موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد رضا الموسوي الخلخالي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
المطبعة: نينوى
الطبعة: ٤
ISBN: 964-6084-13-3
الصفحات: ٣٩٥

كتاب الحجّ

١
٢

كتاب الحجّ

فصل

[في وجوب الحجّ]

من أركان الدِّين : الحجّ وهو واجب على كل من استجمع الشرائط الآتية من الرِّجال والنِّساء والخناثى ، بالكتاب والسنّة ، والإجماع من جميع المسلمين بل بالضرورة (١).

ومنكره في سلك الكافرين (٢) وتاركه عمداً مستخفّاً به بمنزلتهم

______________________________________________________

(١) لا ريب في أن الحجّ من أهم الواجبات الإلهية ، ومن أركان الدِّين ومما بني عليه الإسلام ، وفي روايات كثيرة ذكرها الخاصّة والعامّة : إنّ الإسلام بُني على خمس ومنها الحجّ (١).

وصرح الكتاب العزيز بتشريعه ووجوبه فقال تعالى (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٢).

والمستفاد من الأدلّة وجوبه على جميع الناس من الرجال والنساء والخناثى ، من دون اختصاص له بطائفة دون اخرى.

(٢) قد يستدل على ذلك بأن إنكار الضروري بما هو من موجبات الكفر.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣ / أبواب مقدمة العبادات ب ١ وصحيح البخاري ١ : ١٠ وصحيح مسلم ١ : ٧٢ كتاب الإيمان ب ٥ ح ١٩.

(٢) آل عمران ٣ : ٩٧.

٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ويردّه : أنّا قد ذكرنا في بحث النجاسات (١) أنّ الميزان في الكفر والإسلام أُمور ثلاثة : الشهادة بالوحدانية والشهادة بالرسالة والاعتقاد بالمعاد ، فمن اعترف بهذه الأُمور الثلاثة يحكم عليه بالإسلام ، ويترتّب عليه آثاره من المواريث ، وحرمة دمه وماله ، وحلِّيّة ذبائحه ولزوم تجهيزه من الغسل والكفن والدفن وغير ذلك من الأحكام ومن أنكر أحد هذه الأُمور فهو كافر ، وليس إنكار الضروري من جملتها إلّا إذا رجع إلى تكذيب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) ، فإنكار الضروري بنفسه ومستقلّاً لا يوجب الكفر ما لم يستلزم تكذيب الرسالة ، كما إذا كان الشخص غير عارف بأحكام الإسلام ولم يكن ملتفتاً إلى أن إنكاره يستلزم إنكار النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) فأنكر ضرورياً من ضروريات الدِّين ، فإنّ مجرّد ذلك لا يوجب الكفر.

وقد يستدل على كفر منكر الحجّ بما يستفاد من ذيل آية الحجّ من قوله تعالى (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٢) بدعوى أنّ من أنكر وجوب الحجّ كان كمن كفر ، فإنّ التعبير عن الترك بالكفر يدلّ على أن منكره كافر (٣).

وفيه : أن الظاهر من قوله تعالى (وَمَنْ كَفَرَ) أنّ من كفر بأسبابه وكان كفره منشأ لترك الحجّ فإن الله غني عن العالمين ، لا أنّ إنكار الحجّ يوجب الكفر ، فإنّ الذي يكفر يترك الحجّ طبعاً لأنّه لا يعتقد به ، ونظير ذلك قوله تعالى (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (٤) فإنّ عدم صلاتهم وعدم إيتائهم الزكاة لأجل كفرهم وتكذيبهم يوم

__________________

(١) في شرح العروة ٣ : ٥٣.

(٢) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٣) ولعلّ المراد بالكفر هنا معناه اللغوي وهو عدم التصديق وعدم الاعتراف بالشي‌ء ، فالمعنى أن من لم يعترف بالحجّ ويتركه بالطبع فان الله غني عن العالمين ، لأنّ ترك الحجّ لا يضرّ الله شيئاً كما هو الحال في سائر الواجبات الإلهية والعبادات ، فليس المراد بالكفر المعنى المصطلح المقابل للإيمان بالله تعالى حتى يتوهّم دلالة الآية على كفر منكر الحجّ.

(٤) المدثر ٧٤ : ٤٢ ٤٦.

٤

.................................................................................................

______________________________________________________

القيامة ، ولا تدل الآيات على أنّ ترك الصلاة موجب للكفر ، بل الكفر وتكذيب يوم القيامة منشأ لترك الصلاة وعدم أداء الزكاة ، فلا تدل الآية على أن منكر الحجّ كافر. مضافاً إلى أنه فسّر الكفر بالترك في صحيح معاوية بن عمار «وعن قول الله عزّ وجلّ (وَمَنْ كَفَرَ) ، يعني من ترك» (١) على أنه يمكن أن يقال : إنّ المراد بالكفر في المقام الكفران المقابل للشكر ، فإن الكفر له إطلاقان :

أحدهما : الكفر المقابل للإيمان.

ثانيهما : الكفران مقابل شكر النعمة ، ولا يبعد أن يكون المراد به هنا هو الكفران وترك الشكر بترك طاعته تعالى كما في قوله سبحانه (إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَإِمّا كَفُوراً) (٢) يعني إمّا أن يشكر ويهتدي بالسبيل ، ويعمل على طبق وظائفه الشرعية ، وإمّا أن يكفر بالنعمة ولا يهتدي السبيل ولا يعمل على طبق وظائفه ولا يشكر ما أنعم الله عليه.

وقد يستدلّ على كفر منكر الحجّ بما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر في حديث قال «قلت : فمن لم يحج منّا فقد كفر؟ قال : لا ، ولكن من قال ليس هذا هكذا فقد كفر» (٣) ، بدعوى : أنّ قوله «ليس هذا هكذا» راجع إلى إنكار الحجّ ، يعني مَن أنكر الحجّ وقال بأنّ الحجّ ليس بواجب فقد كفر.

وفيه : أن الظاهر من ذلك رجوعه إلى إنكار القرآن وأن هذه الآية ليست من القرآن وأن القرآن ليس هكذا ، فإنه (عليه السلام) استشهد أوّلاً بقول الله عزّ وجلّ (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ثمّ سأل السائل فمن لم يحج منّا فقد كفر ، قال (عليه السلام) : «لا ، ولكن من قال ليس هذا هكذا فقد كفر» فالإنكار راجع إلى إنكار القرآن وتكذيب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) :

وبالجملة : لم يظهر من شي‌ء من الأدلة كفر منكر الحجّ بحيث يترتب عليه أحكام

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٣١ / أبواب وجوب الحجّ ب ٧ ح ٢.

(٢) الإنسان ٧٦ : ٣.

(٣) الوسائل ١١ : ١٦ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢ ح ١ ، التهذيب ٥ : ١٦ / ٤٨.

٥

وتركه من غير استخفاف من الكبائر (١) ، ولا يجب في أصل الشرع إلّا مرّة واحدة في تمام العمر (٢) وهو المسمّى بحجّة الإسلام أي : الحجّ الذي بُنيَ عليه الإسلام مثل

______________________________________________________

الكافر بمجرّد إنكاره من دون أن يستلزم ذلك تكذيب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) كما إذا لم يكن ملتفتاً إلى هذه الملازمة ، وكان جديد عهد بالإسلام فأنكر وجوب الحجّ ونحوه.

(١) لا ريب أنّ الاستخفاف بالأحكام الإلهية مذموم ومبغوض في الشريعة المقدّسة كما ورد الذم في الخبر الوارد في الفأرة التي وقعت في خابية فيها سمن أو زيت فقال (عليه السلام) : لا تأكله ، فقال السائل : الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها ، فقال له أبو جعفر (عليه السلام) إنك لم تستخف بالفأرة وإنما استخففت بدينك (١).

وبالجملة : الاستخفاف بأي حكم إلهي مذموم عند الشرع المقدّس ، ولكنّه لا دليل على أنه موجب للكفر ، وقد عرفت قريباً أن موجبات الكفر إنكار أحد أُمور ثلاثة : الوحدانية ، والرسالة ، والمعاد ، ومجرّد الاستخفاف ما لم يرجع إلى إنكار أحد هذه الأُمور لا يوجب الكفر. نعم ، لا إشكال في أن ترك الحجّ عمداً من الكبائر لعدّه منها في جملة من النصوص (٢). ولا يبعد أن يكون الاستخفاف به من الكبائر ، فإنه نظير الاستخفاف بالصّلاة كما في قوله تعالى (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) (٣) بناء على أنّ المراد بالسهو عن الصلاة الاستخفاف بها ، والحجّ نظير الصلاة لأنه ممّا بني عليه الإسلام.

(٢) ويدلّ على ذلك مضافاً إلى الإجماع والتسالم بين المسلمين ، السيرة القطعية المستمرّة ، ولم ينقل الخلاف من أحد عدا الصدوق في العلل ، فإنه بعد ما نقل خبر محمّد

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٠٦ / أبواب الماء المضاف ب ٥ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٥ : ٣١٨ / أبواب جهاد النفس ب ٤٦.

(٣) الماعون ١٠٧ : ٤ ، ٥.

٦

الصّلاة والصّوم والخُمس والزّكاة. وما نُقل عن الصدوق في العلل من وجوبه على أهل الجِدَة كل عام على فرض ثبوته شاذ مخالف للإجماع والأخبار ، ولا بدّ من حمله على بعض المحامل ، كالأخبار الواردة بهذا المضمون ، من إرادة الاستحباب المؤكد ، أو الوجوب على البدل بمعنى أنه يجب عليه في عامه وإذا تركه ففي العام الثاني وهكذا. ويمكن حملها على الوجوب الكفائي فإنه لا يبعد وجوب الحجّ كفاية على كل أحد في كل عام إذا كان متمكناً بحيث لا تبقى مكّة خالية من الحجاج لجملة من الأخبار الدالّة على أنه لا يجوز تعطيل الكعبة عن الحجّ ، والأخبار الدالّة على أنّ على الإمام كما في بعضها وعلى الوالي كما في آخر أن يجبر الناس على الحجّ والمقام في مكّة وزيارة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) والمقام عنده وأنه إن لم يكن لهم مال أنفق عليهم من بيت المال.

______________________________________________________

ابن سنان الدال على وجوب الحجّ مرّة واحدة قال : جاء هذا الحديث هكذا ، والذي أعتمده وأفتي به أنّ الحجّ على أهل الجدة في كل عام فريضة (١). وما ذكره (قدس سره) شاذ مخالف لما تقدّم من الإجماع والسيرة بل الضرورة. على أنه لو كان واجباً بأكثر من مرّة واحدة في العمر لظهر وبان ، وكيف يخفى وجوبه على المسلمين مع أنه من أركان الدّين ، وممّا بني عليه الإسلام.

وتدل على عدم وجوبه بأكثر من مرّة واحدة عدة من الروايات فيها الصحيحة وغيرها ، منها : صحيحة البرقي في حديث «وكلفهم حجّة واحدة وهم يطيقون أكثر من ذلك» (٢).

ومنها : رواية الفضل بن شاذان «إنما أُمِروا بحجّة واحدة لا أكثر من ذلك ، لأنّ الله وضع الفرائض ، إلخ» (٣).

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٠ / أبواب وجوب الحجّ ب ٣ ح ٣ ، علل الشرائع ٢ : ٤٠٥ ب ١٤١.

(٢) الوسائل ١١ : ١٩ / أبواب وجوب الحجّ ب ٣ ح ١.

(٣) الوسائل ١١ : ١٩ / أبواب وجوب الحجّ ب ٣ ح ٢.

٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وبإزائها روايات أُخر تدل على وجوب الحجّ أكثر من مرّة بل كل عام على المستطيع ، منها : ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال : «انّ الله عزّ وجلّ فرض الحجّ على أهل الجدة في كل عام ، وذلك قول الله عزّ وجلّ (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)» (١).

وقد حملها الشيخ على الاستحباب جمعاً بينها وبين ما تقدّم من الروايات الدالة على الوجوب مرّة واحدة في تمام العمر. (٢) ولا يخفى بُعده ، لأنه خلاف ظاهر قوله (عليه السلام) «فرض الله الحجّ على أهل الجدة» أو صريحه ، خصوصاً بعد استشهاده (عليه السلام) بالآية الكريمة. وقد جوّز (قدس سره) حملها على إرادة الوجوب على البدل ، بمعنى أنه يجب عليه الحجّ في السنة الأُولى ، وإذا تركه يجب عليه في الثانية وهكذا. وهذا بعيد أيضاً ، فإن الوجوب البدلي بهذا المعنى من طبع كل واجب ، فإن الواجب يجب الإتيان به متى أمكن ، ويجب تفريغ الذمة عنه ، ولا يسقط الواجب بالعصيان.

وقد حملها صاحب الوسائل على الوجوب الكفائي ، بمعنى أنه يجب الحجّ كفاية على كل أحد في كل عام ، ويشهد له ما دلّ من الاخبار على عدم جواز تعطيل الكعبة عن الحجّ (٣).

وفيه : أن ظاهر الروايات وجوبه على كل أحد لا على طائفة دون طائفة أُخرى كما يقتضيه الواجب الكفائي ، على أنه يتوقف الالتزام بالوجوب الكفائي على تعطيل الكعبة ، وأمّا لو فرضنا عدم تعطيلها ولا أقل من أداء أهل مكّة الحجّ فلا موجب حينئذ للوجوب الكفائي.

__________________

(١) الوسائل ١١ : ١٦ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢ ح ١.

(٢) الاستبصار ٢ : ١٤٩.

(٣) الوسائل ١١ : ٢٠ / أبواب وجوب الحجّ ب ٤.

٨

[٢٩٨٠] مسألة ١ : لا خلاف في أن وجوب الحجّ بعد تحقق الشرائط فوري (١) بمعنى أنه يجب المبادرة إليه في العام الأوّل من الاستطاعة ، فلا يجوز تأخيره عنه ، وإن تركه فيه ففي العام الثاني ، وهكذا. ويدلُّ عليه جملة من الأخبار.

______________________________________________________

والأولى في توجيه هذه الروايات أن يقال : إنها ناظرة إلى ما كان يصنعه أهل الجاهلية من عدم الإتيان بالحج في بعض السنين لتداخل بعض السنين في بعض بالحساب الشمسي ، فإن العرب كانت لا تحج في بعض الأعوام ، وكانوا يعدون الأشهر بالحساب الشمسي ، ومنه قوله تعالى (إِنَّمَا النَّسِي‌ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) (١) ، وربّما لا تقع مناسك الحجّ في شهر ذي الحجة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم بأن الحجّ يجب في كل عام وأنه لا تخلو كل سنة عن الحجّ.

وبالجملة : كانوا يؤخِّرون الأشهر عمّا رتبها الله تعالى ، فربّما لا يحجون في سنة وقد أوجب الله تعالى الحجّ لكل أحد من أهل الجدة والثروة في كل عام قمري ، ولا يجوز تغييره وتأخيره عن شهر ذي الحجة. فالمنظور في الروايات أن كل سنة قمرية لها حجّ ولا يجوز خلوها عن الحجّ ، لا أنه يجب الحجّ على كل أحد في كل سنة ، ولعل هذا الوجه الذي ذكرناه أحسن من المحامل المتقدمة ، ولم أر من تعرّض إليه.

(١) لأنّ المكلف إذا كان واجداً للشرائط وتنجز التكليف عليه فلا بدّ له من تفريغ ذمّته فوراً ولا عذر له في التأخير مع احتمال الفوت ، فلا بدّ له من تفريغ الذمّة. وأما جواز التأخير في بعض المؤقتات كتأخير الصلاة عن أوّل وقتها أو تأخير القضاء وعدم وجوب المبادرة إليها ، فإنما هو لأجل حصول الاطمئنان والوثوق غالباً ببقائه والتمكّن من إتيان الواجب في آخر الوقت ، حيث إن الوقت قصير يحصل الوثوق والاطمئنان غالباً للمكلّفين ببقائهم ، بخلاف زمان الحجّ ، فإن الفصل طويل جدّاً ،

__________________

(١) التوبة ٩ : ٣٧.

٩

ولو خالف وأخّر مع وجود الشرائط بلا عذر يكون عاصياً (١) بل لا يبعد كونه كبيرة كما صرح به جماعة ، ويمكن استفادته من جملة من الأخبار (٢).

______________________________________________________

وكيف يحصل الوثوق بالبقاء مع هذه الحوادث والعوارض والطوارئ ، ولذا نلتزم بالفورية في الصلاة أيضاً فيما لو لم يطمئن بالتمكن من الإتيان بها في آخر الوقت أو في أثنائه ، ويجب عليه المبادرة إليها في أوّل الوقت.

وبالجملة : يكفينا حكم العقل بوجوب المبادرة ، وبعدم جواز تأخيره عن عام الاستطاعة.

هذا ، مضافاً إلى دلالة النصوص على الفورية ولزوم المبادرة. منها : معتبرة أبي بصير قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : من مات وهو صحيح موسر لم يحجّ فهو ممن قال الله عزّ وجلّ (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) ، قال قلت : سبحان الله أعمى؟ قال : نعم ، إن الله عزّ وجلّ أعماه عن طريق الحق» (١) ، وهي واضحة الدلالة على وجوب المبادرة وعدم جواز التأخير ، ولو كان التأخير جائزاً لم يكن وجه لعذابه وعقابه.

ومنها : صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «قال الله تعالى (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قال : هذه لمن كان عنده مال وصحّة ، وإن كان سوّفه للتجارة فلا يسعه ، وإن مات على ذلك فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام إذا هو يجد ما يحج به» (٢) ، وغيرهما من سائر الروايات الدالّة على الفورية.

(١) لأنّه ترك ما وجب عليه من وجوب المبادرة.

(٢) ولكن المستفاد من النصوص أن ترك الحجّ برأسه من الكبائر ومن الموبقات

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٢٧ / أبواب وجوب الحجّ ب ٦ ح ٧.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٥ / أبواب وجوب الحجّ ب ٦ ح ١.

١٠

[٢٩٨١] مسألة ٢ : لو توقف إدراك الحجّ بعد حصول الاستطاعة على مقدّمات من السفر وتهيئة أسبابه ، وجب المبادرة إلى إتيانها على وجه يدرك الحجّ في تلك السنة (١). ولو تعدّدت الرفقة وتمكن من المسير مع كل منهم ، اختار (*) أوثقهم سلامة وإدراكاً (٢) ، ولو وجدت واحدة ولم يعلم حصول أُخرى ، أو لم يعلم التمكّن من المسير والإدراك للحج بالتأخير ، فهل يجب الخروج مع الأُولى أو يجوز التأخير إلى الأُخرى بمجرّد احتمال الإدراك ، أو لا يجوز إلّا مع الوثوق؟

______________________________________________________

الكبيرة ، وأمّا التسويف وترك المبادرة فقط من دون الترك برأسه فهو معصية ، لأنه ترك ما وجب عليه من الفورية ، وأما كونه كبيرة فلم يثبت. نعم عُدَّ في خبر الفضل ابن شاذان (١) من جملة الكبائر الاستخفاف بالحج ، فإن أريد به الاستخفاف بأصل الحكم الإلهي في الشريعة المقدسة فهو وإن كان مذموماً ومبغوضاً في الشرع لكنّه أجنبي عن الاستدلال به في المقام ، إذ لا دلالة فيه على أن التأخير من الكبائر ، ولو أُريد به الاستخفاف العملي لأن تركه وعدم الإتيان به في العام الأوّل وتأخيره عنه نوع من الاستخفاف بالحج ، فالدلالة تامة ، ولكن الرواية ضعيفة السند لا يمكن الاعتماد عليها.

(١) وجوباً عقلياً كسائر الواجبات المتوقفة على أسباب ومقدمات ، فإن العقل يحكم بإتيانها للحصول على الواجب ، والخروج عن عهدته.

(٢) إذا تعدّدت الرفقة وكانوا موافقين في الخروج زماناً ، وتمكن من المسير مع كل منهم اختار بحكم العقل من يثق بوصوله وإدراكه للحج معه ، وليس له اختيار من لا يثق بوصوله وإدراكه للحج. وإذا اختلفت الرفقة في الوثوق لا يجب عليه اختيار الأوثق سلامة وإدراكاً ، لأنّ الميزان هو الوثوق والاطمئنان بالوصول والإدراك ، ولا يحكم العقل بأزيد من ذلك. نعم ، الإنسان بحسب جبلّته وطبعه يختار الأوثق

__________________

(*) لا يجب ذلك.

(١) الوسائل ١٥ : ٣٢٩ / أبواب جهاد النفس ب ٤٦ ح ٣٣.

١١

أقوال. أقواها الأخير (١).

وعلى أي تقدير إذا لم يخرج مع الاولى ، واتفق عدم التمكّن من المسير ، أو عدم إدراك الحجّ بسبب التأخير ، استقر عليه الحجّ (*) وإن لم يكن آثماً بالتأخير ، لأنّه كان متمكناً من الخروج مع الأُولى ، إلّا إذا تبين عدم إدراكه لو سار معهم أيضاً.

______________________________________________________

والأكثر اطمئناناً ، خصوصاً في الأُمور الخطيرة.

وبالجملة : لا دليل شرعاً على لزوم الأخذ بالأوثق سلامة ، بل له أن يختار من يثق به ولو كان دون الأوّل في الوثوق.

(١) لو تعددت الرفقة واختلف زمان الخروج بالتقدم والتأخر ، أو وجدت واحدة ولم يعلم حصول أُخرى ، أو لم يعلم التمكن من المسير والإدراك للحج مع الثانية ، فهل يجب الخروج مع الاولى مطلقاً ، أو يجوز التأخير إلى الأُخرى بمجرد احتمال الإدراك أو لا يجوز إلّا مع الوثوق؟ أقوال :

فعن الشهيد الثاني في الروضة وجوب الخروج مع الرفقة الاولى مطلقاً ولو كانت الرفقة الثانية أوثق ادراكاً ، لأن التأخير تفريط في أداء الواجب فيجب الخروج مع الرفقة الأُولى (١).

وعن السيّد في المدارك جواز التأخير إلى الأُخرى بمجرد احتمال الإدراك ولو لم يثق به ، لعدم ما يدلّ على فورية المسير مع الاولى (٢).

وعن الشهيد في الدروس أنه لا يجوز التأخير إلّا مع الوثوق ، فإذا وثق بالإدراك بالمسير مع اللّاحق يجوز له التأخير وإلّا فلا (٣).

__________________

(*) لا موجب للاستقرار مع جواز التأخير.

(١) الروضة البهية ٢ : ١٦١.

(٢) المدارك ٧ : ١٨.

(٣) الدروس ١ : ٣١٤.

١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وهذا هو الصحيح ، لأن احتمال وجوب المبادرة مع الرفقة الأُولى حتى مع حصول الوثوق بالمسير مع القافلة الثانية وإدراك الحجّ معهم يحتاج إلى دليل ، ولا يعد التأخير إلى الثانية مع حصول الوثوق بها تفريطاً في أداء الواجب ، كما أن جواز التأخير إلى القافلة الثانية مع احتمال التفويت وعدم حصول الوثوق لا دليل عليه ، فإنه بعد ما كان التكليف منجزاً عليه وعنده زاد وراحلة ورفقة ، واحتمل التفويت في التأخير لا يجوز له التأخير ، فالميزان هو الوثوق بالوصول والإدراك ، فإن حصل الوثوق باللّاحق يجوز له التأخير ، وإلّا وجب عليه الخروج مع السابق.

وهل يكفي الظن بالوصول في جواز التأخير إلى القافلة اللاحقة؟ الظاهر لا ، لأن الظن لعدم حجيته ليس بمعذر ، وإذا تنجّز عليه الواجب يجب عليه الخروج عن عهدته ، فلا بدّ أن يسلك طريقاً يطمئن ويثق معه بإدراكه الواجب ، ومجرد الظن بالإدراك لا يجوّز له التأخير إلى القافلة اللّاحقة ، هذا كله في الحكم التكليفي من حيث الجواز والوجوب بالنسبة إلى الخروج مع الرفقة.

وأمّا بالنسبة إلى الحكم الوضعي واستقرار الحجّ فقد ذكر المصنف (قدس سره) أنه لو لم يخرج مع الاولى سواء كان الخروج معها واجباً أو جائزاً ثمّ اتفق عدم إدراك الحجّ بسبب التأخير ، استقر عليه الحجّ ، لأنه كان متمكناً من المسير والخروج مع الاولى ولم يخرج ، وموضوع استقرار الحجّ هو التمكّن من السير مع القافلة ، فإذا فاته وجب عليه الحجّ في العام القابل.

أقول : إذا كان موضوع الاستقرار هو التمكن من الحجّ ، فلازم ذلك أنه لو سافر مع القافلة الأُولى وجوباً أو جوازاً ، واتفق عدم الإدراك لأسباب طارئة في الطريق استقر الحجّ عليه ، ولا يلتزم بذلك أحد حتى المصنف (قدس سره) ، لأنه قد عمل بوظيفته الشرعية ولم يهمل ، وإنما فاته الحجّ لسبب آخر حادث فلا يستقر عليه الحجّ.

نعم ، لو وجب عليه الحجّ وتنجز التكليف ، وأهمل حتى فاته الحجّ ، وجب عليه

١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الحجّ في القابل ، لأنّ الإهمال والتفويت العمدي يوجبان الاستقرار. وقد أخذ المحقق (قدس سره) عنوان الإهمال موضوعاً للاستقرار (١). فمطلق الترك وعدم الإدراك لا عن اختيار لا يوجبان الاستقرار ، والمفروض أنه لا إهمال في المقام ، لأنّ المفروض أنه عمل بوظيفته ، وخرج مع الاولى وجوباً أو جوازاً. وكذا لو قلنا بجواز التأخير وخرج مع الثانية ولم يدرك اتفاقاً ، فإنه لا يصدق الإهمال والتفويت على من عمل بوظيفته.

ويترتب على ذلك أنه لو بقيت الاستطاعة إلى السنة القادمة وجب عليه الحجّ ، ولو زالت في أثناء السنة فلا استقرار عليه ، والسر في ذلك : أن استقرار الحجّ لم يثبت بدليل خاص ، وإنما استفيد من جملة من النصوص المتفرقة.

وقد استدل صاحب الجواهر (قدس سره) بالروايات الدالة على أن الحجّ يخرج من أصل المال (٢) ، إلّا أن هذه الروايات لا تدل على الاستقرار في المقام ، لأن موردها من كان الحجّ واجباً عليه ولم يحج ، ولا يعم من أتى بوظيفته ولم يهمل ولم يدرك الحجّ بغير اختياره ولأمر خارجي وزالت استطاعته بالنسبة إلى السنين اللّاحقة.

وقد يستدل على استقرار الحجّ بروايات التسويف ، وهي بإطلاقها تدلّ على استقرار الحجّ حتى لو زالت الاستطاعة. وهذه الروايات أيضاً قاصرة الشمول عن المقام ، لأنّ موردها التأخير العمدي والإهمال والتسويف لا عن عذر ، فلا تشمل من سلك طريق العقلاء ولكن من باب الصدفة لم يدرك الحجّ.

__________________

(١) الشرائع ١ : ٢٠٣.

(٢) الوسائل ١١ : ٦٦ / أبواب الحجّ ب ٢٥ ، الجواهر ١٧ : ٢٩٨.

١٤

فصل

في شرائط وجوب حجّة الإسلام

وهي أُمور :

أحدها : الكمال بالبلوغ والعقل ، فلا يجب على الصبي وإن كان مراهقاً ، ولا على المجنون وإن كان أدوارياً إذا لم يف دور إفاقته بإتيان تمام الأعمال (١).

______________________________________________________

(١) لا ريب في اعتبار البلوغ والعقل في التكاليف والأحكام الشرعية ، ويدلُّ عليه حديث جري القلم (١) وأن أوّل ما خلق الله العقل وبه يثيب وبه يعاقب (٢) ويدلُّ عليه أيضاً جملة من الروايات الدالّة على أن حجّ الصبي لا يجزئ عن حجّة الإسلام.

منها : رواية شهاب في حديث قال : «سألته عن ابن عشر سنين يحجّ ، قال : عليه حجّة الإسلام إذا احتلم ، وكذلك الجارية عليها الحجّ إذا طمثت» (٣).

ومنها : رواية مسمع بن عبد الملك في حديث «لو أن غلاماً حجّ عشر حجج ثمّ احتلم كانت عليه فريضة الإسلام» (٤) ، والروايتان ضعيفتان بسهل بن زياد.

والعمدة صحيحة إسحاق بن عمار «عن ابن عشر سنين يحجّ ، قال : عليه حجّة الإسلام إذا احتلم ، وكذلك الجارية عليها الحجّ إذا طمثت» (٥) فإن المستفاد من هذه الروايات أن حجّة الإسلام وفريضة الإسلام لا تصدق على حجّ الصبي ، وهذه الفريضة باقية عليه ، وإذا بلغ يجب عليه أداؤها.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٥ / أبواب مقدمة العبادات ب ٤ ح ١٢.

(٢) الوسائل ١ : ٣٩ / أبواب مقدمة العبادات ب ٣ ح ١.

(٣) الوسائل ١١ : ٤٥ / أبواب وجوب الحجّ ب ١٢ ح ٢.

(٤) الوسائل ١١ : ٤٦ / أبواب وجوب الحجّ ب ١٣ ح ٢.

(٥) الوسائل ١١ : ٤٤ / أبواب وجوب الحجّ ب ١٢ ح ١.

١٥

ولو حجّ الصبي لم يجز عن حجّة الإسلام وإن قلنا بصحّة عباداته وشرعيتها كما هو الأقوى (١) وكان واجداً لجميع الشرائط سوى البلوغ ، ففي خبر مسمع عن الصادق

______________________________________________________

نعم ، أُطلق على حجّ الصبي حجّة الإسلام في رواية أبان بن الحكم قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : الصبي إذا حُج به فقد قضى حجّة الإسلام حتى يكبر» (١) ولكن المراد بذلك حجّة إسلام الصبي التي قضاها وأتى بها ، فلا ينافي ذلك بقاء حجّة الإسلام التي بني عليها الإسلام عليه حتى يبلغ ويكبر ، كما أنه قد أُطلق حجّ الإسلام على حجّ النائب في بعض الروايات (٢) مع أنه لا إشكال في بقاء حجّة الإسلام على النائب لو استطاع.

هذا مع قطع النظر عن السند ، وفيه كلام فإن صاحب الوسائل روى عن أبان بن الحكم ، والظاهر أن ذلك غلط ، لأن أبان بن الحكم لا وجود له لا في كتب الرجال ولا في كتب الحديث ، والصحيح أبان عن الحكم كما في الفقيه (٣) ، وحرف «عن» بدّلت بـ «ابن» في كتاب الوسائل ، والحكم هو الحكم بن حكيم الصيرفي الثقة ، وأما أبان فمن هو؟ فإن كان أبان بن تغلب الثقة فذلك بعيد ، لأن أبان بن تغلب لا يروي عن غير المعصوم ورواياته قليلة ، وغالباً يروي عن الإمام (عليه السلام) من دون واسطة وإن كان أبان بن عثمان فهو وإن كان ثقة لكن من البعيد أن أبان المذكور في السند هو ابن عثمان ، لأن أبان بن عثمان لا يروي عن الحكم ، ولم نر رواية ولا واحدة يرويها أبان بن عثمان عن الحكم ، فيكون أبان المذكور في السند رجلاً مجهول الحال.

(١) لما عرفت أن المستفاد من هذه الروايات أن الحجّ له حقائق مختلفة ، فإن الحجّ الذي يأتي به الصبي تختلف حقيقته مع حجّة الإسلام الثابتة على البالغين ، وهذا بخلاف الصلاة ، لما ذكرنا في محله أن الصبي لو صلّى في أوّل الوقت ثمّ بلغ في أثنائه

__________________

(١) الوسائل ١١ : ٤٥ / أبواب وجوب الحجّ ب ١٣ ح ١.

(٢) الوسائل ١١ : ٥٦ / أبواب وجوب الحجّ ب ٢١ ح ٤.

(٣) الفقيه ٢ : ٢٦٧ / ١٢٩٨.

١٦

(عليه السلام) : «لو أن غلاماً حجّ عشر حجج ثمّ احتلم كان عليه فريضة الإسلام» وفي خبر إسحاق بن عمار عن أبي الحسن (عليه السلام) «عن ابن عشر سنين يحج قال (عليه السلام) : عليه حجّة الإسلام إذا احتلم ، وكذا الجارية عليها الحجّ إذا طمثت».

______________________________________________________

لا تجب عليه إعادة الصلاة ، لأن المفروض أن صلاته صحيحة ، وما دلّ على لزوم إتيان الصلاة منصرف عمن صلّى صلاة صحيحة ، ولا دليل على المغايرة بين الصلاة المندوبة والواجبة ، ولا يجب عليه إلّا إتيان صلاة واحدة وقد أتى بها ، بل ذكرنا أن ذلك ليس من باب الإجزاء حتى يقال : بأن أجزاء الأمر الندبي عن الواجب خلاف الأصل ، بل ما صلاه الصبي حقيقته متحدة مع الصلاة الواجبة الثابتة على البالغين فإن الصلاة حقيقة واحدة ، غاية الأمر أنها تجب على جماعة كالبالغين وتستحبّ لجماعة آخرين كغير البالغين ، وهذا بخلاف الحجّ ، فإن الروايات تكشف عن اختلاف حقيقته ومغايرتها ، فإجزاء أحدهما عن الآخر يحتاج إلى دليل ولا دليل ، بل الدليل على العكس.

بقي الكلام في إثبات مشروعية عبادات الصبي وصحتها ، وقد ذكرنا في محلِّه أنه لا يمكن إثبات مشروعية عبادته بإطلاق أدلة العبادات ، لأنها مرفوعة عن الصبي وأنه لم يكتب في حقه شي‌ء من الأحكام والتكاليف.

ولا يمكن أن يقال بأنّ الوجوب مرفوع عنه وأما أصل الرجحان فهو باق ، لعدم الامتنان في رفعه ، وذلك لأن المرفوع نفس الحكم بتمامه وأنه لم يكتب في حقِّه هذا الحكم رأساً ، فلا يمكن الالتزام بالتبعيض ، وأن المرفوع هو الوجوب والباقي هو الاستحباب ، بل ثبوت الاستحباب يحتاج إلى دليل آخر.

والظاهر أن النصوص الآمرة بالصلاة والصوم كقولهم (عليهم السلام) «فمروا صبيانكم بالصلاة» (١) تدل على المشروعية في حقه ، لأن الأمر بالأمر بشي‌ء أمر بذلك

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٩ / أبواب أعداد الفرائض ب ٣ ح ٥.

١٧

[٢٩٨٢] مسألة ١ : يستحب للصبي المميز أن يحج وإن لم يكن مجزئاً عن حجّة الإسلام (١) ، ولكن هل يتوقف ذلك على إذن الولي أو لا؟ المشهور بل قيل : لا خلاف فيه أنه مشروط بإذنه ، لاستتباعه المال في بعض الأحوال للهدي والكفّارة ، ولأنه عبادة متلقاة من الشرع مخالف للأصل فيجب الاقتصار فيه على المتيقن ، وفيه : أنه ليس تصرفاً مالياً وإن كان ربّما يستتبع المال ، (٢)

______________________________________________________

الشي‌ء كما ثبت في علم الأُصول.

(١) تدل عليه نفس الروايات المتقدمة الدالة على عدم إجزاء حجّته عن حجّة الإسلام ، فإنه لا بدّ من فرض صحّة حجّه حتى يقال بالإجزاء أو بعدم الإجزاء ، وإلّا فالحج الباطل لا مجال لإجزائه عن حجّة الإسلام أصلاً. وبالجملة لا إشكال في مشروعية الحجّ واستحبابه له.

(٢) بعد الفراغ عن استحباب الحجّ للصبي وقع الكلام في أنه هل يتوقّف حجّه على إذن الولي أو لا؟ المشهور أنه مشروط بإذنه ، ويستدل لهم بوجهين ذكرهما في المتن :

الأوّل : أنه عبادة توقيفية متلقاة من الشرع ومخالف للأصل فيجب الاقتصار فيه على المتيقن.

وفيه : أن الأمر وإن كان كذلك ، ولكن يكفي في مشروعيته ورجحانه إطلاق ما تقدم من الروايات الدالة على استحبابه ورجحانه وصحته له.

الثاني : أن بعض أحكام الحجّ مستتبع للتصرف في المال ، فلا بدّ له من إذن الولي كالكفّارات وثمن الهدي.

وفيه أوّلاً : يمكن أن يقال بعدم ثبوت الكفّارات عليه ، لأن عمد الصبي وخطأه واحد ، وإتيانه ببعض المحرمات لا يوجب الكفّارات.

وثانياً : لو سلمنا ثبوت الكفّارة ، وأنه لا فرق في ثبوتها بفعل البالغ والصبي ، فإن

١٨

وأن العمومات كافية في صحته وشرعيته مطلقاً ، فالأقوى عدم الاشتراط في صحته وإن وجب الاستئذان في بعض الصور ، وأما البالغ فلا يعتبر في حجّه المندوب إذن الأبوين إن لم يكن مستلزماً للسفر المشتمل على الخطر الموجب لأذيتهما ، وأما في حجّه الواجب فلا إشكال (١).

______________________________________________________

أمكن الاستئذان من الولي فهو ، وإلّا فيدخل في العاجز ، ومجرد ذلك لا يوجب سقوط الحجّ وتوقفه على إذن الولي. بل يمكن الالتزام بأنه يأتي بالكفارة بعد البلوغ ، وهكذا ثمن الهدي إن أمكن الاستئذان من الولي فهو ، وإلّا فيكون عاجزاً عن الهدي فالأقوى عدم اشتراط إذن الولي.

(١) لا ينبغي الريب في أن حجّ البالغ الواجب لا يعتبر فيه إذن الأبوين ، لعدم الدليل على ذلك ، وسلطنة الغير على الشخص حتى الأبوين على الولد خلاف الأصل وتحتاج إلى دليل ولا دليل. وكذا لا يسقط وجوبه بنهي الأبوين ، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وهذا مما كلام فيه.

إنما الكلام في حجّه المندوب ، فقد وقع فيه الخلاف ، فعن الشهيد الثاني في المسالك توقفه على إذن الأبوين معاً (١) واعتبر العلّامة في القواعد إذن الأب خاصّة (٢) ، وعن الشيخ (٣) والشهيد الأوّل عدم اعتبار استئذانهما (٤) ، واعترف في المدارك (٥) والذخيرة بعدم ورود نص في خصوص المسألة (٦).

وذكر صاحب الحدائق أن النص موجود ، وهو دال على اعتبار إذنهما معاً (٧) ، وهو

__________________

(١) المسالك ٢ : ١٢٦.

(٢) القواعد ١ : ٧٢ السطر ١٠.

(٣) الخلاف ٢ : ٤٣٢ المسألة ٣٢٧.

(٤) الروضة البهية ٢ : ١٦٤.

(٥) المدارك ٧ : ٢٤.

(٦) الذخيرة : ٥٥٨ السطر ١٤.

(٧) الحدائق ١٤ : ٦٥.

١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ما رواه الصدوق في العلل في حديث عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : من فقه الضيف أن لا يصوم تطوّعاً إلّا بإذن صاحبه إلى أن قال (صلّى الله عليه وآله وسلم) : ومن برّ الولد أن لا يصوم تطوعاً ولا يحجّ تطوّعاً ولا يصلِّي تطوّعاً إلّا بإذن أبويه وأمرهما» (١).

والرواية صريحة الدلالة على توقف الحجّ على إذن الأبوين معاً. ولا إشكال في السند أيضاً إلّا من حيث اشتماله على أحمد بن هلال ، ولكن قد ذكرنا غير مرّة أن الأظهر وثاقته وإن كان فاسد العقيدة ، وقد وثقه النجاشي بقوله : صالح الرواية (٢) وذكروا في ترجمته أنه كان من أصحابنا الصالحين وممن يتوقع الوكالة والنيابة عنه (عليه السلام) ، وحيث لم يجعل له هذا المنصب رجع عن عقيدته وتشيّعه إلى النصب وقد قيل في حقه : ما سمعنا بمتشيع رجع عن تشيعه إلى النصب إلّا أحمد بن هلال وكان يظهر الغلو أحياناً ، ولذا استفاد شيخنا الأنصاري (قدس سره) أن الرجل لم يكن يتدين بشي‌ء ، للبون البعيد بين الغلو والنصب ، فيعلم من ذلك أنه لم يكن متديناً بدين وكان يتكلم بما تشتهيه نفسه (٣).

ولكن كل ذلك لا يضرّ بوثاقة الرجل وأنه في نفسه ثقة وصالح الرواية ، ولا تنافي بين فساد العقيدة والوثاقة.

ويؤيِّد ما ذكرنا تفصيل الشيخ بين ما رواه حال الاستقامة وما رواه حال الضلال (٤) ، فإن هذا شهادة منه بوثاقة الرجل ، فإنه لو لم يكن ثقة لم يجز العمل برواياته مطلقاً حتى حال الاستقامة.

وبالجملة : الرواية معتبرة سنداً ، والدلالة واضحة ، ولكن مع ذلك لا يمكن الأخذ بها ، لأن الكافي روى هذه الرواية بعينها بلا زيادة «ومن برّ الولد إلى الآخر» (٥) وكذا

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٥٣٠ / أبواب صوم المحرم ب ١٠ ح ٣.

(٢) رجال النجاشي : ٨٣ / ١٩٩.

(٣) كتاب الطهارة : ٥٧ السطر ١٣ (فصل في الماء المستعمل).

(٤) عدّة الأُصول ١ : ٥٧ السطر ١.

(٥) الكافي ٤ : ١٥١ / ٢.

٢٠