موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

لا يشمل شيئاً منهما ، أو يشمل أحدهما بعينه دون الآخر. لا يمكن المصير إلى الاحتمال الأوّل ، لعدم إمكان التعبد بالمتعارضين ، فانّ التعبد بهما يرجع إلى التعبد بالمتناقضين ، وهو غير معقول. وكذا الاحتمال الأخير ، لبطلان الترجيح بلا مرجّح ، فالمتعيّن هو الاحتمال الثاني. ونظير ذلك ما ذكرناه في بحث العلم الاجمالي (١) من عدم جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي ، فانّ شمول الدليل للطرفين موجب للمخالفة القطعية والترخيص في المعصية ، وشموله لأحدهما ترجيح بلا مرجّح ، فلم يبق إلاّعدم الشمول لكليهما.

وتوهم أنّ مقتضى الأصل عند التعارض هو التخيير ، لأن كلاً من المتعارضين محتمل الاصابة للواقع ، وليس المانع من شمول دليل الاعتبار لكل منهما إلاّلزوم التعبد بالمتناقضين ، وهذا المحذور يندفع برفع اليد عن إطلاق دليل الاعتبار بالنسبة إلى كلٍ منهما بتقييده بترك الأخذ بالآخر.

مدفوع بأنّ لازمه اتصاف كل منهما بصفة الحجية عند ترك الأخذ بهما ، فيعود محذور التعبد بالمتناقضين. مضافاً إلى أنّه على تقدير تماميته يختص بما إذا كان دليل الاعتبار لفظياً ليمكن التمسك باطلاقه ، بخلاف ما إذا كان لبياً كالاجماع ، إذ المتيقن منه غير صورة التعارض.

لا يقال : يمكن تقييد الحجية في كل منهما بالأخذ به ، ونتيجة ذلك هو التخيير وجواز الأخذ بأيّ منهما شاء المكلف.

فانّه يقال : كلا ، فانّ لازمه أن لا يكون شيء من المتعارضين حجة في فرض عدم الأخذ بهما أصلاً ، فيكون المكلف مطلق العنان بالنسبة إلى الواقع ، فيتمسك بالبراءة لو لم يكن في البين دليل آخر من عموم أو إطلاق أو أصل

__________________

(١) راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ٤١١.

٤٤١

مثبت للتكليف ، ولا يلتزم القائل بالتخيير بذلك.

ولا يقاس المقام على التخيير الثابت بالدليل ، فانّه لو تمت الأخبار الدالة على التخيير في تعارض الخبرين ، فهي بنفسها تدل على لزوم الأخذ بأحدهما ، وعند تركه يؤاخذ بمخالفة الواقع ، نظير الشبهات قبل الفحص التي لا تجري البراءة فيها. وهذا بخلاف ما إذا استفيد التخيير من تقييد دليل الاعتبار ، فان مفاده بناءً على التقييد ليس إلاّحجية كل من المتعارضين في صورة الأخذ بواحد منهما ، ولا تعرض له لوجوب الأخذ وعدمه.

بقي الكلام في نفي الثالث بالمتعارضين بعد سقوطهما عن الحجية بالنسبة إلى المؤدى المطابقي للمعارضة ، فاذا دل دليل على وجوب شيء والآخر على حرمته ، فهل يصح الالتزام بحكم ثالث بعد تساقط الدليلين ولو للأصل ، فيحكم بالاباحة لأصالة عدم الوجوب والحرمة أو لا ، وليعلم أنّ محل الكلام إنّما هو فيما إذالم يعلم بكون أحد المتعارضين مطابقاً للواقع ، وإلاّ فنفس هذا العلم كافٍ في نفي الثالث ، ففي فرض احتمال مخالفة كليهما للواقع ذهب صاحب الكفاية والمحقق النائيني قدس‌سرهما إلى عدم إمكان الالتزام بالثالث لوجهين :

الوجه الأوّل : ما ذكره صاحب الكفاية (١) قدس‌سره وهو أنّ التعارض موجب للعلم بكذب أحدهما لا بعينه ، فيكون أحدهما لا بعينه معلوم الكذب ، والآخر كذلك محتمل الصدق والكذب ، فيكون حجة ، إذ موضوع الحجية الخبر المحتمل للصدق والكذب ، والعلم بكذب أحدهما لايكون مانعاً عن حجية الآخر ، فأحدهما لا بعينه حجة ، وهو كافٍ في نفي الثالث ، غاية الأمر أنّه لا يمكن الأخذ بمدلوله المطابقي لعدم تعيينه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٣٩.

٤٤٢

وفيه : ما ذكرناه في بحث العلم الاجمالي (١) من أنّ أحدهما لا بعينه عنوان انتزاعي ليس له مصداق في الخارج ، فلا معنى لكونه حجة ، فانّه بعد عدم حجية خصوص الخبر الدال على الوجوب وعدم حجية خصوص الخبر الدال على الحرمة ، لم يبق شيء يكون موضوعاً لدليل الحجية ونافياً للثالث ، وقد مر تفصيل ذلك في بحث العلم الاجمالي.

الوجه الثاني : ما ذكره المحقق النائيني (٢) قدس‌سره ومحصّله : أنّ اللازم وإن كان تابعاً للملزوم بحسب مقام الثبوت والاثبات ، فانّ وجود الملزوم يستتبع وجود اللازم ، وكل دليل يدل على ثبوت الملزوم يدل على ثبوت اللازم أيضاً ، إلاّأ نّه ليس تابعاً للملزوم في الحجية ، بحيث يكون سقوط شيء عن الحجية في الملزوم موجباً لسقوطه عن الحجية في اللازم أيضاً.

والوجه في ذلك : أنّ الإخبار عن الملزوم بحسب التحليل إخباران : أحدهما إخبار عن الملزوم. وثانيهما إخبار عن اللازم ، ودليل الحجية شامل لكليهما ، وبعد سقوط الإخبار عن الملزوم عن الحجية للمعارضة ، لا وجه لرفع اليد عن الاخبار عن اللازم ، لعدم المعارض له ، لموافقة المتعارضين بالنسبة إلى اللازم ، فنفي الثالث مستند إلى الخبرين.

وهذا هو الفارق بين هذا الوجه والوجه الأوّل الذي ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره فانّ نفي الثالث على مسلكه مستند إلى أحدهما لا بعينه ، هذا ملخص كلامه قدس‌سره.

وفيه : ما ذكرناه غير مرة من أنّ اللازم تابع للملزوم في الحجية أيضاً ، كما

__________________

(١) [لم نجده في مظانه].

(٢) فوائد الاصول ٤ : ٧٥٥ ـ ٧٥٧.

٤٤٣

أنّه تابع له بحسب مقام الثبوت والاثبات.

وأمّا ما ذكره من الوجه لعدم سقوط حجية اللازم فنجيب عنه أوّلاً بالنقض. وثانياً بالحل.

أمّا النقض فبموارد :

منها : ما لو قامت بينة على وقوع قطرة من البول على ثوب مثلاً ، وعلمنا بكذب البينة وعدم وقوع البول على الثوب ، ولكن احتملنا نجاسة الثوب بشيء آخر ، كوقوع الدم عليه مثلاً ، فهل يمكن الحكم بنجاسة الثوب لأجل البينة المذكورة باعتبار أنّ الإخبار عن وقوع البول على الثوب إخبار عن نجاسته ، لكونها لازمةً لوقوع البول عليه ، وبعد سقوط البينة عن الحجية في الملزوم للعلم بالخلاف ، لا مانع من الرجوع إليها بالنسبة إلى اللازم ، ولا نظن أن يلتزم به فقيه.

ومنها : ما لو كانت دار تحت يد زيد وادعاها عمرو وبكر ، فقامت بينة على كونها لعمرو ، وبينة اخرى على كونها لبكر ، فبعد تساقطهما في مدلولهما المطابقي للمعارضة ، هل يمكن الأخذ بهما في مدلولهما الالتزامي ، والحكم بعدم كون الدار لزيد ، وأ نّها مجهول المالك؟

ومنها : ما لو أخبر شاهد واحد بكون الدار في المثال المذكور لعمرو ، وأخبر شاهد آخر بكونها لبكر ، فلا حجية لأحد منهما في مدلوله المطابقي مع قطع النظر عن المعارضة ، لتوقف حجية الشاهد الواحد على انضمام اليمين ، فهل يمكن الأخذ بمدلولهما الالتزامي ، والحكم بعدم كون الدار لزيد ، لكونهما موافقين فيه ، فلا حاجة إلى انضمام اليمين؟

ومنها : ما لو أخبرت بيّنة على كون الدار لعمرو ، واعترف عمرو بعدم

٤٤٤

كونها له ، فتسقط البينة عن الحجية ، لكون الاقرار مقدّماً عليها ، كما أنّها مقدّمة على اليد ، فبعد سقوط البينة عن الحجية في المدلول المطابقي للاعتراف ، هل يمكن الأخذ بمدلولها الالتزامي ، وهو عدم كون الدار لزيد مع كونها تحت يده؟ إلى غير ذلك من الموارد التي لا يلتزم بأخذ اللازم فيها فقيه أو متفقه.

وأمّا الحل : فهو أنّ الإخبار عن الملزوم وإن كان إخباراً عن اللازم ، إلاّأ نّه ليس إخباراً عن اللازم بوجوده السعي ، بل إخبار عن حصة خاصة هي لازم له ، فانّ الاخبار عن وقوع البول على الثوب ليس إخباراً عن نجاسة الثوب بأيّ سبب كان ، بل إخبار عن نجاسته المسببة عن وقوع البول عليه ، فبعد العلم بكذب البينة في إخبارها عن وقوع البول على الثوب ، يعلم كذبها في الاخبار عن نجاسة الثوب لا محالة. وأمّا النجاسة بسبب آخر ، فهي وإن كانت محتملة ، إلاّأ نّها خارجة عن مفاد البينة رأساً. وكذا في المقام الخبر الدال على الوجوب يدل على حصة من عدم الاباحة التي هي لازمة للوجوب لا على عدم الاباحة بقول مطلق ، والخبر الدال على الحرمة يدل على عدم الاباحة اللازم للحرمة لا مطلق عدم الاباحة ، فمع سقوطهما عن الحجية في مدلولهما المطابقي للمعارضة ، يسقطان عن الحجية في المدلول الالتزامي أيضاً ، وكذا الحال في سائر الأمثلة التي ذكرناها ، فانّ إخبار البينة عن كون الدار لعمرو إخبار عن حصة من عدم كونها لزيد اللازمة لكونها لعمرو. وكذا الاخبار بكونها لبكر ، فبعد تساقطهما في المدلول المطابقي تسقطان في المدلول الالتزامي أيضاً.

فتحصّل مما حققناه في المقام : أنّه بعد تساقط المتعارضين لا مانع من الالتزام بحكم ثالث ، سواء كان مدركه الأصل أو عموم الدليل. هذا كله على القول بالطريقية في حجية الأمارات كما هو الصحيح والمشهور.

٤٤٥

وأمّا على القول بالسببية والموضوعية فذكر شيخنا الأنصاري (١) قدس‌سره وتبعه بعض المتأخرين أنّه عليه يدخل التعارض في باب التزاحم ، فلا بدّ من الأخذ بأحدهما تعييناً أو تخييراً.

أقول : قد يقال بحجية الأمارات من باب السببية بمعنى المصلحة السلوكية على ما التزم به بعض الإمامية في مقام العجز عن جواب استدلال ابن قبة لحرمة العمل بالظن بلزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال ، وملخّصه على ما ذكره الشيخ قدس‌سره في بحث حجية الظن (٢) : أنّ تطبيق العمل على الأمارة ذو مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع على تقدير مخالفتها للواقع ، وحيث إنّ المصلحة السلوكية تابعة للسلوك على طبق الأمارة ، فهي تتفاوت بتفاوت مقدار السلوك قلةً وكثرة ، فاذا فرض قيامها على وجوب صلاة الجمعة وعمل بها المكلف ، فانكشف خلافها قبل خروج الوقت ، وأنّ الواجب في يوم الجمعة هي صلاة الظهر ، فلا بدّ حينئذ من إتيان صلاة الظهر ، ولا يتدارك بالأمارة القائمة على وجوب صلاة الجمعة إلاّالمصلحة الفائتة بالعمل بها ، وهي مصلحة الصلاة في أوّل وقتها. وأمّا مصلحة أصل صلاة الظهر أو مصلحة إتيانها في الوقت ، فلا يتدارك بها ، لعدم فوتهما بسبب السلوك على طبق الأمارة ، لتمكن المكلف من إتيانها في وقتها بعد انكشاف خلاف الأمارة. ولو فرض انكشاف الخلاف بعد خروج الوقت ، فيتدارك بها مصلحة الصلاة في الوقت دون مصلحة أصل الصلاة ، لتمكن المكلف من تداركها بعد خروج الوقت بقضائها. نعم ، لو لم ينكشف الخلاف أصلاً لا في الوقت ولا في خارجه ، يتدارك بها مصلحة أصل

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٧٦١ ـ ٧٦٢.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٩١.

٤٤٦

الصلاة أيضاً الفائتة بسبب العمل بالأمارة ، وهكذا.

والقول بالسببية بهذا المعنى لا يوجب دخول التعارض في التزاحم ، بل لا فرق بينه وبين القول بالطريقية من هذه الجهة ، لأنّ المصلحة السلوكية تابعة لتطبيق العمل بمقتضى الحجة ، فلا بدّ من إثبات الحجية أوّلاً ، ليكون السلوك بطبقها ذا مصلحة ، وقد ذكرنا أنّ دليل الحجية لا يشمل المتعارضين على ما تقدّم (١).

وقد يقال بالسببية بمعنى التصويب المنسوب إلى الأشاعرة تارةً وإلى المعتزلة اخرى على اختلافٍ بينهم في المعنى ، فانّ المنسوب إلى الأشاعرة إنكار الحكم الواقعي رأساً ، وأنّ ما تؤدي إليه الأمارة هو الواقع ، وهو الذي اعترض عليه العلامة قدس‌سره (٢) بأ نّه مستلزم للدور ، إذ الواقع متوقف على قيام الأمارة على الفرض ، وهو متوقف على الواقع بالضرورة ، فانّه لو لم يكن في الواقع شيء فعمّا تكشف الأمارة وتحكي. وأمّا القول المنسوب إلى المعتزلة فهو أنّ الحكم الواقعي المشترك بين العالم والجاهل وإن كان موجوداً ، إلاّأ نّه يتبدل بقيام الأمارة على الخلاف ، فرب واجب يتبدل إلى الحرمة ، لقيام الأمارة على حرمته ، ورب حرام يتبدل إلى الوجوب ، لقيام الأمارة على وجوبه ، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأحكام.

وتفصيل الكلام في المقام : أنّ القائل بالسببية بمعنى التصويب ـ بمعنى كون الحكم تابعاً لقيام الأمارة حدوثاً على ما يقوله الأشاعرة ، أو بقاءً على ما يقوله

__________________

(١) في ص ٤٤٠ ـ ٤٤١.

(٢) نهاية الوصول : ٦٢٢ مبحث الاجتهاد.

٤٤٧

المعتزلة ـ إمّا أن يقول بأن قيام الأمارة على شيء يوجب حدوث المصلحة في متعلق التكليف وهو عمل المكلف ، وإمّا أن يقول بحدوث المصلحة في الالتزام بمؤدى الأمارة وهو عمل القلب ، وإمّا أن يقول بحدوثه في فعل المولى ، أي قيام الأمارة على وجوب شيء مثلاً يوجب حدوث المصلحة في إيجاب المولى ذلك الشيء.

وعلى الأوّل إمّا أن يكون التعارض بين الدليلين بالتناقض ، كما إذا دل أحدهما على وجوب شيء والآخر على عدم وجوبه أو بالتضاد. والتعارض بالتضاد إمّا أن يكون بدلالة أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمته أو يكون بدلالة أحدهما على وجوب شيء ، والآخر على وجوب شيء آخر ، ولا يكون لهما ثالث ، كما إذا دل أحدهما على وجوب الحركة ، والآخر على وجوب السكون ، أو يكون بدلالة أحدهما على وجوب شيء ، والآخر على وجوب شيء آخر ويكون لهما ثالث ، كما إذا دل أحدهما على وجوب القيام والآخر على وجوب الجلوس ، فانّ لهما ثالثاً كالاضطجاع مثلاً.

أمّا إن كان التعارض بالتناقض ، فدخوله في التزاحم مستحيل ، إذ التزاحم عبارة عن كون المكلف عاجزاً في مقام الامتثال مع صحة كل واحد من التكليفين في مقام الجعل ، واجتماع التكليفين في المقام محال في نفسه مع قطع النظر عن عجز المكلف ، وذلك لأنّ المفروض كون قيام الأمارة على الوجوب موجباً لحدوث المصلحة الملزمة في الفعل ، وقيام الأمارة على عدم الوجوب موجباً لعدم المصلحة الملزمة في الفعل ، أو موجباً لزوال المصلحة الملزمة عن فعل المكلف ، واجتماع المصلحة وعدمها في شيء واحد اجتماع نقيضين ومحال في نفسه ، مع قطع النظر عن عجز المكلف عن الامتثال.

٤٤٨

وظهر بما ذكرناه عدم صحة ما في الكفاية (١) من أنّ الدليل الدال على عدم الوجوب لايزاحم الدليل الدال على الوجوب ، لأن اللا اقتضاء لايزاحم الاقتضاء ، وذلك لأن اجتماع الاقتضاء واللا اقتضاء في نفسه محال ، فلا تصل النوبة إلى المزاحمة ليقال : إنّ اللا إقتضاء لايزاحم الاقتضاء ، فما ذكره من أنّه لو وقع التزاحم بين الاقتضاء واللا إقتضاء يقدّم الاقتضاء ، لعدم صلاحية اللا إقتضاء لمزاحمة الاقتضاء وإن كان صحيحاً بحسب الكبرى ، إلاّأنّ الصغرى غير محققة ، لعدم إمكان اجتماع الاقتضاء واللا إقتضاء ليقدّم أحدهما على الآخر.

وأمّا إن كان التعارض بدلالة أحد الدليلين على وجوب شيء ، والآخر على حرمته ، فان قلنا بأنّ النهي عبارة عن الزجر عن الشيء المعبّر عنه في اللغة الفارسية ب (جلوگيري كردن) كما هو الصحيح على ما حققناه في محله (٢) من أنّ النهي عن الشيء هو الزجر عنه ، كما أنّ الأمر بالشيء هو البعث والتحريك نحوه ، فلا يمكن دخوله في التزاحم كالصورة السابقة ، لأن قيام الأمارة على وجوب شيء يوجب حدوث المصلحة الملزمة فيه ، وقيام الأمارة على حرمته يوجب حدوث المفسدة الملزمة فيه ، ولا يمكن اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد بلا كسر وانكسار ، فانّه من اجتماع الضدّين ، ولا شبهة في استحالته ، فلا يكون التعارض المذكور من باب التزاحم ، لعدم صحة اجتماع التكليفين في نفسه قبل أن تصل النوبة إلى عجز المكلف عن الامتثال.

وإن قلنا بأنّ النهي عبارة عن طلب الترك ـ على ما هو المعروف بينهم ـ فيكون قيام الأمارة على وجوبه موجباً لحدوث المصلحة في فعله ، وقيام

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٤٠.

(٢) لاحظ محاضرات في اصول الفقه ٣ : ٢٧٢ وما بعدها.

٤٤٩

الأمارة على حرمته موجباً لحدوث المصلحة في تركه ، واجتماع المصلحة في الفعل مع المصلحة في الترك وإن كان ممكناً ، إلاّأنّ التكليف بالفعل والترك معاً مما لا يجتمعان ، إذ التكليف بهما تعييناً تكليف بغير مقدور ، وتخييراً طلب للحاصل ، لعدم خلوّ المكلف عنهما ، فتكليفه بأحدهما تخييراً لغو ، فلا يكون من التزاحم في شيء.

وكذا الحال إن كان التعارض بدلالة أحدهما على وجوب شيء والآخر على وجوب شيء آخر ، مع عدم ثالث لهما ، كما إذا دل أحدهما على وجوب الحركة ، والآخر على وجوب السكون ، فانّ التكليف بكل واحد من الحركة والسكون تعييناً تكليف بغير مقدور ، وتخييراً طلب للحاصل ، فلا يصح اجتماعهما في مقام الجعل ، فلا يكون من باب التزاحم.

وأمّا إن كان التعارض بدلالة أحدهما على وجوب شيء والآخر على وجوب شيء آخر وكان لهما ثالث ، كما إذا دل أحدهما على وجوب القيام والآخر على وجوب الجلوس ، فقد يتوهم كونه من التزاحم ، بدعوى أنّ قيام الأمارة على وجوب القيام موجب لحدوث المصلحة في القيام ، وقيام الأمارة على وجوب الجلوس موجب لحدوث المصلحة في الجلوس ، والمكلف عاجز عن امتثال كليهما ، وحيث إنّه قادر على ترك كليهما ، فلا محذور في أن يكلفه الشارع بهما تخييراً حذراً من فوت كلتا المصلحتين.

ولكنّ التحقيق أنّه لا يمكن الالتزام بالتزاحم في هذه الصورة أيضاً ، لأنّ الأمارة الدالة على وجوب القيام تدل على عدم وجوب الجلوس بالالتزام ، وكذا الأمارة الدالة على وجوب الجلوس تدل على عدم وجوب القيام بالالتزام ، لعدم صحة التكليف بالمتضادين في آن واحد ، فثبوت أحدهما ينفي الآخر بالالتزام ، لما بينهما من المضادة ، فيكون المقام بعينه من قبيل تعارض دليلين

٤٥٠

يدل أحدهما على وجوب صلاة الظهر ، والآخر على وجوب صلاة الجمعة ، مع العلم الاجمالي بعدم أحد التكليفين ، فيرجع إلى التعارض بالتناقض ، وقد تقدم استحالة دخول التعارض بالتناقض في التزاحم ، فانّه بعد دلالة أحد الدليلين على وجوب القيام بالمطابقة ودلالة الآخر على عدم وجوبه بالالتزام ، يلزم من قيام الأمارة الاولى حدوث المصلحة الملزمة في القيام ، ومن قيام الأمارة الثانية زوالها عنه ، فيلزم اجتماع وجود المصلحة وعدمها في القيام ، وهو اجتماع نقيضين ، وهو محال في نفسه مع قطع النظر عن عجز المكلف عن الامتثال. وكذا الحال في طرف الجلوس ، ولا حاجة إلى التكرار. هذا كله على القول بأن قيام الأمارة يوجب حدوث المصلحة في فعل المكلف.

وأمّا على القول بأن قيامها يوجب حدوث المصلحة في الالتزام بمؤدى الأمارة وهو عمل القلب ، فيمكن أن يتوهم دخول التعارض في التزاحم في جميع الصور المتقدمة ، بدعوى أنّ قيام الأمارة على وجوب القيام مثلاً يوجب حدوث المصلحة في نفس الالتزام بوجوب القيام ، وكذا قيام الأمارة على وجوب الجلوس يوجب حدوث المصلحة في الالتزام بوجوبه ، وبعد الالتزام بوجوب القيام وبوجوب الجلوس بمقتضى الأمارتين ، يقع التزاحم في مقام الامتثال ، لعدم قدرة المكلف عليهما في آن واحد.

وحيث إنّ هذا التوهم مبني على وجوب الموافقة الالتزامية ، فهو التزام بباطل في باطل ، فانّ القول بالسببية باطل في نفسه ، ومع الالتزام به لم يدل دليل على وجوب الالتزام لتكون له مصلحة. مضافاً إلى ما ذكرناه آنفاً من التكاذب بين الدليلين بحسب الدلالة الالتزامية ، وأنّ الأمارة الدالة على وجوب القيام تدل على عدم وجوب الجلوس بالالتزام ، والأمارة الدالة على وجوب الجلوس تدل على عدم وجوب القيام ، وكيف يمكن الالتزام بوجوب القيام

٤٥١

وعدم وجوبه ، وكذا في طرف الجلوس.

وأمّا على القول بأن قيام الأمارة يوجب حدوث المصلحة في فعل المولى من الايجاب والتحريم ، فيمكن تصوير التزاحم ، فانّه إذا قامت أمارة على وجوب شيء وأمارة اخرى على حرمته ، فالأمارة الاولى توجب حدوث المصلحة في الايجاب ، والأمارة الثانية توجب حدوث المصلحة في التحريم ، فتقع المزاحمة بين المصلحة في جعل الوجوب والمصلحة في جعل الحرمة ، إلاّأنّ هذا التزاحم من التزاحم في الملاك الذي ذكرنا (١) أنّه خارج عن محل الكلام ، وليس للمكلف دخل فيه بل أمره بيد المولى. وحيث إنّه لا أهمية لإحدى المصلحتين على الاخرى على الفرض ، إذ الموجب لحدوث المصلحة قيام الأمارة ، وهي قائمة في الطرفين بلا تفاوت في البين ، فللمولى أن يجعل الوجوب وأن يجعل الحرمة. وأمّا بالنسبة إلى المكلف ، فنتيجة هذا التزاحم هي نتيجة التعارض من رفع اليد عن المتعارضين والرجوع إلى الاصول العملية ، إذ بعد تنافي الأمارتين لا علم لنا بأنّ المولى جعل الوجوب أو التحريم ، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل العملي ، ففيما إذا قامت أمارة على الوجوب واخرى على الحرمة ، يدور الأمر بين محذورين ويحكم العقل في مثله بالتخيير. وأمّا إذا قامت أمارة على الوجوب واخرى على عدمه ، فيكون مورداً لأصالة البراءة.

ولب المقال في المقام : أنّ رجوع التعارض إلى التزاحم ـ على القول بالسببية ـ مما لا أساس له على جميع التقادير المتقدمة ، إذ منشؤه توهم أنّ القائل بالسببية قائل بأن قيام الأمارة موجب لحدوث المصلحة ولو كانت الأمارة غير معتبرة ، وليس الأمر كذلك ، إذ من المعلوم أنّ القائل بالسببية قائل بأن قيام الحجة

__________________

(١) عند بيان الفرق بين التعارض والتزاحم ص ٤٢٦.

٤٥٢

موجب لحدوث المصلحة ، وحينئذ يكون حدوث المصلحة في الفعل أو الالتزام أو فعل المولى في رتبة متأخرة عن حجية الأمارة ، وقد ذكرنا أنّ دليل الحجية غير شامل للمتنافيين على ما تقدّم (١) ، فلم يبق مجال لتوهم رجوع التعارض إلى التزاحم على القول بالسببية.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام : أنّ الأصل في التعارض هو التساقط ، بلا فرق بين القول بالطريقية والقول بالسببية.

ثمّ إنّه قد ظهر مما ذكرناه أنّ التعارض هو تنافي مدلولي دليلين بحيث لايكون أحدهما قرينة عرفية على الآخر بنحو الحكومة أو الورود أو التخصيص أو غيرها من أنحاء القرينية العرفية ، ففي كل مورد يكون أحدهما قرينة على الآخر بحسب متفاهم العرف فهو خارج عن التعارض. ولا ضابطة لذلك بل يختلف باختلاف المقامات والخصوصيات المحتفة بالكلام : من القرائن الحالية والمقالية ، إلاّأ نّهم ذكروا من ذلك اموراً نتعرض لها تحقيقاً للحال وتوضيحاً للمقام.

منها : ما ذكره الشيخ (٢) قدس‌سره من أنّه إذا كان أحد الدليلين عاماً والآخر مطلقاً ، يقدّم العام على المطلق ، لكون ظهور العام تنجيزياً ، لأن شموله لمورد الاجتماع بالوضع وظهور المطلق تعليقياً ، فانّ ظهوره في الاطلاق معلّق على مقدمات الحكمة ومنها عدم البيان ، والعام صالح لأن يكون بياناً ، فيسقط المطلق عن الحجية بالنسبة إلى مورد يكون مشمولاً للعام.

__________________

(١) في ص ٤٤٠ ـ ٤٤١.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٧٩٢.

٤٥٣

وأورد عليه صاحب الكفاية (١) قدس‌سره بأن ظهور المطلق معلّق على عدم البيان في مقام التخاطب لا على عدم البيان إلى الأبد ، فمع انقطاع الكلام وعدم تحقق البيان متصلاً به ينعقد الظهور للمطلق ، فيقع التعارض بينه وبين ظهور العام ، فلا وجه لتقديم العام على المطلق بقول مطلق ، هذا.

والصحيح ما ذكره الشيخ قدس‌سره إذ بعد كون العام صالحاً للقرينية على التقييد ، كما اعترف به صاحب الكفاية في بحث الواجب المشروط (٢) لا فرق بين كونه متصلاً بالكلام أو منفصلاً عنه ، غاية الأمر أنّه مع ورود العام منفصلاً يكون الاطلاق حجة ما لم يرد العام لتحقق المعلّق عليه ، وهو عدم البيان إلى زمان ورود العام ، وبعده ينقلب الحكم من حين ورود العام لا من أوّل الأمر ، لا نقول : إنّ حين وصول العام يحكم بأنّ الاطلاق غير مراد من هذا الحين ، بل يحكم بأنّ الظهور لم يكن مراداً من الأوّل ، لكنّه كان حجة إلى حين وصول العام ، نظير الاصول العملية بالنسبة إلى الأمارات ، فانّ الأصل متّبع ما لم تقم أمارة على خلافه ، وبعد قيامها يرفع اليد عن الأصل من حين قيام الأمارة ـ وإن كان مفادها ثبوت الحكم من الأوّل ـ والمقام كذلك ، غاية الأمر أنّ العام المتصل مانع عن انعقاد الظهور في المطلق ، والعام المنفصل كاشف عن عدم تعلق الارادة الجدية بالاطلاق من لفظ المطلق ، وهذا المقدار لا يوجب الفرق في الحكم من وجوب تقديم العام على المطلق.

ومنها : كون أحد الاطلاقين شمولياً والآخر بدلياً ، فذكروا أنّه يقدّم الاطلاق

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٥٠.

(٢) كفاية الاصول : ١٠٦.

٤٥٤

الشمولي ويقيد به الاطلاق البدلي ، واختاره المحقق النائيني (١) رحمه‌الله وذكر له وجوهاً :

الأوّل : أنّ الحكم في الاطلاق الشمولي يتعدد بتعدد الأفراد ، لثبوت الحكم لجميع الأفراد على الفرض المعبّر عنه بتعلق الحكم بالطبيعة السارية ، فينحل الحكم إلى الأحكام المتعددة على حسب تعدد الأفراد ، بخلاف الاطلاق البدلي ، فانّ الحكم فيه واحد متعلق بالطبيعة المعبّر عنه بتعلق الحكم بصرف الوجود ، غاية الأمر أنّه يصح للمكلف في مقام الامتثال تطبيق الطبيعة في ضمن أيّ فرد شاء وهو معنى الاطلاق البدلي ، فتقديم الاطلاق البدلي يوجب رفع اليد عن الحكم في الاطلاق الشمولي بالنسبة إلى بعض الأفراد ، بخلاف تقديم الاطلاق الشمولي ، فانّه لا يوجب رفع اليد عن الحكم في الاطلاق البدلي ، إذ لا تعدد فيه ، بل يوجب تضييق دائرته.

مثلاً إذا قال المولى : أكرم عالماً ولا تكرم الفاسق ، يكون الحكم في الاطلاق البدلي واحداً ، وهو وجوب إكرام فرد من العالم ، وفي الاطلاق الشمولي متعدداً وهو حرمة إكرام كل فرد من أفراد الفاسق على فرض تمامية مقدمات الحكمة ، فلو قدّمنا الاطلاق البدلي في مادة الاجتماع ـ وهو العالم الفاسق ـ لرفعنا اليد عن الحكم في الاطلاق الشمولي بالنسبة إلى هذا الفرد وهو العالم الفاسق ، بخلاف ما إذا قدّمنا الاطلاق الشمولي ، فانّه لا يوجب رفع اليد عن الحكم المذكور في الاطلاق البدلي بالنسبة إلى بعض الأفراد ، لأنّه ليس فيه إلاّحكم واحد ، غاية الأمر أنّه يوجب تضييق دائرته ، فيجب على المكلف في مقام الامتثال تطبيق الطبيعة بالعالم غير الفاسق ، هذا.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٣٦.

٤٥٥

وفيه أوّلاً : أنّه مجرد استحسان ، وقد ذكرنا أنّ الميزان في التقديم كون أحد الدليلين قرينةً على التصرف في الآخر بحسب فهم العرف ، كالدليل الحاكم بالنسبة إلى الدليل المحكوم ، والمقام ليس كذلك ، إذ الاطلاقان في مرتبة واحدة من الظهور ، لتوقف كليهما على جريان مقدمات الحكمة ، فمجرد كون تقديم أحدهما موجباً لرفع اليد عن الحكم دون الآخر لا يوجب كون الآخر قرينةً على التصرف فيه.

وثانياً : أنّ الاطلاق البدلي لا ينفك عن الاطلاق الشمولي أبداً ، فان قوله : أكرم عالماً ، حكم بوجوب إكرام فرد من العالم على البدل ، وهو يستلزم ترخيص العبد بتطبيق هذه الطبيعة في ضمن أيّ فرد شاء ، ولا خفاء في أنّ الحكم الترخيصي أيضاً من وظائف المولى ، فانّ له أن يمنع عن التطبيق في ضمن فرد خاص تحريماً أو تنزيهاً ، أو يجعل التطبيق في ضمن فرد مستحباً ، أو يرخّص المكلف في التطبيق في ضمن أيّ فرد شاء ، كما هو ظاهر الاطلاق ، فالحكم بوجوب إكرام فرد من العالم على البدل يدل على الترخيص بتطبيق طبيعة العالم في ضمن أيّ فرد شاء ، وهذا الحكم الترخيصي متعلق بالمطلق على نحو الشمول كما هو ظاهر ، فكما أنّ تقديم الاطلاق البدلي يوجب رفع اليد عن الحكم في الاطلاق الشمولي بالنسبة إلى بعض الأفراد ، كذلك تقديم الاطلاق الشمولي أيضاً يوجب رفع اليد عن الحكم بالنسبة إلى بعض الأفراد ، غاية الأمر أنّه يوجب رفع اليد عن الحكم الترخيصي لا الحكم الالزامي.

الثاني : أنّ الاطلاق البدلي يحتاج إلى مقدمة زائدة عما تجري في الاطلاق الشمولي من مقدمات الحكمة ، وهي إحراز كون الأفراد متساوية الأقدام في تحصيل غرض المولى ، والوجه في ذلك : أنّ الأفراد في الاطلاق الشمولي لا يلزم أن تكون متساوية الأقدام في الغرض ، بل قد تكون مختلفة كما إذا قال : لا تقتل

٤٥٦

أحداً ، فانّ ترك قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس مساوياً لترك قتل غيره في غرض المولى. وكذا إذا قال : لا تزن ، فانّ الزنا مع المحارم ليس مساوياً للزنا بغيرها ، والزنا مع ذات البعل ليس مساوياً للزنا بغير ذات البعل ، وهكذا في سائر الاطلاقات الشمولية ، بخلاف الاطلاق البدلي فانّ الأفراد فيه لا بدّ من أن تكون متساوية الأقدام في غرض المولى ، وإلاّ يقبح توجيه الحكم نحو الطبيعة على البدل ، بل لا بدّ من الحكم بالفرد الأقوى في الوفاء بالغرض ، فالاطلاق البدلي يحتاج إلى إحراز التسوية بين الأفراد ، وهي مقدمة زائدة على مقدمات الحكمة الجارية في الاطلاق الشمولي. والاطلاق الشمولي يوجب انتفاء هذه المقدمة ، فانّه يثبت عدم التسوية بين العالم الفاسق والعالم غير الفاسق ، فيسقط الاطلاق البدلي عن الحجية في مورد التعارض مع الاطلاق الشمولي.

وفيه : أنّ الاطلاق البدلي لا يحتاج في إحراز المساواة إلى مقدمة خارجية ، إذ نفس الاطلاق كافٍ لاثبات المساواة وأنّ جميع الأفراد وافٍ بغرض المولى ، لأ نّه لو كان بعض الأفراد وافياً بغرضه دون بعض آخر كان عليه البيان ، فانّ الاطلاق نقض لغرضه ، فكما أن نفس الاطلاق في المطلق الشمولي يدل على شمول الحكم لجميع الأفراد مع تمامية مقدمات الحكمة ، فكذا نفس الاطلاق في المطلق البدلي مع تمامية المقدمات المذكورة يدل على كون كل واحد من الأفراد وافياً بغرض المولى.

الوجه الثالث : ما يرجع إلى الوجه الثاني باختلاف بينهما في مجرد العبارة ، وهو أن تمامية الاطلاق في المطلق البدلي متوقفة على عدم المانع ، إذ مع ثبوت المانع عن تطبيق الطبيعة في ضمن فرد من الأفراد ، لا يصح التمسك بالاطلاق في الاكتفاء بتطبيق الطبيعة في ضمن هذا الفرد ، والاطلاق الشمولي صالح للمانعية عن الاطلاق البدلي ، والتمسك في دفع مانعيته بالاطلاق البدلي مستلزم للدور ،

٤٥٧

فان تمامية الاطلاق متوقفة على عدم المانع ، فلو توقف عدم مانعية الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي ، لزم الدور.

ويظهر الجواب عنه مما ذكرنا في الجواب عن سابقه ، فان تمامية الاطلاق وانعقاد الظهور للمطلق البدلي مع تمامية مقدمات الحكمة غير متوقفة على عدم المانع ، غاية الأمر أنّ الاطلاق الشمولي مانع عن العمل بالاطلاق البدلي ، كما أنّ الاطلاق البدلي مانع عن العمل بالاطلاق الشمولي ، لعدم إمكان العمل بكليهما ، فيكون بينهما التمانع ، وهذا شأن كل دليلين متعارضين.

وبالجملة : توقف جواز العمل بالاطلاق البدلي على عدم المانع صحيح ، إلاّ أنّه غير مختص به ، فانّ العمل بالاطلاق الشمولي أيضاً متوقف على عدم المانع ، إذ العمل بكل دليل موقوف على عدم المانع ، وكما أنّ الاطلاق الشمولي مانع عن العمل بالاطلاق البدلي ، كذلك الاطلاق البدلي مانع عن العمل بالاطلاق الشمولي ، وهو معنى التعارض.

ومنها : دوران الأمر بين النسخ والتخصيص ، فقالوا بتقديم التخصيص على النسخ. ثمّ إن دوران الأمر بين النسخ والتخصيص تارةً يكون بالنسبة إلى دليل واحد ، فيدور الأمر بين كونه ناسخاً أو مخصصاً ، كما إذا ورد الخاص بعد العام فيدور الأمر بين كون الخاص ناسخاً للعام بأن يكون حكم العام شاملاً لجميع الأفراد من أوّل الأمر ، لكنّه نسخ بالنسبة إلى بعض الأفراد بعد ورود الخاص ، وبين كونه مخصصاً له بأن يكون حكم العام مختصاً بغير أفراد الخاص من أوّل الأمر. واخرى يكون بالنسبة إلى دليلين ، أي يدور الأمر بين كون دليلٍ مخصصاً لدليل آخر وبين كون الدليل الآخر ناسخاً له ، كما إذا ورد العام بعد الخاص فيدور الأمر بين كون الخاص مخصصاً للعام وكون العام ناسخاً للخاص.

٤٥٨

أمّا الصورة الاولى : فليس البحث عنها مثمراً بالنسبة إلينا ، فانّ العمل بالخاص متعيّن ، سواء كان مخصصاً أو ناسخاً ، فاذا ورد عن الباقر عليه‌السلام أنّ الله سبحانه خلق الماء طاهراً لم ينجسه شيء ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة (١) ، ثمّ ورد عن الصادق عليه‌السلام أنّ الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شيء (٢) ، المستفاد منه انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة ، لا يجوز لنا الوضوء بالماء القليل الملاقي للنجاسة ، وإن لم نعلم كونه ناسخاً أو مخصصاً لما صدر عن الباقر عليه‌السلام نعم من عمل بالعام وتوضأ بالماء القليل الملاقي للنجاسة ، وبقي إلى زمان ورود الخاص ، يثمر هذا البحث بالنسبة إليه ، فانّه على القول بكون الخاص ناسخاً تصح أعماله السابقة ، وعلى القول بكونه مخصصاً ينكشف بطلانها ، لوقوع وضوئه بالماء النجس.

وبالجملة : لا تترتب ثمرة عملية على هذا البحث بالنسبة إلينا فينبغي الاضراب عنه.

وأمّا الصورة الثانية : فتترتب عليها الثمرة بالنسبة إلينا ، إذ لو ورد العام المذكور في المثال بعد الخاص ، لا يجوز لنا التوضي بالماء القليل الملاقي للنجاسة على القول بكون الخاص مخصصاً للعام ، ويجوز التوضي به على القول بكون العام ناسخاً للخاص ، وكذا ترتيب سائر آثار الطهارة. وتوهم عدم إمكان النسخ بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لانقطاع الوحي ، مدفوع بما ذكرناه في محله : من أنّ النسخ في الحكم الشرعي هو بيان أمد الحكم (٣) ، وهو ممكن بعد

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٥ / أبواب الماء المطلق ب ١ ح ٩.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ وغيره.

(٣) راجع ص ١٧٧ من هذا الكتاب وراجع محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٤٩١.

٤٥٩

انقطاع الوحي ، بأن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر الإمام عليه‌السلام بأنّ أمد الحكم الفلاني إلى زمان كذا ، فيبيّنه الإمام عليه‌السلام ولا نعني بالنسخ في الأحكام الشرعية إلاّهذا المعنى ، ففي مثل ذلك يدور الأمر بين الأخذ بظاهر الخاص وهو استمرار الحكم الثابت به ، فتكون النتيجة التخصيص ، وبين الأخذ بظاهر العام وهو شمول الحكم لجميع الأفراد ، فتكون النتيجة النسخ. فذكروا في ذلك أنّ التخصيص مقدّم على النسخ لكثرته حتى قيل : ما من عام إلاّوقد خص.

واورد عليه بأن كثرة التخصيص لا توجب إلاّالظن به ، ومجرد الظن لا يكفي ما لم تكن قرينة على التخصيص بحسب متفاهم العرف.

ولذا غيّر صاحب الكفاية (١) اسلوب الكلام ، وقال : إنّ كثرة التخصيص توجب أقوائية ظهور الخاص من ظهور العام ، فتقديم التخصيص على النسخ إنّما هو لأجل الأخذ بأقوى الظهورين ، لا لمجرد الكثرة.

وأورد عليه المحقق النائيني (٢) قدس‌سره بأنّ الخاص في نفسه لا يدل على الاستمرار ، إذ الدليل على ثبوت الحكم لا يكون متكفلاً لبيان استمراره ، لأنّ الدليل على ثبوت حكم لا يدل على عدم نسخه واستمراره ، ضرورة أن جعل الحكم ـ بأيّ كيفية كان ـ قابل للنسخ فيما بعد ، فلا يمكن إثبات استمراره بالدليل الأوّل عند الشك في نسخه ، بل لا بدّ من التمسك باستصحاب عدم النسخ ، فيدور الأمر بين العمل بالاستصحاب والعمل بعموم العام ، والمتعين

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٥١.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ، راجع أيضاً فوائد الاصول ٤ : ٧٣٩ ـ ٧٤٠.

٤٦٠