موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٣

الشيخ مرتضى البروجردي

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‌

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبيّنا محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى قيام الدين.

٥
٦

فصل

في مكان المصلي

والمراد به (١) ما استقر عليه ولو بوسائط وما شغله من الفضاء في قيامه وقعوده وركوعه وسجوده ونحوها ، ويشترط فيه أُمور :

أحدها : إباحته (٢)

______________________________________________________

(١) لا يخفى أن المكان يطلق على معنيين :

أحدهما : ما يستقر عليه الشي‌ء ويثبت فيه ، ويكون كوعاء وظرف له.

ثانيهما : الفضاء والفراغ الذي يشغله الإنسان في قيامه وقعوده وركوعه وسجوده ، ومنه قول الفلاسفة : أن الجسم الطبيعي يحتاج في وجوده إلى المكان ، أي إلى حيّز وفراغ يحيط به ويستوعبه ، والمراد به في المقام المعنى العام الجامع بين المعنيين ، فان بعض الأحكام يختص بالمعنى الأول كاشتراط الاستقرار في المكان أو طهارته وبعضها يختص بالمعنى الثاني كاشتراط عدم الإتيان بالصلاة تحت سقف مشرف على الانهدام ، فان ذلك من شرائط الفضاء دون المقر وموقف المصلي كما لا يخفى. ومنها ما يعم كلا المعنيين كاشتراط الإباحة المعتبرة فيما يستقر عليه المصلي ولو بوسائط ، وما يشغله من الفضاء والفراغ.

(٢) المعروف والمشهور اعتبار الإباحة في المكان بكلا معنييه كما عرفت ، بل عليه الإجماع في كثير من الكلمات ، لكنه كما ترى ليس إجماعاً تعبدياً كاشفاً عن رأي المعصوم ، بعد استناد أكثر المجمعين إلى دعوى اتحاد الحركات الصلاتية مع الغصب وامتناع اجتماع الأمر والنهي.

٧

والتحقيق : هو التفصيل في المكان بين معنييه فتعتبر الإباحة فيه بالمعنى الأول في الجملة دون الثاني. وقد استقصينا الكلام فيه في الأُصول في بحث اجتماع الأمر والنهي (١).

وملخصه : أن حقيقة الصلاة تتألف لدى التحليل من عدة من الأذكار كالقراءة ونحوها ، ومن الهيئات كالركوع والسجود والقيام وغيرها ، وشي‌ء من ذلك لا يتحد مع الغصب عدا السجود من أجل أنّ مفهومه متقوم بوضع الجبهة على الأرض.

توضيح ذلك : أن الأذكار كالقراءة والتسبيحات ونحوها وإن أوجبت تحركاً وتموّجاً في الهواء ، فكانت تصرفاً في الفضاء المغصوب بحسب الدقة العقلية إلا أنها لا تعدّ تصرفاً بالنظر إلى الصدق العرفي الذي هو المناط في تعلق الأحكام الشرعية ، فلا يقال للمتكلم المزبور أو لمن نفخ في أرض الغير أنه تصرف في ملك الغير بدون رضاه بحيث يكون عقاب المتكلم في الدار الغصبية أشد من عقاب الساكت باعتبار ارتكابه تصرفاً آخر في الفضاء زيادة على أصل الاستيلاء ، فلا تتحد الأذكار الصلاتية مع الغصب بوجه.

وأما الهيئات الخاصة : من الركوع والسجود ونحوهما فهي أيضاً لا تستوجب تصرفاً في المغصوب ، ضرورة أنّ الواجب منها إنما هو نفس الهيئة ، وهي بمجردها لا تكون مصداقاً للتصرف. نعم مقدماتها من الهوي والنهوض تصرف فيه ولكنها خارجة عن ماهية المأمور به ، فما هو الواجب لم يكن منهياً عنه ، وما هو المنهي عنه لم يكن مصداقاً للواجب ، فأين الاتحاد.

نعم ، في خصوص السجود بما أنه يعتبر فيه وضع الجبهة بل المساجد السبعة على الأرض ، والوضع متقوّم في مفهومه بالاعتماد وإلقاء الثقل ولا يكفي فيه مجرد المماسة ، فلا جرم يتحقق الاتحاد بالإضافة إلى هذا الجزء خاصة ، لكون الاعتماد المزبور مصداقاً بارزاً للتصرف في ملك الغير فيحرم ، وبما أنّ الحرام لا‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٤ : ٢٨٣ ٢٨٨.

٨

فالصلاة في المكان المغصوب باطلة (١) ، سواء تعلق الغصب بعينه ، أو بمنافعه (١) كما إذا كان مستأجراً وصلّى فيه شخص من غير إذن المستأجر وإن كان مأذوناً من قبل المالك ، أو تعلّق به حق كحق الرهن (٢) (٢)

______________________________________________________

يقع مصداقاً للواجب فبطبيعة الحال تبطل الصلاة المشتملة على السجدة بهذه العلة.

وأما الفاقدة لها كالصلاة إيماءً أو الصلاة على الميت ، بل الواجدة إذا تجنب السجود على المغصوب كما لو تخطى قليلاً فسجد على الأرض المباحة ، أو وضع لوحة ونحوها بحيث منعت عن إلقاء ثقل الجبهة على موضع الغصب ، أو سجد ولو بفرض محال في الفضاء ما بين الأرض والسماء فلا مانع من الحكم بصحّتها ، لانتفاء المحذور المزبور ، ولم يبق إلا الكون في المكان الذي هو أمر تكويني غير معتبر في صحة الصلاة شرعاً ، سواء أكان مغصوباً أم مباحاً.

ومنه تعرف وجه التفصيل بين المعنيين للمكان في اعتبار الإباحة وعدمه ، كما وتعرف اختصاص البطلان في المعنى الأول للمكان بما إذا كان أحد مواضع السجود مغصوباً.

(١) لأنّ المناط صدق الغصب المتقوّم بالتصرّف في ملك الغير من غير استئذان ممن بيده الاذن ، أعني من يملك التصرف في العين فعلاً ، سواء أكان مالكاً لرقبتها أيضاً أم لخصوص منافعها كالمستأجر. ومنه تعرف عدم كفاية إذن المالك ، بل عدم جواز التصرف لنفس المالك أيضاً من دون إذن المستأجر.

(٢) على المشهور من عدم جواز التصرف في العين المرهونة بدون إذن المرتهن ، ويستدل لهم بأمور عمدتها الإجماع والنبوي الذي استدل‌

__________________

(١) الحكم بالبطلان إنّما هو فيما إذا كان أحد مواضع السجود مغصوباً ، وإلاّ فالصحة لا تخلو من قوة ، وبذلك يظهر الحال في جملة من الفروع الآتية.

(٢) في اقتضائه البطلان إشكال بل منع.

٩

به غير واحد من الأصحاب من أنّ « الراهن والمرتهن ممنوعان من التصرف » (١) فإنه إذا لم يجز للراهن لم يجز لغيره أيضاً ولو بإذنه.

أقول : أما عدم جواز تصرف المرتهن بدون إذن الراهن فواضح ، ضرورة عدم جواز التصرف في ملك الغير من دون إذنه ، ومجرد الاستيثاق لاستيفاء الدين لدى بلوغ أجله لا يسوغ التصرف ما لم ينص عليه ، وهذا ظاهر.

وأما عدم جواز تصرف الراهن من دون إذن المرتهن ، فهو وإن كان مشهوراً بين الأصحاب إلا أنه لا يمكن المساعدة على إطلاقه ، بل لا بد من التفصيل بين التصرفات المنافية لحق الرهانة ، وغير المنافية ، فلا تجوز الاولى ، سواء أكانت اعتبارية كالوقف ، حيث إن الوقفية تضاد كونها وثيقة ، بداهة امتناع استيفاء الدين من العين الموقوفة بعد تعذر بيعها ، أم خارجية كالإتلاف التكويني بأكل ونحوه.

وأما الثانية ، فلا بأس بها ، سواء أكانت اعتبارية أيضاً كالبيع ، أم خارجية كاللبس ونحوه. فان بيع العين المرهونة وإن منعه المشهور ، وعلله بعضهم باعتبار طلقية الملك المفقودة في مورد الرهن ، إلا أنا ذكرنا في بحث المكاسب (٢) أن الأقوى جوازه ، نظراً إلى أن البيع لا يزيل حق المرتهن ولا يزاحمه ، بل ينتقل به متعلق حقه من ملك الراهن إلى ملك المشتري ، وهذا لا ضير فيه سيّما بعد ملاحظة جواز جعل ملك الغير رهناً باذنه ابتداءً كما في استرهان العين المستعارة بإجازة المعير ، فاذا ساغ حدوثاً ساغ بقاءً أيضاً بطريق أولى (٣)

__________________

(١) المستدرك ١٣ : ٤٢٦ / أبواب كتاب الرهن ، ب ١٧ ح ٦.

(٢) مصباح الفقاهة ٥ : ٢٣٨.

(٣) هذه الأولوية ادعاها المحقق الايرواني أيضاً في تعليقته على المكاسب : ص ١٩٠ ، ولكن السيد الأستاذ ( دام ظله ) لم يذكرها في بحث المكاسب وكأنه لم يرتض بها.

ولعل الوجه فيه : أن القائل بعدم جواز البيع يرى أن العين المرهونة متعلقة لحق المرتهن بما أنها مضافة إلى المالك المعيّن لا بما هي هي ، فالنقل من ملك المالك حين الرهن تصرف

١٠

غاية الأمر ثبوت الخيار للمشتري مع جهله بالحال ، لتخلف وصف الطلقية المنصرف إليه العقد لدى الإطلاق ولا دليل على اعتبار الطلقية في صحة البيع بقول مطلق.

كما أن التصرفات الخارجية من لبس وافتراش ونحوهما سائغ حتى من دون إذن المرتهن ما لم يشترط خلافها في متن العقد فإن الإجماع المدعى على عدم الجواز حسبما سمعت دليل لبّي يقتصر على القدر المتيقّن منه وهو التصرفات المنافية لحق الرهانة ، فلا يعم غير المنافية التي هي مورد البحث ، والنبوي المتقدم ضعيف السند لا يمكن التعويل عليه.

نعم ، للمرتهن الامتناع من تسليم العين والتصرف فيها لأنها متعلق حقه (١) إلا أنه لو أخذها الراهن من دون اطلاعه باختلاس ونحوه فتصرفه سائغ ، لكونه صادراً من أهله وواقعاً في محله.

وقد نطقت بذلك صريحاً صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام « في رجل رهن جاريته قوماً أيحل له أن يطأها؟ قال : فقال : إن الذين ارتهنوها يحولون بينه وبينها ، قلت : أرأيت إن قدر عليها خالياً؟ قال : نعم لا أرى به بأساً » ونحوها صحيحة الحلبي (٢).

فاذا جاز الوطء وهو من أهم التصرفات جاز غيره من سائر التصرفات‌

__________________

مناف لحق الغير ومضاد له ، لأنه إزالة لتلك الإضافة ، وعلى هذا الأساس يتجه التفكيك بين الابتداء والبقاء ، فإن الأول لا محذور فيه ، وأما الثاني فهو مستلزم للمحذور المزبور فلا يجوز إلا بإذن المرتهن ، إلا أن يقال : ان العين المرهونة متعلقة لحق المرتهن بما أن خسارتها تكون على الراهن اما لكونها ملكاً له ، أو لكون خسارتها الناشئة من استيفاء الدين منها تكون مضمونة عليه لمالكها معيراً كان أو مشترياً. وعليه فلا فرق بين الابتداء والبقاء كما أُفيد في المتن وإن لم تثبت به الأولوية.

(١) كونها متعلقة لحقه لا يسوّغ الامتناع المزبور بعد عدم كون التصرف منافياً لحقه كما هو المفروض.

(٢) الوسائل ١٨ : ٣٩٦ / أبواب أحكام الرهن ، ب ١١ ح ١ ، ٢.

١١

وحق غرماء الميت (١) ، وحق الميت إذا أوصى بثلثه ولم يفرز بعد ولم يخرج منه (١)

______________________________________________________

غير المنافية بالأولوية القطعية ، ولا موجب لرفع اليد بعد قوة الدلالة وصحة السند ، وقد عرفت قصور الإجماع عن الشمول للمقام.

إذن فلا مانع للراهن من الصلاة في العين المرهونة ، كما له الإذن لغيره في الصلاة فيها.

(١) لا يخفى أن تعلق حق الغرماء بالمال واندراج المقام بذلك في كبرى التصرف في متعلق حق الغير مبني على القول بانتقال التركة بأجمعها إلى الورثة ، فالمال كله مملوك للوارث ، غايته أنه متعلق لحق الغريم ، أي له استنقاذه منه ما لم يؤده من غيره.

وأما على القول الآخر وهو الحق المطابق لظاهر الآيات والروايات من بقاء المقدار المقابل للدين على ملك الميت ، وأنه لا ينتقل إلى الوارث إلا ما زاد عليه كما هو ظاهر قوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (١) وقد تضمنت بعض النصوص تقديم مصارف التجهيز أوّلاً ثم الدين ، ثم الوصية ثم الميراث (٢) ، فالمقام خارج عن تلك الكبرى حينئذ لحصول الشركة بين الميت والوارث في التركة بنسبة الدين من النصف أو الثلث ونحوهما. فلا بد في تصرف الوارث أو غيره من الاستئذان من ولي الميت وهو وصيه إن كان ، وإلا فالحاكم الشرعي. فيندرج المقام في الشق الأول من الفروض التي ذكرها في المتن ، أعني تعلق الغصب بنفس العين فإنه تصرف في ملك الغير لا في متعلق حقه ، غايته أنه ملك مشاع ، ولا ريب في عدم الفرق‌

__________________

(١) الظاهر أنّه لا حق للغرماء في مال الميّت ، بل إنّ مقدار الدين من التركة باق على ملك الميّت ، ومعه لا يجوز التصرف فيها من دون مجوّز شرعي.

(١) النساء ٤ : ١٢.

(٢) الوسائل ١٩ : ٣٢٩ / كتاب الوصايا ب ٢٨.

١٢

وحق السبق (١) كمن سبق إلى مكان من المسجد أو غيره فغصبه منه غاصب على الأقوى ، ونحو ذلك ، وإنما تبطل الصلاة إذا كان عالماً عامداً (١).

______________________________________________________

بينه وبين غير المشاع في ذلك.

هذا ، مع أن ثبوت الحق المبني على القول الأول لا يستدعي المنع من التصرف بمثل الصلاة ونحوها غير المزاحمة لحق الغريم ، بل هو كحق الرهانة الذي عرفت عدم التنافي بينه وبين مثل تلك التصرفات غير المصادمة لحق ذي الحق ، بل قد عرفت عدم مزاحمته للبيع فضلاً عن مثل الصلاة.

وبالجملة ، على القول الأول ، ألحق وإن كان ثابتاً لكنه لا يمنع عن مثل الصلاة لعدم المزاحمة. وعلى القول الثاني وإن كان المنع ثابتاً لكنه لا لأجل تعلّق الحق ، بل من جهة كونه تصرفاً في ملك الغير. وقد عرفت أن هذا القول هو الأقوى لمساعدة النصوص عليه ، ومعناه تأخر الميراث عن الدين حدوثاً وبقاءً ، فلا ينتقل جميع المال إلى الوارث إلا مع فقد الدين من أول الأمر ، أو في مرحلة البقاء إما بإبراء الغريم أو أداء الدين من غير التركة.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر الحال في حقّ الميّت إذا أوصى بثلثه ، فإنه يجري فيه القولان المتقدمان مع ما يتفرع عليهما على النحو الذي بيناه حرفاً بحرف. وظاهر عبارة الماتن اختياره هنا القول الثاني ، أعني بقاء المال الموصى به على ملك الميت ، وعدم انتقاله إلى الوارث ، وحصول الشركة بينهما كما يفصح عنه تعبيره قدس‌سره بقوله : ولم يفرز بعد ، فإن الإفراز لا يكون إلا في فرض الشركة والإشاعة كما لا يخفى.

(١) لا ريب أن من سبق إلى مكان مباح يشترك فيه الكل كالصحراء أو المسجد أو الحرم الشريف ، فهو أحق بذلك المكان ما دام جالساً فيه ، بمعنى أنه لا يجوز مزاحمته ودفعه عنه ، ولو فعل أثم ، وهل يثبت له زائداً على ذلك حق‌

__________________

(١) فيه إشكال.

١٣

متعلق بذلك المكان بحيث لو تُصُرّف فيه بعد ارتكاب الإثم كان ذاك تصرفاً في متعلق حق الغير ويكون غصباً تبطل الصلاة فيه أم لا؟

المشهور هو الأول ، وذهب في الجواهر (١) تبعاً للسيد العلامة الطباطبائي في منظومته (٢) إلى الثاني فأنكرا الحق وحكما بجواز التصرف بعد الدفع وإخلاء اليد سيما إذا كان المتصرف غير الدافع.

أقول : أما في الفرض الأخير فلا ينبغي الإشكال في الجواز ، فلو تعدّى ظالم على السابق وأخذه إلى المحاكمة مثلاً سقط حقّه وجاز لغيره التصرف ، إذ لا يبقى المكان معطّلاً.

وأما في غير ذلك فالظاهر أيضاً هو الجواز ، لعدم نهوض دليل يقتضي ثبوت حق له بهذه المثابة ، أي يكون مانعاً حتى بعد إخلاء اليد كي يحتاج التصرف فيه إلى إذن ذي الحق.

وقصارى ما يمكن أن يستدل له روايتان :

إحداهما : رواية محمد بن إسماعيل عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قلت له ، نكون بمكة أو بالمدينة أو الحيرة أو المواضع التي يرجى فيها الفضل فربما خرج الرجل يتوضأ فيجي‌ء آخر فيصير مكانه ، فقال : من سبق إلى موضع فهو أحق به يومه وليلته » (٣).

الثانية : خبر طلحة بن زيد عن أبى عبد الله عليه‌السلام « قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : سوق المسلمين كمسجدهم فمن سبق إلى مكان فهو أحق به إلى الليل ... » إلخ (٤).

وهاتان الروايتان بعد دفع ما يتراءى من المنافاة بينهما من حيث التحديد ، بأن ذلك من أجل الاختلاف في خصوصية المورد ، حيث إن المسجد معدّ‌

__________________

(١) الجواهر ٨ : ٢٨٦.

(٢) الدرّة النجفية : ٩٢.

(٣) ، (٤) الوسائل ٥ : ٢٧٨ / أبواب أحكام المساجد ب ٥٦ ح ١ ، ٢.

١٤

للعبادة التي لا يفرق فيها بين الليل والنهار ، بخلاف السوق المعدّ للاتّجار الذي ينتهي أمده غالباً بانتهاء النهار ، لعدم تعارف السوق في الليل في الأزمنة السابقة بل في العصر الحاضر أيضاً بالنسبة إلى القرى والبلدان الصغيرة لا يمكن الاستدلال بشي‌ء منهما ، لضعف سند الأُولى ، فإن محمد بن إسماعيل وإن كان الظاهر أنه ابن بزيع وهو موثق لكنها مرسلة.

وأما الثانية : فيمكن الخدش في سندها من جهة أنّ طلحة بن زيد عامي لم يوثق ، نعم له كتاب معتبر لكن لم يعلم أن الرواية عن كتابه أم عنه مشافهة ، إذ الراوي عنه هو الكليني (١) ولم يلتزم بنقل الرواية عمّن له أصل أو كتاب عن نفس الكتاب ، كما التزم الشيخ بمثل ذلك في التهذيب فمن الجائز روايته عن نفس الرجل لاعن كتابه ، وقد عرفت عدم ثبوت وثاقته ، هذا.

ولكن الظاهر وثاقة الرجل ، من جهة وقوعه في أسانيد كتاب كامل الزيارات ، وقد عرفت غير مرّة التوثيق العام من ابن قولويه لكل من يقع في أسانيد كتابه (٢). وحيث إنه سليم عن المعارض وجب الأخذ به. فالإنصاف أنّ الخدش من حيث السند في غير محله ، إلا أن الشأن في دلالتها ، فإنها غير ظاهرة في إثبات الحق بالمعنى المبحوث عنه ، بل المتيقن منها عدم جواز مزاحمة السابق ما دام شاغلاً للمحل ، وقد عرفت أنّ هذا مسلّم لا إشكال فيه ، بل هو ثابت حتى ببناء العقلاء من دون حاجة إلى تعبد شرعي.

بل ربما يقال : إن الحق بهذا المعنى أمر فطري يدركه كل أحد حتى الحيوانات ، فانا لو قذفنا قطعة لحم نحو هرتين تسابقتا إليها وربما يتحارشان في الاستيلاء عليها ، لكن بعد الغلبة وتحقق الاستيلاء من إحداهما تركتها الأُخرى‌

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٨٥ / ٧.

(٢) ولكنه ( دام ظله ) خصه أخيراً بمشايخ ابن قولويه بلا واسطة فلا يعم الرجل. على أنه عامي المذهب ومثله غير مشمول للتوثيق على كل تقدير ، نعم هو من رجال تفسير القمي راجع المعجم ١٠ : ١٧٨ / ٦٠٢١.

١٥

وأما إذا كان غافلاً أو جاهلاً أو ناسياً فلا تبطل (١) (١)

______________________________________________________

ولا تزاحمها ما دامت الاولى مسيطرة عليها ، فإذا أعرضت عنها أخذتها الأُخرى.

وبالجملة ، الحق المذكور في الرواية يدور أمره بين أن يكون المراد منه مجرد عدم جواز المزاحمة ، وبين أن يراد زائداً على ذلك تعلق حق من السابق بالعين بحيث لا يجوز التصرف فيها بدون إذنه حتى مع عدم كونه بالفعل شاغلاً للمحل ، والمتيقن هو الأوّل ، ومبنى الاستدلال هو الثاني ، ولا ظهور للرواية فيه كما لا يخفى.

(١) أما عدم البطلان في فرض الغفلة أو النسيان فظاهر ، لعدم كون التصرف في المغصوب حراماً حينئذ حتى واقعاً لامتناع توجيه التكليف إليه ، ومن هنا ذكرنا في محلّه أن الرفع في حديث الرفع بالنسبة إلى الناسي واقعي لا ظاهري (١) ، فإذا لم يكن دليل النهي عن الغصب شاملاً له وكان التصرف المزبور حلالاً واقعاً شمله إطلاق دليل الأمر بالصلاة من دون معارض ، ولا مزاحم لصحة التقرب به بعد عدم كونه مبغوضاً.

نعم ، هذا فيما إذا لم يكن صدوره منه مع حليته الواقعية متصفاً بالمبغوضية الفعلية ، وإلا كما لو كان الناسي هو الغاصب فالمتجه حينئذ البطلان (٢) إذ النهي السابق الساقط بالنسيان قد أثّر في اتصاف هذا التصرف بالمبغوضية ، غايته سقوط الخطاب حينئذ لامتناع توجيهه نحو الناسي كما عرفت. فالمولى لا يمكنه النهي الفعلي لعدم قابلية المحل ، لا لعدم وجود ملاكه ،

__________________

(١) عدم البطلان في فرض الجهل مع كون مسجد الجبهة مغصوباً لا يخلو من إشكال بل منع ، نعم الناسي فيما إذا لم يكن غاصباً يحكم بصحة صلاته.

(١) مصباح الأصول ٢ : ٢٦٥.

(٢) ينبغي تقييده بما إذا كان ذلك في السجدتين معاً ، فإن الإخلال بالسجدة الواحدة لا ضير فيه بمقتضى حديث لا تعاد وغيره كما لا يخفى.

١٦

وإلا فلا ريب في عدم الفرق في تحقق الاتصاف المزبور بين وجود مثل هذا النهي وعدمه.

وعليه ، بما أن المبغوض الفعلي لا يمكن أن يتقرب به فيمتنع شمول إطلاق الأمر بالنسبة إليه ، ونتيجة ذلك هو البطلان كما عرفت وهذا ظاهر.

وأما في فرض الجهل ، فان كان عن تقصير كما لو كانت الشبهة حكمية قبل الفحص أو مقرونة بالعلم الإجمالي بحيث كان الواقع منجزاً عليه من دون مؤمّن فلا ريب في البطلان حينئذ لإلحاق مثله بالعامد ، وهذا لا غبار عليه ، كما لم يقع فيه خلاف من أحد.

إنما الإشكال في الجاهل القاصر ، أي في من كان جهله عذراً له لعدم تنجز الواقع عليه من جهة وجود المؤمّن الشرعي كما في الشبهات الموضوعية البدوية أو الحكمية بعد الفحص ، لجريان البراءة حينئذ واتصاف الفعل بالحلية الظاهرية فهو معذور في جهله.

فالمشهور ذهبوا حينئذ إلى الصحة ، فحكموا بجواز الصلاة في الدار الغصبية وبجواز التوضي بالماء المغصوب إذا كان عن جهل قصوري ، ففصلوا بين صورتي العلم والجهل مع بنائهم على الامتناع في باب اجتماع الأمر والنهي.

لكنه في غاية الإشكال كما تعرضنا له في الأُصول (١) وقلنا إن التفصيل المزبور غير سديد ، بل إما أن يحكم بالصحة في الصورتين أو بالبطلان كذلك.

وملخص الكلام : أنهم استندوا في الحكم بالصحة مع الجهل إلى أن الحرمة الواقعية ما لم تتنجز ولم تبلغ حد الوصول لا تمنع عن صحة التقرب وصلاحية الفعل لأن يكون مشمولاً لإطلاق دليل الأمر ، إذ التمانع في المتزاحمين متقوّم بالوصول ، وإلاّ فمجرّد الوجود الواقعي غير الواصل لا يتزاحم به التكليف الآخر. فاذن لا مانع من فعلية الأمر لسلامته عن المزاحم ومعه يقع العمل‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٤ : ٢٣٨.

١٧

صحيحاً لعدم تأثير الحرمة الواقعية في المبغوضية بعد فرض كون الجاهل معذوراً.

أقول : هذا إنما يستقيم لو قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي وأن التركيب بين متعلقهما انضمامي ولا يسري الحكم من أحدهما إلى الآخر حتى يندرج المقام في باب التزاحم فيقال : إنّ هناك حكمين على موضوعين ولا يزاحم أحدهما الآخر إلا لدى التنجز والوصول ، فقبل وصول النهي لا تزاحم ، فيكون الأمر فعلياً لعدم المانع عنه فيحكم بالصحة.

لكن لازم ذلك الحكم بالصحّة في فرض العلم وفعلية المزاحمة أيضاً ، غايته أنه يكون عاصياً بمخالفة النهي ، ومطيعاً بموافقة الأمر ، إذ بعد فرض تعدد الحكم والموضوع والالتزام بعدم السراية في المتلازمين يكون المقام نظير النظر إلى الأجنبية حال الصلاة كما لا يخفى فتدبر جيداً.

وأما على القول بالامتناع وكون التركيب بينهما اتحادياً وأنّ متعلق أحدهما عين متعلق الآخر كما هو مبنى هذا القول ، فيخرج المقام حينئذ عن باب المزاحمة بالكلية ، ويندرج في كبرى التعارض ، لامتناع تعلق جعلين واعتبار حكمين في مقام التشريع على موضوع واحد ، وبعد تقديم جانب النهي يكون المقام من مصاديق النهي عن العبادة ، ولا ريب حينئذ في البطلان من دون فرق بين صورتي العلم والجهل ، لوحدة المناط في كلتا الصورتين وهو امتناع كون الحرام مصداقاً للواجب واستحالة التقرب بالمبغوض الواقعي ، فإن غاية ما يترتب على الجهل هو المعذورية وارتفاع العقاب وكون التصرف محكوماً بالحلية الظاهرية ، وشي‌ء من ذلك لا ينافي بقاءه على ما هو عليه من الحرمة الواقعية كما هو قضية اشتراك الأحكام بين العالمين والجاهلين ، وقد عرفت أنّ الحرام لا يعقل أن يكون مصداقاً للواجب ، فمثله خارج عن دائرة إطلاق الأمر خروجاً واقعياً ، ومعه كيف يحكم بصحته المستلزمة لانطباق المأمور به عليه.

وعلى الجملة ، في كل مورد حكمنا بالصحة في مورد الجهل من جهة البناء‌

١٨

نعم لا يعتبر العلم بالفساد (١) فلو كان جاهلاً بالفساد مع علمه بالحرمة والغصبية كفى في البطلان ، ولا فرق بين النافلة والفريضة في ذلك على الأصح (٢).

______________________________________________________

على جواز الاجتماع والاندراج في باب التزاحم لزمه الحكم بها في مورد العلم أيضاً. وفي كل مورد حكمنا بالبطلان في فرض العلم لأجل البناء على الامتناع وتقديم جانب النهي والإدراج في باب التعارض لزمه الحكم به في فرض الجهل أيضاً حرفاً بحرف ، لوحدة المناط في كلتا الصورتين ، وتمام الكلام في محلّه (١).

(١) لعدم مدخلية العلم بالحكم الوضعي وهو الفساد فيما هو مناط البطلان من العلم بالحكم التكليفي وموضوعه ، أعني الحرمة والغصبية على المشهور ، أو مجرد المبغوضية الواقعية على ما قررناه ، فيحكم بالبطلان بعد تحقق المناط حتى مع الجهل بالفساد كما ظهر وجهه مما بيناه.

(٢) خلافاً للمحقق حيث حكم بصحة النافلة في المغصوب معلّلاً بعدم اتحاد الأجزاء الصلاتية حينئذ مع الغصب (٢).

أقول : إن أراد بها النافلة المأتي بها على كيفية الفريضة بحيث لم يكن فرق بينهما من غير ناحية الوجوب والاستحباب ، ففيه : أنّ مجرد الاختلاف في ناحية الحكم من حيث قوة الطلب وضعفه والترخيص في الترك وعدمه لا يستوجب فرقاً فيما هو مناط البطلان ، فان مناطه أحد أمرين : إما اتحاد مصداق الطبيعة المأمور بها مع المنهي عنها في خصوص السجود من جهة اعتبار الوضع فيه المتقوم بالاعتماد على المختار أو فيه وفي غيره على المشهور ، أو من جهة امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم وسراية الحكم من أحدهما إلى الآخر ، ولا شك في عدم الفرق في هذين الملاكين بين بلوغ الأمر حدّ الإلزام وعدمه لتضاد الأحكام بأسرها.

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ٤ : ٢٣٤ وما بعدها.

(٢) لم نعثر عليه في كتب المحقق ولكن حكاه عنه في المستند ٤ : ٤٠٨ وفي الجواهر ٨ : ٢٨٦.

١٩

[١٣١٩] مسألة ١ : إذا كان المكان مباحاً ولكن فرش عليه فرش مغصوب فصلى على ذلك الفرش بطلت صلاته ، وكذا العكس (١).

[١٣٢٠] مسألة ٢ : إذا صلى على سقف مباح وكان ما تحته من الأرض مغصوباً ، فان كان السقف معتمداً على تلك الأرض تبطل الصلاة عليه ، وإلا فلا (٢).

______________________________________________________

وإن أراد بها النافلة غير المأتي بها على تلك الكيفية بأن تكون فاقدة للركوع والسجود مع الإيماء إليهما ، لجواز الإتيان بها كذلك اختياراً كما في حال السير ، فلما أفاده قدس‌سره حينئذ وجه ، لفقد السجود على الفرض الذي كان هو المنشأ للفساد على المختار ، وحديث امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم ممنوع كما بيناه في الأُصول (١) ومجرد الإيماء إليهما لا يعدّ تصرّفاً في الغصب سيّما لو كان ذلك بغمض العين لا بتحريك الرأس ، فإن الأخير لا يخلو عن شوب من الاشكال لعدم البعد في صدق التصرف حينئذ عرفاً.

إلا أنه لو تمّ فلا يختص ذلك بالنافلة ، بل يجري في الفريضة أيضاً لو أتى بها كذلك أي مع الإيماء ، كما لو اضطر إلى السير المستلزم لترك الركوع والسجود ، إما لأجل الخوف والفرار من العدو أو من جهة ضيق الوقت ، فلا تختص النافلة بما هي نافلة بهذا الحكم كي يفرق بينها وبين الفريضة.

(١) لعدم الفرق في صدق التصرف في الغصب بين أن يكون ذلك مع الواسطة أو بدونها كما هو ظاهر.

(٢) فصّل قدس‌سره حينئذ بين ما إذا كان السقف معتمداً على تلك الأرض كما لو كانت الأسطوانات التي تحمل السقف مبنية على الأرض المغصوبة ، وبين صورة عدم الاعتماد كما لو كانت الأسطوانات خارجة عنها ، فحكم بالبطلان في الأول دون الثاني.

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ٣ : ٣٦.

٢٠