موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

وأمّا مثل قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ...) فهو أجنبي عن المقام ، فانّ الكلام في رجوع الجاهل إلى العالم لا إلى مثله كما هو المفروض في الآية بقرينة ذيلها وهو قوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) مضافاً إلى أنّ بعض تلك الآيات واردة في الاصول الاعتقادية التي لا بدّ فيها من تحصيل العلم واليقين ، ولايقاس عليها الأحكام الشرعية العملية ، لقلة الاصول الاعتقادية وسهولة الوصول إليها بالعلم واليقين لظهور برهانها ، بخلاف الأحكام الفرعية فانّها مع كثرتها يصعب الوصول إليها من مداركها المقررة في الشرع ، ولذا يصرف قومٌ أعمارهم لتحصيل ملكة الاستنباط ، ولا تتيسر إلاّللأوحدي منهم حسب ما افتضته المصالح الإلهية.

ثمّ إنّ المراد من جواز التقليد هو الجواز بالمعنى الأعم ، ضرورة أنّه إذا انحصر الطريق بالتقليد ، كما إذا عجز العامي عن الاحتياط وجب التقليد في حقه تعييناً ، وأمّا مع تمكنه من الاحتياط تخير بينهما كما لا يخفى.

المسألة الثانية : في وجوب تقليد الأعلم وعدمه ، ويقع الكلام فيها في مقامين :

المقام الأوّل : في بيان تكليف العامي في نفسه من حيث إنّه يتعين عليه تقليد الأعلم ، أو أنّه يتخير بينه وبين تقليد غيره.

المقام الثاني : في بيان تكليف المجتهد من حيث إنّه يجوز له الافتاء بجواز تقليد غير الأعلم أو لا.

أمّا المقام الأوّل : فلا ينبغي الاشكال في عدم جواز تقليد غير الأعلم للعامي ، لكونه عالماً بحجية فتوى الأعلم وشاكاً في حجية فتوى غيره ، والشك

٥٤١

في الحجية كافٍ في الحكم بعدمها ، وقد ذكرنا مراراً (١) : أنّه في مقام دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجية ، يكون مقتضى الأصل هو الحكم بالتعيين.

وكذالو أفتى غير الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم ، لا يجوز تقليد غير الأعلم استناداً إلى فتواه ، لعدم ثبوت حجية نفس هذه الفتوى ، أي الفتوى بجواز تقليد غير الأعلم. نعم ، لو أفتى الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم ، جاز للعامي تقليد غير الأعلم استناداً إلى فتوى الأعلم ، إذ المفروض أنّ فتوى الأعلم حجة في حقه ، وقد قامت الحجة على اعتبار فتوى غير الأعلم.

وما عن السيد (٢) قدس‌سره في العروة من الاستشكال في ذلك لا نعرف له وجهاً ، ضرورة أنّ فتواه بجواز تقليد غير الأعلم كفتواه بجواز الرجوع إلى البينة في إثبات الطهارة أو النجاسة مثلاً. نعم ، لو حصل للعامي يقين بعدم جواز تقليد غير الأعلم ، كما إذا استقل عقله بأنّ نسبة المفضول إلى الفاضل هي نسبة الجاهل إلى العالم ، لا يجوز له تقليد غير الأعلم ولو مع فتوى الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم ، لكونه عالماً بخطأ الأعلم في هذه المسألة ، فلا يجوز اتباعه فيها. ولكن هذا الفرض خارج عن محل الكلام ، فانّ الكلام فيما إذا كان العامي شاكاً في جواز تقليد غير الأعلم.

وأمّا المقام الثاني : وهو جواز الافتاء بجواز تقليد غير الأعلم فيقع الكلام فيه في موردين : المورد الأوّل : فيما إذا علم الاختلاف بين الأعلم وغيره في الفتوى تفصيلاً أو إجمالاً ، وكان فتوى الأعلم موافقاً للاحتياط. المورد الثاني : فيما إذالم يعلم اختلافهما أصلاً ، أو علم الاختلاف ولكن كان فتوى غير الأعلم

__________________

(١) راجع على سبيل المثال الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ٥٢٩.

(٢) العروة الوثقى ١ : ٢٤ المسألة ٤٦.

٥٤٢

موافقاً للاحتياط ، كما إذا رأى الأعلم استحباب السورة في الصلاة ، وغيره يرى وجوبها فيها.

أمّا المورد الأوّل : فالظاهر فيه عدم جواز تقليد غير الأعلم ، والوجه فيه : أنّ أدلة حجية الفتوى ـ من الآيات والروايات ـ لا تشمل الفتويين المتخالفين ، لما تقدّم (١) في بحث التعادل والترجيح من سقوط المتعارضين عن الاعتبار ، وأنّ دليل الاعتبار لا يشمل شيئاً منهما ، فلا بدّ في إثبات اعتبار أحدهما من التماس دليل آخر. ولا دليل في المقام إلاّالسيرة العقلائية ، ولا ينبغي الريب في قيام السيرة على الرجوع إلى الأعلم في مورد الاختلاف بينه وبين غيره ، ومع الغض عن ذلك تصل النوبة إلى الأصل ، ومقتضاه أيضاً وجوب تقليد الأعلم ، لكون المورد من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجية ، وقد تقدّم (٢) أنّ مقتضى الأصل فيه هو الحكم بالتعيين.

وأمّا المورد الثاني : فالتحقيق فيه أنّه إذا علم الاختلاف بينهما ، وكان فتوى المفضول مطابقاً للاحتياط ، جاز للعامي الرجوع إلى الأعلم ، لما تقدّم من قيام السيرة على اتباع الأعلم عند الاختلاف بينه وبين غيره ، كما جاز له العمل بفتوى المفضول فانّه لا يقصر عن الاحتياط في بقية موارد الطرق والأمارات ، وقد قرّر في محلّه (٣) أنّ حجية الطريق لا تنافي حسن الاحتياط وجوازه.

وأمّا إذالم يعلم الاختلاف بينهما أصلاً ، فقد يقال فيه بوجوب تقليد الأعلم ،

__________________

(١) في ص ٤٤٠ ـ ٤٤١.

(٢) في ص ٥٤٢.

(٣) راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب ص ٣٧٦ التنبيه الخامس.

٥٤٣

ويستدل عليه بامور :

منها : أنّ فتوى الأعلم متيقن الاعتبار ، وفتوى غيره مشكوك الاعتبار ، وذكرنا مراراً أنّ مقتضى حكم العقل ـ عند دوران الحجة بين التعيين والتخيير ـ هو التعيين.

وهذا الوجه إنّما ينفع فيما لم يثبت التخيير بدليل ، وإلاّ فلا تصل النوبة إلى العمل بالأصل مع وجود الدليل.

ومنها : قوله عليه‌السلام في مقبولة عمر بن حنظلة : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر» (١) حيث جعل عليه‌السلام الاعتبار بقول الأفقه دون غيره.

وفيه أوّلاً : ضعف المقبولة من حيث السند كما تقدّم (٢). وثانياً : أنّها واردة في مورد الاختلاف كما يفصح عنه قول السائل : «فاختلفا فيما حكما» فموردها خارج عن محل الكلام ، وهو صورة عدم العلم بالاختلاف. وثالثاً : أنّ موردها الحكومة وفصل الخصومة ، ولا وجه للتعدي منه إلى الافتاء ، بل قوله عليه‌السلام : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما ...» إلخ يدل على الاختصاص من وجهين :

الأوّل : أنّ الإمام عليه‌السلام أمر بالأخذ بما يقوله أفقه الحكمين ، وهذا مختص بباب القضاء ، وأمّا في مقام الافتاء فلا بدّ من الرجوع إلى أفقه جميع المجتهدين لا إلى أفقه الشخصين.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

(٢) في ص ٤٩١.

٥٤٤

الثاني : أنّ المقبولة دلت على وجوب الأخذ بما يقوله أورع الحكمين وأصدقهما في الحديث ، ومن الظاهر أنّ الترجيح بهما يختص بباب القضاء.

ومما ذكرناه يظهر الحال في الاستدلال بما روي عن مولانا أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام) في عهده الطويل إلى مالك الأشتر من قوله عليه‌السلام : «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك» (١) ونهيه عليه‌السلام عن إيكال القضاء إلى أحد مع وجود الأفضل منه في البلد ، فانّ مورده الحكم لا الافتاء كما هو ظاهر ، ولا سيّما مع ملاحظة أنّ الافتاء موكول إلى أفضل الجميع كما تقدّم ، لا إلى أفضل الرعية وأهل البلد. وكذا الحال في الاستدلال بالروايات (٢) الدالة على ذم من يحكم مع العلم بوجود من هو أعلم منه ، فانّها أيضاً واردة في الحكومة دون الفتوى.

ومنها : أنّ فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع من فتوى غيره ، فيجب الأخذ به.

وفيه : منع الصغرى والكبرى. أمّا الصغرى : فلمنع كون فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع من فتوى غيره دائماً ، بل ربّما تكون فتوى غيره أقرب إلى الواقع من فتوى الأعلم ، كما إذا كان فتوى غير الأعلم مطابقاً للمشهور ، أو مطابقاً لفتوى ميت كان أعلم من الأفضل الحي. وأمّا الكبرى : فلأ نّه لم يدل دليل على تعين الأخذ بما هو أقرب ، إذ ليس مناط الحجية هو الأقربية ، ولذالو وقع التعارض بين البينتين وكانت إحداهما أقرب إلى الواقع من الاخرى ، لا يمكن القول بوجوب الأخذ بالأقرب وطرح الاخرى.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٥٩ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ١٨.

(٢) منها ما روي في البحار ٢ : ١١٠ ، ٥٠ : ١٠٠.

٥٤٥

فتحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّه لا دليل على وجوب الأخذ بفتوى الأعلم في مفروض الكلام. نعم ، لو لم يثبت التخيير كان هو المتعيّن بمقتضى الأصل على ما تقدّم ، إلاّأنّ السيرة قائمة على الرجوع إلى كلٍ من الأفضل والمفضول عند عدم العلم باختلافهما فهي الدليل على التخيير ، ألا ترى أنّ الطبيب المفضول لا يبقى عاطلاً في بلد مع وجود الأفضل منه فيه ، فانّ العقلاء يراجعون المفضول كما يراجعون الأفضل. نعم ، لو احرز الاختلاف بينهما لا يراجعون المفضول كما ذكرناه سابقاً (١) ، هذا.

ويمكن الاستدلال على جواز الرجوع إلى غير الأعلم باطلاق مثل قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢) وتوهّم أنّه لا يمكن التمسك باطلاق آية السؤال ونحوها في المقام ، لأن صورة مخالفة فتوى الأعلم مع فتوى غيره خارجة عن الاطلاقات ، لما تقدّم من أنّ أدلة الحجية من الآيات والروايات لا تشمل شيئاً من المتعارضين ، وحيث إنّا نحتمل في الفرض مخالفة فتوى الأعلم لفتوى غيره ، كان التمسك بالاطلاقات من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، مدفوع بأ نّه يحرز عدم الاختلاف بين الفتويين باستصحاب عدمه الأزلي ، أو النعتي على ما ذكرناه غير مرّة (٣).

فروع :

الأوّل : إذا علم اختلاف المجتهدين وأعلمية أحدهما إجمالاً ، وجب الفحص

__________________

(١) في ص ٥٤٣.

(٢) النحل ١٦ : ٤٣.

(٣) راجع محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٣٦٠ وما بعدها.

٥٤٦

عن الأعلم وتقليده ، لما تقدّم من اختصاص الحجية بفتواه عند مخالفته لفتوى غير الأعلم ، فان لم يتمكن من تعيينه ، وجب الاحتياط بين القولين فيما إذا أمكن ، وإلاّ كان مخيراً بينهما ، وإن تمكن من تعيين الأعلم بالظن ، فانّه لا دليل على اعتباره كما لا يخفى.

الثاني : إذا علم الاختلاف بين المجتهدين ولم تعلم أعلمية أحدهما ، ولكنّه احتمل الأعلمية في كل منهما وتساويهما ، فالمشهور على تخيير العامي في تقليدهما ، بل ادعي الاتفاق عليه ، فان تمّ الاجماع فهو ، وإلاّ فالقاعدة تقتضي سقوطهما ، فلا بدّ من الاحتياط إن أمكن ، وإلاّ فالتخيير. وأمّا ما عن السيد (١) قدس‌سره ـ في العروة من أنّه إذا حصل الظن بأعلمية أحدهما تعيّن تقليده ـ لا يمكن المساعدة عليه ، لما ذكرناه من عدم الدليل على اعتباره.

الثالث : إذا علم اختلاف المجتهدين ، واحتمل الأعلمية في أحدهما المعيّن دون الآخر ، يتعيّن تقليد من يحتمل كونه أعلم ، فانّ الأمر حينئذ دائر بين التعيين والتخيير ، وقد ذكرنا مراراً أنّ مقتضى حكم العقل ـ عند دوران الحجة بينهما ـ هو التعيين. هذا بناءً على التخيير عند اختلاف المجتهدين في الفتوى وتساويهما في العلم. وأمّا بناءً على المسلك الآخر ، لزم الاحتياط إن أمكن ، وإلاّ فالحكم كما ذكر.

تذييل : في بيان المراد من الأعلم في المقام

فنقول : ليس المراد من الأعلم من هو أكثر اطلاعاً على الفروع الفقهية وحفظاً لمداركها من الآيات والروايات وغيرهما ، بل المراد به من يكون

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ٢٠ المسألة ٢١.

٥٤٧

استنباطه أرقى من الآخر بأن يكون أجود فهماً للأخبار والآيات ، وأدقّ نظراً في تنقيح المباني الفقهية من القواعد الاصولية ، وفي تطبيقها على المصاديق.

المسألة الثالثة : في اشتراط الحياة في المفتي ، واختلفت كلماتهم في ذلك. المنسوب إلى المشهور اشتراطها فيه مطلقاً. وإلى المحدثين والمحقق القمي في أجوبة مسائله (١) عدمه مطلقاً. وفصّل جمع من محققي المتأخرين بين التقليد الابتدائي والاستمراري بأ نّها شرط في الأوّل دون الثاني.

وتحقيق الحال يقتضي التكلم في مقامين : المقام الأوّل : فيما إذالم تعلم مخالفة الحي مع الميت في الفتوى. المقام الثاني : فيما إذا علمت المخالفة بينهما تفصيلاً أو إجمالاً.

أمّا المقام الأوّل : فقد يتمسك فيه لجواز تقليد الميت باستصحاب بقاء حجية فتواه ، وحيث إنّ جريان الاستصحاب يتوقف على أمرين : اليقين بالحدوث ، والشك في البقاء ، فقد اجيب عن الاستصحاب المذكور تارةً بعدم اليقين في الحدوث ، واخرى بعدم الشك في البقاء.

أمّا الأوّل : فهو أنّه في موارد التقليد الابتدائي لم تعلم حجية فتوى المجتهد ، إلاّ في حق الموجودين في زمانه ، وأمّا المعدومين فلا علم لنا بحجية فتواه في حقهم ، لاحتمال اختصاصها بالموجودين.

وفيه : أنّ مقتضى أدلة حجية الفتوى هو حجيته في حق الجاهلين على نحو القضية الحقيقية ، بمعنى أنّ كل من فرض وجوده في الخارج واتصف بكونه مكلفاً ، فهو في ظرف اتصافه به تكون فتوى المجتهد حجة في حقه ، فلا

__________________

(١) جامع الشتات ٢ : ٤٢٠.

٥٤٨

اختصاص لحجية فتواه بجاهل دون جاهل ، فلو فرض كون المعدومين في زمان المفتي موجودين فيه ، لكانت فتواه حجة في حقهم قطعاً ، غاية الأمر أنّه يحتمل ارتفاع الحجية المعلومة بارتفاع حياة المجتهد ، لاحتمال كونها مقيدة بحياة المفتي فلا مانع من جريان الاستصحاب.

وبعبارة اخرى : من كان معدوماً في زمان حياته إذا وجد وعلم بتوجه التكليف إليه ، فهو لا محالة يعلم بأنّ فتوى المجتهد المفروض مماته كانت حجة في زمان حياته على نحو القضية الحقيقية ، ويشك في بقاء حجيتها كذلك بعد مماته ، فيجري الاستصحاب في حقه ، لتمامية كلا ركنيه. مضافاً إلى أنّ الجواب المذكور على تقدير تماميته يختص ببعض الموارد ، ولا يجري بالاضافة إلى من كان موجوداً في زمان حياة المجتهد ولم يقلّده عصياناً أو غفلة ، أو لكونه عاملاً بالاحتياط فأراد تقليده بعد مماته ، فان فتوى المجتهد كانت حجة في حقه على الفرض ، فلا مانع من استصحاب حجيتها بعد مماته.

وأمّا الثاني : فقد ذكر في الكفاية (١) ما حاصله : أنّه لا مجال لاستصحاب بقاء حجية فتواه بعد موته ، إذ بموته يرتفع رأيه الذي هو موضوع الحجية ، فانّه متقوّم بالحياة في نظر العرف ، فالموضوع ليس باقياً في نظر العرف ، وإن كان باقياً في الحقيقة ولذا يرى المعاد من إعادة المعدوم. ثمّ إنّه قدس‌سره أورد على نفسه بأنّ الرأي والاعتقاد وإن كان يزول بالموت لانعدام موضوعه وهو الانسان ، إلاّأنّ حدوث الرأي في حال حياته كافٍ في جواز تقليده بعد موته أيضاً ، كما هو الحال في الرواية. وأجاب عنه بالفرق بين الرواية والفتوى وحاصله : أنّ الرواية إنّما تكون حجة بحدوثها ، فلا يضر موت الراوي بحجيتها ، بخلاف

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٧٧ ـ ٤٧٨.

٥٤٩

الفتوى فانّ حجيتها تدور مدار بقاء الرأي ، للقطع بعدم جواز تقليد من زال رأيه بعروض الجنون أو الهرم أو التبدل برأي آخر انتهى.

والتحقيق عدم تمامية هذا الجواب أيضاً ، لما ذكرناه في بحث الاستصحاب (١) من أنّ المراد ببقاء الموضوع هو اتحاد القضية المتيقنة والقضية المشكوك فيها ، ولا إشكال في اتحادهما في المقام. وأمّا ما ذكره من عدم بقاء الرأي بعد موت الانسان بنظر العرف فهو وإن كان كما ذكره ، إلاّأنّ حدوثه كافٍ في حجيته حدوثاً وبقاءً ، بمعنى أنّ حجية رأي المجتهد لا تدور مدار بقائه ، فانّ الفتوى مثل الرواية والشهادة من هذه الجهة.

توضيح ذلك : أنّ الشيء قد يكون بحدوثه موضوعاً لحكم من الأحكام ، بأن يكون حدوثه في زمانٍ كافياً في ثبوت الحكم وبقائه ، كما في حكم الشارع مثلاً بعدم جواز الصلاة خلف المحدود ، فان وقوع الحد على أحدٍ في زمان كافٍ في عدم جواز الائتمام به إلى الأبد. وقد لا يكون حدوثه كافياً في بقاء الحكم ، بل يحتاج بقاؤه إلى بقاء ذلك الشيء ، فيدور الحكم مداره حدوثاً وبقاءً ، كعدم جواز الصلاة خلف الفاسق ، فانّه يدور مدار فسقه. ولا مانع من أن تكون فتوى المجتهد من قبيل الأوّل كالرواية والشهادة ، وعليه فيمكن التمسك باستصحاب حجية رأيه بعد موته. وما ذكره من القطع بعدم جواز تقليد من زال عنه الرأي بالتبدل أو بعروض الجنون أو الهرم وهو دليل على أنّ الحجية دائرة مدار بقاء الرأي غير تام ، لاختصاص حجية الرأي بما إذالم يظهر بطلانه ، وبعد تبدل الرأي يظهر خطؤه ، فكيف يكون حجة ، والأمر في باب الرواية أيضاً كذلك ، فانّ الراوي لو اعترف بخطئه في الرواية تسقط الرواية عن الحجية بلا إشكال.

__________________

(١) في ص ٢٧١.

٥٥٠

وأمّا ارتفاع حجية الفتوى بزوال الرأي لهرم أو جنون فهو لأمرين :

الأوّل : القطع من الخارج بعدم جواز تقليد من طرأت عليه هذه الطوارئ ، فانّ المجنون لا يليق بمنصب الفتوى الذي هو فرع من فروع منصب الإمامة ، وكذا من التحق بالصبيان للهرم أو النسيان ، فانّ الشارع لا يرضى بزعامة المجنون وكونه مرجعاً للمسلمين ولو من جهة فتواه السابقة ، وكما أنّ الجنون مانع عن الرجوع إلى المتصف به في فتاواه السابقة على عروضه ، كذلك الفسق.

وهذا بخلاف الموت فانّه ارتقاء للانسان وارتحال من عالم إلى عالم أرقى وأشرف ، ولذا اتصف به الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، فالفتوى تفترق عن الرواية من هذه الجهة ، فانّ عروض الجنون أو الفسق للراوي لا يمنع عن حجية روايته التي رواها قبل عروضهما له ، كما هو المروي بالاضافة إلى كتب بني فضال (١).

الثاني : الاجماع المحقق على عدم جواز تقليد من طرأت عليه هذه الطوارئ من الجنون والفسق ، هذا.

ولكنّ التحقيق أنّه لا يمكن إثبات جواز تقليد الميت بالاستصحاب.

أمّا أوّلاً : فلما ذكرناه في بحث الاستصحاب (٢) من عدم جريانه في الشبهات الحكمية.

وأمّا ثانياً : فلأن مقتضى الاستصحاب عدم جواز تقليد الميت لا جوازه ، وذلك لما ذكرناه عند البحث عن جريان الاستصحاب في أحكام الشرائع

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٤٢ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١٣.

(٢) في ص ٤٢ وما بعدها.

٥٥١

السابقة (١) من أنّ مرجع الشك في نسخها إلى احتمال ضيق دائرة الجعل وعدم سعتها بالاضافة إلى من يوجد في زمان تشريع الشريعة اللاحقة ، فيكون المراد من النسخ بيان أمد الحكم بحسب الجعل الأوّل لا رفعه ، لكونه مستلزماً للبداء المستحيل في حقه تعالى ، وعليه فلا علم بجعل الحكم في حقه ولو بنحو القضية الحقيقية ليجري الاستصحاب ويثبت به بقاء الحكم له ، بل يجري في حقه استصحاب عدم الجعل بلا معارض. والمقام من هذا القبيل بعينه ، حيث نحتمل أن تكون حجية فتوى المجتهد مختصة (٢) بمن عاصره ، وكان من وظيفته الرجوع إليه ، وأمّا المكلف الموجود بعد موته ، فلا علم بحجية فتواه في حقه من الأوّل ، فيجري استصحاب عدم جعل الحجية في حقه بلا معارض.

وأمّا ثالثاً : فلأنّ الاستصحاب إنّما يجري عند عدم الدليل ، وقد دلّ الدليل على اشتراط الحياة في المفتي ، وهو أمران :

الأوّل : الاجماع المدعى في كلمات جماعة من الأكابر كالشهيد (٣) (قدس‌سره)

__________________

(١) في ص ١٧٧.

(٢) أي يكون الشك في حجية فتوى المجتهد في حق من يوجد بعد مماته شكاً في الحدوث لا في البقاء ، فلا مجال لجريان استصحاب بقاء الحجية في حقه. ولا تنافي بين ما أفاده سيدنا الاستاذ (دام ظلّه) هنا ، وما ذكره سابقاً من عدم كون المقام من قبيل الشك في الحدوث ، فانّ ما ذكره (دام ظلّه) سابقاً راجع إلى أنّه ليس من قبيل الشك في الحدوث من جهة احتمال اختصاص حجية فتواه بجاهل دون جاهل ، أي بجاهل موجود في حياته دون جاهل موجود بعد مماته ، وما أفاده هنا راجع إلى أنّ الشك شك في الحدوث من جهة احتمال أن تكون حجية فتواه مختصة بحال حياته فلاحظ.

(٣) الذكرى ١ : ٤٤ الاشارة الخامسة.

٥٥٢

وأمثاله. ولا يخفى أنّه لا تضر بدعوى الاجماع في المقام مخالفة المحقق القمي (١) قدس‌سره والأخباريين ، لأن مخالفته قدس‌سره مبنية على ما ذكره من أنّه لا دليل على حجية فتوى المفتي إلاّدليل الانسداد الجاري في حق العامي ، ومقتضاه جواز تقليد الميت كالحي ، وقد ذكرنا أنّ دليل جواز التقليد غير دليل الانسداد. وأمّا الأخباريون فمخالفتهم إنّما هو لأجل أنّ الرجوع إلى المفتي عندهم من قبيل الرجوع إلى الراوي ، لزعمهم أنّ التقليد بدعة ، ولا مجال لإعمال الرأي والاجتهاد في الأحكام الشرعية ، وقد مرّ في تعريف الاجتهاد أنّ ما ذكروه إنّما يتم على ما يراه العامة في معنى الاجتهاد وأمّا على ما عرّفناه فلا محذور فيه أصلاً.

الثاني : أنّ الآيات والروايات الدالة على حجية فتوى المجتهد ظاهرة في اعتبار الحياة في المفتي ، فانّ ظاهر قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢) هو اتصاف المسؤول بكونه أهل الذكر عند السؤال ، ومن الظاهر عدم صدق هذا العنوان على الميت.

ومن هنا يظهر وجه الدلالة في مثل قوله عليه‌السلام : «من كان من الفقهاء ...» (٣) إلخ وقوله عليه‌السلام : «انظروا إلى رجل قد روى حديثنا ...» (٤) إلخ ، فالظاهر من هذه الأدلة اعتبار الحياة في المفتي ، وهذا بخلاف الرواية فانّه

__________________

(١) جامع الشتات ٢ : ٤٢٠ ، قوانين الاصول ٢ : ٢٦٥.

(٢) النحل ١٦ : ٤٣.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٣١ / أبواب صفات القاضي ب ١٠ ح ٢٠.

(٤) الوسائل ٢٧ : ١٣٦ ـ ١٣٧ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١ (باختلاف يسير).

٥٥٣

لم يعتبر في حجيتها حياة الراوي ، والوجه في هذا الظهور : أنّ المرجع في باب التقليد هو المفتي ، فلا بدّ من أن يكون حياً حين الرجوع إليه لا الفتوى ، بخلاف باب الرواية ، فانّ المرجع فيه هي الرواية لا الراوي.

ويظهر هذا الفرق من مراجعة أدلة المقامين ، فانّ المستفاد من الآيات والروايات الدالة على حجية الفتوى أنّ المرجع : الفقهاء ورواة الأحاديث والعارف بالأحكام ، بخلاف أدلة حجية الرواية ، فانّ المستفاد منها وجوب الرجوع إلى الرواية لا الراوي ، ألا ترى أنّ المستفاد من قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ...)(١) إلخ أنّ الموضوع هو النبأ لا المنبئ وكذا قوله عليه‌السلام : «لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا» (٢) فان موضوع عدم جواز التشكيك ما يرويه الثقات لا الثقات ، فلاحظ.

وبالجملة : لا وجه للتمسك بالاستصحاب في إثبات حجية فتوى المجتهد بعد موته. وما قيل من أنّ مقتضى السيرة العقلائية هو جواز الرجوع إلى فتوى المجتهد بعد موته لأنّهم لا يفرّقون في الرجوع إلى أهل الخبرة ونظرهم بين حيّهم وميّتهم ، ومن ثمّ ترى أنّهم يراجعون كتب الطب ويعملون بما فيها ولو بعد موت مؤلفيها ، مندفع بما ذكرناه سابقاً ، من أنّ بناء العقلاء لا اعتبار له ما لم يقع مورداً لامضاء الشارع ، وقد عرفت أنّ مقتضى ظاهر أدلة الامضاء من الآيات والروايات هو اعتبار الحياة في حجية فتوى المجتهد.

ويمكن الاستدلال على عدم جواز تقليد الميت بوجه آخر : وهو أنّه لو جاز

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ٦.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٤٩ ـ ١٥٠ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٤٠.

٥٥٤

تقليد الأموات وجب تقليد أعلمهم ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله ، بيان الملازمة : أنّا نعلم ولو إجمالاً بمخالفة الأموات والأحياء في الفتوى ، وقد ذكرنا سابقاً أنّه مع العلم بالاختلاف يجب تقليد الأعلم ، فاذن يجب الفحص عن أعلم جميع العلماء : الأموات والأحياء ، وتقليده ، وينحصر جواز التقليد بشخص واحد من عصر المعصوم عليه‌السلام إلى زماننا هذا. أمّا بطلان التالي ، فبضرورة المذهب القاضية بفساد مسلك العامة الحاصرين لمنصب الفتوى في العلماء الأربعة. هذا كله في التقليد الابتدائي.

وأمّا البقاء على تقليد الميت ، فالظاهر جوازه ، لما تقدم من أنّ السيرة العقلائية جارية على الرجوع إلى نظر أهل الخبرة حياً كان أو ميتاً. وما ذكرناه من الأدلة الدالة على اعتبار الحياة في المفتي لايشمل البقاء. أمّا الاجماع فظاهر ، فانّ مورده التقليد الابتدائي ، وذهب جمع من المحققين إلى جواز البقاء على تقليد الميت ، فلا يمكن دعوى الاجماع على عدم جوازه. وأمّا الآيات والروايات ، فانّها تدل على اشتراط الحياة في المفتي عند التعلم منه والسؤال ، وأمّا اعتبار أن يكون العمل أيضاً في حال حياته فلا.

وأمّا ما ذكرناه أخيراً من الوجه لعدم جواز تقليد الميت ، فهو أيضاً لا يجري في البقاء ، فانّ القول بجواز البقاء على تقليد الميت لا يستلزم الانحصار المزبور كما هو واضح ، فلم يثبت ردع من الشارع عن السيرة القائمة على الرجوع إلى رأي العالم ولو بعد موته ، بل لو أغمضنا النظر عن السيرة تكفي في إثبات بقاء حجية رأي المفتي بعد مماته في حق من تعلم منه الأحكام في زمان حياته ، الاطلاقات الدالة على حجية الفتوى ، فانّ مقتضاها جواز العمل برأي من تعلم منه الأحكام في حياته مطلقاً ولو بعد مماته ، هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

٥٥٥

وأمّا المقام الثاني : وهو ما إذا علم الاختلاف بين الميت والحي تفصيلاً أو إجمالاً ، ففي مورد التقليد الابتدائي لا يجوز الرجوع إلى فتوى الميت ، سواء كان أعلم من الحي أم كان الحي أعلم منه ، لما تقدم من اعتبار الحياة في المفتي بالنسبة إلى التقليد الابتدائي ، وأمّا في مورد البقاء ، فحيث إنّه لا دليل على اعتبار الحياة في المفتي حال العمل برأيه ، فان كان الحي أعلم من الميت يجب الرجوع إليه ، لعدم اعتبار فتوى غير الأعلم في صورة العلم بمخالفته لفتوى الأعلم كما تقدّم. وبذلك يظهر حكم ما لو كان الميت أعلم من الحي ، فانّه يجب البقاء حينئذ.

ودعوى الاجماع على عدم وجوب البقاء ، وأنّ الأمر دائر بين جواز البقاء ووجوب العدول غير مسموعة ، لعدم ثبوت هذا الاجماع ، لعدم كون هذه المسألة معنونة في كلمات كثير من القدماء. نعم ، لو كانت فتوى غير الأعلم موافقة للاحتياط ، جاز العمل على طبقها من باب الاحتياط لا لجواز تقليده كما تقدم سابقاً.

وأمّا إن كانا متساويين ، فمع إمكان الاحتياط يجب ، ومع عدمه أو مع عدم وجوبه ، للاجماع المدعى في كلام الشيخ قدس‌سره (١) يجب البقاء ، لدوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجة ، ويحكم العقل بالتعيين. وبالجملة يعامل مع الميت والحي في هذه المسألة معاملة المجتهدين الحيين المتساويين ، مع العلم بالمخالفة.

بقي في المقام أمران لا بدّ من التعرض لهما :

__________________

(١) الاجتهاد والتقليد : ٥٠.

٥٥٦

الأوّل : أنّه ذكر بعضهم أنّه يعتبر في جواز البقاء على تقليد الميت العمل بفتواه حال حياته ، فلو لم يعمل به في حياته ، لم يجز البقاء على تقليده بعد موته. ومنشأ هذا الاعتبار هو تعريف التقليد بالعمل ، باعتبار أنّه لا يصدق البقاء على تقليده مع عدم العمل ، لعدم تحقق التقليد بدونه ، فيكون العمل على فتواه بعد موته تقليداً ابتدائياً.

ولا يخفى ما فيه ، إذ لم يرد عنوان البقاء على تقليد الميت في لسان دليل لفظي حتى نتكلم في مفهومه ، وأنّ البقاء هل يصدق مع عدم العمل في حال حياة المفتي أم لا يصدق ، بل حكم جواز البقاء من حيث اعتبار العمل وعدمه تابع للمدرك ، فنقول :

إن كان مدركه الاستصحاب ، فهو على تقدير جريانه يقتضي حجية فتوى الميت مطلقاً : عمل المكلف بها حال حياته أم لم يعمل ، لأن حجية فتواه على العامي حال حياته لا تتوقف على العمل بها ، فتستصحب.

وأمّا إن كان المدرك هي السيرة العقلائية القائمة على رجوع الجاهل إلى العالم ، فعدم اشتراط العمل في جواز البقاء أظهر ، فانّ السيرة جرت على رجوع العالم إلى الجاهل ، حياً كان العالم أو ميتاً ، عمل الجاهل بفتواه في حال حياته أم لم يعمل ، ولم يردع عنها الشارع إلاّفي خصوص التقليد الابتدائي عن الميت حيث منع عنه بمقتضى الأدلة السابقة الدالة على اعتبار الحياة في المفتي ، على ما تقدّم.

وكذا الحال فيما إذا اعتمدنا في جواز البقاء على الاطلاقات الدالة على حجية فتوى العالم ، فانّها تدل على اعتبار كونه حياً حال السؤال والرجوع إليه ، لا حال العمل ، وإطلاقها ينفي اعتبار العمل بفتواه قبل موته في جواز العمل بها

٥٥٧

بعد موته مع كون التعلم والأخذ في حياته.

فتحصّل : أن جواز البقاء على تقليد الميت غير متوقف على العمل وإن قلنا بكون التقليد عبارة عن العمل.

الثاني : أنّه ذكر بعضهم أيضاً أنّه لا يجوز العدول عن الحي إلى مثله فيما إذا عمل بفتوى المجتهد الأوّل ، بخلاف ما إذالم يعمل بها. ومنشأ هذا التفصيل أيضاً هو كون التقليد عبارة عن العمل ، فمع عدم العمل بفتوى المجتهد الأوّل لا يصدق العدول ليكون حراماً.

وفيه : أنّه لم يرد عدم جواز العدول في لسان دليل حتى نبحث عن صدق العدول مع عدم العمل وعدمه ، فلا بدّ من ملاحظة المدرك لحجية فتوى العالم. والذي ينبغي أن يقال : إنّه إن كان المجتهد الثاني أعلم ممن قلّده أوّلاً ، فمع العلم بالمخالفة ولو إجمالاً يجب العدول ، سواء عمل بفتوى المجتهد الأوّل أم لم يعمل بها ، إلاّإذا كانت فتوى الأوّل موافقة للاحتياط. وإن كان المجتهد الذي قلّده هو الأعلم ، لا يجوز العدول ولو قبل العمل ، إلاّإذا كانت فتوى الثاني موافقة للاحتياط. وإن كانا متساويين ، فمع العلم بالمخالفة لا بدّ من الاحتياط على ما ذكرناه سابقاً (١) ، ومع عدم إمكانه أو عدم وجوبه للاجماع ، لا يجوز العدول ، لكون المورد من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وقد سمعت مراراً أنّ مقتضى حكم العقل هو التعيين في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في باب الحجة. ولا فرق في ذلك أيضاً بين العمل بفتوى المجتهد الأوّل وعدمه.

وأمّا إذالم يعلم الاختلاف بينهما ، فان لم يكن العامي حين العدول ذاكراً

__________________

(١) في ص ٥٤٧.

٥٥٨

لفتوى المجتهد الأوّل ، جاز له العدول ، سواء عمل بفتوى المعدول عنه أم لا ، لشمول إطلاق مثل قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) لفتوى كل منهما. وأمّا إذا كان ذاكراً لها ، لا يجوز العدول ، لدوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجة ، ويحكم العقل في مثله بالتعيين على ما مرّ ، سواء عمل بفتوى المجتهد الأوّل أم لا.

فتحصّل مما ذكرناه : أنّه لا فرق في جواز العدول وعدمه بين العمل بفتوى المجتهد الأوّل وعدمه في جميع الفروض المذكورة.

هذا آخر ما أفاده سيدنا الاستاذ (دام ظلّه الوارف) في هذه الدورة ، وقد تم بيد مؤلفه الحقير محمّد سرور بن الحسن رضا الحسيني البهسودي الأفغاني ، ليلة الثلاثاء السابع عشر من جمادى الثانية في سنة خمس وسبعين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على نبينا محمّد وآله الأطهار المعصومين.

__________________

(١) النحل ١٦ : ٤٣.

٥٥٩

شكر وتقدير

لما كان الاعتراف بالجميل من أقدس الواجبات وأوجب الفرائض ، فانّي أرفع آيات الشكر والثناء والتقدير إلى الاستاذ الشيخ عبدالهادي الأسدي (أيّده الله تعالى) صاحب مطبعة النجف ومديرها ، لما قام به من شدة الاعتناء بهذا الكتاب وسائر الكتب الاسلامية من خدمة وعناية وبذل دقة في جودة الطبع (١) وصدق المعاملة وجلب أحدث الوسائل.

وهذه الكلمة وإن لم آت فيها بما تستحقه همّته السامية ، إلاّانّها رمز لاعترافي بحسن صنيعه.

المؤلف

عنى بطبعه وتصحيحه ـ الطبعة الاولى ـ

سماحة الاستاذ الشيخ كاظم الخوانساري (دام عزّه).

__________________

(١) الطبعة الاولى.

٥٦٠