أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ب ١٠ ح ٢.

(٢) ورد هذا المضمون في نصوص كثيرة منها : الوسائل ٤ : ٣٤ / أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ب ٨ ح ١٠.

(٣) الوسائل ٤ : ٣٤ / أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ب ٨ ح ١٣.

(٤) الوسائل ٤ : ١٢ / أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ب ٢ ح ٣.

(٥) الوسائل ٤ : ٤٢ / أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ب ١١ ح ٦.

٧

يسأل عنه الصلاة ، فإذا جاء بها تامّة ، وإلا زخّ في النار (١) ، وفي الصحيح « قال مولانا الصادق عليه‌السلام : ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة ، ألا ترى أنّ العبد الصالح عيسى بن مريم عليه‌السلام قال : وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً » (٢) وروى الشيخ في حديث عنه عليه‌السلام « قال : وصلاة فريضة تعدّ عند الله ألف حجة وألف عمرة مبرورات متقبّلات » (٣) ، وقد استفاضت الروايات في الحث على المحافظة عليها في أوائل الأوقات (٤) ، وإن من استخف بها كان في حكم التارك لها ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ليس منّي من استخف بصلاته » (٥) ، وقال : « لا ينال شفاعتي من استخف بصلاته » (٦) ، وقال : « لا تضيّعوا صلاتكم ، فانّ من ضيّع صلاته حُشر مع قارون وهامان وكان حقاً على الله أن يدخله النار مع المنافقين » (٧) ، وورد : « بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جالس في المسجد إذ دخل رجل فقام يصلّي فلم يتمّ ركوعه ولا سجوده ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : نقر كنقر الغراب ، لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتنّ على غير ديني » (٨) ، وعن أبي بصير قال : « دخلت على أُم حميدة أُعزّيها بأبي عبد الله عليه‌السلام فبكت وبكيت لبكائها ، ثم قالت : يا أبا محمد لو رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام عند الموت لرأيت عجباً ، فتح عينيه ثم قال : اجمعوا كل‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٩ / أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ب ٧ ح ٦.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٨ / أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ب ١٠ ح ١.

(٣) الوسائل ١ : ٢٧ / أبواب مقدمة العبادات ب ١ ح ٣٤ ، أمالي الطوسي : ٦٩٤ / ١٤٧٨.

(٤) الوسائل ٤ : ١٠٧ / أبواب المواقيت ب ١ ، ٣ وغيرهما.

(٥) الوسائل ٤ : ٢٣ / أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ب ٦ ح ١ ، ٥ ، ٧ ، ٨.

(٦) الوسائل ٤ : ٢٦ / أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ب ٦ ح ١٠.

(٧) الوسائل ٤ : ٣٠ / أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ب ٧ ح ٧.

(٨) الوسائل ٤ : ٣١ / أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ب ٨ ح ٢.

٨

مَن بيني وبينه قرابة ، قالت : فما تركنا أحداً إلا جمعناه ، فنظر إليهم ثم قال : إن شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة » (١).

وبالجملة : ما ورد من النصوص في فضلها أكثر من أن يحصى. ولله درّ صاحب الدرّة حيث قال :‌

تنهى عن المنكر والفحشاء

أقصر فذاك منتهى الثناء (٢)

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٦ / أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ب ٦ ح ١١.

(٢) الدرّة النجفية : ٨٢.

٩

فصل

في أعداد الفرائض ونوافلها‌

الصلوات الواجبة ستة : اليومية ومنها الجمعة ، والآيات ، والطواف الواجب ، والملتزم بنذر أو عهد أو يمين أو إجارة ، وصلاة الوالدين (*) على الولد الأكبر ، وصلاة الأموات.

أما اليومية فخمس فرائض : الظهر أربع ركعات ، والعصر كذلك ، والمغرب ثلاث ركعات ، والعشاء أربع ركعات ، والصبح ركعتان ، وتسقط في السفر من الرباعيات ركعتان ، كما أن صلاة الجمعة أيضاً ركعتان (١).

______________________________________________________

(١) اختلفت كلمات الأصحاب ( قدّس الله أسرارهم ) في تعداد الفرائض ، فأنهاها بعضهم إلى التسع ، وآخر إلى السبع ، واقتصر بعض على الخمس ، وقيل غير ذلك ، والظاهر أنّ هذا مجرد اختلاف منهم في التعبير حسب اختلاف أنظارهم في إدراج بعضها في بعضٍ أو إفرادها بالذكر ، وإلا فلا خلاف بينهم فيما هو الواجب منها وإن اختلفوا في خصوصياته. فالبحث عن كيفية العدّ من حيث الإدراج والإخراج لفظي محض لا يهمّنا التعرض له بعد الاتفاق على أصل الوجوب والأمر سهل.

ثم إن المراد بالفرائض مطلق ما أوجبه الله تعالى من الصلوات في الشريعة‌

__________________

(*) بل خصوص الوالد دون الام.

١٠

المقدسة سواء نص عليه في الكتاب العزيز أم بيّنه بلسان نبيّه الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبال النوافل ، وهي منحصرة فيما يلي :

فمنها : صلاة الأموات التي نطقت بوجوبها النصوص المستفيضة بل المتواترة. وقد تقدم الكلام فيها في كتاب الطهارة.

ومنها : صلاة الآيات ، أعني صلاة الكسوف والخسوف والزلزلة التي صرّح بها في غير واحد من النصوص ، وأما غيرها من سائر الآيات كالريح السوداء ونحوها فلم ينص على وجوبها في الأخبار إلا من باب المثال لمطلق الآيات السماوية. وكيف كان فيأتي البحث عنها في صلاة الآيات إن شاء الله تعالى.

ومنها : صلاة الطواف الواجب ، وقد دلت على وجوبها جملة من النصوص التي منها ما اشتمل على التعليل لاشتراط الطهارة في الطواف بقوله عليه‌السلام لأن فيه صلاة ، الظاهر في مفروغية وجوبها فيه. نعم لا يجب في الطواف المستحب. والكلام في ذلك موكول الى كتاب الحج (١).

ومنها : الصلاة الملتزَمة بنذر أو عهد أو يمين أو إجارة أو شرط في ضمن عقد. ويدلُّ على الوجوب في الثلاثة الأُول إطلاق أدلة العناوين من الكتاب والسنة ، وفي الأخيرين عموم وجوب الوفاء بالعقد ، مضافاً إلى عموم « المؤمنون عند شروطهم » (٢) في الأخير خاصة.

ومنها : صلاة القضاء عن الوالدين الواجبة على الولد الأكبر ، لكن الثابت وجوبه ، صلاة الوالد على الولد دون الوالدة. وسيأتي البحث عن ذلك في صلاة القضاء إن شاء الله تعالى.

ومنها : صلاة العيدين المختص وجوبها بزمن الحضور ، ولعله لذلك أهملها في المتن والأمر سهل ، وقد دل على وجوبها مضافاً إلى الروايات قوله تعالى :

__________________

(١) راجع شرح المناسك ٢٩ : ١٠٠.

(٢) التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ، الإستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥.

١١

( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) (١) ، وقوله تعالى ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى ) (٢) المفسّرين بهما ، وسيأتي الكلام عليها في محلّها إن شاء الله تعالى.

فهذه الصلوات بين ما تقدّم وما يأتي.

ومنها : الصلوات اليومية وهي التي يقع البحث عنها في المقام ، ويدخل فيها صلاة الاحتياط فإنها من توابع تلك الصلوات ، لا سيما على القول بكونها جزءاً من العمل ظرفه بعد الفراغ منه لا أنها عمل مستقل يتدارك به النقص فإنها حينئذ عينها حقيقة.

ويدخل فيها أيضاً صلاة القضاء عن المكلف نفسه ، فإنها اليومية بعينها ، غايته أنها تقع خارج الوقت ، فلا فرق إلا من حيث الأداء والقضاء.

وهي خمس فرائض : الصبح ركعتان ، والظهر والعصر كل منهما أربع ركعات ، والمغرب ثلاث ركعات ، والعشاء أربع ركعات ، وتسقط في السفر عن كل من الرباعيات ركعتان.

ولا خلاف في وجوب هذه الفرائض على النهج المذكور بين أحدٍ من المسلمين ، بل هي من ضروريات الدين التي يندرج منكرها في سلك الكافرين. وقد نطق به الكتاب العزيز بضميمة ما ورد من التفسير ، قال ( عزّ من قائل ) ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ .. ) الآية (٣). تعرّض تعالى كما ورد في تفسيرها لأربع صلوات تقع ما بين الزوال ومنتصف الليل ، وهي الظهران والعشاءان ، وأشار إلى صلاة الفجر بقوله تعالى ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) وقال ( عزّ اسمه ) ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى ) (٤). فسّر‌

__________________

(١) الكوثر ١٠٨ : ٢.

(٢) الأعلى ٨٧ : ١٤ و ١٥.

(٣) الإسراء ١٧ : ٧٨.

(٤) طه ٢٠ : ١٣٠.

١٢

التسبيح قبل طلوع الشمس بصلاة الفجر ، وقبل الغروب بصلاة العصر ، وآناء الليل بالعشاءين ، وأطراف النهار بصلاة الظهر ، فانّ وقتها الزوال وهو طرف النهار.

وقال تعالى ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ... ) الآية (١) فسّر طرفا النهار بصلاة الفجر والمغرب ، وزلفاً من الليل بالعشاء الآخرة. وقيل غير ذلك بحيث يعم جميع الصلوات.

وقال عز وجل ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ ) (٢) فسّرت الصلاة الوسطى بصلاة الظهر كما هو المشهور ، لأن وقتها وسط النهار ، أو لتوسّطها بين فريضتي النهار وهما العصر والغداة ، وقيل هي العصر.

وبالجملة : فالآيات الدالة على وجوب الفرائض كثيرة.

وأما الروايات فهي متواترة ، بل فوق حدّ الاستقصاء ، وقد ورد الحث البليغ والاهتمام الأكيد بشأنها ، وأنها أصل الإسلام وعمود الدين ، إذا قُبلت قُبل ما سواها ، وإن رُدّت ردّ ما سواها ، وليس ما بين المسلم وبين أن يكفر إلا أن يترك الصلاة ، وأنها لا تُترك بحال ، إلى غير ذلك مما دل على شدّة العناية بها والمحافظة عليها بالسنة مختلفة (٣).

ولا خلاف من أحد في وجوب هذه الفرائض وأعدادها ، بل عليه إجماع المسلمين كافة كما عرفت.

غير أنه وقع الخلاف في صلاة الظهر خاصة في يوم الجمعة في زمن الغيبة وأن الواجب في هذا اليوم هل هو صلاة الظهر أو صلاة الجمعة؟.

__________________

(١) هود ١١ : ١١٤.

(٢) البقرة ٢ : ٢٣٨.

(٣) تقدّم ذكر مصادرها في ص ٧.

١٣

فينبغي عطف عنان الكلام إلى التعرض لهذه المسألة التي هي معركة الآراء بين الأعلام والخوض فيها قبل التعرض للفرائض اليومية.

فنقول والعون منه تعالى مأمول المحتملات بل الأقوال في المسألة ثلاثة : وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة تعيينا ، ووجوب صلاة الجمعة كذلك ، والتخيير بين الأمرين ، وهذا الخلاف بين الأصحاب قدس‌سرهم إنما هو بعد الاتفاق منهم على وجوب صلاة الجمعة في الجملة ، أعني في زمن الحضور مع الامام عليه‌السلام أو نائبه الخاص المنصوب من قبله ، فان هذا مما لم يختلف فيه اثنان ، بل هو من ضروريات الدين وعليه إجماع المسلمين ، وإنما الخلاف في اشتراط وجوبها أو مشروعيتها بحضور الامام عليه‌السلام فلا تجب تعييناً أو لا تشرع في زمن الغيبة ، وعدم الاشتراط.

فالمشهور بل المجمع عليه بين قدماء الأصحاب عدم الوجوب تعييناً ، وقد ادعى الإجماع على ذلك غير واحد من الأعلام بعد اختيارهم هذا القول كالشيخ في الخلاف (١) والحلي في السرائر (٢) وابن زهرة في الغنية (٣) والمحقق في المعتبر (٤) والعلامة في التحرير (٥) والمنتهى (٦) والتذكرة (٧) والشهيد في الذكرى (٨) والمحقق الثاني في جامع المقاصد (٩) وغيرهم كما لا يخفى على من تصفّح كلماتهم.

وذهب الشهيد الثاني في رسالته التي ألّفها في هذه المسألة إلى نفي الاشتراط‌

__________________

(١) الخلاف ١ : ٦٢٦ مسألة ٣٩٧.

(٢) السرائر ١ : ٢٩٠ و ٣٠٣.

(٣) الغنية : ٩٠.

(٤) المعتبر ٢ : ٢٧٩.

(٥) تحرير الأحكام ١ : ٤٣ السطر ٣٤.

(٦) المنتهي ١ : ٣١٧ السطر ٢.

(٧) التذكرة ٤ : ٢٧.

(٨) الذكرى ٤ : ١٠٤.

(٩) جامع المقاصد ٢ : ٣٧٥.

١٤

ووجوبها تعييناً (١) وهو أوّل من ذهب إلى هذا القول وتبعه على ذلك جملة من المتأخرين كصاحب المدارك (٢) وغيره ، واحتمل في الجواهر صدور هذه الرسالة منه في صغره لما فيها من الطعن والتشنيع على أساطين المذهب وحفّاظ الشريعة بما لا يليق به ولا ينبغي عن مثله ، وقد عدل عنه في باقي كتبه (٣).

ثم إن المنكرين للوجوب التعييني اختلفوا ، فمنهم من أنكر المشروعية رأساً في زمن الغيبة كابن إدريس وسلار (٤) وغيرهما ، بل ربما نسب ذلك إلى الشيخ أيضاً (٥) ومنهم من أثبت المشروعية والاجتزاء بها عن الظهر الراجع إلى الوجوب التخييري. وهذا هو الأشهر بل المشهور وهو الأقوى.

فلنا في المقام دعويان : نفي الوجوب التعييني وإثبات المشروعية ، وبذلك يثبت الوجوب التخييري ، فيقع الكلام في مقامين :

أما المقام الأول : فيظهر الحال فيه من ذكر أدلة القائلين بالوجوب التعييني وتزييفها ، وقد استدلوا لذلك بالكتاب والسنّة.

أما الكتاب : فقوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ .. ) إلخ (٦) بتقريب أن المنصرف من الكلام بعد ملاحظة تخصيص الجمعة من بين الأيام ، إرادة صلاة الجمعة من ذكر الله ، فيجب السعي إليها لظهور الأمر في الوجوب ، لا سيما الأوامر القرآنية على ما ذكره صاحب الحدائق (٧) وإن لم نعرف وجهاً للتخصيص وهذا‌

__________________

(١) رسائل الشهيد : ٥١.

(٢) المدارك ٤ : ٨.

(٣) الجواهر ١١ : ١٧٤.

(٤) الحلي في السرائر ١ : ٣٠٣ وحكاه عن السّلار في الرياض ٤ : ٧٢ ، لا حظ المراسم : ٧٧.

(٥) الجمل والعقود : ١٩٠.

(٦) الجمعة ٦٢ : ٩.

(٧) الحدائق ٩ : ٣٩٨.

١٥

خطاب عام يشمل جميع المكلفين في كل جيل وحين.

وفيه أوّلاً : أنّ غاية ما يستفاد من الآية المباركة بعد ملاحظة كون القضية شرطية إنّما هو وجوب السعي على تقدير تحقق النداء وإقامة الجمعة وانعقادها ، ولعلنا نلتزم بالوجوب في هذا الظرف ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى ، وأما وجوب إقامتها ابتداءً والنداء إليها تعييناً فلا يكاد يستفاد من الآية بوجه كما لا يخفى.

ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك ( وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً ) (١) حيث يظهر منها أن الذمّ إنما هو على تركهم الصلاة بعد فرض قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لها ، واتصاف الجمعة بالانعقاد والإقامة ، فيتركونه قائماً ويشتغلون باللهو والتجارة ، وأما مع عدم القيام فلا ذمّ على الترك.

وبالجملة : وجوب السعي معلّق على النداء فينتفي بانتفائه بمقتضى المفهوم ، ولا دلالة في الآية على وجوب السعي نحو المعلّق عليه كي تجب الإقامة ابتداءً.

وثانياً : أن الاستدلال بها مبني على إرادة الصلاة من ذكر الله وهو في حيّز المنع ، ومن الجائز أن يراد به الخطبة كما عن بعض المفسرين بل لعله المتعين ، فإن السعي هو السير السريع ، ومقتضى التفريع على النداء وجوب المسارعة إلى ذكر الله بمجرد النداء ، ومعه يتعين إرادة الخطبة ، إذ لا ريب في عدم وجوب التسرّع إلى الصلاة نفسها ، لجواز التأخير والالتحاق بالإمام قبل رفع رأسه من الركوع بلا إشكال ، وحيث إن الحضور والإنصات للخطبة غير واجب إجماعاً فيكشف ذلك عن كون الأمر للاستحباب.

ويؤيده قوله تعالى ( ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (٢) وقوله‌

__________________

(١) الجمعة ٦٢ : ١١.

(٢) الجمعة ٦٢ : ٩.

١٦

تعالى ( قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ ) (١) فإن التعبير بالخير يناسب الاستحباب والندب ، وإلا فلو أُريد الوجوب كان الأنسب التحذير عن الترك بالوعيد والعذاب الأليم ، نعم لا نضايق من استعمال هذه الكلمة في موارد الوجوب في القرآن الكريم كقوله تعالى ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) (٢) ونحو ذلك ، لكن الوجوب في أمثالها قد ثبت من الخارج بدليل مفقود في المقام ، وإلا فهذه الكلمة في حدّ نفسها الظاهرة في المفاضلة والترجيح لا تقتضي إلا الندب والرجحان كما هو المتبادر منها ومن مرادفها من سائر اللغات في الاستعمالات الدارجة في عصرنا ، فانّ المراد بالخير لا سيما إذا كان متعدياً بـ ( من ) كما في الآية الثانية ، ليس ما يقابل الشر ، بل ما يكون أحسن من غيره ، فكأنه تعالى أشار إلى أنّ الصلاة لمكان اشتمالها على المنافع الأُخروية ، فالإقدام إليها أفضل وأرجح من الاشتغال بالتجارة التي غايتها الربح الدنيوي الزائل ، وقد وقع نظير ذلك في القرآن كثيراً كما في قوله تعالى ( وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى ) (٣) إذ ليس المراد ما يقابل الشر قطعاً ، ونحوها غيرها كما لا يخفى على الملاحظ.

ومما ذكرنا يعلم أنّ الأمر في الآية المباركة محمول على الاستحباب ، حتى لو أُريد بالذكر الصلاة دون الخطبة ، لمكان التذييل بتلك القرينة الظاهرة في الندب.

فالإنصاف أنّ الاستدلال بهذه الآية للوجوب التعييني ضعيف.

وأضعف منه الاستدلال بقوله تعالى ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) (٤) بتقريب أن المراد بالصلاة الوسطى هي صلاة الظهر في غير يوم‌

__________________

(١) الجمعة ٦٢ : ١١.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٤.

(٣) الضحى ٩٣ : ٤.

(٤) البقرة ٢ : ٢٣٨.

١٧

الجمعة ، وصلاة الجمعة في يومها. بل إن الاستدلال بها عجيب جدّاً ، ومن هنا لم يتعرض المحقق الهمداني قدس‌سره للجواب إلا بقوله فيه ما لا يخفى (١).

إذ يرد عليه أوّلاً : أن الصلاة الوسطى إما أن يراد بها صلاة الظهر كما هو المشهور أو العصر كما قيل ، وأما الجمعة فلم يفسّرها بها أحد ولا قائل بذلك ولا وردت به رواية ، نعم أرسل الطبرسي عن علي عليه‌السلام أن المراد بها الظهر في سائر الأيام والجمعة في يومها (٢) وهي رواية مرسلة لا يعتمد عليها.

وثانياً : مع التسليم ، فالأمر بالمحافظة إرشادي نظير الأمر بالإطاعة فلا يتضمن بنفسه حكماً تكليفياً مستقلا ، بل مفاد الأمر حينئذ الإرشاد إلى التحفظ على الصلوات ، ومنها صلاة الجمعة الثابت وجوبها من الخارج على ما هي عليها وعلى النهج المقرر في الشريعة المقدسة ، بما لها من الكيفية والقيود المعتبرة فيها ، فلا بد من تعيين تلك الكيفية من الخارج ، من اشتراط العدد والحرية والذكورية ونحوها ، ومنها الاختصاص بزمن الحضور وعدمه ، فكما لا تعرّض في الآية لتلك الجهات نفياً وإثباتاً ولا يمكن استعلام حالها منها ، فكذا هذه الجهة كما هو واضح جدّاً.

وأما السنة : فبطائفة من الروايات ، ولا يخفى أن هذه الروايات كثيرة جدّاً ، بل قد أنهاها بعضهم إلى المائتين ، ولا يبعد فيها دعوى التواتر ، بل لا ينبغي الإشكال في تواترها إجمالاً بمعنى الجزم بصدور بعضها عن المعصوم عليه‌السلام ، على أن جملة معتداً بها منها صحاح أو موثقات ، وفيها مع قطع النظر عن غيرها غنى وكفاية ، فلا مجال للتشكيك في السند ، ونحن نُورد في المقام جملة منها ونوكل الباقي إلى المتتبع.

فمنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : إنما فرض الله‌

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ٤٤٠ السطر ١.

(٢) مجمع البيان ١ : ٥٩٩.

١٨

( عز وجل ) على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمسة وثلاثين صلاةً ، منها صلاة واحدة فرضها الله ( عز وجل ) في جماعة وهي الجمعة ، ووضعها عن تسعة : عن الصغير والكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمريض والأعمى ، ومَن كان على رأس فرسخين » (١).

ونوقش في دلالتها بعدم كونها في مقام البيان إلا من ناحية العدد ، وأن الواجب من الصلوات خلال الأُسبوع خمسة وثلاثون ، بضرب الفرائض الخمس اليومية في السبعة ، غير أن واحدةً منها يشترط فيها الجماعة ، ولا نظر فيها إلى كيفيتها والقيود المعتبرة فيها.

ولا ريب في أصل وجوب صلاة الجمعة وكونها من تلك الفرائض في الجملة ، بل هو من ضروريات الدين كما مرّ ، وإنما الكلام في أنه هل يعتبر في تلك الجماعة أن يكون أحدهم الإمام عليه‌السلام أو المنصوب من قبله كما يعتبر فيها عدالة الإمام وإقامة الخطبة ، وعدم كون العدد أقل من السبعة أو الخمسة ، كي يسقط الوجوب عند تعذر الشرط أم لا؟ وليست الرواية في مقام البيان من هذه الجهة كي يتمسك بإطلاقها لدفع ما يشك في دخله فيها ، كما لا يتمسك بها لدفع غيره مما يشك في شرطيته أو جزئيته لها.

ومن ثم لا يصح التمسك بها قطعاً لنفي ما يشك في شرطيته أو جزئيته لغيرها من سائر الفرائض الخمس والثلاثين ، والسرّ هو ما عرفت من عدم كونها مسوقة إلا لبيان الوجوب على سبيل الإجمال ، فلا إطلاق لها كي يستند إليه.

ويندفع : بأن الشك على نحوين : فتارة يشك فيما هو الواجب والكيفية المعتبرة فيه من حيث الأجزاء والشرائط ، وفي هذه المرحلة الحق كما أفاده قدس‌سره فلا يصح التمسك بها لنفي المشكوك فيه ، إذ لا نظر فيها إلى متعلق التكليف كي ينعقد الإطلاق ، وهذا واضح جدّاً.

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٢٩٥ / أبواب صلاة الجمعة ب ١ ح ١.

١٩

واخرى يشك في أصل الوجوب من حيث السعة والضيق ، وأنه هل يختص بطائفة خاصة أو يعمّ جميع المكلفين في كل جيل وحين كما في المقام ، ضرورة أن الشك ليس في متعلق الأمر ، بل في أصل التكليف ، وأنه هل يشترط في تعلّق الوجوب أن تكون الصلاة بأمر الإمام عليه‌السلام أو نائبه المنصوب كي يختص بزمن الحضور ، فتسقط عمن لم يدرك ذاك العصر لتعذر المشروط بتعذر الشرط ، أو لا يشترط بل الحكم ثابت لآحاد المكلفين في جميع الأعصار والأمصار على الإطلاق ، من دون تعليق على شي‌ء فيشترك فيه الموجودون في عصري الغيبة والحضور ، ولا ينبغي الشك في صحة التمسك بالصحيحة لدفع هذا النوع من الشك ، بداهة أن دلالتها على الشمول والسريان لجميع الأفراد إنما هو بالعموم الوضعي وهو الجمع المحلّى باللام في قوله « على الناس » دون الإطلاق المتوقف على جريان مقدمات الحكمة كي يتطرق احتمال عدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة.

ويؤيد العموم : الاقتصار في الاستثناء على الطوائف التسع المذكورين فيها ، فلو كان هناك شرط آخر للوجوب زائداً على ذلك وهو الكون في زمن الحضور والإقامة بأمر الإمام عليه‌السلام لزم التنبيه عليه والتعرض له ، وكان المستثنى عن هذا الحكم حينئذ عشر طوائف لا تسعاً.

ويؤيده أيضاً : التصريح ببقاء هذا الحكم إلى يوم القيامة في صحيحة زرارة الآتية.

فالإنصاف أنّ دلالة الصحيحة على إطلاق الوجوب وعدم الاشتراط بزمن الحضور قوية جدّاً ، والمناقشة المذكورة في غير محلها ، كما أنّ السند أيضاً صحيح لصحة طريق الصدوق إلى زرارة.

ومنها : صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم جميعاً عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : إن الله ( عز وجل ) فرض في كل سبعة أيام خمساً وثلاثين صلاة ،

٢٠