موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

ـ كالحيوان بالنسبة إلى الانسان ـ بخلاف ما إذا كان التشكيك بالأظهرية والظاهرية كما في المقام فانّه لا يوجب اختصاص الحكم بالأظهر ، وإلاّ لزم حمل الأدلة الدالة على قاعدة الفراغ على قاعدة الحيلولة التي مفادها عدم الاعتناء بالشك بعد خروج الوقت ، فانّ صدق المضي على المضي مع خروج الوقت أظهر من صدقه قبله ولو مع الدخول في الغير ، ومن المعلوم أنّ صدق المضي مع عدم الدخول في الغير ظاهر وإن كان صدقه مع الدخول أظهر.

فتحصّل مما ذكرناه : أنّ إطلاق الأدلة يشمل موارد عدم الدخول في الغير أيضاً. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل والبحث عن المقتضي.

أمّا المقام الثاني : والبحث عما يمكن أن يكون مانعاً عن العمل بالاطلاق ومخصصاً له بموارد الدخول في الغير ، فربّما يقال : إنّ المقيد لاطلاقات أدلة قاعدة الفراغ هو صحيحة زرارة وموثقة إسماعيل بن جابر ، فانّه قيّد عدم الاعتناء بالشك فيهما بما إذا كان الشك بعد الدخول في الغير.

وفيه أوّلاً : أنّ مورد الروايتين إنّما هو قاعدة التجاوز على ما تقدم الكلام فيهما (١) ، وحيث إنّا استظهرنا من الأدلة في مقام الاثبات أنّ قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز قاعدتان مستقلتان ، وأنّ ملاك إحداهما الشك في الصحة مع إحراز الوجود ، وملاك الاخرى الشك في الوجود ، فلا مجال لتوهم كون أدلة قاعدة التجاوز مقيّدةً للاطلاقات الواردة في قاعدة الفراغ. ومجرد إمكان كونهما مجعولتين بجعل واحد في مقام الثبوت لا يوجب ذلك.

وثانياً : أنّ الدخول في الغير مما لا بدّ في اعتباره في قاعدة التجاوز مع قطع

__________________

(١) في ص ٣٣٤.

٣٤١

النظر عن الصحيحة والموثقة ، إذ المراد من التجاوز في قاعدة التجاوز هو التجاوز عن محل الشيء المشكوك فيه ، وهو لا يتحقق إلاّبالدخول في الغير ، ولذا ذكرنا (١) أنّ ذكر الدخول في الغير قيد توضيحي ، وأ نّه يفهم اعتبار الدخول في الغير من اعتبار نفس التجاوز عن محل الشيء المشكوك فيه ، بخلاف المضي المذكور في قاعدة الفراغ ، فانّ المراد منه مضي نفس المشكوك فيه ، وهو يتحقق بالفراغ منه ولو مع عدم الدخول في الغير ، فاعتبار الدخول في الغير في موارد قاعدة التجاوز إنّما هو لكونه مقوّماً لموضوع التجاوز لا لأمر آخر اعتبر في جريان القاعدة بعد صدق التجاوز خارجاً ، فلو فرض تحقق عنوان التجاوز ـ بدون الدخول في الغير كما في موارد قاعدة الفراغ ـ لم يكن موجب لتقييده بالدخول في الغير.

ومما يتوهّم كونه مقيداً للاطلاق موثقة ابن أبي يعفور ، وهي قوله عليه‌السلام : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره ، فليس شكك بشيء ، إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» (٢) فانّ موردها قاعدة الفراغ ، لعدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء للنص الخاص (٣) وبما أنّه قد ذكر فيها الدخول في الغير ، فلا بدّ من اعتباره في جريانها.

وفيه أوّلاً : ما ذكرناه سابقاً (٤) من إجمال هذه الموثقة وعدم صلاحيتها للاستدلال ، لاحتمال رجوع الضمير في قوله عليه‌السلام : «وقد دخلت في

__________________

(١) في ص ٣٣٨ ـ ٣٣٩.

(٢) الوسائل ١ : ٤٦٩ ـ ٤٧٠ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٢.

(٣) وهو صحيح زرارة الآتي في ص ٣٤٤.

(٤) في ص ٣٣٢.

٣٤٢

غيره ...» إلى الشيء لا إلى الوضوء ، ولو لم نقل بظهور رجوعه إلى الشيء فلا أقل من الاحتمال. وكون الموثقة غير معمول بها ـ على تقدير رجوع الضمير إلى الشيء لعدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء للنص الخاص ـ لا يوجب ظهورها في رجوع الضمير إلى الوضوء ، فهي باقية على إجمالها غير صالحة للاستدلال بها.

وثانياً : لو سلّمنا عود الضمير إلى الوضوء ، وأنّ الرواية واردة لبيان قاعدة الفراغ ، فالنظر إلى مجموع الرواية يوجب ظهورها في أنّ موضوع عدم الاعتناء بالشك هو التجاوز ، لقوله عليه‌السلام في ذيلها : «إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» فيكون ذكر الدخول في الغير من باب كونه أحد مصاديق التجاوز لا لكونه دخيلاً في موضوع الحكم ، وإلاّ لزم التدافع بين الصدر والذيل فيما إذا شك في شيء من الوضوء بعد الفراغ عنه وقبل الدخول في الغير ، إذ مقتضى الصدر واعتبار الدخول في الغير الاعتناء بهذا الشك ، ومقتضى الحصر المذكور في الذيل بقوله عليه‌السلام : «إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» هو عدم الاعتناء به.

وثالثاً : أنّ من اعتبر في جريان قاعدة الفراغ الدخول في الغير ، إن أراد به اعتبار الدخول في خصوص الفعل المترتب كالدخول في الصلاة عند الشك في صحة الوضوء فالموثقة لا تدل عليه ، وإن أراد به اعتبار الدخول في مطلق الغير ، فاعتباره لغو ، إذ لا ينفك الدخول فيه عن الفراغ ، فانّه بمجرد الفراغ يتحقق الدخول في الغير لا محالة ولو كان الغير هو السكون أو الحركة ، فانّ الانسان لا يخلو من الأكوان الأربعة : الحركة والسكون والافتراق والاجتماع.

ورابعاً : أنّه على تقدير دلالة الموثقة على اعتبار الدخول في الغير ، نعمل بها في خصوص موردها وهو الوضوء ، فلا مانع في غير الوضوء من العمل

٣٤٣

بالاطلاقات ، ولعل الوجه في اعتبار الدخول في الغير في خصوص الوضوء أنّ الظاهر من قوله عليه‌السلام : «إذا شككت في شيء من الوضوء ...» إلخ كون الشك في وجود شيء من أجزاء الوضوء أو شرائطه ، والشك في الوجود مورد لقاعدة التجاوز ، وحيث إنّ قاعدة التجاوز غير جارية في الوضوء للنصوص الخاصة ، فما لم يتحقق الدخول في غير الوضوء يجب الاعتناء بالشك ، فعدم الاعتناء بالشك في باب الوضوء متوقف على الدخول في الغير.

ومما يتوهّم كونه مقيداً للاطلاقات صحيحة زرارة (١) الواردة في الوضوء ، بدعوى أنّ مفاد قوله عليه‌السلام : «وقد صرت إلى حال اخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت ...» إلى قوله عليه‌السلام : «لا شيء عليك» هو اعتبار الدخول في الغير.

والجواب عنها أوّلاً : عدم تمامية دلالتها في نفسها على اعتبار الدخول في الغير ، لأنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «مادمت في حال الوضوء» أنّ الميزان في عدم الاعتناء بالشك إنّما هو الفراغ من الوضوء ، فيكون ذكر الدخول في الغير ـ المستفاد من قوله عليه‌السلام : «وقد صرت إلى حالٍ اخرى ...» ـ من باب

__________________

(١) نقل في الوسائل عن محمّد بن الحسن عن المفيد عن أحمد بن محمّد عن أبيه عن أحمد بن إدريس وسعد بن عبدالله عن أحمد بن محمّد عن الحسين بن سعيد عن حماد عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام «قال عليه‌السلام : إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا ، فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنّك لم تغسله أو لم تمسحه مما سمى الله مادمت في حال الوضوء ، فاذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت إلى حال اخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوءه لا شيء عليك فيه ...» إلخ [الوسائل ١ : ٤٦٩ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ١].

٣٤٤

كونه من أوضح أفراد الفراغ أو الفرد الغالب منه ، لا من باب كونه موضوعاً للحكم ، وإلاّ لزم التدافع بين الصدر والذيل فيما إذا شك في صحة الوضوء بعد الفراغ منه وقبل الدخول في الغير ، إذ مقتضى مفهوم قوله عليه‌السلام : «مادمت في حال الوضوء ...» عدم الاعتناء بهذا الشك ، ومقتضى قوله عليه‌السلام : «وقد صرت إلى حالٍ اخرى ...» هو الاعتناء به ، لعدم الدخول في الغير ، فيستكشف من ذلك أنّ قوله عليه‌السلام : «فاذا قمت من الوضوء وفرغت منه» بيان لمفهوم قوله عليه‌السلام : «ما دمت في حال الوضوء» وذكر قوله عليه‌السلام : «وقد صرت إلى حال اخرى» إنّما هو لتوضيح المفهوم بذكر أوضح الأفراد أو الفرد الغالب.

وثانياً : على تقدير تسليم دلالتها على اعتبار الدخول في الغير ، فهو مختص بالوضوء ، والوجه في اعتبار الدخول في الغير في خصوص الوضوء هو ما ذكرناه في الجواب عن موثقة ابن أبي يعفور ، فانّ المذكور في هذه الصحيحة أيضاً هو الشك في وجود الغسل أو المسح ، ويجب الاعتناء بمثل هذا الشك ما لم يدخل في الغير بمقتضى الأدلة الدالة على عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء.

فالمتحصّل مما ذكرناه : عدم اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ ، لعدم وجود ما يصلح لتقييد الاطلاقات الواردة فيها ، فيكون المتبع هو الاطلاق.

بقي الكلام في ذكر امور :

الأمر الأوّل : لا إشكال في عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء بالنص (١) والاجماع ، وهل يلحق به الغسل والتيمم في عدم جريان قاعدة

__________________

(١) وهو صحيح زرارة المتقدم في ص ٣٤٤.

٣٤٥

التجاوز فيهما؟ التزم بالالحاق جماعة من متأخري المتأخرين على ما نقله الشيخ (١) قدس‌سره في كتاب الطهارة وليس له تعرض في كلمات القدماء على ما ذكره صاحب الجواهر (٢) قدس‌سره.

وكيف كان ، فقد ذكر للالحاق وجهان :

الأوّل : ما ذكره المحقق النائيني (٣) قدس‌سره من اختصاص أدلة قاعدة التجاوز بباب الصلاة ، فعدم جريانها في الطهارات الثلاث إنّما هو من باب التخصص لا التخصيص.

ويظهر الجواب عنه مما ذكرناه (٤) في إثبات كون قاعدة التجاوز من القواعد العامة ، فلا حاجة إلى الاعادة.

الثاني : ما ذكره شيخنا الأنصاري (٥) قدس‌سره وهو أنّ التكليف إنّما تعلق بالطهارة ، وإنّما الغسل والمسح مقدمة لحصولها ، فالشك في تحقق شيء من الغسل أو المسح يرجع إلى الشك في حصول الطهارة ، وهي أمر بسيط ، فلا تجري فيه قاعدة التجاوز ، فلا بدّ من الاحتياط ، لكون الشك شكاً في المحصّل ، وهذا الكلام جارٍ في التيمم والغسل أيضاً ، فانّ المكلف به في الجميع هو الطهارة.

وفيه أوّلاً : أنّ ظاهر الآيات والروايات كون نفس الوضوء متعلقاً للتكليف

__________________

(١) كتاب الطهارة ٢ : ٤٩٠.

(٢) الجواهر ٢ : ٣٥٥.

(٣) أجود التقريرات ٤ : ٢١٧ ، فوائد الاصول ٤ : ٦٢٦.

(٤) في ص ٣٣٥ ـ ٣٣٨.

(٥) فرائد الاصول ٢ : ٧١٣.

٣٤٦

كقوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ...)(١) إلخ وكقوله عليه‌السلام : «افتتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم» (٢) والوضوء مركب ، فلا مانع من جريان قاعدة التجاوز فيه.

وثانياً : على تقدير تسليم كون الطهارة هي المأمور به وأنّ الوضوء مقدمة لها ، أنّ عدم جريان قاعدة التجاوز في المقدمة مع كون ذيها بسيطاً إنّما هو في المقدمات العقلية الخارجية ، كما إذا أمر المولى بقتل أحد ، وتوقف القتل على عدة من المقدمات ، فالشك في بعض هذه المقدمات لا يكون مورداً لقاعدة التجاوز ، لأنّ المأمور به ـ وهو القتل ـ بسيط لا تجري فيه قاعدة التجاوز. والشك في المقدمات شك في المحصّل ، فلا بدّ من الاحتياط ، هذا بخلاف المقام فانّ الوضوء من المقدمات الشرعية لحصول الطهارة ، إذ الشارع جعله مقدمةً لها وأمر به ، وبعد تعلق الأمر الشرعي به وكونه مركباً لا مانع من جريان قاعدة التجاوز فيه ، نعم لو شك في الجزء الأخير منه ، لا مجال لجريان قاعدة التجاوز فيه إلاّمع الدخول في الغير ، أو فوات الموالاة بجفاف الأعضاء ، لعدم صدق التجاوز عند الشك في وجود الجزء الأخير إلاّمع أحد الأمرين.

فتحصّل مما ذكرناه : عدم لحوق التيمم والغسل بالوضوء ، فلا مانع من جريان قاعدة التجاوز فيهما بمقتضى عموم أدلتها.

نعم ، لا تجري قاعدة التجاوز في الغسل فيما إذا شك في غسل الجانب الأيمن حين الاشتغال بغسل الجانب الأيسر بناءً على القول بعدم الترتيب بين الجانبين ، كما أنّه ليس ببعيد ، لعدم صدق التجاوز عن المحل على هذا القول ،

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) الوسائل ١ : ٣٦٦ / أبواب الوضوء ب ١ ح ٤ و ٧.

٣٤٧

فيجب غسل الجانب الأيمن بعد الجانب الأيسر أو قبله ، ويكون هذا الشك بمنزلة الشك في غسل اليد حين الاشتغال بغسل الرجل من جانب واحد ، فانّه لا إشكال في عدم جريان قاعدة التجاوز ، لعدم الترتيب بين الأعضاء من جانب واحد ، فيجب غسل اليد بعد الفراغ من غسل الرجل أو قبله.

الأمر الثاني : بعد ما عرفت من عدم جريان قاعدة التجاوز في أجزاء الوضوء بالنص والاجماع ، فهل تلحق بها قاعدة الفراغ في عدم جريانها في أجزاء الوضوء أم لا.

التحقيق هو الثاني ، لعموم الأدلة وعدم المانع عن العمل بها. أمّا عموم الأدلة ، فقد تقدّم (١). وأمّا عدم المانع ، فلأن عمدة الأدلة المانعة عن جريان قاعدة التجاوز في الوضوء هي قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة المتقدمة (٢) : «فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه ...» إلخ ، ومفادها وجوب الاعتناء بالشك والاتيان بالمشكوك فيه فيما إذا كان الشك في أصل الغسل أو المسح ، لا ما إذا كان الشك في صحة الغسل أو المسح. فالصحيحة تدل على عدم جريان قاعدة التجاوز فقط في الوضوء ، لا على عدم جريان قاعدة الفراغ أيضاً ، فاذا شك في غسل الوجه ـ مع الاشتغال بغسل اليد اليسرى مثلاً ـ يجب غسل الوجه مع ما بعده لعدم جريان قاعدة التجاوز. وأمّا إذا شك في صحة غسل الوجه كما إذا شك في وقوعه من الأعلى مثلاً ، فلا مانع من الرجوع إلى قاعدة الفراغ والحكم بالصحة.

ولا فرق في جريان قاعدة الفراغ في أجزاء الوضوء بين الجزء الأخير

__________________

(١) في ص ٣٢٢ ، ٣٣٢.

(٢) في ص ٣٤٤.

٣٤٨

وغيره ، لعموم الأدلة على ما ذكرناه.

نعم ، لا تجري قاعدة الفراغ فيما إذا شك في صحة غسل الوجه مثلاً ، لاحتمال كون الماء المغسول به مضافاً ، لكون المأمور به وما سمّاه الله هو الغسل بالماء ، لقوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...) إلخ (١) بضميمة قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا* ماءً فَتَيَمَّمُوا ...) إلخ ، فيكون الشك المذكور شكاً في وجود ما سمّاه الله وأمر به لا في صحته ، فلا تجري قاعدة الفراغ فيه.

وكذا لا تجري قاعدة الفراغ فيما إذا شك في صحة غسل اليد اليمنى بعد الاشتغال بغسل اليد اليسرى ، لاحتمال وقوع الغسل من الأعلى بناءً على كون الغاية في قوله تعالى : (... وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ...) غاية للغسل ، إذ المأمور به وما سمّاه الله حينئذ هو الغسل من الأسفل ، فيكون الشك المذكور شكاً في وجوده ، فلا يكون مورداً لقاعدة الفراغ ، ولكنّه مجرد فرض ، إذ لا قرينة على كون الغاية غايةً للغسل ، بل القرينة على كونها غاية للمغسول موجودة وهي قوله تعالى : («وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فانّه لا خلاف ظاهراً في كون الغاية فيه غايةً للممسوح لا للمسح ، ولذا التزموا بجواز المسح من الكعبين إلى الأصابع. ووحدة السياق تشهد بأنّ الغاية في قوله تعالى : («وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) غاية للمغسول لا للغسل ، وإنّما أوجبنا الغسل من الأعلى للروايات الواردة في المقام.

وقد يستدل لعدم جريان قاعدة الفراغ في أجزاء الوضوء بموثقة ابن أبي يعفور من قوله عليه‌السلام : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

٣٤٩

في غيره ، فليس شكك بشيء ...» إلخ (١) بتقريب أنّ الضمير في قوله عليه‌السلام : «في غيره» راجع إلى الوضوء ، وأنّ الشيء في قوله عليه‌السلام : «إذا شككت في شيء» باطلاقه شامل للوجود والصحة ، فيكون مفادها أنّ الشك في جزء من أجزاء الوضوء ـ سواء كان متعلقاً بوجوده أو بصحته ـ إنّما لا يعتنى به إذا كان الشك بعد الفراغ ، ومفهومه الاعتناء به إذا كان قبل الفراغ من الوضوء.

والجواب عنه أوّلاً : ما تقدّم (٢) من عدم صحة الاستدلال بهذه الموثقة ، لاجمالها لاحتمال رجوع الضمير إلى الشيء.

وثانياً : أنّه لا إطلاق لها من هذه الجهة ، إذ الظاهر أنّها في مقام بيان أنّ الشك إذا كان حين العمل يعتنى به ، وإذا كان بعد الفراغ منه لا يعتنى به ، وليس إلاّ في مقام بيان هذا المقدار من المعنى. وأمّا كون المشكوك فيه هو الوجود أو الصحة ، فليست الموثقة في مقام بيانه ، فليس لها إطلاق من هذه الجهة حتى يؤخذ به ، ويحكم بأنّ الشك مطلقاً ـ سواء كان متعلقاً بالوجود أو بالصحة ـ يعتنى به إذا كان حين العمل ، ولا يعتنى به إذا كان بعد الفراغ منه.

وثالثاً : أنّه على تقدير تسليم دلالتها على وجوب الاعتناء بالشك في الصحة أيضاً إذا كان حين العمل يقع التعارض بينها وبين الروايات الدالة بعمومها على جريان قاعدة الفراغ في أجزاء الوضوء أيضاً ، والنسبة بينها وبين الموثقة هي العموم من وجه ، فانّ مفاد الموثقة وجوب الاعتناء بالشك في أجزاء الوضوء حين الاشتغال به ، سواء كان الشك متعلقاً بالوجود أو بالصحة ، ومفاد بقية

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٩ ـ ٤٧٠ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٢.

(٢) في ص ٣٣٢.

٣٥٠

الروايات عدم الاعتناء بالشك في الصحة إذا كان الشك بعد الفراغ من المشكوك فيه ، سواء كان من أجزاء الوضوء أو من غيرها ، فمورد الاجتماع هو الشك في صحة جزء من الوضوء بعد الفراغ منه ، وقبل الفراغ من الوضوء. ولا ينبغي الشك في تقدم تلك الروايات على الموثقة ، إذ دلالتها بالعموم ، ودلالة الموثقة بالاطلاق.

الأمر الثالث : بعد ما ذكرناه من أنّ الدخول في الغير معتبر في قاعدة التجاوز لا بدّ من تحقيق معنى الغير ، وأ نّه بماذا يتحقق ، ويقع الكلام في مقامين : المقام الأوّل : في الشك في الجزء الأخير. المقام الثاني : في الشك في غيره من الأجزاء.

أمّا المقام الأوّل فتفصيل الكلام فيه : أنّ الشك في الجزء الأخير يتصور على وجوه :

الأوّل : أن يشك فيه مع عدم الاشتغال بشيء وعدم تحقق السكوت الطويل الموجب لفوات محل التدارك. ولا مجال فيه لجريان قاعدة التجاوز ، لعدم الدخول في الغير على الفرض ، فلا يصدق التجاوز عن المحل. وكذا لا تجري قاعدة الفراغ أيضاً ، لاحتمال كونه في أثناء العمل ، فلم يحرز الفراغ ، وهذا واضح.

الثاني : أن يشك في الجزء الأخير مع الاشتغال بأمر غير مرتب على الجزء الأخير وغير مانع من تداركه. والحكم فيه هو الحكم في الوجه السابق ، فلا تجري فيه قاعدة التجاوز ، لعدم تجاوز المحل وإمكان التدارك. ولا قاعدة الفراغ للشك في تحقق الفراغ واحتمال كونه في أثناء العمل على ما تقدّم. ومن هذا القبيل ما إذا أتى بشيء من المنافيات التي لا يكون الاتيان بها سهواً موجباً

٣٥١

للبطلان كالتكلم. والتزم المحقق النائيني (١) قدس‌سره في هذه الصورة بجريان قاعدة الفراغ ، بدعوى أنّ المعتبر في قاعدة الفراغ أمران : الدخول في الغير ، وصدق المضي ، وهما متحققان في المقام. أمّا الدخول في الغير فتحققه ظاهر ، وأمّا تحقق المضي فلصدقه عند مضي معظم الأجزاء.

وفيه : أنّ المعتبر في قاعدة الفراغ هو صدق المضي حقيقة ، ومعه كيف يصدق المضي مع الشك في تحقق الجزء الأخير ، وأمّا الدخول في الغير فقد تقدم (٢) أنّه لا يعتبر في جريان قاعدة الفراغ.

وقد يتوهّم جريان قاعدة الفراغ ، بدعوى أنّ المراد بالمضي هو المضي بحسب الاعتقاد لا المضي بحسب الواقع ، وإلاّ لم يبق مورد لجريان قاعدة الفراغ ، إذ مع الشك في الصحة لا يحرز المضي الواقعي ، والمضي الاعتقادي موجود في المقام ، فانّه حين اشتغاله بأمر غير مرتب كان معتقداً بالمضي ، وإلاّ لم يشتغل به ، فتجري قاعدة الفراغ.

وهو مندفع بأن ظاهر قوله عليه‌السلام : «كل ما مضى ...» هو المضي الحقيقي الواقعي لا المضي الخيالي ، غاية الأمر كون الماضي أعم من الصحيح والفاسد بقرينة الشك المذكور في الرواية ، إذ لا يتصور مضي الصحيح مع فرض الشك في الصحة والفساد.

الثالث : أن يشك في الجزء الأخير مع الاشتغال بأمر مرتب على الجزء الأخير غير مانع من تداركه على تقدير عدم الاتيان به ، كما إذا شك في التسليم مع الاشتغال بالتعقيب ، أو شك في مسح الرجل للوضوء مع الاشتغال بالدعاء

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢٢٤ ، راجع أيضاً فوائد الاصول ٤ : ٦٣٠.

(٢) في ص ٣٣٩ وما بعدها.

٣٥٢

المأثور بعد الوضوء.

واختار المحقق النائيني (١) قدس‌سره أنّه لو شك في الجزء الأخير من الصلاة ـ وهو التسليم ـ مع الاشتغال بالتعقيب لا يعتني به ، لصدق الدخول في الغير ، فيكون مورداً لجريان قاعدة التجاوز. واستشهد على ذلك بصحيحة زرارة المتقدمة (٢) الدالة على عدم الاعتناء بالشك في الأذان مع الدخول في الاقامة ، بدعوى أنّ الحكم بعدم الاعتناء بالشك في الأذان مع الدخول في الاقامة يشرف الفقيه على القطع بعدم الاعتناء بالشك في التسليم مع الاشتغال في التعقيب ، لعدم الفرق بين الاقامة والتعقيب ، لخروج كليهما عن حقيقة الصلاة.

وللمناقشة فيه مجال ، لعدم الملازمة بين المقامين في جريان قاعدة التجاوز ، إذ هو منوط بمضي المحل ، وهو لا يصدق إلاّفيما إذا كان محل المشكوك فيه بحسب الجعل الشرعي سابقاً على الغير الذي وقع الشك بعد الدخول فيه ، وكان محل ذلك الغير مؤخراً عن المشكوك فيه ولو باعتبار كونه أفضل الأفراد. وهذا المعنى موجود في الشك في الأذان بعد الدخول في الاقامة ، فانّ الأذان مقدّم بحسب الجعل الشرعي على الاقامة ، بحيث لو لم يأت بالاقامة بعد الأذان لم يأت بوظيفته الاستحبابية المتعلقة بالأذان. وكذا محل الاقامة مؤخر عن الأذان بمعنى أنّ أفضل أفراد الاقامة هي الاقامة الواقعة بعد الأذان ، وإن كانت مستحبة في نفسها ولو بدون الأذان ، فيكون الشك في الأذان بعد الدخول في الاقامة شكاً فيه بعد مضي المحل والتجاوز عنه.

وهذا بخلاف الشك في التسليم مع الاشتغال في التعقيب ، فانّ التعقيب وإن

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢٢٣ ، فوائد الاصول ٤ : ٦٢٨

(٢) في ص ٣٣١

٣٥٣

اعتبر بحسب الجعل الشرعي مؤخراً عن التسليم ، إلاّأ نّه لم يعتبر مقدّماً على التعقيب ، إذ من المعلوم أنّه لا يعتبر في التسليم وقوعه قبل تسبيح الزهراء (سلام الله عليها) مثلاً. ومَثَل التسليم والتعقيب مَثَل صلاة الظهر والعصر ، فان صلاة العصر قد اعتبرت في الشريعة المقدّسة مؤخرة عن صلاة الظهر ، إلاّأنّ صلاة الظهر لم يعتبر فيها التقدم على صلاة العصر كما هو مذكور في محلّه ، فلا يكون الشك في التسليم مع الاشتغال بالتعقيب شكاً بعد مضي المحل ، لبقاء محل التدارك ، ولذا من تذكر حال التعقيب أنّه لم يأت بالتسليم يجب عليه التدارك ولم يلزم منه إخلال أصلاً ، ولا شيء عليه حتى سجدة السهو.

ويؤيد ما ذكرناه ـ من عدم جريان قاعدة التجاوز في المقام ـ أنّه لو شك في الاتيان بأصل الصلاة مع الاشتغال بالتعقيب ، لا تجري قاعدة التجاوز قطعاً ولا أظن أحداً من الفقهاء يلتزم بجريانها ، فيجب عليه الاعتناء بالشك والاتيان بالصلاة ، لكون الشك في الوقت. ولا فرق بين الشك في أصل الصلاة والشك في التسليم مع الاشتغال في التعقيب في جريان قاعدة التجاوز وعدمه.

فتلخّص مما ذكرناه : عدم جريان قاعدة التجاوز في هذه الصورة أيضاً كالصورتين السابقتين.

وكذا لا تجري قاعدة الفراغ أيضاً ، إذ مع الشك في الجزء الأخير لم يحرز الفراغ من العمل حتى يكون مورداً لقاعدة الفراغ ، إلاّفي باب الوضوء فانّه تجري قاعدة الفراغ عند الشك في الجزء الأخير منه مع الاشتغال بشيء آخر ولو لم يتجاوز محل التدارك ، كما إذا شك في مسح الرجل مع الاشتغال بالصلاة ، أو بالدعاء المأثور بعد الوضوء ، وذلك لقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة : «فاذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت إلى حالٍ اخرى في الصلاة أو في غيرها ، فشككت في بعض ما سمّى الله مما أوجب الله عليك وضوءه لا شيء

٣٥٤

عليك فيه ...» إلخ (١) فان مفاده عدم الاعتناء بالشك في أجزاء الوضوء بعد الاشتغال بشيء آخر ، بلا فرق بين الجزء الأخير وغيره ، وحيث إنّ هذا الحكم على خلاف القاعدة ، يجب الاقتصار على مورد النص وهو الوضوء ، فلو شك في الجزء الأخير من الغسل مع الاشتغال بشيء آخر كالصلاة ، لا مجال لجريان قاعدة الفراغ ، بل لا بدّ من الاعتناء بالشك.

الرابع : أن يشك في الجزء الأخير بعد الاتيان بالمنافي العمدي والسهوي ، كما إذا شك في التسليم بعد الحدث أو الاستدبار أو السكوت الطويل. ولا تجري فيه قاعدة التجاوز ، لما ذكرناه في الصورة السابقة من أنّ المعتبر في قاعدة التجاوز أن يكون محل المشكوك فيه سابقاً على الغير بحسب الجعل الشرعي. والمقام ليس كذلك ، إذ لم يعتبر في التسليم كونه قبل المنافي العمدي والسهوي بحيث لو لم يقع المنافي بعده لم يصح ، وإن اعتبر فيه عدم وقوع المنافي قبله ، فلا مجال لجريان قاعدة التجاوز.

نعم ، تجري قاعدة الفراغ ، فانّ الصلاة قد مضت حقيقةً ، وشك في صحتها وفسادها ، فيحكم بصحتها لقاعدة الفراغ. هذا على القول بفساد الصلاة بوقوع مثل الحدث والاستدبار بعد التشهد قبل التسليم ـ كما اختاره المحقق النائيني قدس‌سره (٢) ـ وأمّا على القول بصحة الصلاة ـ كما اختاره السيد قدس‌سره في العروة (٣) وليس ببعيد ـ فلا ثمرة لجريان قاعدة الفراغ ، لصحة الصلاة مع قطع النظر عنها على الفرض ، فيكون الشك في التسليم مع وقوع الحدث أو

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٦٩ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ١.

(٢) العروة الوثقى (المحشّاة) ٢ : ٥٩٣ ، ٥٩٦ ، ٥٩٧ فصل في التسليم.

(٣) العروة الوثقى ١ : ٥١٤ / فصل في التسليم ، المسألة ١ [١٦٦١].

٣٥٥

الاستدبار خارجاً عن محل الكلام على هذا القول. فليفرض الكلام فيما إذا شك في السجدتين الأخيرتين وما بعدهما من التشهد والتسليم بعد وقوع الحدث أو الاستدبار.

ثمّ إنّ ما ذكرناه ـ من جريان قاعدة الفراغ عند الشك في الجزء الأخير بعد السكوت الطويل ـ إنّما يتم في المركبات التي اعتبرت الموالاة بين أجزائها كالصلاة والوضوء ، دون المركب الذي لا تعتبر الموالاة بين أجزائه كالغسل ، فلو شك في الجزء الأخير منه كغسل الطرف الأيسر ، لا بدّ من الاعتناء بالشك والاتيان بالمشكوك فيه ، ولو كان الشك بعد زمان طويل ، إذ بعد عدم اعتبار الموالاة يحتمل كونه الآن في أثناء العمل ، فلم يحرز الفراغ لتجري قاعدته.

المقام الثاني : في تحقيق معنى الغير عند الشك في الأجزاء الاخر غير الجزء الأخير ، فهل المراد بالغير ـ الذي يعتبر الدخول فيه في قاعدة التجاوز ـ هو خصوص الأجزاء المستقلة التي اعتبرت أجزاءً بحسب الأدلة الشرعية ، أو يشمل جزء الجزء أيضاً؟ وعلى تقدير الشمول هل يختص بمثل الحمد والسورة ، أو يشمل كل آية بالنسبة إلى آية اخرى؟

وعلى تقدير الشمول هل يشمل كل كلمة بالنسبة إلى كلمة اخرى بل كل حرف بالنسبة إلى حرف آخر من كلمة واحدة؟ وعلى كل تقدير هل هو مختص بالأجزاء أو يشمل المقدمات أيضاً كما إذا شك في القراءة بعد الهوي إلى الركوع ، أو شك في الركوع بعد الهوي إلى السجود ، أو شك في السجود بعد النهوض إلى القيام ، بل يشمل الزيادات المأتي بها سهواً كما اختاره السيد قدس‌سره في العروة (١) ، وحكم بأ نّه لو شك في السجدة مع عدم الاتيان

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ٦٦٤ / فروع العلم الاجمالي ، المسألة ٥٩ [٢١٩٢].

٣٥٦

بالتشهد سهواً فقام لا يعتني به ، لكونه بعد الدخول في الغير ـ وهو القيام ـ مع كونه مجرد زيادة سهوية؟

وعلى تقدير الاختصاص بالأجزاء ، فهل هي مختصة بالأجزاء الواجبة أو تشمل المستحبات أيضاً كما إذا شك في السورة بعد الدخول في القنوت؟

فنقول : القدر المتيقن هي الأجزاء المستقلة ، كالأمثلة المذكورة في صحيحة زرارة المتقدمة (١) من الشك في الأذان بعد الدخول في الاقامة ، والشك في الاقامة بعد الدخول في التكبير إلى آخر ما ذكر فيها من الفروض. ولا يجب الاقتصار على الأجزاء المذكورة فيها ، بل تجري قاعدة التجاوز عند الشك في غيرها من الأجزاء المستقلة ، كما إذا شك في السجود بعد الدخول في التشهد ، وذلك لأنّ الأمثلة المذكورة في الصحيحة مذكورة في السؤال ، والمتبع إنّما هو إطلاق قوله عليه‌السلام في الجواب : «يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكك ليس بشيء».

ولا يتوهم اختصاص جريان القاعدة عند الشك في السجود بما إذا شك فيه بعد الدخول في القيام ، لأنّه هو المذكور في كلام الإمام عليه‌السلام في موثقة إسماعيل بن جابر (٢) ، فلا تجري عند الشك في السجود بعد الدخول في التشهد ، وذلك لعموم قوله عليه‌السلام في ذيل الموثقة : «كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره ، فليمض عليه» ولعل الشك في السجود المفروض في الموثقة هو الشك فيه في الركعة الاولى ، فيكون صدق الدخول في الغير منحصراً بالدخول في القيام ، لعدم التشهد في الركعة الاولى.

__________________

(١) في ص ٣٣٢.

(٢) الوسائل ٦ : ٣١٧ ـ ٣١٨ / أبواب الركوع ب ١٣ ح ٤.

٣٥٧

وبالجملة : لا مجال لتوهم اختصاص القاعدة بالأمثلة المذكورة في الصحيحة والموثقة بعد عموم الجواب في كلام الإمام عليه‌السلام ، بل تجري في جميع الأجزاء المستقلة ومنها الحمد والسورة ، فلا مانع من جريان قاعدة التجاوز عند الشك في الحمد بعد الدخول في السورة ، فانّ جزئية الحمد ثابتة بقوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلاّبفاتحة الكتاب» (١) وجزئية السورة ثابتة بأدلة اخرى دالة على وجوب قراءة سورة تامة بعد الحمد ، فاعتبر الحمد بحسب الدليل الشرعي جزءاً ، والسورة جزءاً آخر وإن كانت القراءة بأجمعها قد تعد جزءاً واحداً وهي شاملة لهما ، فتجري القاعدة عند الشك في الحمد بعد الدخول في السورة. ولا ينافي ذلك أنّ المذكور في الصحيحة جريان القاعدة عند الشك في القراءة بعد الدخول في الركوع ، لأنّ المفروض فيها هو الشك في جميع القراءة من الحمد والسورة ، فلا محالة جريان القاعدة فيه متوقف على الدخول في الركوع ، فلا منافاة بينه وبين جريانها فيما إذا شك في الحمد وحده بعد الدخول في السورة باعتبار عموم الجواب كما ذكرناه.

وهل تجري قاعدة التجاوز فيما إذا شك في آية بعد الدخول في آية اخرى أم لا. الظاهر جريانها فيه ، إذ يصدق عليه الشك في الشيء بعد التجاوز عنه والدخول في غيره.

واختار المحقق النائيني (٢) قدس‌سره عدم الجريان ـ بعد ما بنى عليه من رجوع قاعدة التجاوز إلى قاعدة الفراغ ـ بدعوى أنّ قاعدة الفراغ مختصة بالشك في الكل ، وإنّما تجري في الأجزاء المستقلة في باب الصلاة لدليل خاص

__________________

(١) المستدرك ٤ : ١٥٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ١ ح ٥ و ٨.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢٢٨ ـ ٢٢٩ ، فوائد الاصول ٤ : ٦٣٤ ـ ٦٣٥.

٣٥٨

حاكم بتنزيل الجزء منزلة الكل في جريان القاعدة ، فلا بدّ من الاقتصار على مقدار يدل عليه دليل التنزيل ، وهو الأمثلة المذكورة في الرواية ، فلا تجري في غيرها.

وفيه أوّلاً : ما تقدم من عدم تمامية المبنى ، وأنّ قاعدة التجاوز غير قاعدة الفراغ بحسب مقام الاثبات (١).

وثانياً : على تقدير تسليم المبنى ، أنّ الدليل على التنزيل هي صحيحة زرارة وموثقة إسماعيل بن جابر المتقدمتان (٢) والمتبع هو إطلاق قوله عليه‌السلام في الصحيحة : «يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكك ليس بشيء» وعموم قوله عليه‌السلام في الموثقة : «كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» فلا وجه للاقتصار على الأمثلة المذكورة فيهما.

نعم ، لا نضايق عن الاعتناء بالشك وعدم جريان قاعدة التجاوز فيما إذا شك في كلمةٍ بعد الدخول في كلمةٍ اخرى من كلام واحد ، فضلاً عما إذا شك في حرف من كلمة بعد الدخول في حرف آخر منها ، وذلك لعدم صدق التجاوز والمضي عرفاً ، وإن كان التجاوز متحققاً بحسب الدقة العقلية ، إلاّأنّ الميزان هو الصدق العرفي لا الدقة العقلية.

وأمّا إذا شك في شيء من أجزاء المركب بعد الدخول في جزء مستحب منه ، كما إذا شك في القراءة بعد الدخول في القنوت ، فقد اختار السيد قدس‌سره في

__________________

(١) راجع ص ٣٣٣.

(٢) تقدّمتا في ص ٣٣١ ـ ٣٣٢ فراجع.

٣٥٩

العروة (١) جريان قاعدة التجاوز ، وقرره المحشّون ، ولم نجد التصريح بخلافه. ولكن للمناقشة فيه مجال واسع ، لما ذكرناه سابقاً (٢) من أنّ جريان القاعدة متوقف على صدق المضي والخروج عن محل المشكوك فيه والتجاوز عنه ، ولا يصدق إلاّفيما إذا اعتبر المشكوك فيه سابقاً على الغير ، كالقراءة بالنسبة إلى الركوع. وهذا المعنى مفقود في المقام ، إذ لم يعتبر في القراءة وقوعها سابقاً على القنوت ، وإن كان المعتبر في القنوت تأخره عنها. فمثل القنوت بالنسبة إلى القراءة مثل التعقيب بالنسبة إلى التسليم.

توضيح ذلك : أنّ الجزئية والاستحباب مما لا يجتمعان ، ولا يعقل كون شيء جزءاً للواجب ومستحباً ، إذ الاهمال في مقام الثبوت غير متصور ، فامّا أن تكون الطبيعة المأمور بها مطلقة بالنسبة إلى الخصوصيات ، أو تكون مقيدة بوجود خصوصية على نحو يكون التقيد والقيد كلاهما داخلين في المأمور به ، أو على نحو يكون التقيد داخلاً والقيد خارجاً ، فيكون جزءاً على الأوّل وشرطاً على الثاني ، أو تكون مقيدة بعدم شيء فيكون مانعاً ، ففيما إذالم تكن الطبيعة المأمور بها مقيدة بوجود خصوصية ولا بعدمها ، يكون المكلف مخيراً في تطبيقها في ضمن أيّ خصوصية من الخصوصيات ، غاية الأمر كون الخصوصية تارةً راجحة واخرى مرجوحة وثالثةً بلا رجحان ولا مرجوحية ، كايقاع الصلاة في المسجد أو في الحمام أو في الدار ، وكالصلاة مع القنوت أو بدونه ، فجميع هذه الخصوصيات غير داخلة في المأمور به. ومعنى كون القنوت مثلاً جزءاً مستحباً للصلاة أنّه قد امر به استقلالاً ، غاية الأمر كون الصلاة ظرفاً

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ٦١٣ / فصل في الشك ، المسألة ١٠ [٢٠٣٠].

(٢) في ص ٣٥٣.

٣٦٠