موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

لجريان قاعدة التجاوز ، لكون الشك فيها شكاً في المحل ، فلا بدّ من الاعتناء بالشك واستئناف العمل لولا استصحاب عدم تحقق الفصل الطويل. ويكون الشك المذكور في الحقيقة شكاً في وجود المانع ، وهو الفصل الطويل والأصل عدمه ، فيحكم بصحة الصلاة لأجل الاستصحاب لا لقاعدة التجاوز.

وأمّا الموالاة بين الكلمات من كلام واحد أو بين الحروف من كلمة واحدة ، فهي من الامور المعتبرة عقلاً لا من الشرائط الشرعية ، لأنّها مما لا بدّ منه في صدق الكلام والكلمة عرفاً ، فانّه لو تكلم بكلمة من كلام ثمّ تكلم بكلمة اخرى منه بعد مدة طويلة مانعة عن صدق الكلام عرفاً ، لا يكون كلاماً مفهماً للمعنى. وكذا الأمر في الموالاة بين الحروف من كلمة واحدة ، فلو شك في تحققها بعد الفراغ من الصلاة ، لا إشكال في جريان قاعدة الفراغ. وأمّا لو شك في الأثناء ، فلا مجال لجريان قاعدة الفراغ ولا قاعدة التجاوز ، بلا فرق بين كون الشك بعد الدخول في كلمة لاحقة أو حرف لاحق أو قبله ، لأنّ الشك في الموالاة هاهنا يكون في الحقيقة شكاً في وجود الكلام أو الكلمة مع عدم تجاوز المحل ، فلا تجري قاعدة الفراغ لعدم كون الشك شكاً في الصحة ، بل في الوجود ، ولا قاعدة التجاوز لعدم تجاوز المحل ، فلا بدّ من الاعتناء بالشك.

وظهر بما ذكرناه حكم الشك في النية ، فانّ النية بمعنى قصد القربة من الامور المعتبرة في العبادات شرعاً لا من الشرائط العقلية على ما ذكرناه في محلّه (١) ، فلو شك في تحققها بعد الفراغ من العمل تجري قاعدة الفراغ بلا إشكال. وكذا لو شك في أثناء العمل في تحققها حين الاتيان بالأجزاء السابقة ، تجري قاعدة الفراغ أيضاً ويحكم بصحة الأجزاء السابقة.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٥١٩ وما بعدها.

٣٨١

وأمّا النية بمعنى قصد العنوان ، فهي من الامور المعتبرة عقلاً ، لتوقف صدق عنوان المأمور به على قصده ، فلو شك بعد الفراغ من ذات العمل في أنّه أتى به بقصد عنوان المأمور به أم لا ، كما إذا أتى بركعتين من الصلاة ثمّ شك بعد الفراغ في أنّه أتى بهما بعنوان صلاة الصبح مثلاً أو أتى بهما للتمرين مثلاً ، فلا مجال لجريان قاعدة الفراغ ، إذ الشك في قصد العنوان شك في وجود المأمور به ، لعدم تحقق عنوان الصلاة إلاّبالقصد ، فلا بدّ من الاعتناء بالشك والاتيان بالمأمور به لقاعدة الاشتغال ، وله فروع كثيرة في الفقه :

منها : ما لو شك بعد الارتماس في الماء في أنّه قصد به الغسل أو أتى به للتبريد مثلاً ، فلا تجري قاعدة الفراغ على ما ذكرناه. وكذالو شك في أثناء الصلاة في قصد العنوان بالنسبة إلى الأجزاء السابقة ، كما إذا شك بعد الدخول في الركوع في أنّه أتى بالقراءة بقصد عنوان الصلاة أم بعنوان آخر ، لا تجري قاعدة الفراغ ، لكون الشك شكاً في الوجود على ما ذكرناه.

نعم ، لو كان محرزاً لقصد العنوان في الجزء الذي هو مشغول به فعلاً ، وشك في قصد العنوان بالنسبة إلى الأجزاء السابقة ، كما إذا علم بأ نّه قصد عنوان الصلاة في الركوع مع الشك في قصد العنوان بالنسبة إلى القراءة ، لا مانع من جريان قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الأجزاء السابقة ، لكون الشك بالنسبة إليها شكاً في الوجود بعد الدخول في الغير ، فيكون مورداً لقاعدة التجاوز.

فرع

ذكر في أوّل ختام العروة (١) ما حاصله : أنّه إذا شك في أثناء الصلاة في أنّه

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ٦٤٥ / المسألة الاولى.

٣٨٢

أتى بها بعنوان الظهر أو العصر ، فإن كان عالماً بعدم الاتيان بصلاة الظهر أو شاكاً فيه ، فيجعلها ظهراً بلا إشكال فيه ، إذ على تقدير قصد عنوان الظهر في الواقع فهو ، وعلى تقدير قصد عنوان العصر يعدل إلى الظهر ، لعدم الاتيان به علماً أو تعبداً. وأمّا إن كان عالماً باتيان صلاة الظهر ، فيحكم ببطلان صلاته ، إذ على تقدير قصد عنوان الظهر في الواقع لا يصح العدول إلى العصر ، فيكون شكه في قصد عنوان العصر شكاً في الوجود مع عدم تجاوز المحل ، فلا تجري قاعدة التجاوز ، فلا بدّ من الاعتناء بالشك واستئناف العمل ، انتهى ملخص ما في العروة.

وظهر بما ذكرناه الحكم بصحة صلاته في بعض الصور ، وهو ما إذا كان محرزاً لقصد عنوان العصر في الجزء الذي هو مشغول به فعلاً ، مع الشك في قصد العنوان بالنسبة إلى الأجزاء السابقة ، لجريان قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الأجزاء السابقة على ما ذكرناه.

الأمر التاسع : أنّ جريان قاعدة التجاوز والفراغ مختص بما إذا كان الشك ناشئاً من احتمال الغفلة والسهو ، فلا مجال لجريانهما فيما إذا احتمل ترك الجزء أو الشرط عمداً ، لما ذكرناه (١) من أنّهما ليستا من القواعد التعبدية ، بل إمضاء لقاعدة ارتكازية عقلائية وهي أصالة عدم الغفلة ، لظهور حالهم حين الامتثال في عدم الغفلة ، ولا يستفاد من الأدلة أزيد من هذا المعنى. مضافاً إلى دلالة التعليل المذكور في بعض الروايات على الاختصاص ، فانّ كونه أذكر إنّما ينافي الترك السهوي لا الترك العمدي كما هو واضح ، ففي موارد احتمال الترك العمدي لا تجري قاعدة الفراغ ولا قاعدة التجاوز ، بل لا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر.

__________________

(١) في أوّل هذا البحث ص ٣١٥.

٣٨٣

والحكم بمفاده من الصحة أو الفساد ، ويختلف باختلاف المقامات.

وملخص الكلام فيها : أنّه إن كان الشك في الصحة لاحتمال ترك شيء اعتبر وجوده في المأمور به جزءاً أو شرطاً ، يحكم بالبطلان لأصالة عدم تحقق هذا الشيء المشكوك فيه. وإن كان الشك في الصحة لاحتمال الاتيان بشيء اعتبر عدمه في المأمور به الذي يعبّر عنه بالمانع يحكم بالصحة ، لأصالة عدم تحقق المانع ، هذا تمام الكلام في قاعدة الفراغ والتجاوز.

٣٨٤

أصالة الصحّة

٣٨٥
٣٨٦

الكلام في أصالة الصحّة

ويقع البحث فيها في جهات :

الجهة الاولى : في بيان امتيازها عن قاعدة الفراغ. والميز بينهما من وجهين :

الأوّل : أنّ قاعدة الفراغ جارية بالنسبة إلى العمل الصادر من نفس الشاك على ما هو المستفاد من أدلتها ، ومورد أصالة الصحة هو عمل الغير.

الثاني : أنّ قاعدة الفراغ مختصة بما إذا كان الشك بعد الفراغ من العمل ، غاية الأمر أنّا عممناها للجزء أيضاً ، فتجري عند الشك في صحة الجزء أيضاً بعد الفراغ منه على ما ذكرناه (١). وأمّا أصالة الصحة ، فلا اختصاص لها بالشك بعد الفراغ ، بل هي جارية عند الشك في صحة العمل في أثنائه أيضاً ، كما إذا كان أحد مشغولاً بالصلاة على الميت ، وشككنا في صحة هذه الصلاة ، لاحتمال كون الميت مقلوباً مثلاً ، فتجري أصالة الصحة بلا إشكال.

الجهة الثانية : في مدرك أصالة الصحة فنقول :

قد يطلق الصحيح في مقابل القبيح ، فمعنى أصالة الصحة هو الحمل على الحسن المباح في مقابل الحمل على القبيح المحرّم. وأصالة الصحة بهذا المعنى

__________________

(١) في ص ٣٣٢.

٣٨٧

مستفادة من الآيات والروايات.

أمّا الآيات ، فكقوله تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)(١) وقوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)(٢) بضميمة ما ورد في تفسيره في الكافي من قوله عليه‌السلام : «لا تقولوا إلاّخيراً» (٣).

وأمّا الروايات فكثيرة : منها : قوله عليه‌السلام : «ضع أمر أخيك على أحسنه ...» إلخ (٤) ومنها : قوله عليه‌السلام : «إنّ المؤمن لايتهم أخاه المؤمن ...» إلخ (٥) ومنها : قوله عليه‌السلام : «كذّب سمعك وبصرك عن أخيك ، فإن شهد عندك خمسون قسامة أنّه قال وقال : لم أقله ، فصدّقه وكذبهم» (٦) والمراد من تصديقه هو الحمل على الصدق لا ترتيب آثار الواقع ، إذ لا بدّ من حمل خبر الجماعة على الصحيح من الاشتباه والسهو ، لكونهم أيضاً من الإخوة المؤمنين. والحمل على الصحيح ـ بمعنى ترتيب آثار الواقع ـ مما لا يمكن في الطرفين ، وفي طرف واحد مستلزم لترجيح الواحد على الخمسين.

وأصالة الصحة بهذا المعنى مختصة بعمل المؤمن ، فلاتجري في حق غير المؤمن من سائر فرق المسلمين فضلاً عن الكافرين ، إذ الحمل على الصحة بهذا المعنى إنّما هو من حقوق الاخوّة ، ولا اخوّة بين المؤمن وغيره من المسلمين فضلاً عن

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ١٢.

(٢) البقرة ٢ : ٨٣.

(٣) الكافي ٢ : ١٦٤ / كتاب الإيمان والكفر ، باب الاهتمام بامور المسلمين ... ح ٩.

(٤) الوسائل ١٢ : ٣٠٢ / أبواب أحكام العشرة ب ١٦١ ح ٣.

(٥) بحار الأنوار ١٠ : ١٠٠ (نقل بالمضمون).

(٦) الوسائل ١٢ : ٢٩٥ / أبواب أحكام العشرة ب ١٥٧ ح ٤.

٣٨٨

الكافرين.

وأصالة الصحة بهذا المعنى ليست محلاً للكلام ، لعدم ترتب أثر عملي عليها ، فانّه لو دار الأمر بين كون الكلام المسموع من مؤمن سلاماً أو شتماً لا يترتب على الحمل على الصحيح وجوب رد السلام.

وقد يطلق الصحيح في مقابل الفاسد ، فمعنى أصالة الصحة هو ترتيب الأثر على العمل الصادر من الغير ، وهذا هو محل الكلام ، ولا اختصاص لأصالة الصحة بهذا المعنى بعمل المؤمن ، بل جارية في حق جميع المسلمين بل الكافرين أيضاً في بعض الموارد كما في بعض المعاملات الصادرة منهم. والكلام فعلاً في مدرك أصالة الصحة بهذا المعنى ، واستدل لها بوجوه :

الأوّل : دعوى الاجماع المحصّل من تتبع فتاوى العلماء.

وفيه أوّلاً : أنّ تحقق الاجماع على أصالة الصحة وإن كان مسلّماً في الجملة ، إلاّأن تحصيل الاجماع ـ من تتبع الفتاوى في جميع موارد جريان أصالة الصحة حتى العقود والايقاعات بل المعاملات بالمعنى الأعم الشامل للطهارة والنجاسة ـ دونه خرط القتاد.

وثانياً : أنّه على تقدير تسليم تحقق الاجماع في جميع الموارد لم يتضح كونه إجماعاً تعبدياً كاشفاً عن رضا المعصوم عليه‌السلام لاحتمال كون المدرك عند المجمعين هي الأدلة الآتية.

الثاني : قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) وقوله تعالى : (إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً*

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

٣٨٩

عَنْ تَراضٍ ...)(١) بناءً على أنّ الخطاب ليس مختصاً بالمتعاقدين ، بل جميع المكلفين مخاطبون به ، ومأمورون بالوفاء بالعقد الصادر من المتعاقدين ، بمعنى ترتيب آثار الصحة عليه.

وفيه أوّلاً : أنّ الخطاب مختص بالمتعاقدين على ما ذكرناه في بحث المكاسب (٢).

وثانياً : على تقدير تسليم كون الخطاب عاماً ، أنّ الدليل المذكور مختص بالعقود ، فلا يشمل الايقاعات. وعلى تقدير تسليم شموله لها ـ بناءً على أنّ المراد هو العقود بالمعنى اللغوي لا العقود الاصطلاحي المقابل للايقاعات ـ لا يشمل المعاملات بالمعنى الأعم ، كالطهارة والنجاسة ، والمقصود إثبات أصالة الصحة في جميع هذه الموارد ، فالدليل المذكور ـ على تقدير تمامية دلالته ـ أخص من المدعى.

وثالثاً : أنّ الشبهة في موارد جريان أصالة الصحة مصداقية ، فان أصالة الصحة من الاصول المجعولة في الشبهات الموضوعية فقط دون الشبهات الحكمية كما هو واضح ، وقد ذكرنا في محلّه (٣) عدم صحة التمسك بالعام في الشبهات المصداقية.

الثالث : عموم التعليل الوارد في قاعدة اليد من أنّه لو لم يعمل بها لم يستقم للمسلمين سوق ، فانّه شامل لأصالة الصحة أيضاً ، إذ لو لم يعمل بها يلزم عدم استقامة سوق المسلمين أيضاً.

__________________

(١) النساء ٤ : ٢٩.

(٢) مصباح الفقاهة ٤ : ١٦٠.

(٣) محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٣٣٤ وما بعدها.

٣٩٠

وهذا الدليل أيضاً أخص من المدعى ، لأن استقامة سوق المسلمين متوقفة على العمل بأصالة الصحة في العقود والايقاعات فقط ، إذ لو لم يعمل بها في العبادات بل في المعاملات بالمعنى الأعم كالطهارة والنجاسة ، لم يلزم اختلال في السوق أصلاً.

الرابع : دعوى السيرة القطعية من جميع المسلمين المتدينين على ترتيب آثار الصحة على أعمال الناس من العبادات والمعاملات والعقود والايقاعات ، ولذا لايقدم أحد على تزويج امرأة لاحتمال كون العقد الواقع بينها وبين زوجها باطلاً.

وهذه السيرة متصلة بزمان المعصوم عليه‌السلام ولم يردع عنها.

وهذا الدليل هو الدليل التام الوافي في إثبات المقام.

الجهة الثالثة : أنّ المراد من الصحة في المقام هي الصحة الواقعية لا الصحة عند العامل على ما نسب إلى المحقق القمي قدس‌سره (١) وذلك لقيام السيرة على ترتيب آثار الواقع على العمل الصادر من الغير ، والصحة عند العامل لا توجب ترتب الآثار عند الحامل على الصحة ، فان أصالة الصحة لا تكون أزيد من العلم بالصحة. والعلم بصحة العمل عند العامل لا يوجب ترتب الأثر عند غيره ، فلو علم المأموم ببطلان صلاة إمامه باجتهاد أو تقليد ، أو من جهة إخلال الإمام بها من جهة الشبهة الموضوعية ، لم يجز الائتمام به وإن كانت الصلاة صحيحة عند الإمام.

الجهة الرابعة : أنّ الحمل على الصحة ـ باعتبار العلم بحال العامل وعدمه من حيث علمه وجهله بالصحة ـ يتصور على صور :

__________________

(١) القوانين ١ : ٥١.

٣٩١

الصورة الاولى : أن يعلم أنّ العامل جاهل بصحة عمله وفساده ، إمّا من جهة الجهل بالحكم ، أو من جهة الجهل بالموضوع ، فيكون احتمال الصحة لمجرد احتمال المصادفة الاتفاقية للواقع.

الصورة الثانية : أن لا يعلم علمه بالصحة والفساد وجهله بهما.

الصورة الثالثة : أن يعلم كون العامل عالماً بالصحة والفساد. وهذه الصورة أيضاً تتصور على أقسام ، إذ مع العلم بكونه عالماً إمّا أن يعلم موافقته مع الحامل ، وإمّا أن يعلم مخالفة العامل والحامل ، وإمّا أن لا يعلم الموافقة ولا المخالفة.

أمّا الصورة الاولى : فالظاهر عدم جريان أصالة الصحة فيها ، إذ ليس لنا دليل لفظي نتمسك بعمومه أو إطلاقه ، بل الدليل على أصالة الصحة إنّما هو السيرة على ما عرفت ، وهي دليل لبي لا بدّ فيه من الاقتصار على القدر المتيقن. ولم يحرز قيام السيرة على ترتيب الآثار على عمل كان عامله جاهلاً بصحته وفساده ، فانّ الحمل على الصحة إنّما هو من باب ظهور الحال ، أي ظاهر حال المسلم أنّه لا يقدم على العمل الفاسد. وليس لحاله ظهور مع الجهل بالصحة والفساد ، فلا مجال لجريان أصالة الصحة ، بلا فرق بين كونه جاهلاً بالحكم أو جاهلاً بالموضوع ، وكونه معذوراً أو غير معذور كما في موارد العلم الاجمالي.

وأمّا الصورة الثانية : فالظاهر جريان أصالة الصحة فيها ، فانّ السيرة قائمة على ترتيب الآثار على أعمال الناس بلا تفحص عن حال العامل من حيث كونه عالماً أو جاهلاً.

وأمّا الصورة الثالثة : فمع العلم بالموافقة تجري أصالة الصحة بلا إشكال ، وهو القدر المتيقن. وكذا مع الجهل بالموافقة والمخالفة ، لقيام السيرة على ترتيب

٣٩٢

الآثار بلا تفحص عن الموافقة والمخالفة. وأمّا مع العلم بالمخالفة فتارةً تكون المخالفة بينهما بالتباين ، بأن يكون الصحيح عند أحدهما فاسداً عند الآخر ، ولا مجال للحمل على الصحة في مثله ، إذ مفاد أصالة الصحة هو الحمل على الصحة عند الحامل ، لعدم ترتب الأثر على الصحة عند العامل على ما ذكرناه (١). والحمل على الصحة عند الحامل يكون حملاً على الفساد عند العامل ، فيكون مخالفاً لظاهر حاله. واخرى لاتكون المخالفة بينهما بالتباين ، كما إذا رأى أحدهما اشتراط العمل بشيء ، والآخر عدم اشتراطه به ، لا كونه مانعاً كما في تثليث التسبيحات الأربعة ، فيرى أحدهما اعتباره في الصلاة ، والآخر عدمه ، لا أنّه مبطل لها ، فيكون الصحيح عند أحدهما باطلاً عند الآخر دون العكس.

وفي مثله يظهر من كلام شيخنا الأنصاري (٢) قدس‌سره جريان أصالة الصحة.

وللمناقشة فيه مجال ، لعدم إحراز قيام السيرة فيه ، وبمجرد الشك في قيام السيرة تسقط أصالة الصحة ، لعدم الدليل عليها ، فلو رأى أحد اعتبار تثليث التسبيحات في الصلاة ، لا يجوز له الاقتداء بمن يرى عدم اعتباره فيها عملاً بأصالة الصحة. نعم ، لو رأى اعتباره في خصوص حال العلم ، يجوز له الاقتداء بمن لا يرى اعتباره أصلاً ، لا لأصالة الصحة ، بل لكون صلاته صحيحة حينئذ عند المأموم أيضاً ، بلا احتياج إلى إعمال أصالة الصحة.

الجهة الخامسة : أنّ الشك في الصحة إمّا أن يكون من جهة الشك في قابلية الفاعل ، وإمّا أن يكون من جهة الشك في قابلية المورد ، وإمّا أن يكون من جهة

__________________

(١) في الجهة الثالثة ص ٣٩١.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٧٢١.

٣٩٣

احتمال عدم الشرط أو وجود المانع مع إحراز قابلية الفاعل والمورد.

والقدر المتيقن من موارد جريان أصالة الصحة هي الصورة الأخيرة. وأمّا الصورتان الاوليان ، فقد وقع الخلاف بينهم في جريان أصالة الصحة فيهما.

فذهب العلامة (١) والمحقق الثاني (٢) إلى عدم جريانها فيهما ، بدعوى أنّ الحمل على الصحة إنّما هو فيما إذا كان الشك في الصحة الفعلية بعد إحراز الصحة التأهلية ، لا فيما إذا كان الشك في الصحة التأهلية ، وتبعهما في ذلك جماعة.

واختار شيخنا الأنصاري (٣) وتبعه جماعة اخرى قدس‌سرهم جريان أصالة الصحة فيهما بدعوى قيام السيرة على ترتيب الآثار على المعاملات الصادرة من الناس ، مع الشك في كون البائع مالكاً أو غاصباً مثلاً ، فالسيرة قائمة على الحمل على الصحة مع عدم إحراز قابلية الفاعل.

ثمّ إنّ قابلية الفاعل إمّا عرفية بمعنى اعتبارها في نظر العرف وأمضاه الشرع ككون البائع مميزاً ، لعدم صحة بيع الصبي غير المميز عند العرف أيضاً. وإمّا شرعية بمعنى اعتبارها بتأسيس من الشارع فقط ، ككون البائع بالغاً ، فانّ اعتبار البلوغ إنّما هو من جهة الشرع ، لعدم الفرق في نظر العرف بين العقد الواقع من البالغ والعقد الصادر من غيره ، ولا سيما إذا كان التفاوت بينهما بمقدار لا يعتد به.

وكذا القابلية المعتبرة في المورد تارةً عرفية ككون المبيع مالاً بناءً على

__________________

(١) قواعد الأحكام ٢ : ١٥٦ ، التذكرة ٢ : ٨٧ السطر ٧.

(٢) جامع المقاصد ٧ : ٣٠٧.

(٣) فرائد الاصول ٢ : ٧٢٤.

٣٩٤

اعتبار المالية في البيع العرفي كما يظهر من تعريف المصباح البيع بمبادلة مال بمال (١). واخرى شرعية كعدم كون المبيع خمراً مثلاً فانّ الشارع ألغى مالية الخمر دون العرف.

ولا يصح حمل كلام العلامة والمحقق الثاني قدس‌سرهما على اعتبار إحراز القابلية العرفية فقط في الفاعل والمورد في جريان أصالة الصحة ، وذلك لأنّهما مثّلا للشك في قابلية الفاعل بالشك في البلوغ ، والتزما بعدم جريان أصالة الصحة فيما إذا شك في صحة عمل من جهة الشك في بلوغ العامل ، ومن المعلوم أنّ اعتبار البلوغ شرعي على ما ذكرناه ، فلابدّ في جريان أصالة الصحة عندهما من إحراز القابلية العرفية والشرعية في الفاعل والمورد.

والصحيح ما ذهبا إليه ، لما ذكرناه سابقاً من أنّه ليس لأصالة الصحة دليل لفظي يتمسك بعمومه أو إطلاقه ، ولم يحرز قيام السيرة على ترتيب الآثار مع الشك في القابلية ، بل المحرز قيام السيرة على عدم ترتيب الآثار معه ، فاذا باع زيد دار عمرو مع الاعتراف بكونها دار عمرو ، وشك في أنّه وكيل عن عمرو أم لا ، فهل يقدم العقلاء على الشراء وإعطاء الثمن له والتصرف في الدار ، كلاّ. وكذا إذا طلّق زيد زوجة عمرو مثلاً ، فالسيرة جارية في أمثال هذه الموارد ـ مما شك فيه في القابلية ـ على عدم ترتيب الآثار ، ولا أقل من الشك ، وهو كافٍ في الحكم بعدم جريان أصالة الصحة ، لعدم الدليل عليها.

وأمّا ما ذكره الشيخ قدس‌سره من قيام السيرة على ترتيب الآثار على المعاملات الصادرة من الناس في الأسواق مع عدم إحراز قابلية الفاعل ، فهو وإن كان مسلّماً ، إلاّأ نّه من جهة قاعدة اليد ، فانّه لولاها لما استقام للمسلمين

__________________

(١) المصباح المنير : ٦٩.

٣٩٥

سوق ، فلا ربط له بأصالة الصحة.

وإن شئت قلت : قابلية الفاعل في الموارد المذكورة محرزة بقاعدة اليد ، لا أنّ أصالة الصحة جارية مع عدم إحراز القابلية ، فالأمثلة المذكورة خارجة عن محل الكلام ، والمثال المطابق لمحل الكلام هو الذي ذكرناه مما ليس مورداً لقاعدة اليد ، وقد ذكرنا أنّ السيرة قائمة في مثله على عدم ترتيب الآثار ، ولا أقل من الشك وهو كافٍ في المدعى ، ولذالو أنكر عمرو توكيل زيد في الطلاق في المثال الذي ذكرناه ، فانجرّ الأمر إلى الترافع يحكم بفساد الطلاق ، إلاّأن تثبت الوكالة. ولو كانت أصالة الصحة جارية في أمثال المقام ، لكان إثبات الفساد على عهدة الزوج ، فيحكم بصحة الطلاق ، إلاّأن يثبت الزوج عدم التوكيل وهو كما ترى.

ثمّ إنّ الشيخ قدس‌سره (١) بعد ما التزم بجريان أصالة الصحة ولو مع الشك في القابلية ذكر أنّه لو تنزّلنا عن ذلك وقلنا بعدم جريانها مع الشك في القابلية ، لا مانع من جريان أصالة الصحة فيما إذا شك في صحة عقد من جهة الشك في قابلية أحد من الموجب والقابل مع إحراز قابلية الآخر ، إذ بعد إحراز قابلية الموجب مثلاً لو شك في صحة العقد من جهة الشك في قابلية القابل لاحتمال كونه غير بالغ مثلاً تجري أصالة الصحة في الايجاب ، لكون قابلية الموجب محرزة على الفرض ، فيحكم بكون الايجاب إيجاباً مؤثراً ، وهو معنى صحة العقد.

وبالجملة : على فرض تسليم اعتبار إحراز القابلية يكفي إحراز قابلية أحد الطرفين ، هذا ملخص كلامه قدس‌سره.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٧٢٥.

٣٩٦

ولا يمكن المساعدة عليه بعد اعتبار إحراز القابلية كما هو المختار ، فان صحة كل شيء بحسبه ، وصحة الجزء عبارة عن كونه قابلاً للجزئية ، ولا يثبت بها وجود الجزء الآخر ولا صحته ، فصحة الايجاب عبارة عن كونه بحيث لو انضم إليه القبول لكان العقد المركب منهما مؤثراً قبالاً لفساده ، فجريان أصالة الصحة في الايجاب لا يثبت وجود القبول ولا صحته.

وبالجملة : الحمل على الصحة ليس أولى من إحرازها بالوجدان. ولو أحرزنا صحة الايجاب بالوجدان وشككنا في وجود القبول أو في صحته ، لا يمكن إثبات القبول ولا صحته بصحة الايجاب المحرزة بالوجدان ، فكيف بالصحة المحرزة بالأصل ، وهذا الذي ذكرناه مع وضوحه قد اعترف به الشيخ قدس‌سره بعد كلامه السابق بسطور ، ونتعرض لتفصيله قريباً (١) إن شاء الله تعالى.

ومما يتفرع على اعتبار إحراز القابلية في جريان أصالة الصحة أنّه لو شك في صحة بيع عين موقوفة للشك في كون المورد من الموارد التي قد استثنيت من عدم جواز بيع الوقف ، لا تجري أصالة الصحة ، إذ قابلية المحل غير محرزة بعد كون الوقف غير قابل للبيع ، إلاّفي موارد مخصوصة.

تنبيه

ليس المراد من الفاعل الذي اعتبرنا قابليته هو العاقد ، أي الذي يصدر منه انشاء العقد ، بل المراد منه في البيع مثلاً هو مالك المبيع ، فانّه هو الذي ينتقل منه المبيع وينتقل إليه الثمن ، فلا مانع من جريان أصالة الصحة فيما إذا شك في

__________________

(١) في الجهة السادسة ص ٣٩٨.

٣٩٧

صحة البيع من جهة الشك في قابلية العاقد ، لاحتمال كونه غير بالغ مثلاً مع إحراز قابلية المالك ، ولا تجري أصالة الصحة في عكس هذه الصورة ، وهو ما إذا شك في كون المالك قابلاً مع إحراز قابلية العاقد.

الجهة السادسة : صحة كل شيء بحسبه وباعتبار آثار نفسه ، فلا تترتب على جريان أصالة الصحة في جزءٍ الآثار المترتبة على المركب ، إلاّبعد إحراز بقية الأجزاء بالوجدان أو بالأصل ، ولذا ذكرنا آنفاً أنّه لا تترتب آثار العقد بجريان أصالة الصحة في الايجاب ، إلاّبعد إحراز صحة القبول أيضاً ، وعليه فاذا علمنا بوقوع إنشاء البيع من غير المالك ، وشككنا في كونه مأذوناً من قبل المالك ، لا يثبت الإذن بجريان أصالة الصحة في الانشاء ، لأن صحة الانشاء عبارة عن كونه جامعاً للشرائط المعتبرة في نفسه من العربية والماضوية مثلاً ، والاذن من المالك شرط لصحة البيع لا لانشاء العقد ، فعدم ترتب الأثر على البيع لعدم الاذن من المالك قبله ولا الاجازة بعده لا يضر بصحة الانشاء. وكذا لو شك في صحة الهبة أو بيع الصرف والسلم من جهة الشك في تحقق القبض ، فان جريان أصالة الصحة في إنشاء الهبة أو البيع لا يثبت تحقق القبض ، فلا يمكن ترتيب آثار الهبة والبيع ، إذ لا تترتب على صحة الجزء آثار الكل.

وظهر بما ذكرناه عدم تمامية ما ذكروه ـ في النزاع المعروف عند الشك في صحة بيع الرهن من جهة الشك في تقدم البيع على رجوع المرتهن عن إذنه وتأخره عنه ـ من التمسك لصحة البيع بجريان أصالة الصحة في الاذن تارةً كما عن جماعة ، ولفساده بجريان أصالة الصحة في الرجوع اخرى كما عن جماعة اخرى ، وذلك لأن صحة الاذن لا تثبت وقوع البيع قبل الرجوع ، كما أن صحة الرجوع لا تثبت وقوع البيع بعده ، فان صحة الاذن عبارة عن كونه بحيث لو وقع البيع بعده جامعاً لسائر الشرائط لترتب عليه الأثر ، كما أنّ صحة الرجوع

٣٩٨

عبارة عن كونه بحيث لو وقع البيع بعده لكان فاسداً ، هذا على القول ببقاء حق الرهانة مع الاذن في البيع. وأمّا على القول بعدمه لكون الاذن في البيع إسقاطاً لحق الرهانة ، فلا مجال لجريان أصالة الصحة في الرجوع أصلاً ، لعدم كونه قابلاً للصحة بعد سقوط حق الرهانة.

وظهر بما ذكرناه عدم جريان أصالة الصحة في أصل البيع أيضاً ، لعدم إحراز قابلية البائع حين البيع ، لاحتمال كون الرجوع قبل البيع ، فلا يكون مأذوناً من قبل المالك. ولا يكفي إحراز القابلية آناً ما ، بل لا بدّ من إحرازها حين البيع ، كما هو الحال في جميع الشرائط ، فانّ الطهارة لا بدّ من تحققها حين الصلاة ، ولا يكفي تحققها في آنٍ من الآنات كما هو واضح.

فتحصّل : أنّ التمسك بأصالة الصحة في هذه المسألة إمّا غير صحيح ، أو غير مفيد ، كما أنّه لا يصح التمسك باستصحاب بقاء الاذن إلى زمان وقوع البيع ، لأنّه معارض باستصحاب عدم وقوع البيع إلى زمان الرجوع (١) ، فلا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر ، وهو أصالة بقاء ملكية الراهن وعدم الانتقال إلى المشتري ، فيحكم بفساد البيع لأجل هذا الأصل.

الجهة السابعة : لابدّ في جريان أصالة الصحة من إحراز أصل العمل الجامع بين الصحيح والفاسد ، إذ السيرة قائمة على الحمل على الصحة فيما إذا احرز أصل العمل وشك في صحته وفساده ، لا فيما إذا شك في تحقق العمل. ومن هنا ظهر أنّه لو كان العمل من العناوين القصدية ـ كالصوم والصلاة والغسل ـ لا مجال لجريان أصالة الصحة فيما إذالم يحرز القصد ، لكون الشك حينئذ في تحقق العمل لا في صحته وفساده بعد إحراز وجوده ، كما تقدمت الاشارة إليه في قاعدة

__________________

(١) بناءً على ما تقدم منه لا معارضة بين الاستصحابين ، فراجع ص ٢٣٩.

٣٩٩

الفراغ (١) ، بل لا تجري أصالة الصحة مع عدم إحراز قصد العنوان ولو لم يكن العمل من العناوين القصدية كالطهارة من الخبث ، فانّها لا تحتاج إلى قصد العنوان أصلاً ، ومع ذلك لو رأينا أحداً يصب الماء على ثوب متنجس ولم نعلم بأ نّه قصد تطهيره أو إزالة الوسخ مثلاً ، لا مجال لجريان أصالة الصحة. نعم ، بعد إحراز كونه قاصداً التطهير لو شككنا في حصول الطهارة الشرعية لاحتمال الاخلال بشرط من شروطها كالعصر والتعدد ، يحكم بحصولها حملاً لفعله على الصحة.

وظهر بما ذكرناه أنّه لو استأجر الوصي أو الولي أحداً لاتيان الصوم أو الصلاة عن الميت فأتى الأجير بعمل لا يدري الوصي أنّه قصد به النيابة عن الميت أم لا ، لا مجال لجريان أصالة الصحة والحكم بفراغ ذمة الميت ، لأنّ النيابة من العناوين القصدية لابدّ من إحرازها في جريان أصالة الصحة على ما ذكرناه ، فبعد إحراز قصد النيابة لو شك في صحة العمل المأتي به عن الميت لاحتمال اختلال فيه جزءاً أو شرطاً ، يكون مورداً لجريان أصالة الصحة والحكم بفراغ ذمة الميت.

ثمّ إنّه ذكر شيخنا الأنصاري (٢) قدس‌سره في المقام كلاماً حاصله : أنّ العمل الصادر عن النائب ذو حيثيتين : الاولى : حيثية المباشرة وصدور العمل منه. الثانية : حيثية النيابة وكون العمل عن الغير ، ولكل من الحيثيتين أحكام.

فمن أحكام الحيثية الاولى وجوب مراعاة تكليف نفسه من حيث الجهر والاخفات ولو كان نائباً عن امرأة. وكذا بالنسبة إلى الستر ، فيجوز له الاكتفاء

__________________

(١) راجع ص ٣٨١.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٧٢٧.

٤٠٠