موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

كلامه : أنّ الموضوع في الموارد المزبورة بما أنّه مركب من جزأين لا يفرق الحال في ترتب الحكم بين إحراز كلا الجزأين بالوجدان ، وإحراز أحدهما بالوجدان ، والآخر بالأصل ، فاذا تحقق الفسخ في الخارج وشك في حدوثه في أوّل زمان الخيار ـ بناءً على فوريته ليكون مؤثراً ـ أو بعده لكي لايكون مؤثراً ، فيستصحب الخيار إلى زمان وقوع الفسخ فيلتئم الموضوع المركب منهما ، ويترتب عليه انفساخ العقد ، وكذلك يستصحب بقاء الجزء المتيقن في جميع تلك الموارد إلى زمان تحقق الجزء الآخر ، ويترتب عليه حكمه ، فيحكم بنجاسة الماء في الفرض المزبور وبصحة الصلاة لاستصحاب بقاء قلة الماء إلى زمان ملاقاة النجاسة ، واستصحاب بقاء الطهارة إلى زمان تحقق الصلاة ، وهكذا.

لا يقال : إنّ الأصل المذكور معارض بأصل آخر ، وهو عدم حدوث الجزء الثاني إلى انقضاء زمان الجزء الأوّل ، وأنّ الأصل عدم تحقق الفسخ في الخارج إلى انقضاء زمان الخيار ، والأصل عدم وجود الصلاة إلى زمان حدوث الحدث ، والأصل عدم ملاقاة النجاسة إلى زمان الكرية ، وهكذا بقية الموارد.

فانّه يقال : إنّ عدم تأثير الفسخ وبطلان الصلاة وعدم تنجس الماء بالملاقاة مترتبة على وقوع الفسخ بعد انقضاء زمان الخيار ، ووقوع الصلاة بعد زوال الطهارة ، ووقوع الملاقاة بعد حصول الكرية ، ومن الظاهر أنّ أصالة عدم حصول الفسخ في زمان الخيار ، وأصالة عدم وقوع الصلاة في زمان الطهارة ، وأصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرية لا يترتب عليها شيء مما ذكر ، إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، وبما أنّا لا نقول به ، فلا معارض لاستصحاب بقاء الجزء المتيقن إلى زمان حدوث الجزء الثاني ، هذا.

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ الحادثين اللذين يتركب منهما موضوع الحكم أو متعلقه قد يكون كلاهما زمانياً من دون دخل شيء آخر في موضوع

٢٤١

الحكم أو متعلقه سوى وجود أحدهما في زمان وجود الآخر ، وقد يكون أحدهما زماناً والآخر زمانياً لم يعتبر فيه إلاّوجوده في ذلك الزمان من دون اعتبار عنوان آخر فيه ، وقد يكونان على نحو اخذ أحدهما مقيّداً بعنوان خاص زائداً على وجود أحدهما مع فرض وجود الآخر.

أمّا الصورة الاولى : فلا شبهة في لزوم ترتيب الأثر فيما إذا أحرزنا أحد الحادثين بالوجدان والآخر بالأصل ، كما إذا تحقق الفسخ في الخارج وشك في وقوعه في أوّل زمان خيار العيب أو بعده ، فانّا إذا أحرزنا بقاء الخيار إلى زمان الفسخ ، ترتب عليه نفوذ الفسخ من غير احتياج إلى شيء آخر ، بداهة أنّ المستفاد من الأدلة هو نفوذ الفسخ بوقوعه في الخارج مع بقاء الخيار ، والمفروض إحراز ذلك بضم الوجدان إلى الأصل ، فانّ الفسخ وجداني ، وبقاء الخيار محرز بالاستصحاب ، ولم يعتبر في الموضوع غير ذلك.

وتوهم معارضته باستصحاب عدم تحقق الفسخ في زمان الخيار باطل ، لا لما ذكر من أنّه مثبت ، فانّه مبني على كون عدم نفوذ الفسخ مترتباً على وقوعه في غير زمان الخيار ، مع أنّه ليس كذلك ، لأنّه مترتب على عدم وقوعه في زمان الخيار من غير حاجة إلى إثبات وقوعه في غيره ، بداهة أنّ أثر العقد باقٍ على حاله ما لم يصدر الفسخ في زمان الخيار.

بل لأنّ الفسخ قد تحقق خارجاً في زمان حكم الشارع بكونه زمان الخيار ، فلا شك لنا في تحققه في ذلك الزمان ليحكم بعدمه.

وبعبارة اخرى : بعد فرض أنّه لم يؤخذ في موضوع الحكم غير تحقق الفسخ في الخارج وبقاء زمان الخيار ، فاذا حكم الشارع ببقاء زمان الخيار ، وعلم بتحقق الفسخ ، لم يبق شك في تحقق موضوع الحكم ، فلا مجال لاجراء أصالة عدم الفسخ في زمان الخيار.

٢٤٢

ومما يدل على ذلك : أنّه لو كان الأصل المزبور جارياً لجرى حتى مع عدم العلم بانقضاء زمان الخيار ، فتعارض به أصالة بقاء الخيار إلى زمان الفسخ ، مع أنّه لا يمكن الالتزام به ، مثلاً إذا شككنا في بقاء الخيار وسقوطه ، جرى استصحاب بقائه وعدم انقضائه ، فلو فسخ المشتري ـ والحال هذه ـ لحكمنا بنفوذ الفسخ ، مع أنّه على التوهم المزبور أمكن الالتزام بمعارضته باستصحاب عدم تحقق الفسخ في زمان الخيار.

وهكذا الحال في بقية الموارد المتقدمة ، فانّ استصحاب بقاء الطهارة إلى زمان الصلاة أو استصحاب بقاء القلة إلى زمان الملاقاة ، لا يمكن معارضته باستصحاب عدم تحقق الصلاة في زمان الطهارة أو باستصحاب عدم الملاقاة في زمان القلة ، وإلاّ كان الاستصحابان متعارضين ولو مع الشك في حدوث الكرية والحدث ، ومن الظاهر أنّ القائل بالمعارضة في المقام لا يلتزم به.

وأمّا الصورة الثانية : أعني بها ما كان الموضوع مركباً من ذات الزمان والزماني ، فلا شبهة فيها أيضاً في إثبات أحد الجزأين الذي هو الزمان بالأصل ، والجزء الآخر الذي هو الزماني بالوجدان ، فيلتئم الموضوع المركب منهما ، ويترتب عليه الحكم ، وذلك كما إذا شك في أنّ الفسخ في خيار الحيوان هل وقع قبل الثلاثة أو بعدها ، فانّه يحكم حينئذ ببقاء الثلاثة وعدم انقضائها فيترتب عليه انفساخ العقد ، فانّ الظاهر من قوله عليه‌السلام : «صاحب الحيوان ـ المشتري ـ بالخيار ثلاثة أيام» (١) هو أنّ موضوع انحلال العقد مركب من فسخ المشتري وعدم انقضاء ثلاثة أيام ، بمعنى وقوع الفسخ في زمان لم تنقض فيه ثلاثة أيام من زمان العقد ، فاذا أحرز هذا بالتعبد الشرعي ، حكم بنفوذ

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٠ / أبواب الخيار ب ٣ ح ٢.

٢٤٣

الفسخ ، ولا يعارض استصحاب بقاء الثلاثة باستصحاب عدم وقوع الفسخ في ضمن الثلاثة ، وإلاّ تحققت المعارضة فيما إذالم يعلم انقضاء الثلاثة أيضاً ، ولا يلتزم به. وبالجملة حال الاستصحاب في هذا القسم حاله في القسم الأوّل بعينه ، وبذلك يظهر الحال في بقية الموارد.

وأمّا الصورة الثالثة : أعني بها ما إذا كان موضوع الحكم مركباً من حادثين مع تقيد أحدهما بعنوان خاص ، فلا يمكن فيها إحراز أحد الجزأين بالأصل والآخر بالوجدان ، كي يلتئم الموضوع المركب منهما ، فيترتب عليه الأثر ، والوجه في ذلك : أنّ استصحاب الزمان مثلاً لا يثبت ذلك العنوان ليترتب عليه الأثر الشرعي ، إلاّعلى القول بحجية الاصول المثبتة. وعليه فلا وجه هنا لمنع جريان الأصل بمعارضته بأصالة عدم وقوع الزماني فيه ، لما عرفت من عدم جريان استصحاب الزمان فيه في نفسه ، فلا تصل النوبة إلى المعارضة.

وبالجملة : استصحاب الزمان أو الزماني لاحراز الموضوع المركب منه ومن جزء آخر ، إمّا أن لايكون جارياً في نفسه ، وإمّا أن لايكون معارضاً باستصحاب عدم الجزء الآخر في زمانه.

ثمّ إنّه لا يفرق الحال في هذه الصور الثلاث بين ما إذا كان تاريخ أحدهما معلوماً ، وما إذا كان تاريخ كليهما مجهولاً كما هو واضح. انتهى نص كلامه (حفظه الله تعالى).

أقول : لم يبيّن وجه عدم الفرق إيكالاً إلى وضوحه ، وقد تقدم الوجه فيه في كلامنا (١) من أنّه لا فرق في جريان الاستصحاب بين معلوم التاريخ ومجهوله.

__________________

(١) في ص ٢٢٩ ـ ٢٣٢.

٢٤٤

هذا تمام الكلام في أصالة تأخر الحادث فيما كان الموضوع مركباً من عدم أحد الحادثين ووجود الآخر.

وأمّا إذا كان الموضوع بسيطاً ، كما إذا علمنا بوجود الحدث والطهارة منه وشككنا في المتقدم منهما ، فاختار صاحب الكفاية (١) قدس‌سره عدم جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ.

أمّا إذا كان أحدهما معلوم التاريخ والآخر مجهوله ، فاختار أيضاً عدم جريان الاستصحاب في خصوص مجهول التاريخ ، لما ذكره سابقاً من عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، غاية الأمر أن عدم إحراز الاتصال في المسألة السابقة إنّما هو لعدم إحراز زمان الشك ، وفي المقام لعدم إحراز زمان اليقين.

وذلك لأنّ الاستصحاب الجاري في المسألة السابقة كان عدمياً ، وزمان اليقين بعدم الحادثين كان معلوماً ، إنّما الشك في بقاء هذا العدم في زمان وجود الحادث الآخر ، وحيث إنّ زمان وجود الحادث الآخر غير معلوم لنا ، فلا محالة زمان الشك غير معلوم لنا ، فلم يحرز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، بخلاف المقام فانّ الاستصحاب الجاري فيه وجودي ، وزمان الشك في البقاء معلوم ، لكن زمان اليقين بالحدوث غير معلوم لكونه مجهول التاريخ على الفرض ، فلم يحرز اتصال زمان اليقين بزمان الشك.

وفيه : ما تقدم (٢) من أنّه لا يعتبر في جريان الاستصحاب اتصال زمان الشك واليقين بالمعنى المذكور ، بل الميزان في الاستصحاب هو اليقين الفعلي بالحدوث مع الشك في البقاء على ما تقدم بيانه ، ولا يعتبر في جريان

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٢١ ـ ٤٢٢.

(٢) في ص ٢٢١.

٢٤٥

الاستصحاب كون زمان الحدوث معلوماً بالتفصيل ، فانّا لو علمنا بحدوث الطهارة ولم نعلم بكونها حادثةً في الساعة الاولى من النهار أو الساعة الثانية أو الثالثة ، وشككنا في بقائها أوّل الظهر مثلاً ، فهل يمكن المنع عن جريان الاستصحاب لعدم إحراز زمان الحدوث ، ولا يلتزم هو قدس‌سره أيضاً بعدم جريانه في المثال المذكور ، فيعلم أنّ مناط الاستصحاب إنّما هو اليقين الفعلي بالحدوث مع الشك في البقاء لا اليقين السابق ، فلا دخل لمعلومية زمان اليقين السابق أو مجهوليته في الاستصحاب.

فتحصل مما ذكرناه في المقام : أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب في نفسه في مجهولي التاريخ ، ولا في معلومه ، ولكنّه يسقط بالمعارضة ، لعدم إمكان التعبد بالمتضادين معاً ، والالتزام بالطهارة والحدث في آن واحد ، وبعد سقوط الاستصحاب للمعارضة لا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر من الاشتغال أو البراءة ، وذلك يختلف باختلاف الموارد ، ففي مثل الصلاة لا بدّ من الوضوء تحصيلاً للفراغ اليقيني ، لكون الاشتغال يقينياً. وفي مثل مس المصحف تجري البراءة عن الحرمة. وكذا إذا علمنا بوجود الجنابة والغسل وشككنا في المتقدم منهما ، فبالنسبة إلى الصلاة يكون مورد قاعدة الاشتغال ، وبالنسبة إلى المكث في المسجد يكون مورد البراءة. وبالجملة : كل مورد علم توجه التكليف فيه وشك في مقام الامتثال ، فهو من موارد قاعدة الاشتغال ، وكل مورد شك في التكليف يكون من موارد البراءة ، هذا كله في الطهارة من الحدث وما قابلها.

وأمّا الطهارة من الخبث وما قابلها ، فلا ينبغي الاشكال في أنّه بعد تساقط الاستصحاب للمعارضة ، يكون المرجع هو قاعدة الطهارة المستفادة من قوله

٢٤٦

(عليه‌السلام) : «كل شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر» (١) فاذا علمنا بطهارة ماء ونجاسته ، وشككنا في المتقدم منهما ، يكون المرجع بعد تساقط الاستصحابين هو أصالة الطهارة ، فيترتب جميع آثار الطهارة بالتعبد الشرعي.

ثمّ لايخفى أنّ الاستصحاب الجاري في معلوم التاريخ يكون من الاستصحاب الشخصي ، وهو واضح. وأمّا الاستصحاب الجاري في مجهول التاريخ فتارةً يكون من القسم الثاني من استصحاب الكلي واخرى من القسم الرابع منه ، بيان ذلك : أنّه إن كان معلوم التاريخ موافقاً للحالة السابقة على الحالتين ، كما إذا قام أحد من النوم في الساعة الاولى من النهار ، ثمّ صدر منه وضوء وبول مثلاً وشك في المتقدم منهما مع العلم بأنّ البول صدر منه في الساعة الثالثة من النهار ، ولكنّه لا يدري أنّ الوضوء هل صدر في الساعة الثانية أو الرابعة ، فيكون استصحاب الحدث من الاستصحاب الشخصي ، واستصحاب الطهارة من القسم الثاني من استصحاب الكلي ، لأنّ الطهارة إن كانت صادرةً في الساعة الثانية فقد ارتفعت يقيناً ، وإن كانت في الساعة الرابعة فهي باقية يقيناً ، فتكون الطهارة مرددة بين متيقن الارتفاع ومشكوك الحدوث ، وهو المورد للقسم الثاني من استصحاب الكلي.

وأمّا إن كان معلوم التاريخ مخالفاً للحالة السابقة ، كما إذا علم بتحقق الوضوء في الساعة الثالثة في المثال السابق ، ولم يعلم بأنّ البول صدر في الساعة الثانية أو الرابعة ، فيكون الاستصحاب الجاري في الطهارة من الاستصحاب الشخصي ، واستصحاب الحدث من القسم الرابع من استصحاب الكلي ، لأنّ الحدث المتيقن أوّلاً ـ وهو حدث النوم ـ قد ارتفع بالوضوء يقيناً ، وهو يعلم بتحقق حدث

__________________

(١) المستدرك ٢ : ٥٨٣ / أبواب النجاسات ب ٣٠ ح ٤.

٢٤٧

عند البول ، ولكنّه لا يدري أنّه حدث النوم أو حدث آخر حادث بالبول ، لأنّه لو كان صدور البول في الساعة الثانية فالحدث المتحقق عند البول هو حدث النوم المرتفع بالوضوء ، لأنّ البول بعد النوم مما لا أثر له ، ولا يوجب حدثاً آخر ، ولو كان صدور البول في الساعة الرابعة ، فالحدث المتحقق عند البول حدث جديد ، فلنا يقين بفردٍ من الحدث ـ وقد ارتفع يقيناً ـ ويقينٌ بحدثٍ بعنوان آخر ـ وهو المتحقق عند البول ـ ويحتمل انطباق هذا العنوان على الفرد المرتفع وعلى غيره ، فيكون باقياً ، وهذا هو المورد للقسم الرابع من استصحاب الكلي على ما ذكرناه عند التعرض لأقسام استصحاب الكلي فراجع (١).

ثمّ إنّه إذا اشتبه إناء من الماء الطاهر باناء من الماء النجس ، فقد ورد في النص (٢) الأمر باهراقهما والتيمم ، فذكر صاحب الكفاية (٣) قدس‌سره في مبحث اجتماع الأمر والنهي : أنّ هذا الحكم المنصوص ليس حكماً تعبدياً على خلاف القاعدة ، بل لا يصح الوضوء بهما مع قطع النظر عن النص ، فانّه لو توضأ بأحدهما ثمّ غسل بالآخر مواضع الوضوء فتوضأ به ، لا يجوز له الدخول في الصلاة ، لأنّه يعلم تفصيلاً بنجاسة بدنه حين وصول الماء الثاني إمّا لنجاسة الماء الأوّل ، وإمّا لنجاسة الماء الثاني ، ويشك في حصول الطهارة بعد انفصال الغسالة ، ومقتضى الاستصحاب هو الحكم ببقاء النجاسة ، فلا يجوز له الدخول في الصلاة ، انتهى ملخّصاً.

أقول : هذا الذي ذكره صحيح على مسلكه من عدم جريان الاستصحاب

__________________

(١) ص ١٢٤ ، ١٤١.

(٢) الوسائل ١ : ١٥١ / أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ٢.

(٣) كفاية الاصول : ١٧٩.

٢٤٨

في مجهول التاريخ ، وأمّا على المختار ـ من عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين معلوم التاريخ ومجهوله ـ فيكون الحكم المذكور على خلاف القاعدة ، فان استصحاب النجاسة معارض باستصحاب الطهارة ، لأنّه كما يعلم بنجاسة بدنه بمجرد وصول الماء الثاني ، كذلك يعلم بطهارة بدنه أيضاً حين التوضي بالماء الطاهر ، وإن كان لا يدري أنّ الماء الطاهر هو الثاني أو الأوّل ، إذ لو كان الماء الأوّل طاهراً فبدنه طاهر حين التوضي به ـ كما هو واضح ـ ولو كان الماء الثاني طاهراً فكذلك بدنه طاهر حين التوضي به ، لأنّه طهَّر بدنه به قبل التوضي به على الفرض ، غاية الأمر أنّ تاريخ الطهارة مجهول ، وبعد تساقط الاستصحابين ـ للمعارضة ـ يكون المرجع أصالة الطهارة ، فمقتضى القاعدة صحة الوضوء على الكيفية المذكورة وجواز الدخول في الصلاة.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ العلم الاجمالي مانع عن الدخول في الصلاة بالوضوء على الكيفية المذكورة ، فانّ وصول الماء إلى الأعضاء تدريجي ، فبمجرد وصول الماء إلى وجهه مثلاً يعلم إجمالاً بنجاسة وجهه أو رجله ، إذ لو كان الماء الأوّل نجساً كانت رجله نجسة في هذا الحال ، ولو كان الماء الثاني نجساً كان وجهه نجساً ، ولا دافع لهذا العلم الاجمالي بعد كون الاستصحاب مبتلىً بالمعارض ، فيكون الحكم المنصوص على وفق القاعدة من هذه الجهة ، لا من جهة الاستصحاب على ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ العلم الاجمالي المذكور غير مانع عن الوضوء بهما مع تكرار الصلاة ، بأن توضأ بأحدهما وصلى ، ثمّ غسل المواضع بالآخر وتوضأ به وصلى ، فانّه حينئذ يعلم تفصيلاً باتيان صلاة صحيحة ، ولا أثر للعلم الاجمالي المذكور بعد العلم بصحة الصلاة.

إلاّأن يقال : إنّ التوضي بهما على الكيفية المذكورة حرج على المكلف ، إذ

٢٤٩

يجب عليه تطهير بدنه وثوبه وغيرهما مما وصل إليه ماء الوضوء للصلوات الآتية ، إذ كل ما وصل إليه ماء الوضوء من البدن والثوب يكون طرفاً للعلم الاجمالي ، ولكنّه قد ذكرنا غير مرّة (١) أنّ الحرج شخصي ، فيكون الحكم المنصوص مطابقاً للقاعدة بالنسبة إلى من يوجب التوضي بهما ـ على الكيفية المذكورة ـ حرجاً عليه دون غيره ، كمن يعلم بأ نّه يتمكن من تطهير بدنه وثوبه بماء جارٍ بلا لزوم حرج عليه.

فتحصّل مما ذكرناه : أنّ الحكم المنصوص تعبدي إلاّفي بعض الموارد من جهة الحرج.

التنبيه الحادي عشر

في استصحاب الصحة عند الشك في المانع.

إعلم أنّه ذكر الشيخ (٢) قدس‌سره ما ملخصه : أنّه إذا شك في مانعية شيء للصلاة مثلاً ، لا يجري استصحاب الصحة لرفع الشك في مانعية هذا الشيء ، لأنّ الصحة ـ بمعنى تمامية مجموع الأجزاء والشرائط ـ مشكوكة الحدوث ، لاحتمال اعتبار هذا الجزء العدمي فيها ، فلا علم لنا بحدوث الصحة حتى نحكم ببقائها للاستصحاب.

وأمّا صحة الأجزاء السابقة التي هي عبارة عن الصحة التأهلية ، بمعنى كونها قابلةً لانضمام باقي الأجزاء إليها ، فهي لا تكون محتملة الارتفاع ، بل هي

__________________

(١) راجع على سبيل المثال شرح العروة ٦ : ١٢٣.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٦٧٠ ـ ٦٧١ / التنبيه الثامن من تنبيهات الاستصحاب.

٢٥٠

باقية يقيناً ، فانّ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه ، فلا مجال لجريان الاستصحاب إلاّ على نحو التعليق ، بأن يقال : إنّ الأجزاء السابقة لو كان قد انضم إليها سائر الأجزاء قبل حدوث هذا الشيء لحصل الامتثال ، فالآن كما كان. هذا كله في الشك في المانع الذي هو عبارة عما اعتبر عدمه في الصلاة.

وأمّا إذا شك في القاطع الذي هو عبارة عما يوجب قطع الاتصال ونقض الهيئة الاتصالية المعتبرة في الصلاة ، فانّ تعبير الشارع عن بعض ما اعتبر عدمه في الصلاة بالقواطع كالحدث والقهقهة يدل على أنّ للصلاة هيئةً اتصالية ينافيها حدوث بعض الأشياء خلال أجزائها ، فكما أنّ للمركبات الخارجية هيئة اتصالية بحيث لو انقطع الاتصال لم يصدق اسم المركب عليها كالسرير ، فانّه على تقدير انفصال أجزائه لا يسمى سريراً ، بل يسمى خشباً ، كذلك للمركبات الاعتبارية كالصلاة مثلاً هيئة اتصالية باعتبار من الشارع ، فاذا شك في قاطعية شيء لها ، فلا مانع من جريان الاستصحاب والحكم ببقائها ، ويتفرع عليه عدم وجوب استئناف الأجزاء السابقة ، انتهى ملخّصاً.

أقول : أمّا ما ذكره من عدم جريان الاستصحاب عند الشك في المانعية ، فمتين جداً ، ولا يمكن جريان استصحاب الصحة إلاّعلى نحو التعليق ، وقد تقدم (١) عدم حجية الاستصحاب التعليقي ولا سيما في الموضوعات كما في المقام.

وأمّا ما ذكره من جريان الاستصحاب عند الشك في القاطع ، فغير تام لوجوه :

الأوّل : أنّ القاطع ليس إلاّهو المانع بعينه ، فانّ الامور المعتبرة في الصلاة إمّا وجودية كالقيام والركوع والسجود وغيرها ، وإمّا عدمية كعدم القهقهة ، وما

__________________

(١) في التنبيه السادس ص ١٦١ وما بعدها.

٢٥١

اعتبر عدمه يعبّر عنه بالمانع ، ولم يعتبر سوى هذه الامور ـ الوجودية والعدمية ـ شيء في الصلاة يسمى بالقاطع ، ولا نضايق عن الفرق بين المانع والقاطع اصطلاحاً ، فانّ الامور العدمية المعتبرة في الصلاة على قسمين : قسم منها ما اعتبر عدمه في حال الاشتغال بالأجزاء الوجودية فقط كالحركة فانّ عدمها ـ المعبّر عنه بالطمأنينة ـ معتبر في حال الاشتغال بالقراءة والذكر مثلاً ، ولا بأس بها في الأكوان المتخللة بين الأجزاء الوجودية ، وقسم منها ما اعتبر عدمه مطلقاً كالحدث والقهقهة ، فيعبّرون عن الأوّل بالمانع ، وعن الثاني بالقاطع ، وهذا مجرد اصطلاح لا يوجب الفرق في جريان الاستصحاب.

الثاني : أنّه على فرض تسليم كون القاطع غير المانع ، وأ نّه ناقض للهيئة الاتصالية المعتبرة في الواجب ، نقول : إنّ ما سمي بالقاطع هل اعتبر عدمه في الصلاة أو لا؟ لا يمكن الالتزام بالثاني بالضرورة ، فانّه بعد اعتبار الهيئة الاتصالية في الصلاة وكون هذا الشيء قاطعاً لها ، لا يمكن الالتزام بأن عدمه غير معتبر في الصلاة ، فانّه مساوق للالتزام بعدم اعتبار الهيئة الاتصالية في الصلاة وهو خلف ، فتعيّن الأوّل ، فيكون القاطع ذا حيثيتين : فمن حيث إنّه اعتبر عدمه في الصلاة يكون مانعاً ، ومن حيث إنّ وجوده ناقض للهيئة الاتصالية يكون قاطعاً ، فلو سلّمنا جريان الاستصحاب فيه من الحيثية الثانية ، لا يجري الاستصحاب فيه من الحيثية الاولى ، فلا يصح القول بجريان الاستصحاب فيه بقول مطلق.

الثالث : أنّه على فرض تسليم كون القاطع غير المانع ، وأ نّه ليس فيه إلاّ حيثية واحدة ، يرد على جريان الاستصحاب في الهيئة الاتصالية عين الاشكال الذي ذكره الشيخ قدس‌سره في جريان الاستصحاب عند الشك في المانع ، فنقول : إن كان المراد جريان الاستصحاب في الهيئة الاتصالية لمجموع الأجزاء ،

٢٥٢

فهي مشكوكة الحدوث ، فلا معنى لجريان الاستصحاب فيها ، وإن كان المراد جريان الاستصحاب في الهيئة الاتصالية للأجزاء السابقة ، فهي غير محتملة الارتفاع ، لأنّ الشيء لا ينقلب عما وقع عليه ، هذا كله في الشبهات الحكمية.

وأمّا الشبهات الموضوعية ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيها ، سواء كان الشك في وجود المانع بعد الفراغ عن كونه مانعاً ، كما إذا شككنا في وجود البكاء مثلاً ، أو كان الشك في مانعية الموجود ، كما إذا شككنا في أنّ الذي صدر من المصلي كان بكاءً أم لا ، ففي كلتا الصورتين تكون الأجزاء الوجودية محرزة بالوجدان ، والجزء العدمي محرز بالأصل ، فيحكم بصحة الصلاة ، كما ذكرنا (١) نظير ذلك في استصحاب وجود الشرط ، كالطهارة من الحدث فانّ المشروط ـ وهو الصلاة ـ محرز بالوجدان ، والشرط محرز بالأصل ، فبضميمة الوجدان إلى الأصل يحكم بصحة الصلاة.

التنبيه الثاني عشر

في جريان الاستصحاب في الامور الاعتقادية وعدمه ، وقد ذكرنا أنّ جريان الاستصحاب منوط باليقين بالحدوث والشك في البقاء ، وكون الأثر قابلاً للتعبد ، فبعد تمامية هذه الامور يجري الاستصحاب ، سواء كان المستصحب من الامور الخارجية ، أم من الامور النفسانية.

وتوهم اختصاصه بالامور الخارجية لكونه من الاصول العملية ، فلا يجري إلاّ في أفعال الجوارح المعبّر عنها بالأعمال ، مدفوع بأنّ معنى كونه من الاصول

__________________

(١) في ص ٢١٣.

٢٥٣

العملية أنّه ليس من الأدلة الاجتهادية التي هي كاشفة عن الواقع ، فانّ الاصول العملية وظائف عملية للجاهل بالواقع ، وليست كاشفةً عنه ، لا أنّها مختصة بالامور الجوارحية ، فلو كان التباني القلبي على شيء واجباً ، وشككنا في بقائه من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية ، لا مانع من جريان الاستصحاب.

نعم ، لا مجال لجريان الاستصحاب في الامور التي يجب فيها الاعتقاد والمعرفة كالنبوة مثلاً ، لعدم كون الأثر حينئذ قابلاً للتعبد ، فلا يترتب على الاستصحاب.

ومما ذكرنا ظهر الجواب عن استدلال الكتابي لاثبات دينه بالاستصحاب ، وتفصيل الكلام في المقام : أنّ استدلال الكتابي لا يخلو من وجهين : فامّا أن يكون استدلاله لمعذوريته في البقاء على اليهودية ، وإمّا أن يكون لالزام المسلمين ودعوتهم إلى اليهودية.

فإن كان مراده الأوّل ، فنقول له : أنت شاك في بقاء نبوّة نبيك أم لا؟

فان اختار الثاني ، فلا معنى للاستصحاب وهو ظاهر ، وإن اختار الأوّل ، فنقول له : لا بدّ لك من الفحص ، فانّ النبوّة ليست بأقل من الفروع التي يتوقف جريان الاستصحاب فيها على الفحص ، وبعد الفحص يصل إلى الحق ويزول الشك عنه ، فان (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ)(١) ، وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(٢) ومع فرض بقاء شكه لا فائدة في الاستصحاب ، لكون النبوة من الامور التي تجب المعرفة بها ، فليست قابلة للتعبد الاستصحابي ، ومع

__________________

(١) الأنعام ٦ : ١٤٩.

(٢) العنكبوت ٢٩ : ٦٩.

٢٥٤

فرض كفاية الظن فيها ، نقول : الاستصحاب لا يفيد الظن أوّلاً ، ولا دليل على حجية الظن الحاصل منه ثانياً ، هذا كله في استصحاب النبوة.

وأمّا استصحاب بقاء أحكام الشريعة السابقة ، فغير جارٍ أيضاً إذ نقول له : إن كنت متيقناً على بقاء أحكام الشريعة السابقة ، فلا معنى للاستصحاب وهو واضح ، وإن كنت شاكاً فيه ، فلا بدّ من الفحص كما تقدم ، وعلى فرض الفحص وبقاء الشك ، لا يجري الاستصحاب إلاّفيما إذا ثبت حجية الاستصحاب في الشريعتين ، لأنّه إن كان الاستصحاب حجةً في الشريعة السابقة فقط ، لا يمكن التمسك بالاستصحاب لبقاء أحكام الشريعة السابقة ، إذ حجية الاستصحاب من جملة تلك الأحكام ، فيلزم التمسك به لاثبات بقاء نفسه ، وهو دور ظاهر. وإن كان الاستصحاب حجةً في الشريعة اللاحقة فقط ، فصحة التمسك بالاستصحاب لاثبات بقاء أحكام الشريعة السابقة فرع حقية الشريعة اللاحقة ، وبعد الالتزام بحقيته لم يبق مجال للاستصحاب ، لليقين بارتفاع أحكام الشريعة السابقة حينئذ.

وإن كان مراده الثاني ـ أي كان استدلاله لالزام المسلمين ودعوتهم إلى اليهودية ـ فنقول له : جريان الاستصحاب متوقف على اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، وليس لنا يقين بنبوّة موسى إلاّمن طريق شريعتنا ، فانّ التواتر لم يتحقق في جميع الطبقات من زمان موسى إلى زماننا هذا. والتوراة الموجودة عند اليهود ليس هو الكتاب المنزل من الله سبحانه على موسى ، ومن راجعه يجد فيه ما يوجب العلم له بعدم كونه من عند الله من نسبة الزنا والفواحش إلى الأنبياء وغيرها مما يجده من راجعها.

نعم ، لنا علم بنبوة موسى لاخبار نبينا بنبوته ، فتصديقه يوجب التصديق

٢٥٥

بنبوته ، وهذا الاعتراف من المسلمين لايضرّهم ، ولايوجب جريان الاستصحاب في حقهم كما هو ظاهر ، وهذا المعنى هو المحتمل من الحديث (١) المتضمن لجواب الرضا عليه‌السلام عن احتجاج الجاثليق بالاستصحاب ، من أنا معترفون بنبوة كل موسى وعيسى أقر بنبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله وننكر نبوة كل من لم يقر بنبوة نبينا ، فلا يرد على الجواب المذكور ما ذكره الشيخ (٢) قدس‌سره من أنّ موسى بن عمران أو عيسى بن مريم ليس كلياً حتى يصح الجواب المذكور ، بل جزئي حقيقي اعترف المسلمون بنبوته ، فعليهم إثبات نسخها.

والحاصل : أنّه ليس لنا علم بنبوة موسى إلاّباخبار نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو كما يخبر بها يخبر بارتفاعها ، فلا مجال للاستصحاب. ومع فرض حصول اليقين من غير هذا الطريق ليس لنا شك في بقائها ، بل نعلم بارتفاعها ، فانّ المسلم لايكون مسلماً مع الشك في بقاء نبوة موسى أو عيسى ، فلايمكن الكتابي إلزام المسلم باستصحاب النبوة ، لعدم تمامية أركانه من اليقين والشك ، هذا في استصحاب النبوة. وأمّا أحكام الشريعة السابقة ، فللمسلم مجال لاجراء الاستصحاب فيها على المسلك المعروف ، بخلاف ما سلكناه من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية الإلهية ، ولا سيما في أحكام الشريعة السابقة ، وقد تقدم وجهه في التنبيه السابع (٣) ، فراجع.

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٤٠٤ ، بحار الأنوار ١٠ : ٣٠١ ـ ٣٠٢.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٦٧٣.

(٣) في ص ١٧٥ وما بعدها.

٢٥٦

التنبيه الثالث عشر

في جريان استصحاب حكم المخصص مع العموم الأزماني وعدمه ، فنقول : إذا ورد حكم عام ثمّ خرج عنه بعض الأفراد في بعض الأزمنة ، فشك في حكم هذا الفرد بالنسبة إلى ما بعد ذلك الزمان ، فهل يرجع إلى العموم أو إلى استصحاب حكم المخصص؟ ذهب إلى كلٍ جماعة.

ولا يخفى أنّ انعقاد هذا البحث ليس من جهة ملاحظة التعارض بين العموم والاستصحاب ، فانّ الاستصحاب أصل عملي لا مجال للرجوع إليه مع وجود الدليل من عموم أو إطلاق ، ولا مانع من الرجوع إليه إن لم يكن هناك دليل ، بل انعقاد البحث إنّما هو لتعيين موارد الرجوع إلى العموم وتمييزها عن موارد التمسك بالاستصحاب ، فالاشكال والخلاف إنّما هو في الصغرى بعد الاتفاق في الكبرى.

إذا عرفت تحرير محل النزاع ، فاعلم أنّه ذكر الشيخ (١) قدس‌سره أنّ العموم الازماني تارةً يكون على نحو العموم الاستغراقي ، ويكون الحكم متعدداً بتعدد الأفراد الطولية ، وكل حكم غير مرتبط بالآخر امتثالاً ومخالفةً ، كوجوب الصوم ثلاثين يوماً ، كما أنّ الأمر في الأفراد العرضية كذلك ، فانّه إذا قال المولى : أكرم العلماء مثلاً ، يكون الحكم متعدداً بتعدد أفراد العلماء الموجودين في زمان واحد ، ولكل حكم إطاعة ومعصية وامتثال ومخالفة.

واخرى يكون على نحو العموم المجموعي ، ويكون هناك حكم واحد مستمر ،

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٨٠ ـ ٦٨١ / التنبيه العاشر من تنبيهات الاستصحاب.

٢٥٧

كوجوب الامساك من طلوع الفجر إلى المغرب ، فانّه لا يكون وجوب الامساك تكليفاً متعدداً بتعدد آنات هذا اليوم. فإن كان العموم من القسم الأوّل ، فالمرجع بعد الشك هو العموم ، لأنّه بعد خروج أحد الأفراد عن العموم ، لا مانع من الرجوع إليه لاثبات الحكم لباقي الأفراد ، وإن كان من القسم الثاني ، فالمرجع هو الاستصحاب ، لأنّ الحكم واحد على الفرض ، وقد انقطع يقيناً ، وإثباته بعد الانقطاع يحتاج إلى دليل ، ومقتضى الاستصحاب بقاء حكم المخصص. هذا ملخص كلامه قدس‌سره.

وذكر صاحب الكفاية (١) قدس‌سره أنّ مجرد كون العموم الأزماني من قبيل العموم المجموعي لا يكفي في الرجوع إلى الاستصحاب ، بل لا بدّ من ملاحظة الدليل المخصص أيضاً ، فان اخذ الزمان فيه بعنوان الظرفية ، كما أنّه بطبعه ظرف لما يقع فيه كالمكان ، فلا مانع من التمسك بالاستصحاب ، وإن كان الزمان مأخوذاً على نحو القيدية ، فلا يمكن التمسك بالاستصحاب ، لأنّه مع فرض كون الزمان قيداً للموضوع يكون إثبات الحكم في زمان آخر من إسراء حكم ثابت لموضوع إلى موضوع آخر ، وهو قياس محرّم ، فلا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر من البراءة أو الاشتغال حسب ما يقتضيه المقام ، هذا كله على تقدير كون العموم على نحو العموم المجموعي.

وأمّا إن كان العموم على نحو العموم الاستغراقي ، فالمتعين الرجوع إلى العام إن لم يكن له معارض ، وإلاّ فيتمسك بالاستصحاب إن كان الزمان في الدليل المخصص مأخوذاً بنحو الظرفية ، وإن كان مأخوذاً بنحو القيدية ، لايمكن التمسك بالاستصحاب أيضاً ، فلا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر ، فتكون الصور على

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٢٤ ـ ٤٢٥ / التنبيه الثالث عشر من تنبيهات الاستصحاب.

٢٥٨

ما ذكره أربع :

الاولى : أن يكون العام من قبيل العموم الاستغراقي مع كون الزمان مأخوذاً في دليل التخصيص بنحو الظرفية.

الثانية : هي الاولى مع كون الزمان مأخوذاً على نحو القيدية.

وحكمهما الرجوع إلى العام مع عدم المعارض ، وإلاّ فيرجع إلى الاستصحاب في الصورة الاولى ، وإلى أصل آخر في الصورة الثانية.

الثالثة : أن يكون العموم من قبيل العام المجموعي مع كون الزمان ظرفاً.

الرابعة : هي الثالثة مع كون الزمان قيداً.

وحكمهما الرجوع إلى الاستصحاب في الثالثة وإلى أصل آخر في الرابعة. وتشتركان في عدم إمكان الرجوع إلى العام فيهما إلاّفيما إذا كان التخصيص من الأوّل ، كخيار المجلس مع قطع النظر عن النص الدال على لزوم البيع بعد الافتراق ، وهو قوله عليه‌السلام : «فاذا افترقا وجب البيع» (١) فيصح في مثله الرجوع إلى العام ، لعدم كون التخصيص في هذه الصورة قاطعاً لاستمرار الحكم حتى يكون إثبات الحكم بعده محتاجاً إلى الدليل ، فيرجع إلى استصحاب حكم الخاص ، بل التخصيص يوجب كون استمرار الحكم بعد هذا الزمان ، فيتعين الرجوع إلى العام بعد زمان التخصيص ، بخلاف ما إذا كان التخصيص في الوسط ، كخيار الغبن على ما هو المعروف من كون مبدئه زمان الالتفات إلى الغبن ، فانّ التخصيص قاطع للاستمرار ، وإثبات الحكم بعده يحتاج إلى دليل ، هذا ملخص ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٩ / أبواب الخيار ب ٢ ح ٤.

٢٥٩

أقول : أمّا ما ذكره من أنّ مجرد كون العموم مجموعياً لا يكفي في جريان الاستصحاب ، بل يحتاج إلى كون الزمان ظرفاً لا قيداً ، فمتين.

وأمّا ما ذكره من إمكان الرجوع إلى العموم المجموعي مع كون التخصيص في الأوّل ، فهو صحيح فيما إذا كان العموم والاستمرار مستفاداً من الدليل الخارجي ، بأن يدل دليل على إثبات الحكم في الجملة ، ودليل آخر على استمراره ، فحينئذ يمكن الفرق بين كون التخصيص في الأوّل وكونه في الوسط ، بامكان الرجوع إلى العام في الأوّل ، لكون التخصيص دالاً على أنّ الاستمرار ثابت للحكم المذكور بعد هذا الزمان ، بخلاف ما إذا كان التخصيص في الوسط ، فانّ الاستمرار قد انقطع ، وإثبات الحكم بعده يحتاج إلى دليل.

أمّا إذا كان الاستمرار مستفاداً من نفس الدليل الدال على ثبوت أصل الحكم كما في المقام ، فانّ اللزوم والاستمرار كليهما مستفاد من قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) فلا فرق بين كون التخصيص في الأوّل أو في الوسط ، لأنّ الدليل يدل على حكم مستمر ، فاذا انقطع يحتاج إثباته بعد التخصيص إلى دليل على مذاقه.

ثمّ إنّه لا يمكن المساعدة على ما تسالم عليه الشيخ وصاحب الكفاية قدس‌سرهما من أنّه إذا كان العموم من قبيل العموم المجموعي لا يمكن الرجوع إليه ، ويتعين الرجوع إلى الاستصحاب ـ إمّا مطلقاً كما عليه الشيخ ، أو فيما إذا كان الزمان في الدليل المخصص ظرفاً كما عليه صاحب الكفاية قدس‌سره ـ وذلك لما نقحناه في بحث العام والخاص (٢) من عدم الفرق في جواز الرجوع إلى العام

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

(٢) [لم نعثر عليه في مظانه].

٢٦٠