موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

الماء ، لكان مقتضى الاستصحاب في الثوب هو النجاسة ، لكنّ الحكم بطهارة الثوب من آثار طهارة الماء الثابتة بالاستصحاب أو القاعدة ، فيكون الأصل الجاري في الماء حاكماً على استصحاب النجاسة في الثوب لكونه سببياً ، ويكون الأصل الجاري في الماء متكفلاً لحدوث الطهارة في الثوب فقط ولا يكون متكفلاً لطهارته في الزمان الثاني والثالث ، فبعد غسل الثوب بالماء المذكور لو شككنا في ملاقاته مع النجاسة لا مانع من جريان الاستصحاب في طهارة الثوب أو في عدم ملاقاته النجاسة.

التنبيه الرابع

المستصحب قد يكون جزئياً وقد يكون كلياً ، وجريان الاستصحاب في الكلي لا يتوقف على القول بوجود الكلي الطبيعي في الخارج ، فانّ البحث عن وجود الكلي الطبيعي وعدمه بحث فلسفي ، والأحكام الشرعية مبتنية على المفاهيم العرفية ، ولا إشكال في وجود الكلي في الخارج بنظر العرف.

ثمّ إنّه لا فرق في جريان الاستصحاب في الكلي بين أن يكون الكلي من الكليات المتأصلة أو من الكليات الاعتبارية ، ومنها الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية على ما ذكرناه (١) من أنّها من الامور الاعتبارية ، فلا مانع من استصحاب الكلي الجامع بين الوجوب والندب مثلاً ، أو من الكليات الانتزاعية كالعالم مثلاً بناءً على ما ذكرنا في بحث المشتق (٢) من أن مفاهيم

__________________

(١) في ص ٩٢ وما بعدها.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٣٠٢.

١٢١

المشتقات من الامور الانتزاعية ، فانّ الموجود في الخارج هو ذات زيد مثلاً وعلمه ، وأمّا عنوان العالم فهو منتزع من اتصاف الذات بالمبدأ وانتسابه إليه ، ولا وجود له غير الوجودين.

ثمّ إنّ الأثر الشرعي قد يكون للكلي بلا دخل للخصوصية فيه كحرمة مس كتابة القرآن ، وعدم جواز الدخول في الصلاة بالنسبة إلى الحدث الأكبر أو الأصغر ، وقد يكون الأثر للخصوصية لا للجامع ، كحرمة المكث في المسجد والعبور عن المسجدين ، فانّهما من آثار خصوص الجنابة لا مطلق الحدث ، ففيما كان الأثر للجامع لا معنى لاستصحاب الخصوصية ، وفيما كان الأثر للخصوصية لا يصح استصحاب الكلي ، بل جريان الاستصحاب تابع للأثر ، فاذا كان الشخص جنباً ثمّ شك في ارتفاعها وهو يريد الدخول في الصلاة أو مسّ كتابة القرآن ، لا يصح له استصحاب الجنابة ، لعدم ترتب الأثر على خصوصيتها ، بل يجري استصحاب الحدث الجامع بين الأكبر والأصغر. وإن أراد الدخول في المسجد ، فلا معنى لاستصحاب الحدث لعدم ترتب حرمته على الحدث الجامع بين الأكبر والأصغر ، بل لا بدّ من استصحاب خصوص الجنابة ، فبالنسبة إلى الأثر الأوّل يجري الاستصحاب في الكلي ، وبالنسبة إلى الأثر الثاني يجري الاستصحاب في الجزئي.

فتحصّل ممّا ذكرناه : أنّا لسنا مخيّرين في إجراء الاستصحاب في الكلي والجزئي على ما يظهر من عبارة الكفاية (١) ، بل جريان الاستصحاب تابع للأثر على ما ذكرنا.

ثمّ إن أقسام استصحاب الكلي أربعة :

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠٦.

١٢٢

القسم الأوّل : ما إذا علمنا بتحقق الكلي في ضمن فرد معيّن ، ثمّ شككنا في بقاء هذا الفرد وارتفاعه ، فلا محالة نشك في بقاء الكلي وارتفاعه أيضاً ، فاذا كان الأثر للكلي ، فيجري الاستصحاب فيه ، مثاله المعروف ما إذا علمنا بوجود زيد في الدار فنعلم بوجود الانسان فيها ثمّ شككنا في خروج زيد عنها فنشك في بقاء الانسان فيها ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب في بقائه إذا كان له أثر.

القسم الثاني : ما إذا علمنا بوجود الكلي في ضمن فرد مردد بين متيقن الارتفاع ومتيقن البقاء ، كما إذا علمنا بوجود إنسان في الدار مع الشك في كونه زيداً أو عمراً ، مع العلم بأ نّه لو كان زيداً لخرج يقيناً ولو كان عمراً فقد بقي يقيناً ، ومثاله في الحكم الشرعي ما إذا رأينا رطوبة مشتبهة بين البول والمني فتوضأنا ، فنعلم أنّه لو كان الحدث الموجود هو الأصغر فقد ارتفع ، ولو كان هو الأكبر فقد بقي. وكذالو اغتسلنا في المثال فنعلم أنّه لو كان الحدث هو الأكبر فقد ارتفع ، وإن كان هو الأصغر فقد بقي ، لعدم ارتفاعه بالغسل ، فنجري الاستصحاب في الحدث الجامع بين الأكبر والأصغر ونحكم بترتب أثره ، كحرمة مس كتابة القرآن وعدم جواز الدخول في الصلاة. وهذا هو القسم الثاني الذي ذكره الشيخ (١) قدس‌سره وتبعه جماعة ممن تأخر عنه.

والظاهر أنّ تخصيص هذا القسم ـ بأن يكون الفرد مردداً بين متيقن الارتفاع ومتيقن البقاء ـ إنّما هو لمجرد التمثيل ، وإلاّ فيكفي في جريان الاستصحاب مجرد احتمال البقاء ، فلو كان الفرد مردداً بين متيقن الارتفاع ومحتمل البقاء لكان الاستصحاب جارياً في الكلي ، ويكون أيضاً من القسم الثاني.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٣٨ / التنبيه الأوّل من تنبيهات الاستصحاب.

١٢٣

القسم الثالث : ما إذا علمنا بوجود الكلي في ضمن فرد معيّن وعلمنا بارتفاع هذا الفرد لكن احتملنا وجود فرد آخر مقارن مع وجود الفرد الأوّل أو مقارن مع ارتفاعه ، كما إذا علمنا بوجود زيد في الدار وعلمنا بخروجه عنها ، لكن احتملنا بقاء الانسان في الدار لاحتمال دخول عمرو فيها ولو مقارناً مع خروجه عنها.

القسم الرابع : ما إذا علمنا بوجود فرد معيّن وعلمنا بارتفاع هذا الفرد ، ولكن علمنا بوجود فرد معنون بعنوان يحتمل انطباقه على الفرد الذي علمنا ارتفاعه ، ويحتمل انطباقه على فرد آخر ، فلو كان العنوان المذكور منطبقاً على الفرد المرتفع ، فقد ارتفع الكلي ، وإن كان منطبقاً على غيره فالكلي باق.

وامتياز هذا القسم عن القسم الأوّل ظاهر. وامتيازه عن القسم الثاني أنّه في القسم الثاني يكون الفرد مردداً بين متيقن الارتفاع ومتيقن البقاء أو محتمله على ما ذكرنا ، بخلاف القسم الرابع فانّه ليس فيه الفرد مردداً بين فردين ، بل الفرد معيّن ، غاية الأمر أنّه يحتمل انطباق عنوان آخر عليه. وامتيازه عن القسم الثالث بعد اشتراكهما في احتمال تقارن فرد آخر مع هذا الفرد المعيّن الذي علمنا ارتفاعه أنّه ليس في القسم الثالث علمان ، بل علم واحد متعلق بوجود فرد معيّن ، غاية الأمر نحتمل تقارن فرد آخر مع حدوثه أو مع ارتفاعه ، بخلاف القسم الرابع ، فانّ المفروض فيه علمان : علم بوجود فرد معيّن ، وعلم بوجود ما يحتمل انطباقه على هذا الفرد وعلى غيره.

مثاله ما إذا علمنا بوجود زيد في الدار وعلمنا بوجود متكلم فيها ، ثمّ علمنا بخروج زيد عنها ، ولكن احتملنا بقاء الانسان فيها لاحتمال أن يكون عنوان المتكلم منطبقاً على فرد آخر ، مثاله في الأحكام الشرعية ما إذا علمنا بالجنابة ليلة الخميس مثلاً واغتسلنا منها ، ثمّ رأينا المني في ثوبنا يوم الجمعة مثلاً ،

١٢٤

فنعلم بكوننا جنباً حين خروج هذا المني ، ولكن نحتمل أن يكون هذا المني من الجنابة التي اغتسلنا منها وأن يكون من غيرها ، هذه هي أقسام استصحاب الكلي.

أمّا القسم الأوّل : فلا ينبغي الاشكال في جريان الاستصحاب فيه كما تقدّم.

وأمّا القسم الثاني : فيجري فيه الاستصحاب أيضاً ، ففي مثال الحدث المردد بين الأكبر والأصغر نجري الاستصحاب في الكلي ونحكم بعدم جواز الدخول في الصلاة وحرمة مس كتابة القرآن. وأمّا عدم جواز المكث في المسجد ، فليس أثراً لجامع الحدث ، بل لخصوص الجنابة ، ولا مجال لجريان الاستصحاب فيها لعدم اليقين بها. نعم ، لا يجوز له المكث في المسجد لأجل العلم الاجمالي بحرمته أو بوجوب الوضوء للصلاة ، وهو شيء آخر لا ربط له بمسألة الاستصحاب.

واستشكل بعضهم في جريان الاستصحاب في القسم الثاني بأنّ الاستصحاب فيه وإن كان جارياً في نفسه لتمامية موضوعه من اليقين والشك ، إلاّأ نّه محكوم بأصل سببي ، فانّ الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل والأصل عدمه ، ففي المثال يكون الشك في بقاء الحدث مسبباً عن الشك في حدوث الجنابة ، فتجري أصالة عدم حدوث الجنابة ، وبانضمام هذا الأصل إلى الوجدان يحكم بارتفاع الحدث ، فانّ الحدث الأصغر مرتفع بالوجدان ، والحدث الأكبر منفي بالأصل.

واجيب عنه بوجوه :

الأوّل : ما في الكفاية (١) من أنّ الشك في بقاء الكلي ليس مسبباً عن الشك

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠٦.

١٢٥

في حدوث الفرد الطويل ، بل مسبب عن الشك في كون الحادث طويلاً أو قصيراً. وبعبارة اخرى : الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في خصوصية الفرد الحادث ، وليس له حالة سابقة حتى يكون مورداً للأصل ، فتجري فيه أصالة عدم كونه طويلاً ، فما هو مسبوق بالعدم وهو حدوث الفرد الطويل ليس الشك في بقاء الكلي مسبباً عنه ، وما يكون الشك فيه مسبباً عنه وهو كون الحادث طويلاً ليس مسبوقاً بالعدم حتى يكون مورداً للأصل.

وهذا الجواب مبني على عدم جريان الأصل في العدم الأزلي ، وأمّا إذا قلنا بجريانه كما هو الصحيح على ما ذكرنا في محلّه (١) ، فلا مانع من جريان أصالة عدم كون الحادث طويلاً ، ولذا بنينا في الفقه على عدم جريان استصحاب الكلي ، للأصل السببي الحاكم عليه في موارد منها (٢) : ما إذا شك في كون نجسٍ بولاً أو عرق كافر مثلاً ، فتنجس به شيء فغسل مرة واحدة ، فلا محالة نشك في بقاء النجاسة وارتفاعها على تقدير اعتبار التعدد في الغسل في طهارة المتنجس بالبول ، إلاّأ نّه مع ذلك لا نقول بجريان الاستصحاب في كلي النجاسة ووجوب الغسل مرةً ثانية ، لأنّه تجري أصالة عدم كون الحادث بولاً فنحكم بكفاية المرة ، للعمومات الدالة على كفاية الغسل مرةً واحدةً وخرج عنها البول بأدلة خاصة.

الثاني : ما ذكره أيضاً في الكفاية (٣) : وهو أنّ بقاء الكلي عين بقاء الفرد الطويل ، فانّ الكلي عين الفرد لا أنّه من لوازمه ، فلاتكون هناك سببية ومسببية.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٣٦٠ وما بعدها.

(٢) راجع شرح العروة ٣ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(٣) كفاية الاصول : ٤٠٦.

١٢٦

وفيه : أنّ العينية لا تنفع ، بل جريان الاستصحاب في الكلي على العينية أولى بالاشكال منه على السببية.

الثالث : ما ذكره العلاّمة النائيني (١) قدس‌سره وهو أنّ الأصل السببي معارض بمثله ، فانّ أصالة عدم حدوث الفرد الطويل معارض بأصالة عدم حدوث الفرد القصير ، وأصالة عدم كون الحادث طويلاً معارض بأصالة عدم كون الحادث قصيراً ، وبعد سقوط الأصل السببي للمعارضة تصل النوبة إلى الأصل المسببي ، وهو استصحاب بقاء الكلي.

وفيه : أنّ دوران الأمر بين الفرد الطويل والقصير يتصور على وجهين :

الوجه الأوّل : أن يكون للفرد الطويل أثر مختص به وللفرد القصير أيضاً أثر مختص به ، ولهما أثر مشترك بينهما كما في الرطوبة المرددة بين البول والمني ، فانّ الأثر المختص بالبول هو وجوب الوضوء وعدم كفاية الغسل للصلاة ، والأثر المختص بالمني هو وجوب الغسل وعدم كفاية الوضوء ، وعدم جواز المكث في المسجد وعدم جواز العبور عن المسجدين ، والأثر المشترك هو حرمة مس كتابة القرآن ، ففي مثل ذلك وإن كان ما ذكره من تعارض الاصول صحيحاً ، إلاّ أنّه لا فائدة في جريان الاستصحاب في الكلي في مورده ، لوجوب الجمع بين الوضوء والغسل في المثال بمقتضى العلم الاجمالي ، فان نفس العلم الاجمالي كافٍ في وجوب إحراز الواقع ، ولذا قلنا في دوران الأمر بين المتباينين (٢) بوجوب الاجتناب عن الجميع للعلم الاجمالي ، فهذا الاستصحاب مما لا يترتب عليه أثر.

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٩٢ ، فوائد الاصول ٤ : ٤١٨.

(٢) في الجزء الثاني من هذا الكتاب ، ص ٤٠٣ وما بعدها.

١٢٧

الوجه الثاني : أن يكون لهما أثر مشترك ويكون للفرد الطويل أثر مختص به ، فيكون من قبيل دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، كما في المثال الذي ذكرناه من كون نجسٍ مردداً بين البول وعرق الكافر ، فانّ وجوب الغسل في المرة الاولى أثر مشترك فيه ، ووجوب الغسل مرةً ثانيةً أثر لخصوص البول ، ففي مثله لو جرى الاستصحاب في الكلي وجب الغسل مرةً ثانية ، ولو لم يجر كفى الغسل مرةً.

لكنّه لا يجري لحكومة الأصل السببي عليه ، وهو أصالة عدم حدوث البول أو أصالة عدم كون الحادث بولاً ، ولا تعارضها أصالة عدم كون الحادث عرق كافر أو أصالة عدم حدوثه ، لعدم ترتب أثر عليها ، إذ المفروض العلم بوجوب الغسل في المرة الاولى على كل تقدير ، فاذن لا يجري الأصل في القصير حتى يعارض جريان الأصل في الطويل. وأمّا إثبات حدوث الفرد الطويل بأصالة عدم حدوث الفرد القصير ، فهو متوقف على القول بالأصل المثبت ولا نقول به.

وملخص الاشكال على هذا الجواب : أنّه في القسم الأوّل وإن كانت الاصول السببية متعارضة متساقطة ، إلاّأ نّه لا أثر لجريان الاستصحاب في الكلي ، لتنجز التكليف بالعلم الاجمالي. وفي القسم الثاني يكون الأصل السببي حاكماً على استصحاب الكلي ولا يكون له معارض ، لعدم جريان الأصل في الفرد القصير لعدم ترتب الأثر عليه.

الرابع : ما ذكره أيضاً في الكفاية (١) وجعله ثالثاً من الأجوبة ، وهو أنّ الشك في بقاء الكلي وإن سلّم كونه مسبباً عن الشك في حدوث الفرد الطويل ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠٦.

١٢٨

إلاّ أنّ مجرد السببية لا تكفي في حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي ، بل الميزان في الحكومة أن يكون ثبوت المشكوك الثاني أو انتفاؤه من الآثار الشرعية للأصل السببي ، ليكون الأصل السببي رافعاً للشك المسببي بالتعبد الشرعي ، فلا يجري الأصل فيه ، لانتفاء موضوعه وهو الشك بالتعبد الشرعي.

والأوّل وهو ما كان ثبوت المشكوك الثاني من اللوازم الشرعية للأصل السببي ، كما في استصحاب الطهارة بالنسبة إلى قاعدة الطهارة ، فانّ استصحاب الطهارة يرفع الشك في الطهارة ويثبتها شرعاً ، فلا مجال لجريان قاعدة الطهارة ، لانتفاء موضوعها وهو الشك بالتعبد الشرعي.

والثاني وهو ما كان انتفاء المشكوك الثاني من الآثار الشرعية للأصل السببي كما في تطهير ثوب متنجس بماء مستصحب الطهارة ، فانّ طهارة الثوب المغسول به من الآثار الشرعية لاستصحاب الطهارة فيه ، فلا يبقى معه شك في نجاسة الثوب ليجري فيها الاستصحاب ، فانّها قد ارتفعت بالتعبد الشرعي ، وهذا بخلاف المقام فانّ عدم بقاء الكلي ليس من الآثار الشرعية لعدم حدوث الفرد الطويل ، بل من لوازمه العقلية ، فلا حكومة لأصالة عدم حدوث الفرد الطويل على استصحاب الكلي.

وهذا هو الجواب الصحيح ، فلا ينبغي الاشكال في جريان القسم الثاني من استصحاب الكلي.

ثمّ لا يخفى أن ما ذكرنا من جريان الاستصحاب في الكلي إنّما هو فيما إذالم يكن أصل يعيّن به الفرد ، وإلاّ فلا مجال لجريان الاستصحاب في الكلي ، كما إذا كان أحد محدثاً بالحدث الأصغر ، فخرجت منه رطوبة مرددة بين البول والمني ثمّ توضأ فشك في بقاء الحدث ، فمقتضى استصحاب الكلي وإن كان بقاء الحدث ، إلاّأنّ الحدث الأصغر كان متيقناً ، وبعد خروج الرطوبة المرددة يشك

١٢٩

في تبدله بالأكبر ، فمقتضى الاستصحاب بقاء الأصغر وعدم تبدله بالأكبر ، فلا يجري الاستصحاب في الكلي ، لتعين الفرد بالتعبد الشرعي ، فيكفي الوضوء.

نعم ، من كان متطهراً ثمّ خرجت منه الرطوبة المرددة لا يجوز له الاكتفاء بالوضوء فقط ، بل يجب عليه الجمع بين الوضوء والغسل ، فما ذكره صاحب العروة من عدم كفاية الوضوء فقط محمول على هذه الصورة كما يظهر من مراجعة كلامه (١) قدس‌سره.

ولا يتوقف ما ذكرنا ـ من تعيّن الأصغر بالأصل وعدم جريان الاستصحاب في الكلي ـ على كون الحدث الأصغر والأكبر من قبيل المتضادين بحيث لا يمكن اجتماعهما ، بل الفرد يعيّن بالأصل على جميع الأقوال فيهما ، فانّ الأقوال فيهما ثلاثة :

الأوّل : كونهما متضادين.

الثاني : كونهما شيئاً واحداً وإنّما الاختلاف بينهما في القوّة والضعف ، فالأصغر مرتبة ضعيفة من الحدث ، والأكبر مرتبة قوية منه ، كما قيل في الفرق بين الوجوب والاستحباب : إنّ الوجوب مرتبة قوية من الطلب والاستحباب مرتبة ضعيفة منه.

الثالث : كونهما من قبيل المتخالفين بحيث يمكن اجتماعهما كالسواد والحلاوة مثلاً.

فعلى الأوّل نقول حيث إنّ الأصغر كان متيقناً وشك في تبدله بالأكبر فالأصل عدم تبدله به. وعلى الثاني نقول الأصل عدم حدوث المرتبة القوية بعد كون المرتبة الضعيفة متيقنة. وعلى الثالث نقول الأصل عدم اجتماع الأكبر

__________________

(١) العروة الوثقى : ١٢٩ و ١٣٠ / فصل في الاستبراء ، المسألة ٨ [٤٥٨].

١٣٠

مع الأصغر ، فعلى جميع الأقوال يعيّن الفرد فلا مجال لجريان الاستصحاب في الكلي.

بقي الكلام في إشكال آخر على استصحاب الكلي منسوب إلى السيد الصدر قدس‌سره وهو المعروف بالشبهة العبائية ، ومبني على القول بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة ، وملخص هذا الاشكال : أنّه لو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد طرفي العباء ثم غسلنا أحد الطرفين ، فلا إشكال في أنّه لا يحكم بنجاسة الملاقي لهذا الطرف المغسول ، للعلم بطهارته بعد الغسل ، إمّا بالطهارة السابقة أو بالطهارة الحاصلة بالغسل ، وكذا لا يحكم بنجاسة الملاقي للطرف الآخر ، لأنّ المفروض عدم نجاسة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة ، ثمّ لو لاقى شيء مع الطرفين فلا بدّ من الحكم بعدم نجاسته أيضاً ، لأنّه لاقى طاهراً يقينياً وأحد طرفي الشبهة ، والمفروض أنّ ملاقاة شيء منهما لا توجب النجاسة ، مع أنّ مقتضى استصحاب الكلي هو الحكم بنجاسة الملاقي للطرفين ، فلا بدّ من رفع اليد عن جريان الاستصحاب في الكلي ، أو القول بنجاسة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة ، لعدم إمكان الجمع بينهما في المقام.

وقد أجاب عنه المحقق النائيني (١) قدس‌سره بجوابين في الدورتين :

الجواب الأوّل : أنّ الاستصحاب الجاري في مثل العباء ليس من استصحاب الكلي في شيء ، لأن استصحاب الكلي إنّما هو فيما إذا كان الكلي المتيقن مردداً بين فردٍ من الصنف الطويل وفردٍ من الصنف القصير ، كالحيوان المردد بين البق والفيل على ما هو المعروف ، بخلاف المقام فانّ التردد فيه في خصوصية محل النجس مع العلم بخصوصية الفرد ، والتردد في خصوصية المكان أو الزمان

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٤٢١ و ٤٢٢ ، أجود التقريرات ٤ : ٩٤ و ٩٥.

١٣١

لا يوجب كلية المتيقن ، فليس الشك حينئذ في بقاء الكلي وارتفاعه حتى يجري الاستصحاب فيه ، بل الشك في بقاء الفرد الحادث المردد من حيث المكان وذكر لتوضيح مراده مثالين :

الأوّل : ما إذا علمنا بوجود زيد في الدار فانهدم الطرف الشرقي منها ، فلو كان زيد فيه فقد مات بانهدامه ، ولو كان في الطرف الغربي فهو حي ، فحياة زيد وإن كانت مشكوكاً فيها إلاّأ نّه لا مجال معه لاستصحاب الكلي ، والمقام من هذا القبيل بعينه.

الثاني : ما إذا كان لزيد درهم واشتبه بين ثلاثة دراهم مثلاً ، ثمّ تلف أحد الدراهم ، فلا معنى لاستصحاب الكلي بالنسبة إلى درهم زيد ، فانّه جزئي واشتبه بين التالف والباقي.

وهذا الجواب غير تام ، فانّ الاشكال ليس في تسمية الاستصحاب الجاري في مسألة العباء باستصحاب الكلي ، بل الاشكال إنّما هو في أنّ جريان استصحاب النجاسة لا يجتمع مع القول بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة ، سواء كان الاستصحاب من قبيل استصحاب الكلي أو الجزئي ، فكما أنّه لا مانع من استصحاب حياة زيد في المثال الأوّل ، كذلك لا مانع من جريان الاستصحاب في مسألة العباء. وأمّا المثال الثاني فالاستصحاب فيه معارض بمثله ، فانّ أصالة عدم تلف درهم زيد معارض بأصالة عدم تلف درهم غيره ، ولو فرض عدم الابتلاء بالمعارض لا مانع من جريان الاستصحاب فيه ، كما إذا اشتبه خشبة زيد مثلاً بين أخشاب لا مالك لها لكونها من المباحات الأصلية فتلف أحدها ، فتجري أصالة عدم تلف خشبة زيد بلا معارض.

الجواب الثاني : أنّ الاستصحاب المدعى في المقام لا يمكن جريانه في مفاد كان الناقصة ، بأن يشار إلى طرف معيّن من العباء ويقال : إنّ هذا الطرف كان

١٣٢

نجساً وشك في بقائها ، فالاستصحاب يقتضي نجاسته ، وذلك لأن أحد طرفي العباء مقطوع الطهارة والطرف الآخر مشكوك النجاسة من أوّل الأمر ، وليس لنا يقين بنجاسة طرف معيّن يشك في بقائها ليجري الاستصحاب فيها.

نعم ، يمكن إجراؤه في مفاد كان التامة بأن يقال : إنّ النجاسة في العباء كانت موجودة وشك في ارتفاعها فالآن كما كانت ، إلاّأ نّه لا تترتب نجاسة الملاقي على هذا الاستصحاب إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، لأنّ الحكم بنجاسة الملاقي يتوقف على نجاسة ما لاقاه وتحقق الملاقاة خارجاً ، ومن الظاهر أنّ استصحاب وجود النجاسة في العباء لا يثبت ملاقاة النجس إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، ضرورة أنّ الملاقاة ليست من الآثار الشرعية لبقاء النجاسة ، بل من الآثار العقلية ، وعليه فلا تثبت نجاسة الملاقي للعباء.

ونظير ذلك ما ذكره الشيخ (١) قدس‌سره في استصحاب الكرية فيما إذا غسلنا متنجساً بماء يشك في بقائه على الكرية ، من أنّه إن اجري الاستصحاب في مفاد كان الناقصة بأن يقال : إنّ هذا الماء كان كراً فالآن كما كان ، فيحكم بطهارة المتنجس المغسول به ، لأن طهارته تتوقف على أمرين : كرية الماء ، والغسل فيه ، وثبت الأوّل بالاستصحاب والثاني بالوجدان ، فيحكم بطهارته ، بخلاف ما إذا اجري الاستصحاب في مفاد كان التامة بأن يقال : كان الكر موجوداً والآن كما كان ، فانّه لا يترتب على هذا الاستصحاب الحكم بطهارة المتنجس إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، لأنّ المعلوم بالوجدان هو غسله بهذا الماء ، وكريته ليست من اللوازم الشرعية لوجود الكر ، بل من اللوازم العقلية له.

وفي هذا الجواب أيضاً مناقشة ظاهرة ، إذ يمكن جريان الاستصحاب في

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٦٠ ، وراجع كتاب الطهارة ١ : ١٦١.

١٣٣

مفاد كان الناقصة مع عدم تعيين موضع النجاسة ، بأن نشير إلى الموضع الواقعي ونقول : خيط من هذا العباء كان نجساً والآن كما كان ، أو نقول : طرف من هذا العباء كان نجساً والآن كما كان ، فهذا الخيط أو الطرف محكوم بالنجاسة للاستصحاب ، والملاقاة ثابتة بالوجدان ، إذ المفروض تحقق الملاقاة مع طرفي العباء ، فيحكم بنجاسة الملاقي لا محالة.

وما ذكره قدس‌سره ـ من أنّه لا يمكن جريان الاستصحاب بنحو مفاد كان الناقصة ، لأن أحد طرفي العباء مقطوع الطهارة والطرف الآخر مشكوك النجاسة من أوّل الأمر ـ جارٍ في جميع صور استصحاب الكلي ، لعدم العلم بالخصوصية في جميعها ، ففي مسألة دوران الأمر بين الحدث الأكبر والأصغر يكون الحدث الأصغر مقطوع الارتفاع بعد الوضوء ، والحدث الأكبر مشكوك الحدوث من أوّل الأمر ، وهذا غير مانع عن جريان الاستصحاب في الكلي ، لتمامية أركانه من اليقين والشك.

فالانصاف في مثل مسألة العباء هو الحكم بنجاسة الملاقي لا لرفع اليد عن الحكم بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة على ما ذكره السيد الصدر قدس‌سره من أنّه على القول بجريان استصحاب الكلي لا بدّ من رفع اليد عن الحكم بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة ، بل لعدم جريان القاعدة التي نحكم لأجلها بطهارة الملاقي في المقام ، لأنّ الحكم بطهارة الملاقي إمّا أن يكون لاستصحاب الطهارة في الملاقي ، وإمّا أن يكون لجريان الاستصحاب الموضوعي وهو أصالة عدم ملاقاته النجس. وكيف كان يكون الأصل الجاري في الملاقي في مثل مسألة العباء محكوماً باستصحاب النجاسة في العباء ، فمن آثار هذا الاستصحاب هو الحكم بنجاسة الملاقي.

ولا منافاة بين الحكم بطهارة الملاقي في سائر المقامات والحكم بنجاسته في

١٣٤

مثل المقام ، للأصل الحاكم على الأصل الجاري في الملاقي ، فانّ التفكيك في الاصول كثير جداً ، فبعد ملاقاة الماء مثلاً لجميع أطراف العباء نقول : إنّ الماء قد لاقى شيئاً كان نجساً ، فيحكم ببقائه على النجاسة للاستصحاب فيحكم بنجاسة الماء ، فتسمية هذه المسألة بالشبهة العبائية ليست على ما ينبغي.

ثمّ إنّ هنا فرعين لا بأس بالاشارة إليهما :

الفرع الأوّل : إذا علمنا بنجاسة شيء فعلاً ، وشككنا في أنّ نجاسته ذاتية غير قابلة للتطهير أو عرضية قابلة له ، كما إذا علمنا بأنّ هذا الثوب من الصوف نجس فعلاً ، ولكن لا ندري أنّ نجاسته لكونه من صوف الخنزير أو لملاقاة البول مثلاً ، فعلى القول بجريان الاستصحاب في العدم الأزلي كما هو المختار ، نحكم بعدم كونه من صوف الخنزير وبطهارته بعد الغسل. وأمّا على القول بعدم جريان الاستصحاب في العدم الأزلي فيحكم بنجاسته بعد الغسل لاستصحاب كلي النجاسة ، لدوران النجاسة حينئذ بين فرد مقطوع الارتفاع بعد الغسل وفرد متيقن البقاء.

الفرع الثاني : إذا علمنا بطهارة شيء فعلاً لقاعدة الطهارة ثمّ عرضت له النجاسة فطهّرناه ، فشككنا في ارتفاعها لاحتمال كون النجاسة ذاتية غير قابلة للتطهير ، كما في الصابون الذي يؤتى به من الخارج ويحتمل كونه مصنوعاً من شحم الخنزير والميتة ، فانّه محكوم بالطهارة فعلاً لقاعدة الطهارة ، فاذا عرضت له النجاسة فغسلناه ، فلا محالة نشك في طهارته ، لاحتمال كونه مصنوعاً من نجس العين ، ولكنّه مع ذلك محكوم بالطهارة بعد الغسل ، ولا مجال لجريان استصحاب الكلي حتى على القول بعدم جريان الاستصحاب في العدم الأزلي ، لأ نّه قبل طروء النجاسة العرضية عليه كان محكوماً بالطهارة لقاعدة الطهارة ، وبعد كونه طاهراً بالتعبد الشرعي يجري عليه أحكام الطاهر ، ومن جملتها أنّه

١٣٥

يطهر من النجاسة العرضية بالتطهير الشرعي ، وبالجملة بعد الحكم بكونه طاهراً بالتعبد الشرعي يدخل تحت العمومات الدالة على أنّ المتنجسات تطهر بوصول المطر أو الماء الجاري إليها ، فلا مجال لجريان استصحاب الكلي ، لكونه محكوماً بالأصل الموضوعي. هذا تمام الكلام في القسم الثاني من استصحاب الكلي.

وأمّا القسم الثالث : فقد يتوهم جريان الاستصحاب فيه ، بدعوى تمامية أركانه من اليقين والشك بالنسبة إلى الكلي. واختار الشيخ قدس‌سره (١) التفصيل بين احتمال حدوث فرد آخر مقارن مع حدوث الفرد المعلوم ، واحتمال حدوثه مقارناً مع ارتفاع الفرد الأوّل ، فقال بجريان الاستصحاب في الأوّل دون الثاني ، بدعوى أنّه في الصورة الاولى يكون الكلي المعلوم سابقاً مردداً بين أن يكون وجوده على نحو لا يرتفع بارتفاع الفرد المعلوم ارتفاعه ، وأن يكون على نحو يرتفع بارتفاع ذلك الفرد ، فيحتمل كون الثابت في الآن اللاحق عين الموجود سابقاً ، فيجري الاستصحاب فيه ، بخلاف الصورة الثانية ، فانّ الكلي المعلوم سابقاً قد ارتفع يقيناً ، ووجوده في ضمن فرد آخر مشكوك الحدوث من الأوّل ، فلا يمكن جريان الاستصحاب فيه.

والصحيح عدم جريان الاستصحاب في الصورتين ، لأنّ الكلي لا وجود له إلاّ في ضمن الفرد ، فهو حين وجوده متخصص باحدى الخصوصيات الفردية ، فالعلم بوجود فردٍ معيّن يوجب العلم بحدوث الكلي بنحو الانحصار ، أي يوجب العلم بوجود الكلي المتخصص بخصوصية هذا الفرد ، وأمّا وجود الكلي المتخصص بخصوصية فرد آخر ، فلم يكن معلوماً لنا ، فما هو المعلوم لنا قد ارتفع يقيناً ،

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٤٠.

١٣٦

وما هو محتمل البقاء لم يكن معلوماً لنا ، فلا يكون الشك متعلقاً ببقاء ما تعلق به اليقين ، فلا يجري فيه الاستصحاب.

وبما ذكرناه من البيان ظهر الفرق بين القسم الثاني والقسم الثالث ، فانّ اليقين في القسم الثالث قد تعلق بوجود الكلي المتخصص بخصوصية معينة ، وقد ارتفع هذا الوجود يقيناً. وما هو محتمل للبقاء فهو وجود الكلي المتخصص بخصوصية اخرى الذي لم يكن لنا علم به ، فيختلف متعلق اليقين والشك ، وهذا بخلاف القسم الثاني ، فانّ المعلوم فيه هو وجود الكلي المردد بين الخصوصيتين ، فيحتمل بقاء هذا الوجود بعينه ، فيكون متعلق اليقين والشك واحداً ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه. وبما ذكرناه عرفت ما في كلام الشيخ قدس‌سره من التفصيل ، هذا.

وربّما يقال نقضاً على الشيخ قدس‌سره : إنّه إذا قام أحد من النوم واحتمل جنابته في حال النوم ، لم يجز له الدخول في الصلاة مع الوضوء بناءً على جريان الاستصحاب في الصورة الاولى من القسم الثالث من استصحاب الكلي ، وذلك لجريان استصحاب الحدث حينئذ بعد الوضوء ، لاحتمال اقتران الحدث الأصغر مع الجنابة ، وهي لا ترتفع بالوضوء ، ولا يلتزم بهذا الحكم الشيخ قدس‌سره ولا غيره ، فانّ كفاية الوضوء حينئذ من الواضحات ، وهذا يكشف عن عدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث مطلقاً.

ولكن الانصاف عدم ورود هذا النقض على الشيخ قدس‌سره وذلك لأنّ الواجب على المحدث هو الوضوء ، لقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ...)(١) والجنب خارج من هذا العموم ويجب عليه الغسل لقوله تعالى :

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

١٣٧

(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ...)(١) فيكون وجوب الوضوء مختصاً بغير الجنب ، فانّ التقسيم قاطع للشركة ، فالمكلف بالوضوء هو كل محدث لا يكون جنباً ، فهذا الذي قام من نومه ويحتمل كونه جنباً حين النوم تجري في حقّه أصالة عدم تحقق الجنابة ، فكونه محدثاً محرزٌ بالوجدان ، وكونه غير جنب محرز بالتعبد الشرعي ، فيدخل تحت قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...) فيكون الوضوء في حقه رافعاً للحدث ، ولا مجال لجريان الاستصحاب في الكلي ، لكونه محكوماً بالأصل الموضوعي.

ثمّ إنّه قد استثنى الشيخ قدس‌سره (٢) صورة اخرى من القسم الثالث والتزم بجريان الاستصحاب فيها ، وهي ما يتسامح فيه العرف ، فيعدّون الفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمر الواحد ، كما إذا علم السواد الشديد في محل وشك في تبدله بسواد ضعيف أو بالبياض ، فيستصحب مطلق السواد ، وكذالو كان الشخص في مرتبة عالية من العدالة ، وشك في تبدلها بالفسق أو بمرتبة نازلة من العدالة ، فيجري الاستصحاب في مطلق العدالة.

وفيه : أنّ جريان الاستصحاب في مثل الأمثلة المذكورة وإن كان مما لا إشكال فيه ، إلاّأ نّه لا يصح عدّه من القسم الثالث من استصحاب الكلي ، فانّه بعد كون الفرد اللاحق هو الفرد السابق بنظر العرف وكون الشدة والضعف من الحالات ، يكون الاستصحاب من الاستصحاب الجاري في الفرد ، أو القسم الأوّل من استصحاب الكلي إذا كان الأثر له لا لخصوصية الفرد.

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٦٤٠ و ٦٤١.

١٣٨

ثمّ إنّ الفاضل التوني قدس‌سره (١) رد تمسك المشهور في الحكم بنجاسة الجلد المطروح باستصحاب عدم التذكية بما حاصله : أنّ عدم التذكية لازم لأمرين : الحياة ، والموت بحتف الأنف ، والموجب للنجاسة ليس هذا اللازم من حيث هو ، بل ملزومه الثاني أعني به الموت حتف الأنف ، فعدم التذكية لازم أعم لموجب النجاسة ، فهو قد يتحقق في فرض الحياة ، وقد يتحقق في فرض الموت بحتف الأنف ، ومن المعلوم أنّ ما علم ثبوته في الزمان السابق هو الأوّل ، والمفروض أنّه غير باقٍ في الزمان الثاني. نعم ، يحتمل عدم تذكية الحيوان الذي هو لازم لموته حتف أنفه ، ومن الظاهر أنّه غير متيقن الثبوت ، فلا يجري الاستصحاب فيه. والمتمسك بهذا الاستصحاب ليس إلاّكمن تمسك باستصحاب بقاء الضاحك المتحقق بوجود زيد في الدار لاثبات وجود عمرو فيها ، مع القطع بخروج زيد عنها ، وفساده غني عن البيان ، انتهى.

وأجاب عنه الشيخ قدس‌سره (٢) بأنّ نظر المشهور إلى أنّ الحرمة والنجاسة قد رتّبتا في الشرع على مجرد عدم التذكية ، كما يرشد إليه قوله تعالى : (إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ)(٣) الظاهر في أنّ المحرّم هو لحم الحيوان الذي لم تقع عليه التذكية ، وكذا قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ...)(٤) وفي ذيل موثقة ابن بكير : «إذا كان ذكياً ذكّاه الذبح» (٥) وغيرها من الآيات والروايات الدالة على

__________________

(١) الوافية : ٢١٠.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٦٤١ و ٦٤٢.

(٣) المائدة ٥ : ٣.

(٤) الأنعام ٦ : ١٢١.

(٥) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ١.

١٣٩

ترتب الحرمة والنجاسة على عدم التذكية. ولا ينافي ذلك ما دل على كون حكم النجاسة مرتباً على موضوع الميتة بمقتضى أدلة نجاسة الميتة ، لأنّ الميتة عبارة عن كل ما لم يذكَّ ، فانّ التذكية أمر شرعي توقيفي ، فما عدا المذكى ميتة ، هذا ملخص جواب الشيخ قدس‌سره.

وفيه : أنّ كلام الفاضل التوني ناظر إلى خصوص النجاسة ، والمترتب على عدم تذكية الحيوان في الآيات والروايات هو حرمة الأكل وعدم جواز الصلاة فيه ، ولا ملازمة بينهما وبين النجاسة ، فانّ جملةً من أجزاء الحيوان المذكى يحرم أكلها مع أنّها طاهرة ، ولا تجوز الصلاة في شعر غير المأكول من الحيوان مع طهارته في الأكثر. وأمّا النجاسة فهي ثابتة لعنوان الميتة ، والموت في عرف المتشرعة على ما صرح به في المصباح المنير (١) زهاق النفس المستند إلى سبب غير شرعي ، كخروج الروح بحتف الأنف أو بالضرب أو بشق البطن ونحوها ، وعليه يكون الموت أمراً وجودياً ، فعند الشك فيه يجري استصحاب عدمه ، ولا يمكن إثباته باستصحاب عدم التذكية. نعم ، لو كانت الميتة عبارة عما مات ولم يستند موته إلى السبب الشرعي ، لصح جريان استصحاب عدم التذكية لاثبات النجاسة ، لكنّه غير ثابت ، بل الصحيح عدمه.

فما ذكره الفاضل التوني قدس‌سره من عدم صحة إثبات نجاسة الجلد المطروح باستصحاب عدم التذكية متين جداً ، وقد تقدّم تفصيل ذلك في بحث البراءة فراجع (٢) ، هذا تمام الكلام في القسم الثالث.

__________________

(١) المصباح المنير : ٥٨٤.

(٢) الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ٣٦١ ـ ٣٦٢.

١٤٠