موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

واليقين بوجوبه في الثاني ، واليقين لا ينقض بالشك ، فيصح التفريع بالنسبة إلى قوله عليه‌السلام : «صم للرؤية» وبالنسبة إلى قوله عليه‌السلام : «وأفطر للرؤية».

وأمّا ما استشهد به صاحب الكفاية من الروايات الدالة على عدم صحة الصوم في يوم الشك بعنوان أنّه من رمضان ، فمدفوع بأنّ هذه الروايات وإن كانت صحيحة معمولاً بها في موردها (١) ، إلاّأ نّها لا تكون قرينةً على كون هذه الرواية أيضاً واردة لبيان هذا المعنى مع ظهورها في الاستصحاب.

وأمّا ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره من غرابة هذا الاستعمال ، فيدفعه وقوع هذا الاستعمال بعينه في الصحيحة الثالثة المتقدمة (٢) في قوله عليه‌السلام : «ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر» ووقع هذا الاستعمال في كلمات العلماء أيضاً في قولهم : دليله مدخول أي منقوض ، واللغة أيضاً تساعده ، فان دخول شيء في شيء يوجب التفكيك بين أجزائه المتصلة ، فيكون موجباً لنقضه وقطع هيئته الاتصالية.

ومن جملة ما استدل به على حجية الاستصحاب : روايات تدل على الحلية ما لم تعلم الحرمة وعلى الطهارة ما لم تعلم النجاسة ، وهي طوائف ثلاث :

منها : ما يدل على حلية كل شيء ما لم تعلم الحرمة ، كقوله عليه‌السلام : «كل شيء حلال حتى تعرف أنّه حرام» (٣).

__________________

(١) ولمزيد الاطلاع راجع شرح العروة ٢١ كتاب الصوم : ٦٥ / المسألة ١٦.

(٢) في ص ٦٩.

(٣) الوسائل ١٧ : ٨٧ و ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ١ و ٤ (باختلاف يسير).

٨١

ومنها : ما يدل على طهارة كل شيء ما لم تعلم النجاسة ، كقوله عليه‌السلام : «كل شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر» (١).

ومنها : ما يدل على طهارة خصوص الماء ما لم تعلم نجاسته ، كقوله عليه‌السلام : «الماء كلّه طاهر حتى تعلم أنّه نجس» (٢) ، والاحتمالات المتصورة في مثل هذه الأخبار سبعة :

الأوّل : أن يكون المراد منها الحكم بالطهارة الواقعية للأشياء بعناوينها الأوّلية ، بأن يكون العلم المأخوذ غاية طريقياً محضاً ، والغاية في الحقيقة هو عروض النجاسة ، فيكون المراد أنّ كل شيء بعنوانه الأوّلي طاهر حتى تعرضه النجاسة ، وأخذ العلم غاية لكونه طريقاً إلى الواقع ليس بعزيز ، كما في قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)(٣) فانّ المراد منه بيان الحكم الواقعي وجواز الأكل والشرب إلى طلوع الفجر ، وذكر التبين بناءً على كونه بمعنى الانكشاف إنّما هو لمجرد الطريقية ، وإن أمكن حمل التبين على معنى آخر مذكور في محلّه.

الثاني : أن يكون المراد منها هو الحكم بالطهارة الظاهرية للشيء المشكوك كما عليه المشهور ، بأن يكون العلم قيداً للموضوع دون المحمول ، فيكون المعنى أن كل شيء لم تعلم نجاسته طاهر.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٤ / أبواب الماء المطلق ب ١ ح ٥ وفيه «حتى يعلم أنّه قذر».

(٣) البقرة ٢ : ١٨٧.

٨٢

الثالث : أن يكون المراد بها قاعدة الاستصحاب ، بأن يكون المعنى أنّ كل شيء طهارته مستمرة إلى زمان العلم بالنجاسة ، أي كل شيء ثبتت طهارته الواقعية أو الظاهرية فطهارته مستمرة إلى زمان العلم بالنجاسة.

الرابع : أن يكون المراد بها الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية ، بأن يكون المعنى أنّ كل شيء معلوم العنوان أو مشكوكه طاهر بالطهارة الواقعية في الأوّل ، وبالطهارة الظاهرية في الثاني إلى زمان العلم بالنجاسة.

الخامس : أن يكون المراد منها الطهارة الظاهرية والاستصحاب ، كما عليه صاحب الفصول (١) ، بأن يكون المعنى أن كل شيء مشكوك العنوان طاهر ظاهراً وطهارته مستمرة إلى زمان العلم بالنجاسة ، فيكون المغيّى وهو قوله عليه‌السلام : «طاهر» إشارة إلى الطهارة الظاهرية ، والغاية إشارة إلى استصحاب تلك الطهارة إلى زمان العلم بالنجاسة.

السادس : أن يكون المراد بها الطهارة الواقعية والاستصحاب كما في الكفاية (٢) ، بأن يكون المغيّى إشارة إلى الطهارة الواقعية ، وأنّ كل شيء بعنوانه الأوّلي طاهر وقوله عليه‌السلام : «حتى تعلم» إشارة إلى استمرار الحكم إلى زمان العلم بالنجاسة.

السابع : أن يكون المراد منها الطهارة الواقعية والظاهرية والاستصحاب ، كما اختاره صاحب الكفاية في هامش الرسائل (٣) ، ويجري جميع ما ذكرنا من

__________________

(١) الفصول الغروية : ٣٧٣.

(٢) كفاية الاصول : ٣٩٨.

(٣) دُرر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٣١٢.

٨٣

الصور والاحتمالات في قوله عليه‌السلام : «كل شيء حلال حتى تعرف أنّه حرام» ويقع الكلام أوّلاً في صحة هذا الوجه الأخير وعدمها.

وملخّص ما ذكر في وجهه : أنّ كلمة «كل شيء» شاملة لما هو معلوم العنوان كالحجر والماء مثلاً ولما هو مشكوك العنوان كالمائع المردد بين الماء والبول مثلاً ، فحكم الإمام عليه‌السلام بالطهارة في الجميع ، فلا محالة تكون الطهارة بالنسبة إلى الأوّل واقعية ، وبالنسبة إلى الثاني ظاهرية ، ويكون قوله عليه‌السلام : «حتى تعلم» إشارة إلى استمرار الطهارة إلى زمان العلم بالنجاسة.

وأورد عليه المحقق النائيني (١) باشكالات :

الأوّل : أنّ الحكم الواقعي والظاهري لا يمكن اجتماعهما في جعل واحد ، لأنّ الحكم الظاهري متأخر عن الحكم الواقعي بمرتبتين ، لأن موضوع الحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي ، والشك في الحكم الواقعي متأخر عن الحكم الواقعي ، كما أنّ موضوع الحكم الظاهري متأخر عن موضوع الحكم الواقعي بمرتبتين ، فانّ موضوع الحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي ، والشك في الحكم الواقعي متأخر عن الحكم الواقعي ، وهو متأخر عن موضوعه الواقعي ، وبعد كون الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي لا يمكن تحققهما بجعل واحد ، وإلاّ يلزم كون المتأخر عن الشيء بمرتبتين معه في رتبته ، وهو خلف.

وهذا الاشكال لا دافع له على مسلك صاحب الكفاية والمحقق النائيني قدس‌سرهما ومن وافقهما في أنّ الانشاء إيجاد المعنى باللفظ ، فانّه لا يمكن

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٥٩ ـ ٦١ ، فوائد الاصول ٤ : ٣٦٧.

٨٤

إيجاد شيئين يكون أحدهما في طول الآخر بجعل واحد وإنشاء فارد. وأمّا على ما سلكناه من أنّ الانشاء ليس بمعنى إيجاد المعنى باللفظ ، إذ ليس اللفظ إلاّ وجوداً لنفسه والمعنى اعتبار نفساني لا يكون اللفظ موجداً له بل هو مبرز له ولا فرق بين الخبر والانشاء من هذه الجهة ، فكما أنّ الخبر مبرز لأمر نفساني فكذا الانشاء ، إنّما الفرق بينهما في المبرز ـ بالفتح ـ فانّ المبرز في الانشاء مجرد اعتبار نفساني ، وليس وراءه شيء ليتصف بالصدق والكذب ، وهذا بخلاف الجملة الخبرية ، فانّ المبرز بها هو قصد الحكاية عن شيء في الخارج ، فهنا شيء وراء القصد وهو المحكي عنه ، وباعتباره يكون الخبر محتملاً للصدق والكذب. وقد ذكرنا تفصيل ذلك في مقام الفرق بين الخبر والانشاء (١) ، فلا مانع من أن يبرز حكمين يكون أحدهما في طول الآخر بلفظ واحد ، بأن يعتبر أوّلاً الحكم الواقعي لموضوعه ، ثمّ يفرض الشك فيه فيعتبر الحكم الظاهري ، وبعد هذين الاعتبارين يبرز كليهما بلفظ واحد ، ولا يلزم منه محذور.

الاشكال الثاني : أنّه لا يمكن إرادة الحكم الواقعي والظاهري معاً ، نظراً إلى الغاية وهي قوله عليه‌السلام : «حتى تعلم أنّه قذر» لأنّه إن كان المراد هو الحكم الواقعي ، يكون العلم المأخوذ في الغاية طريقياً كما ذكرناه في أوّل الاحتمالات ، فانّ الحكم الواقعي لا يرفع بالعلم ، ولا فرق فيه بين العالم والجاهل كما عليه أهل الحق خلافاً لأهل التصويب ، ولا يرتفع الحكم الواقعي في غير موارد النسخ إلاّبتبدل موضوعه بأن يلاقي الجسم الطاهر نجساً ، أو يرتدّ مسلم نعوذ بالله ، أو يصير ماء العنب خمراً مثلاً ، وإن كان المراد هو الحكم الظاهري يكون العلم المأخوذ في الغاية قيداً للموضوع وغاية له ، لأنّ موضوع الحكم

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٩٢.

٨٥

الظاهري هو الشك وغايته العلم ، إذ الشك يرتفع بالعلم ، فيكون العلم ملحوظاً بنحو الاستقلال والموضوعية ، ولا يمكن اجتماع الطريقية والموضوعية في العلم ، لأن معنى الموضوعية ارتفاع الحكم بالعلم ، ومعنى الطريقية عدم ارتفاعه به ، فيكون الجمع بينهما كالجمع بين المتناقضين.

وهذا الاشكال مندفع بما ذكرناه في تقريب هذا الوجه من أنّ العلم ليس غايةً للحكم الواقعي ولا للحكم الظاهري ، بل غاية للحكم بالبقاء والاستمرار ، فيكون دالاً على استصحاب الحكم السابق سواء كان واقعياً أو ظاهرياً ، فبقوله عليه‌السلام : «كل شيء نظيف» تمّت إفادة الحكم الواقعي والظاهري لشمول الشيء للشيء المعلوم والشيء المجهول على ما ذكرنا ، ويكون قوله عليه‌السلام : «حتى تعلم» إشارة إلى الحكم ببقاء الحكم الثابت سابقاً واستمراره إلى زمان العلم بالنجاسة ، فيكون العلم موضوعياً وقيداً للاستصحاب ، لأنّه بالعلم يرتفع الشك ، وبارتفاعه لم يبق موضوع للاستصحاب كما هو ظاهر.

الاشكال الثالث : أنّه لا يمكن اجتماع الحكم الواقعي والظاهري في نفسه مع قطع النظر عن الغاية ، وذلك لأنّه إذا استند الحكم إلى العام الشامل للخصوصيات الصنفية والخصوصيات الفردية ، فلا محالة يكون الحكم مستنداً إلى الجامع بين الخصوصيات لا إلى الأفراد بخصوصياتها ، فانّه إذا قيل أكرم كل إنسان ، فهذا الحكم وإن كان شاملاً لجميع أصناف الانسان وأفراده ، إلاّأ نّه مستند إلى الجامع لا إلى الخصوصيات الصنفية أو الفردية ، فانّه يقال : هذا يجب إكرامه لأنّه إنسان لا لأنّه عربي أو لأنّه زيد مثلاً ، فلا دخل للخصوصيات في الحكم ، فقوله عليه‌السلام : «كل شيء نظيف» وإن كان شاملاً للشيء المشكوك ، إلاّأ نّه بعنوان أنّه شيء لا بعنوان أنّه مشكوك ، إذ كونه مشكوكاً

٨٦

من الخصوصيات الصنفية ، وقد ذكرنا عدم دخلها في الحكم المستند إلى العام ، فلا يكون هناك حكم ظاهري ، لأن موضوعه الشيء بما هو مشكوك فيه ، فلا يكون في المقام إلاّالحكم الواقعي الوارد على جميع الأشياء المعلومة أو المشكوك فيها.

بل يمكن أن يقال : إنّ الحكم المذكور في قوله عليه‌السلام : «كل شيء نظيف» لايكون شاملاً للشيء المشكوك فيه أصلاً ، لأن عموم قوله عليه‌السلام : «كل شيء» قد خصص بمخصصات كثيرة دالة على نجاسة بعض الأشياء كالكلب والكافر والبول وسائر النجاسات ، والمائع المردد بين الماء والبول مثلاً لا يمكن التمسك لطهارته بعموم قوله عليه‌السلام : «كل شيء نظيف» لكونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فالشيء المشكوك فيه لا يكون داخلاً في عموم قوله عليه‌السلام : «كل شيء نظيف» لا من حيث الحكم الظاهري ، لأنّ الموضوع هو الشيء لا المشكوك فيه ، ولا من حيث الحكم الواقعي ، لكونه مشكوكاً بالشبهة المصداقية.

وهذا الاشكال متين جداً ولا دافع له ، وظهر منه عدم صحة الاحتمال الرابع ، وهو أن يكون المراد الطهارة الواقعية للأشياء بعناوينها الأوّلية ، والطهارة الظاهرية للأشياء المشكوك فيها ، لعدم إمكان الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري على ما تقدّم.

وأمّا الاحتمال السادس الذي اختاره في الكفاية ، وهو أن يكون المراد الطهارة الواقعية والاستصحاب على ما تقدّم بيانه وأيّده بقوله عليه‌السلام في موثقة عمار : «فاذا علمت فقد قذر» بدعوى ظهوره في أنّه متفرّع على الغاية وحدها ، فيكون بياناً لمفهومها وأنّ الحكم باستمرار الطهارة ينتفي بعد العلم

٨٧

بالنجاسة (١) ، ففيه : أنّه لا يمكن الجمع بين الطهارة الواقعية والاستصحاب في الاستفادة من الأخبار المذكورة ، لأن قوله عليه‌السلام : «حتى تعلم» إمّا أن يكون قيداً للموضوع أو للمحمول ، ولا تستفاد الطهارة الواقعية والاستصحاب على كلا الوجهين.

أمّا إن كان قيداً للموضوع كما في قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ...)(٢) فانّ الغاية قيد للموضوع وهو اليد وتحديد للمغسول ، لأنّ اليد قد تطلق على جميع العضو إلى المنكب ، وقد تطلق عليه إلى المرفق ، وقد تطلق على الزند كما في آية التيمم (٣) ، وقد تطلق على الأصابع كما في آية السرقة (٤) ، فقيدها في هذه الآية الشريفة لتعيين المراد من اليد ، فالغاية تحديد للموضوع لا غاية للغسل. فيكون المراد من قوله عليه‌السلام : «كل شيء نظيف حتى تعلم أنّه نجس» أنّ كل شيء لم تعلم نجاسته فهو طاهر ، فيكون المراد قاعدة الطهارة الظاهرية للأشياء المشكوك فيها ، فانّ الشيء الذي لم تعلم نجاسته عبارة اخرى عن الشيء المشكوك فيه.

وكذلك إن كان قيداً للمحمول ، لأنّ المراد حينئذ أنّ الأشياء طاهرة ما لم تعلم نجاستها ـ أي ما دام مشكوكاً فيها ـ فيكون مفاد الرواية هو الحكم بالطهارة الظاهرية للأشياء المشكوك فيها على التقديرين ، ولا ربط لها بالطهارة الواقعية ولا الاستصحاب. نعم ، لو كان في الكلام تقدير وكان قوله عليه‌السلام :

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٩٩.

(٢) المائدة ٥ : ٦.

(٣) النساء ٤ : ٤٣ ، المائدة ٥ : ٦.

(٤) المائدة ٥ : ٣٨.

٨٨

«حتى تعلم» متعلقاً به وقيداً له ، وكان التقدير هكذا : كل شيء طاهر وطهارته مستمرة حتى تعلم أنّه نجس ، كان الكلام دالاً على الطهارة الواقعية والاستصحاب ، ولكنّ التقدير خلاف الأصل ولا موجب للالتزام به.

وظهر بما ذكرناه من بطلان الجمع بين الطهارة الواقعية والاستصحاب بطلان الاحتمال الأوّل ، وهو أن يكون المراد الطهارة الواقعية فقط فلا حاجة إلى التعرض له.

وأمّا الاحتمال الخامس الذي ذكره صاحب الفصول من الجمع بين الطهارة الظاهرية والاستصحاب بالبيان المتقدم ، ففيه : أنّ الحكم بالطهارة الظاهرية للشيء المشكوك فيه باقٍ ببقاء موضوعه وهو الشك ، بلا احتياج إلى الاستصحاب ، فانّ المستفاد من الأخبار هو جعل الحكم المستمر ـ أي الطهارة الظاهرية للشيء المشكوك فيه ما دام مشكوكاً فيه ـ لا استمرار الحكم المجعول ، إذ ليس الحكم بالطهارة في الخبر بملاحظة الطهارة السابقة وبعناية الطهارة الثابتة حتى يكون استصحاباً ، فليس مفاد الخبر إلاّالطهارة الظاهرية المجعولة بلحاظ الشك.

وظهر بطلان الاحتمال الثالث أيضاً ، وهو أن يكون المراد الاستصحاب فقط. فتحصل أنّ الأخبار المذكورة متمحضة لقاعدة الطهارة الظاهرية للأشياء المشكوك فيها.

بقي الكلام فيما ذكره الشيخ قدس‌سره (١) من أن خصوص الخبر الوارد في طهارة الماء يدل على الاستصحاب ، وهو قوله عليه‌السلام : «الماء كلّه طاهر حتى تعلم أنّه نجس ...» (٢) لأن طهارة الماء معلومة ، ويكون المراد الحكم ببقائها

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٥٧٣ و ٥٧٤.

(٢) تقدّم مصدره في ص ٨٢.

٨٩

إلى زمان العلم بالنجاسة.

وفيه : أنّ طهارة الماء وإن كانت معلومةً ، إلاّأنّ الحكم بطهارته في الرواية ليس مستنداً إلى طهارته السابقة حتى يكون استصحاباً ، بل الحكم بطهارته إنّما هو بملاحظة الشك ، فلا يستفاد منه أيضاً إلاّالطهارة الظاهرية في خصوص الماء. نعم ، لا مانع من استفادة الاستصحاب من رواية اخرى ذكرها الشيخ (١) قدس‌سره وهي ما ورد في إعارة الثوب للذمي ، لأنّ الحكم بالطهارة في الثوب مستند إلى طهارته السابقة ، لقوله عليه‌السلام : «لأ نّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه ...» (٢) لكنّه مختص بباب الطهارة ، ولا وجه للتعدي عن المورد إلاّعدم القول بالفصل ، وأنى لنا باثباته ، فلم يبق لنا دليل صالح للاستصحاب إلاّالأخبار التي ذكرناها ، وعمدتها الصحاح الثلاث.

والمتحصّل مما ذكرناه : حجية الاستصحاب بلا اختصاص لها بباب دون باب على ما تقدّم.

إلاّأ نّه ينبغي لنا التعرض لتفصيلين آخرين ذكرا في المقام :

الأوّل : التفصيل في الشك في الرافع بين الشك في وجود الرافع والشك في رافعية الموجود ، بالالتزام بحجية الاستصحاب في الأوّل دون الثاني.

الثاني : التفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعية.

أمّا التفصيل الأوّل فقد التزم به المحقق السبزواري (٣) قدس‌سره بتقريب

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٥٧١.

(٢) الوسائل ٣ : ٥٢١ / أبواب النجاسات ب ٧٤ ح ١.

(٣) ذخيرة المعاد : ١١٥.

٩٠

أنّ الشك إذا كان في وجود الرافع كان رفع اليد عن اليقين نقضاً لليقين بالشك ، فمن كان متيقناً بالطهارة من الحدث وشك في تحقق النوم مثلاً ، فرفع اليد عن الطهارة وعدم ترتيب آثارها إنّما هو للشك في النوم ومستند إليه ، فيصدق عليه نقض اليقين بالشك ، فيكون مشمولاً لقوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك ...» وأمّا إذا كان الشك في رافعية الموجود فليس رفع اليد عن الطهارة مستنداً إلى الشك بل إلى اليقين بوجود ما يحتمل كونه رافعاً ، لأنّ المعلول يستند إلى الجزء الأخير من العلة ، فلا يكون من نقض اليقين بالشك ، بل من نقض اليقين باليقين ، سواء كان الشك في رافعية الموجود من جهة الشبهة الموضوعية كما إذا شك بعد الطهارة في أنّ الرطوبة الخارجة بعدها بول أو مذي ، أو من جهة الشبهة الحكمية كما إذا شك في أنّ الرعاف ناقض للطهارة أم لا ، فرفع اليد عن الطهارة في المثالين مستند إلى اليقين بوجود ما يحتمل كونه رافعاً لا إلى الشك في رافعيته ، لأنّا لو فرضنا عدم تحقق اليقين المذكور ، لا يكون مجرد الشك في رافعية الرطوبة المرددة أو في رافعية الرعاف مثلاً ناقضاً لليقين بالطهارة ورفع اليد عنها ، فالموجب لرفع اليد عن الطهارة إنّما هو اليقين بوجود ما يحتمل كونه رافعاً.

والجواب عنه : أنّ كل يقين لا يوجب رفع اليد عن اليقين بالطهارة لولا احتمال كون المتيقن رافعاً لها ، فانّ اليقين بشيء أجنبي لا يوجب نقض اليقين بالطهارة ، حتى يكون من نقض اليقين باليقين ، بل نقض اليقين باليقين إنّما يصدق فيما إذا كان اليقين الثاني متعلقاً بارتفاع متعلق اليقين الأوّل ، كما إذا تيقن بالطهارة ثمّ تيقن بارتفاعها بالنوم مثلاً ، كما أنّ الشك الموجب لرفع اليد عن اليقين الذي يصدق عليه نقض اليقين بالشك إنّما هو فيما إذا تعلق الشك بعين

٩١

ما تعلق به اليقين ، كي تتحد القضية المتيقنة والقضية المشكوكة ، فرفع اليد عن الطهارة المتيقنة في المثالين مستند إلى الشك في رافعية الشيء الموجود ، لا إلى اليقين بوجوده ، إذ اليقين بوجود شيء بمجرده لا يوجب رفع اليد عن الطهارة.

وأمّا ما ذكره من أنّه لو فرض الشك في نقض الرعاف مثلاً للطهارة مع عدم اليقين بوجوده في الخارج ، لم يكن مجرد الشك موجباً لرفع اليد عن الطهارة ، لعدم التنافي بين اليقين بالطهارة الفعلية والشك في كون الرعاف ناقضاً لها ، فالناقض إنّما هو العلم بوجود الرعاف في الخارج ، فرفع اليد عن اليقين السابق به نقض لليقين باليقين لا بالشك ، فهو مغالطة ظاهرة ، لأنّ الشك المفروض في كلامه إنّما هو الشك في كبرى انتقاض الطهارة بالرعاف ، وهو لا يوجب رفع اليد عن الطهارة ألبتّة ، لاجتماعه مع اليقين بالطهارة الفعلية ، وإنّما الموجب لرفع اليد عن الطهارة المتيقنة هو الشك في انتقاض الطهارة بالرعاف الموجود خارجاً بالفعل الذي لا يجتمع مع اليقين بالطهارة الفعلية ، وبعد كون رفع اليد عن الطهارة المتيقنة مستنداً إلى الشك ، كان مشمولاً لدليل حرمة نقض اليقين بالشك ، فلا يبقى فرق في حجية الاستصحاب بين الشك في وجود الرافع والشك في رافعية الموجود.

وأمّا التفصيل الثاني ، فقبل التعرض له لا بدّ من بيان حقيقة الحكم والفرق بين الحكم التكليفي والوضعي ، فنقول :

الحكم الشرعي من سنخ الفعل الاختياري الصادر من الشارع ، وليس هو عبارة عن الارادة والكراهة أو الرضا والغضب ، فانّها من مبادئ الأحكام تعرض للنفس بغير اختيار ، وليست من سنخ الأفعال الاختيارية ، فالحكم عبارة عن اعتبار نفساني من المولى ، وبالانشاء يبرز هذا الاعتبار النفساني ،

٩٢

لا أنّه يوجد به كما مرّ (١) ، فهذا الاعتبار النفساني تارةً يكون بنحو الثبوت وأنّ المولى يثبت شيئاً في ذمة العبد ويجعله ديناً عليه ، كما ورد في بعض الروايات أنّ دين الله أحق أن يقضى (٢) ، فيعبّر عنه بالوجوب ، لكون الوجوب بمعنى الثبوت (٣) ، واخرى يكون بنحو الحرمان ، وأنّ المولى يحرم العبد عن شيء ويسد عليه سبيله ، كما يقال في بعض المقامات : إنّ الله تعالى لم يجعل لنا سبيلاً إلى الشيء الفلاني ، فيعبّر عنه بالحرمة ، فانّ الحرمة هو الحرمان عن الشيء (٤) ، كما ورد أنّ الجنة محرّمة على آكل الربا (٥) مثلاً ، فانّ المراد منه المحرومية عن الجنّة ، لا الحرمة التكليفية ، وثالثةً يكون بنحو الترخيص وهو الاباحة بالمعنى الأعم ، فانّه تارةً يكون الفعل راجحاً على الترك ، واخرى بالعكس ، وثالثةً لا رجحان لأحدهما على الآخر ، وهذا الثالث هو الاباحة بالمعنى الأخص.

فهذه هي الأحكام التكليفية ، والعبارة الجامعة أنّ الأحكام التكليفية عبارة عن الاعتبار الصادر من المولى من حيث الاقتضاء والتخيير ، كما هو مذكور في بعض الكلمات ، وما سواها كلّه أحكام وضعية ، سواء كان متعلقاً بفعل المكلف ، كالشرطية والمانعية والصحة والفساد أم لا كالملكية والزوجية وغيرهما ، فكل اعتبار من الشارع سوى الخمسة المذكورة حكم وضعي. وبعد ما عرفت المراد من الحكم ، والفرق بين التكليفي منه والوضعي ، فهل الحكم الوضعي مجعول

__________________

(١) مرّ في ص ٨٥ ، ولمزيد الاطلاع راجع محاضرات في اصول الفقه ١ : ٩٢.

(٢) سنن النسائي ٥ : ١١٨.

(٣) كما في المنجد : ٨٨٧ والمصباح المنير : ٦٤٨.

(٤) المنجد : ١٢٨ ، المصباح المنير : ١٣١.

(٥) ورد مضمونه في الوسائل ١٨ : ١١٧ / أبواب الربا ب ١.

٩٣

بالاستقلال أو منتزع من التكليف أو فيه تفصيل؟

ذكر صاحب الكفاية (١) قدس‌سره تفصيلاً في المقام حاصله : أنّ الأحكام الوضعية على أقسام ثلاثة :

الأوّل : ما لا يكون مجعولاً بالجعل التشريعي أصلاً ، لا استقلالاً ولا تبعاً للتكليف ، وإن كان مجعولاً بالجعل التكويني تبعاً لجعل موضوعه كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية للتكليف.

الثاني : ما يكون منتزعاً من التكليف كالشرطية والمانعية للمكلف به ، فانّ المولى تارةً يأمر بشيء بلا تقييده بشيء وجودي أو عدمي ، واخرى يأمر بشيء مع التقييد بشيء وجوداً كالطهارة مثلاً فتنتزع منه الشرطية ، أو عدماً كالنجاسة مثلاً فتنتزع منه المانعية.

الثالث : ما يكون مجعولاً بالجعل التشريعي مستقلاً كالملكية والزوجية. وذكر أنّ الوجه في عدم كون القسم الأوّل مجعولاً بالجعل التشريعي أنّ اتصاف الأسباب والشروط بالسببية والشرطية ليس قابلاً للجعل الشرعي ، ولا منتزعاً من التكليف لكونه متأخراً عنه حدوثاً وبقاءً ، بل الاتصاف إنّما هو لخصوصية مؤثّرة في التكليف ، وإلاّ يلزم أن يكون كل شيء مؤثراً في كل شيء ، وهذه الخصوصية والربط شيء خارجي لا يحصل بمجرد الجعل التشريعي والانشاء ، ولا يكون منتزعاً من التكليف لكونه متأخراً عنه كما ذكرنا ، هذا ملخص كلامه قدس‌سره.

وقبل التعرض لتحقيق الأقسام المذكورة ، لا بدّ من التنبيه على أمر ، وهو

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٠٠.

٩٤

أنّه كما تنتزع الامور الانتزاعية من الأشياء الخارجية ، كذلك تنتزع من الامور الاعتبارية ، فانّه إذا ترتب وجود شيء على شيء آخر في الخارج ، تنتزع منه السببية والمسببية لهما ، فكذلك الحال في الامور الاعتبارية ، فاذا جعل المولى حكمه مترتباً على شيء كما إذا قال : من حاز ملك ، أو من مات فما تركه لوراثه ، فتنتزع منه السببية ويقال : إنّ الحيازة سبب لملكية الحائز ، وموت المورّث سبب لملكية الوارث وهكذا ، فلا فرق من هذه الجهة بين الامور الخارجية والامور الاعتبارية فانّها أيضاً من الامور الواقعية المحققة التي تترتب عليها الآثار ، غاية الأمر أنّ تحققها إنّما هو في عالم الاعتبار وأمرها بيد المولى.

وبما ذكرنا ظهر الفرق بين الامور الاعتبارية والانتزاعية ، فانّ الامور الانتزاعية ليس بازائها شيء سوى منشأ الانتزاع ، بخلاف الامور الاعتبارية فانّ لها تحققاً في عالم الاعتبار ، وتترتب عليها الآثار ، وليست من الامور الخيالية.

فتحصّل مما ذكرنا أنّ هاهنا اموراً أربعة ، الأوّل : الامور المتأصلة الخارجية كالجواهر والأعراض. الثاني : الامور الاعتبارية التي أمرها بيد المولى. الثالث : الامور الانتزاعية ، وهي على قسمين ، لأنّ منشأ الانتزاع لها إمّا أن يكون من الامور الخارجية ، وإمّا أن يكون من الامور الاعتبارية ، وقد ذكرنا مثال القسمين. إذا عرفت ذلك فنقول :

أمّا القسم الأوّل من الأحكام الوضعية الذي ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره فهو من قيود التكليف ، فانّ المولى تارةً يجعل التكليف بلا قيد فيكون مطلقاً ، واخرى يجعله مقيداً بوجود شيء في الموضوع فيكون شرطاً ، وثالثةً بعدمه فيكون مانعاً ، فالسببية والشرطية والمانعية بالنسبة إلى التكليف

٩٥

منتزعة من جعل التكليف مقيداً بوجود شيء في الموضوع أو عدمه.

والفرق بين السبب والشرط مجرد اصطلاح ، فانّهم يعبّرون عما اعتبر وجوده في الحكم التكليفي بالشرط ، ويقولون : إنّ البلوغ شرط لوجوب الصلاة مثلاً ، والاستطاعة شرط لوجوب الحج وهكذا ، ويعبّرون عما اعتبر وجوده في الحكم الوضعي بالسبب ، ويقولون : إنّ الملاقاة سبب للنجاسة ، والحيازة سبب للملكية ، فكلّ ما اعتبر وجوده في الحكم فهو شرط في باب التكليف وسبب في باب الوضع ، سواء عبّر عن اعتباره بلفظ القضية الشرطية أو الحملية ، فانّه لا فرق بين قول المولى : مَن كان مستطيعاً وجب عليه الحج ، وقوله : المستطيع يجب عليه الحج فيما يفهم منهما ، فانّ القضية الشرطية ترجع إلى الحملية ، كما أنّ القضية الحملية ترجع إلى الشرطية التي مقدّمها تحقق الموضوع ، وتاليها ثبوت المحمول له.

وبالجملة : كلّ ما اعتبر وجوده في الموضوع فهو شرط للتكليف ، كالاستطاعة لوجوب الحج ، وكلّ ما اعتبر عدمه في الموضوع فهو مانع عن التكليف كالحيض ، فالشرطية والمانعية بالنسبة إلى التكليف منتزعة من جعل المولى التكليف مقيداً بوجود شيء في الموضوع أو عدمه ، فتكون الشرطية والسببية والمانعية مجعولةً بتبع التكليف.

فظهر أنّ ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سرة) ـ من عدم كون الشرطية والمانعية والسببية بالنسبة إلى التكليف قابلة للجعل أصلاً ، لا بالاستقلال ولا بالتبع ـ خلط بين الجعل والمجعول ، فانّ ما ذكره صحيح بالنسبة إلى أسباب الجعل وشروطها من المصالح والمفاسد والارادة والكراهة والميل والشوق ، فانّها امور واقعية باعثة لجعل المولى التكليف ومبادئ له ، وليست قابلةً للجعل التشريعي ، لكونها من الامور الخارجية التي لا يعقل تعلق الجعل التشريعي

٩٦

بها ، بل ربما تكون غير اختيارية كالميل والشوق والمصلحة والمفسدة مثلاً ، وهي خارجة عن محل الكلام ، فانّ الكلام في الشرطية والسببية والمانعية بالنسبة إلى المجعول وهو التكليف ، وقد ذكرنا أنّها مجعولة بتبع التكليف ، فكلّ ما اعتبر وجوده في الموضوع ، فتنتزع منه السببية والشرطية ، وكلّ ما اعتبر عدمه فيه فتنتزع منه المانعية. وظهر بما ذكرناه حال :

القسم الثاني من الأحكام الوضعية ، فانّه أيضاً منتزع من التكليف ، والفرق بينه وبين القسم الأوّل ، أنّ الشرطية والمانعية بالنسبة إلى التكليف إنّما تنتزعان من اعتبار شيء وجوداً أو عدماً في الموضوع وهو المكلف ، بخلاف الشرطية والمانعية بالنسبة إلى المكلف به ، فانّهما منتزعتان من اعتبار شيء في متعلق الأمر وهو المكلف به ، فان اعتبر فيه شيء وجوداً ، فتنتزع منه الشرطية ويقال : إنّ الاستقبال مثلاً شرط للصلاة ، أو التستر شرط لها ، وإن اعتبر فيه شيء عدماً ، فتنتزع منه المانعية ، ويقال : إنّ أجزاء غير مأكول اللحم مانعة عن الصلاة.

فتلخص مما ذكرناه : أنّه إذا أمر المولى بشيء ولم يقيده بشيء وجوداً ولا عدماً ، فليس هنا شرط ولا مانع ، لا للتكليف ولا للمكلف به ، وإذا أمر بشيء مقيداً بوجود شيء في الموضوع كالاستطاعة ، فهو شرط للتكليف ، أو بعدمه فيه فهو مانع عنه كالحيض ، وإذا أمر بشيء مقيداً بوجود شيء في المكلف به فهو شرط للمكلف به كالاستقبال ، أو بعدمه فيه فهو مانع عنه كأجزاء غير المأكول ، وإذالم يقيد المولى المكلف به بشيء فهو مطلق.

وظهر بما ذكرنا أنّ الجزئية أيضاً أمر منتزع من أمر المولى بالمركب ، فاذا أمر بعدة امور من التكبير والقراءة والسورة والركوع والسجود وغيرها ، تنتزع منه الجزئية ويقال : إنّ السورة مثلاً جزءٌ للصلاة.

٩٧

وأمّا القسم الثالث فالأمر فيه كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ الملكية والزوجية وأمثالهما مجعولة بالاستقلال ، لا أنّها منتزعة من التكليف كما اختاره الشيخ (١) قدس‌سره فانّ انتزاعها من التكليف وإن كان ممكناً في مقام الثبوت ، إلاّأنّ مقام الاثبات لا يساعد عليه لكونه خلاف ظاهر الأدلة ، إذ المستفاد من قوله عليه‌السلام : «الناس مسلّطون على أموالهم» (٢) أنّ جواز التصرف مسبوق بالملكية ومن أحكامها ، لا أنّ الملكية منتزعة من جواز التصرف ، فانّ الحكم بجواز التصرف يستفاد من قوله عليه‌السلام : «مسلطون» والملكية من الاضافة في قوله عليه‌السلام : «أموالهم».

فظاهر الحديث أنّ الملكية متقدمة على جواز التصرف تقدم الموضوع على الحكم ، وكذا عدم جواز التصرف في ملك الغير الذي يستفاد من قوله عليه‌السلام : «لا يحل مال امرئ إلاّبطيب نفسه» (٣) فظاهره أنّ عدم جواز التصرف من آثار الملكية ومتأخر عنها رتبةً تأخر الحكم عن موضوعه ، لا أنّها منتزعة من عدم جواز تصرف الغير.

وكذا الزوجية والرقية وغيرهما من الأحكام الوضعية ، فانّ الرجوع إلى الأدلة يشهد بأنّ جواز الاستمتاع من آثار الزوجية ومتفرع عليها ، لا أنّ الزوجية منتزعة من جواز الاستمتاع له ، أو عدم جواز الاستمتاع للغير.

مضافاً إلى أنّه لا تلازم بين الملكية وجواز التصرف ، ولا بينها وعدم جواز تصرف الغير ، فانّ النسبة بين الملكية وجواز التصرف هو العموم من وجه ، إذ

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٠٣.

(٢) عوالي اللآلي ٣ : ٢٠٨ ح ٤٩ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٧٢.

(٣) الوسائل ٥ : ١٢٠ / أبواب مكان المصلي ب ٣ ح ١ (باختلاف يسير).

٩٨

قد يكون الشخص مالكاً ولا يجوز له التصرف كالسفيه والعبد على القول بملكه ، وكذا في العين المرهونة ، وقد يجوز التصرف له مع عدم كونه مالكاً كما في المباحات الأصلية. وكذا النسبة بين الملكية وعدم جواز تصرف الغير أيضاً هو العموم من وجه ، فقد يكون الشخص مالكاً لشيء ويجوز لغيره التصرف فيه ، كما في حق المارة والأكل عند المخمصة ، وقد لا يجوز للغير التصرف مع عدم كون هذا الشخص مالكاً كما في العين المرهونة ، فانّه لا يجوز التصرف فيها للراهن مع عدم كونها ملكاً للمرتهن ، فكيف يمكن القول بأنّ الملكية منتزعة من جواز التصرف أو من عدم جواز تصرف الغير.

هذا كلّه مضافاً إلى أنّه يلزم على ما ذكره الشيخ قدس‌سره عدم جريان الاستصحاب فيما إذا زوّج أحد صغيرةً ثمّ بلغت وشك في أنّه طلّقها أم لا ، فانّه لا يجري الاستصحاب في الحكم الوضعي وهو الزوجية ، لكونه منتزعاً من التكليف ، فيكون تابعاً لمنشأ الانتزاع حدوثاً وبقاءً ، ولا في الحكم التكليفي وهو جواز الوطء لكونه مسبوقاً بالعدم ، لعدم جواز وطء الزوجة الصغيرة ، إلاّ أن يقال : إنّه يجري الاستصحاب في الحكم التكليفي بنحو التعليق بناءً على حجية الاستصحاب التعليقي فيقال : إنّ هذه المرأة لو بلغت سابقاً كان وطؤها جائزاً والآن كما كان ، وعلى ما ذكرنا من كون الزوجية مجعولةً بالاستقلال ، يجري الاستصحاب فيها بلا إشكال ويترتب عليه جواز الوطء.

فالمتحصل مما ذكرناه في المقام : أنّ الأحكام الوضعية على قسمين : قسم منها مجعول بالاستقلال كالملكية والزوجية ، وقسم منها منتزع من التكليف إمّا باعتبار شيء في الموضوع أو في المتعلق.

بقي الكلام في امور قد اختلف في أنّها من الأحكام الوضعية أم لا :

٩٩

منها : الطهارة والنجاسة ، فذهب الشيخ (١) قدس‌سره إلى أنّهما من الامور الواقعية ، فالطهارة عبارة عن النظافة الواقعية ، والنجاسة عبارة عن القذارة الواقعية ، وكشف عنهما الشارع ، كخواص بعض الأدوية التي لا يعرفها إلاّأهل الخبرة والتجربة ، فالطهارة والنجاسة من هذا القبيل ، وليستا من الامور المجعولة كالأحكام التكليفية.

وفيه أوّلاً : أنّه خلاف ظواهر الأدلة ، إذ ظاهرها أنّ الشارع حكم بالنجاسة في شيء وبالطهارة في شيء آخر بما هو شارع ، لا أنّه أخبر عن حقيقة الأشياء بما هو من أهل الخبرة.

وثانياً : أنّه خلاف الوجدان بالنسبة إلى بعض الموارد ، فانّه وإن كان يمكن القول به في مثل البول والغائط والكلب وغيرها بأن يقال : إنّ الحكم بنجاسة هذه الأشياء إخبار عن قذارتها الواقعية ، إلاّأ نّه لا يمكن القول به في مثل ولد الكافر المحكوم بالنجاسة للتبعية ، فانّ القول بأنّ الحكم بنجاسة الولد قبل إقرار الوالد بالشهادتين إخبار عن قذارته الواقعية ، والحكم بطهارته بعده إخبار عن نظافته الواقعية خلاف الوجدان ، وكيف تتبدل قذراته الواقعية الخارجية بمجرد تلفظ والده بالشهادتين سيّما إذا كان بعيداً عنه ، وإن كان تبدل القذارة الواقعية بالنظافة الواقعية بالتلفظ بالشهادتين بالنسبة إلى نفس الوالد ممكناً. وأمّا التبدل الخارجي بالنسبة إلى الولد فلعله خلاف المقطوع به.

نعم ، لاننكر كون الحكم بالطهارة والنجاسة من قبل الشارع لأجل خصوصية وملاك في الموضوع ، كما في الأحكام التكليفية عند العدلية. ولا يبعد أن يكون الملاك والمصلحة في الحكم بنجاسة الكفار تنفّر المسلمين عنهم لئلا يتخذوا

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٣٣٥ النظر السادس فيما يتبع الطهارة.

١٠٠