موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

المحقق قدس‌سره فالتردد في غير محلّه على كل تقدير ، إلاّأن يكون تردده لأجل تردده في حجية الأصل المثبت ، لكنّه خلاف التعليل المذكور في كلامه قدس‌سره فانّه علل التردد بتساوي الاحتمالين ـ أي احتمال كون القتل بالسراية ، واحتمال كونه بسبب آخر ـ فلا يكون منشأ تردده في الحكم بالضمان هو التردد في حجية الأصل المثبت.

الفرع الخامس : ما إذا تلف مال أحد تحت يد شخص آخر ، فادعى المالك الضمان وادعى من تلف المال عنده عدم الضمان.

ثمّ إنّ الضمان المختلف فيه تارةً يكون ضمان اليد ، واخرى ضمان المعاوضة ، وبعبارة اخرى : تارةً يدعي المالك الضمان بالبدل الواقعي من المثل أو القيمة ، واخرى يدعي الضمان بالبدل الجعلي المجعول في ضمن معاوضة.

والأوّل كما إذا قال المالك : إنّ مالي كان في يدك بلا إذن مني ، فتلفه يوجب الضمان ببدله الواقعي ، وادعى الآخر كونه أمانة في يده فلا ضمان عليه.

والثاني كما إذا قال المالك : بعتك مالي بكذا ، وادعى الآخر أنّه وهبه إياه ، ولا ضمان له باتلافه أو تلفه عنده ، فالمعروف بين الفقهاء هو الحكم بالضمان في المقام ، ولكنّه اختلف في وجهه.

فقيل : إنّه مبني على القول بحجية الأصل المثبت ، فانّ أصالة عدم إذن المالك لا يثبت كون اليد عادية كي يترتب عليه الضمان ، إلاّعلى القول بالأصل المثبت.

وقيل : إنّه مبني على قاعدة المقتضي والمانع ، حيث إنّ اليد مقتضية للضمان ، وإذن المالك مانع عنه ، والأصل عدمه فيحكم بالضمان.

وقيل : إنّه مبني على التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فانّ عموم قوله

٢٠١

(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» (١) يقتضي ضمان كل يد ، والخارج منه بالأدلة هو المأخوذ باذن المالك ، وحيث إنّ إذن المالك في المقام مشكوك فيه ، كان الحكم بالضمان استناداً إلى عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية.

قال المحقق النائيني قدس‌سره (٢) : ليس الحكم بالضمان مستنداً إلى شيء من هذه الوجوه ، بل هو لأجل أنّ موضوع الضمان يحرز بضم الوجدان إلى الأصل ، بيان ذلك : أنّ موضوع الضمان مركب من تحقق اليد والاستيلاء على مال الغير ، ومن عدم الرضا من المالك. وأحد الجزأين محرز بالوجدان وهو اليد ، والآخر محرز بالأصل وهو عدم الرضا به من المالك ، فيحكم بالضمان لاحراز موضوعه تعبداً.

وهذا الذي ذكره قدس‌سره متين في المثال الأوّل ، فان موضوع الضمان ليس هو اليد العادية ، بل اليد مع عدم الرضا من المالك ، واليد محرزة بالوجدان ، وعدم الرضا محرزٌ بالأصل ، فيحكم بالضمان.

لكنّه لا يتم في المثال الثاني ، فانّ الرضا فيه محقق إجمالاً : إمّا في ضمن البيع أو الهبة ، فلا يمكن الرجوع إلى أصالة عدمه ، بل لا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر ، ولا يمكن التمسك بأصالة عدم الهبة لاثبات الضمان ، ضرورة ا نّه غير مترتب على عدم الهبة ، بل مترتب على وجود البيع وهي لا تثبته ولو قلنا بحجية الأصل المثبت ، لمعارضتها بأصالة عدم البيع ، فانّ كلاً من الهبة والبيع مسبوق بالعدم.

__________________

(١) المستدرك ١٤ : ٧ ـ ٨ / كتاب الوديعة ب ١ ح ١٢.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ١٤٢ ، فوائد الاصول ٤ : ٥٠٢ و ٥٠٣.

٢٠٢

وأمّا قاعدة المقتضي والمانع فهي مما لا أساس له ، كما أنّ التمسك بالعام في الشبهة المصداقية مما لا وجه له على ما حقق في محلّه (١) وعليه فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل الجاري في كل موردٍ بلحاظ نفسه ، وهو في المقام أصالة عدم الضمان.

هذا فيما إذالم يكن نص بالخصوص ، وإلاّ فالمتعين الأخذ به كما في مسألة اختلاف المتبايعين في مقدار الثمن ، كما إذا قال البائع : بعتك بعشرة دنانير ، وقال المشتري : اشتريت بخمسة دنانير ، ففي المقدار المتنازع فيه يرجع إلى النص (٢) الصحيح الدال على تقديم قول البائع إن كانت العين موجودةً ، وتقديم قول المشتري إن كانت العين تالفة.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) ذكر موارد وبنى على أنّ التمسك بالأصل فيها لا يكون تمسكاً بالأصل المثبت :

الأوّل : جريان الاستصحاب في الفرد ، لترتب الأحكام المترتبة على الكلي ، فانّ الأثر الشرعي وإن كان مترتباً على الطبيعة الكلية ، إلاّأنّ الكلي لا يعدّ لازماً عقلياً للفرد كي يكون الاستصحاب الجاري فيه لأجل ترتب هذا الأثر

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٣٣٤ وما بعدها.

(٢) وهو ما نقله في الوسائل عن الكليني عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن بعض أصحابه عن أبي عبدالله عليه‌السلام «في الرجل يبيع الشيء فيقول المشتري هو بكذا وكذا بأقل مما قال البائع؟ فقال عليه‌السلام : القول قول البائع مع يمينه إذا كان الشيء قائماً بعينه» [الوسائل ١٨ : ٥٩ / أبواب أحكام العقود ب ١١ ح ١].

(٣) كفاية الاصول : ٤١٦ و ٤١٧ / التنبيه الثامن من تنبيهات الاستصحاب.

٢٠٣

من الأصل المثبت ، بل الكلي عين الفرد وجوداً ومتحد معه خارجاً ، فاذا كان في الخارج خمر وشككنا في صيرورته خلاً ، فباستصحاب الخمرية نحكم بحرمته ونجاسته مع كون الحرمة والنجاسة من أحكام طبيعة الخمر ، لأنّ الكلي عين الفرد لا لازمه.

الثاني : جريان الاستصحاب في منشأ الانتزاع ، فتترتب عليه الأحكام المترتبة على الامور الانتزاعية ، وهي الامور التي ليس بحذائها شيء في الخارج ، ويعبّر عنها بخارج المحمول ، كالملكية والزوجية ، فانّ الأثر الشرعي وإن كان أثراً للأمر الانتزاعي ، إلاّأ نّه حيث لا يكون بحذائه شيء في الخارج ، كان الأثر في الحقيقة أثراً لمنشأ الانتزاع. وهذا بخلاف الأعراض التي تكون بأنفسها موجودة في الخارج ، ويعبّر عنها بالمحمول بالضميمة ، فاذا كان الأثر أثراً لسواد شيء ، لم يمكن ترتيبه على استصحاب معروضه على تقدير كون السواد لازماً لبقائه دون حدوثه ، فانّه من أوضح مصاديق الأصل المثبت.

الثالث : جريان الاستصحاب في الجزء والشرط ، فتترتب عليه الجزئية والشرطية ، فانّ الجزئية والشرطية وإن لم تكونا مجعولتين بالاستقلال ، لكنّهما مجعولتان بالتبع ، ولا فرق في ترتب الأثر المجعول على المستصحب بين أن يكون مجعولاً بالاستقلال أو بالتبع ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المستصحب وجودياً أو عدمياً. انتهى كلامه قدس‌سره.

أقول : أمّا ما ذكره أوّلاً من جريان الاستصحاب في الفرد فهو مما لا إشكال فيه ، كيف ولو منع منه لانسدّ باب الاستصحاب ، إلاّأنّ جريانه في الفرد ليس مبنياً على ما ذكره من اتحاد الكلي والفرد خارجاً ، بل الوجه فيه أنّ الأثر أثر لنفس الفرد لا للكلي ، لأنّ الأحكام وإن كانت مجعولةً على نحو القضايا الحقيقية ، إلاّأنّ الحكم فيها ثابت للأفراد لا محالة ، غاية الأمر أنّ

٢٠٤

الخصوصيات الفردية لا دخل لها في ثبوت الحكم ، وإلاّ فالكلي بما هو لا حكم له ، وإنّما يؤخذ في موضوع الحكم ليشار به إلى أفراده ، مثلاً إذا حكم بحرمة الخمر فالحرام هو الخمر الخارجي لا الطبيعة الكلية بما هي.

وأمّا ما ذكره في المورد الثاني ، فان كان مراده منه أنّ الاستصحاب يصح جريانه في الفرد من الأمر الانتزاعي لترتيب أثر الكلي عليه ، فيصح استصحاب ملكية زيد لمالٍ لترتيب آثار الملكية الكلية من جواز التصرف له وعدم جواز تصرف الغير فيه بدون إذنه ، فالكلام فيه هو الكلام في الأمر الأوّل ، مع أنّ هذا لا يكون فارقاً بين الخارج المحمول والمحمول بالضميمة ، فاذا شك في بقاء فردٍ من أفراد المحمول بالضميمة كعدالة زيد مثلاً ، فباستصحاب هذا الفرد تترتب آثار مطلق العدالة كجواز الاقتداء به ونحوه ، فلا وجه للفرق بين الخارج المحمول والمحمول بالضميمة.

وإن كان مراده أنّ الاستصحاب يجري في منشأ الانتزاع ويترتب عليه أثر الأمر الانتزاعي الذي يكون لازماً له على فرض بقائه ، فهذا من أوضح مصاديق الأصل المثبت ، فاذا علمنا بوجود جسم في مكان ، ثمّ علمنا بوجود جسم آخر في أسفل من المكان الأوّل ، مع الشك في بقاء الجسم الأوّل في مكانه ، لم يمكن ترتيب آثار فوقيته على الجسم الثاني باستصحاب وجوده في مكانه الأوّل ، فانّه من أوضح أنحاء الأصل المثبت. وكذلك لا يمكن إثبات زوجية امرأة خاصة لزيد مع الشك في حياتها وإن علم أنّها على تقدير حياتها تزوجت به يقيناً.

نعم ، لو كان الأمر الانتزاعي أثراً شرعياً لبقاء شيء ، لترتب على استصحابه بلا إشكال ، وهذا كما إذا علم بأنّ الفرس المعيّن كان ملكاً لزيد وشك في حياته حين موت زيد ، أو في بقائه على ملكه حين موته ، فباستصحاب الحياة أو

٢٠٥

الملكية نحكم بانتقاله إلى الوارث ولا مجال حينئذ لتوهم كونه مثبتاً ، لأنّ انتقاله إلى الوارث من الآثار الشرعية لبقائه ، غاية الأمر أنّه أثر وضعي لا تكليفي ، وهو لا يوجب الفرق في جريان الاستصحاب وعدمه.

وأمّا ما ذكره في المورد الثالث ـ من ترتب الامور المجعولة بالتبع على الاستصحاب كالامور المجعولة بالاستقلال ، فباستصحاب الشرط تترتب الشرطية وباستصحاب المانع تترتب المانعية ـ فالظاهر أنّه أراد بذلك دفع الاشكال المعروف في جريان الاستصحاب في الشرط والمانع.

بيان الاشكال : أنّ الشرط بنفسه ليس مجعولاً بالجعل التشريعي ، بل لايكون قابلاً للجعل التشريعي ، لكونه من الامور الخارجية التكوينية كالاستقبال والتستر للصلاة مثلاً ، ولا يكون له أثر شرعي أيضاً ، فانّ جواز الدخول في الصلاة مثلاً ليس من الآثار الشرعية للاستقبال ، بل [من] الأحكام العقلية ، فانّ المجعول الشرعي هو الأمر المتعلق بالصلاة مقيّدة بالاستقبال ، بحيث يكون التقيد داخلاً والقيد خارجاً. وبعد تحقق هذا الجعل من الشارع ، يحكم العقل بجواز الدخول في الصلاة مع الاستقبال ، وعدم جواز الدخول فيها بدونه ، لحصول الامتثال معه وعدمه بدونه. وحصول الامتثال وعدمه من الأحكام العقلية ، فليس الشرط بنفسه مجعولاً شرعياً ، ولا مما له أثر شرعي ، فلا بدّ من الحكم بعدم جريان الاستصحاب فيه. وكذا الكلام بعينه في المانع ، فأراد صاحب الكفاية قدس‌سره دفع هذا الاشكال بأنّ الشرطية من المجعولات بالتبع ، فلا مانع من جريان الاستصحاب في الشرط لترتب الشرطية عليه ، لأنّ المجعولات بالتبع كالمجعولات بالاستقلال في صحة ترتبها على الاستصحاب.

أقول : أمّا ما ذكره من حيث الكبرى ، من صحة جريان الاستصحاب باعتبار الأثر المجعول بالتبع فهو صحيح ، لعدم الدليل على اعتبار كون الأثر

٢٠٦

مجعولاً بالاستقلال.

وأمّا من حيث الصغرى وتطبيق هذه الكلية على محل الكلام فغير تام ، لأنّ الشرطية ليست من آثار وجود الشرط في الخارج كي تترتب على استصحاب الشرط ، بل هي منتزعة في مرحلة الجعل من أمر المولى بشيء مقيداً بشيء آخر ، بحيث يكون التقيد داخلاً والقيد خارجاً ، فشرطية الاستقبال للصلاة تابعة لكون الأمر بالصلاة مقيداً بالاستقبال ، سواء وجد الاستقبال في الخارج أم لا ، فكما أنّ أصل وجوب الصلاة ليس من آثار الصلاة الموجودة في الخارج ، فانّ الصلاة واجبة أتى بها المكلف في الخارج أم لم يأت بها ، فكذا اشتراط الصلاة بالاستقبال ليس من آثار وجود الاستقبال في الخارج ، فانّ الاستقبال شرط للصلاة وجد في الخارج أم لا ، وعليه فلا تترتب الشرطية على جريان الاستصحاب في ذات الشرط. وهذا بخلاف الحرمة والملكية ونحوهما من الأحكام التكليفية أو الوضعية المترتبة على الوجودات الخارجية ، فاذا كان في الخارج خمر وشككنا في انقلابه خلاً ، نجري الاستصحاب في خمريته فنحكم بحرمته ونجاسته بلا إشكال.

وظهر بما ذكرناه أنّه لا يجري الاستصحاب في نفس الشرطية أيضاً إذا شك في بقائها لاحتمال النسخ ، أو لتبدل حالة من حالات المكلف ، فانّ الشرطية كما عرفت منتزعة من الأمر بالمقيد ، فيجري الاستصحاب في منشأ الانتزاع ، وتنتزع منه الشرطية ، فلا تصل النوبة إلى جريان الاستصحاب في نفس الشرطية. هذا إذا قلنا بجريان الاستصحاب عند الشك في النسخ وفي الأحكام الكلية ، وإلاّ فلا مجال للاستصحاب عند الشك في بقاء الشرطية أصلاً.

فالمتحصل مما ذكرناه : أنّه لايندفع الاشكال المعروف في جريان الاستصحاب في الشرط بما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره.

٢٠٧

والذي ينبغي أن يقال في دفعه : إنّ الاشكال المذكور إنّما نشأ مما هو المعروف بينهم من أنّه يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب بنفسه مجعولاً شرعياً أو موضوعاً لمجعول شرعي ، فيتوجه حينئذ الاشكال في جريان الاستصحاب في الشرط ، لعدم كونه مجعولاً بالجعل التشريعي ، وليس له أثر جعلي.

والتحقيق في الجواب : أنّه لا ملزم لاعتبار ذلك ، فانّه لم يدل عليه دليل من آية أو رواية ، وإنّما المعتبر في جريان الاستصحاب كون المستصحب قابلاً للتعبد ، ومن الظاهر أنّ الحكم بوجود الشرط قابل للتعبد ، ومعنى التعبد به هو الاكتفاء بوجوده التعبدي وحصول الامتثال ، فانّ لزوم إحراز الامتثال وإن كان من الأحكام العقلية إلاّأ نّه معلّق على عدم تصرف الشارع بالحكم بحصوله ، كما في قاعدتي الفراغ والتجاوز ، فانّه لولا حكم الشارع بجواز الاكتفاء بما أتى به المكلف فيما إذا كان الشك بعد الفراغ ، أو بعد التجاوز ، لحكم العقل بوجوب الاعادة ، لاحراز الامتثال من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، لكنّه بعد تصرف الشارع وحكمه بجواز الاكتفاء بما أتى به ارتفع موضوع حكم العقل ، لكونه مبنياً على دفع الضرر المحتمل ، ولا يكون هناك احتمال ضرر.

فكذا الحال في المقام ، فان معنى جريان الاستصحاب في الشرط هو الاكتفاء بوجوده الاحتمالي في مقام الامتثال بالتعبد الشرعي ، فلا محذور فيه أصلاً ، وتكون حال الاستصحاب حال قاعدة الفراغ والتجاوز في كون كل منهما تصرّفاً من الشارع ، غاية الأمر أنّ الاستصحاب لا يختص بمقام الامتثال ، فيجري في ثبوت التكليف تارةً وفي نفيه اخرى وفي مقام الامتثال ثالثةً ، بخلاف قاعدة الفراغ والتجاوز فانّها مختصة بمقام الامتثال.

ثمّ ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : أنّه لا فرق في المستصحب أو

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤١٧.

٢٠٨

الأثر المترتب عليه بين أن يكون ثبوت التكليف ووجوده أو نفيه وعدمه ، فجريان الاستصحاب ليس منوطاً بكون المستصحب أو أثره وجودياً ، بل منوط بكون المستصحب أو أثره قابلاً للتعبد وأن يكون ثبوته ونفيه بيد الشارع ، ومن المعلوم أنّ نفي التكليف قابل للتعبد كثبوته ، إذ نفي التكليف وثبوته بيد الشارع ، لاستواء القدرة بالنسبة إلى طرفي الوجود والعدم. ثمّ فرّع على ذلك الاشكال على شيخنا الأنصاري قدس‌سره فيما ذكره في أواخر البراءة (١) من منع الاستدلال على البراءة باستصحابها وباستصحاب عدم المنع.

أقول : أمّا ما ذكره من عدم الفرق بين كون الأثر وجودياً أو عدمياً فصحيح ، وقد ذكرنا أنّ ما هو المعروف من اعتبار كون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً ذا أثر شرعي مما لا أساس له ، بل المعتبر في الاستصحاب كون المستصحب قابلاً للتعبد الشرعي ، بلا فرق بين كونه وجودياً أو عدمياً ، فانّ نفي التكليف بيد الشارع وقابل للتعبد به كثبوته.

وأمّا ما ذكره من الاشكال على الشيخ قدس‌سره فغير وارد ، لأن منع الشيخ قدس‌سره عن الاستدلال بالاستصحاب للبراءة ليس مبنياً على عدم جريان الاستصحاب في العدمي ، كيف وقد ذكر في أوائل الاستصحاب في جملة الأقوال القول بالتفصيل بين الوجودي والعدمي ، وردّه بعدم الفرق بينهما من حيث شمول أدلة الاستصحاب لهما (٢).

بل منعه قدس‌سره عن استصحاب البراءة مبني على ما ذكره هناك من أنّه بعد جريان الاستصحاب إمّا أن يحتمل العقاب ، وإمّا أن لا يحتمل لكون الاستصحاب موجباً للقطع بعدم استحقاقه ، وعلى الأوّل فلابدّ في الحكم بالبراءة

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٧٨.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٥٦٠ و ٥٨٨.

٢٠٩

من الرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلتكن هي المرجع من أوّل الأمر بلا حاجة إلى جريان الاستصحاب ، فانّ الرجوع إليه حينئذ لغو محض. والثاني غير صحيح ، لأنّ عدم استحقاق العقاب ليس من الأحكام المجعولة الشرعية حتى يصح ترتبه على الاستصحاب ، بل هو من الأحكام العقلية ، فلا يترتب على الاستصحاب المزبور. ثمّ أورد على نفسه بأن استصحاب عدم المنع تترتب عليه الرخصة والاذن ، فأجاب بأنّ المنع عن الفعل والاذن فيه متضادان ، فلا يمكن إثبات أحدهما بنفي الآخر إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، انتهى ملخصاً.

وحق الجواب عنه هو ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره في التنبيه التاسع (١) من أن عدم ترتب الأثر غير الشرعي بالاستصحاب إنّما هو بالنسبة إلى الآثار الواقعية للمستصحب ، وأمّا إذا كانت الآثار آثاراً للأعم من الوجود الواقعي والظاهري ، فلا مانع من ترتبها على الاستصحاب. واستحقاق العقاب وعدمه من هذا القبيل ، فانّه وإن كان من الأحكام العقلية ، إلاّأ نّه أثر لمطلق عدم المنع أعم من الواقعي والظاهري ، فانّ العقل كما يحكم بعدم استحقاق العقاب بفعل ما ليس بحرام واقعاً ، كذلك يحكم بعدم استحقاق العقاب بفعل ما ليس بحرام ظاهراً ، فلا مانع من ترتب عدم استحقاق العقاب على استصحاب البراءة وعدم المنع ، فانّه بعد ثبوت البراءة من التكليف وعدم المنع من قبل الشارع عن الفعل ، يحرز موضوع حكم العقل بعدم استحقاق العقاب بالوجدان.

وملخص الكلام في المقام : أنّ ما ذكره الشيخ قدس‌سره ـ من أنّه بعد جريان الاستصحاب إمّا أن يحتمل العقاب وإمّا أن يجزم بعدمه ـ مندفع باختيار الشق الثاني ، فانّه بعد إحراز عدم التكليف ظاهراً بالاستصحاب ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤١٧ و ٤١٨.

٢١٠

يكون عدم استحقاق العقاب محرزاً بالوجدان لتحقق موضوعه ، فلا إشكال في التمسك بالاستصحاب لاثبات البراءة.

التنبيه التاسع

ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّه لا بدّ في جريان الاستصحاب من كون المستصحب حكماً شرعياً أو ذا حكم شرعي بقاءً ، ولا يقدح فيه عدم كونه حكماً شرعياً أو ذا حكم شرعي حدوثاً ، لصدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عنه حينئذ ، فالتعبد ببقاء الحالة السابقة لا يتوقف على ثبوت أثر لحدوثها ، بل يكفي فيه ثبوت أثر لبقائها ، فلا مانع من جريان الاستصحاب في عدم التكليف ، فانّه وإن كان غير مجعول في الأزل وغير قابل للتعبد به ، لكنّه قابل للتعبد به بقاءً ، لأن ثبوت التكليف في الحال قابل للجعل ، فنفيه أيضاً كذلك ، لاستواء نسبة القدرة إلى الطرفين ، وكذا لا مانع من جريان الاستصحاب في موضوع لم يكن له أثر في مرحلة الحدوث مع كونه ذا أثر في مرحلة البقاء ، كما إذا علمنا بموت الوالد وشككنا في حياة الولد ، فلا مانع من استصحاب حياته وإن لم يكن لحياته أثر حال حياة الوالد ، لكنّ الأثر مترتب على تقدير حياته بعد موت الوالد وهو انتقال أموال الوالد إليه بالارث. انتهى ملخصاً.

وهذا الذي ذكره قدس‌سره متين لا شبهة فيه ، فانّ أدلة الاستصحاب وحرمة نقض اليقين بالشك ناظرة إلى البقاء ، فلو لم يكن المستصحب قابلاً للتعبد بقاءً لا يجري فيه الاستصحاب ولو كان قابلاً له حدوثاً ، ولو كان قابلاً للتعبد بقاءً يجري الاستصحاب فيه ولو لم يكن قابلاً له حدوثاً.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤١٨ / التنبيه العاشر.

٢١١

التنبيه العاشر

لا إشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا كان الشك في أصل تحقق حكم أو موضوع ، وكذا فيما إذا كان الشك في ارتفاع حكم أو موضوع بعد العلم بتحققه.

أمّا إذا شك في تقدمه وتأخره ـ بعد العلم بتحققه ـ أو شك في تقدم الارتفاع وتأخره بعد العلم بأصله ، فالكلام فيه يقع تارةً فيما إذالوحظ التأخر والتقدم بالنسبة إلى أجزاء الزمان. واخرى فيما إذالوحظ بالنسبة إلى حادث آخر ، فهنا مقامان :

أمّا المقام الأوّل : فلا إشكال فيه في جريان استصحاب العدم إلى زمان العلم بالتحقق ، فتترتب آثار العدم حينئذ ، كما إذا علمنا بوجود زيد يوم الجمعة وشككنا في حدوثه يوم الخميس أو يوم الجمعة ، فيجري الاستصحاب وتترتب آثار العدم إلى يوم الجمعة ، لكن لا يثبت بهذا الاستصحاب تأخر وجوده عن يوم الخميس إن كان لعنوان التأخر أثر ، فانّ التأخر عن يوم الخميس لازم عقلي لعدم الحدوث يوم الخميس ، فاثباته باستصحاب عدم الحدوث يوم الخميس متوقف على القول بالأصل المثبت ، وكذا لا يثبت به الحدوث يوم الجمعة ، فانّ الحدوث عبارة عن الوجود الخاص ، وهو أوّل الوجود.

وبعبارة اخرى : الحدوث عبارة عن الوجود المسبوق بالعدم ، فاثبات الحدوث يوم الجمعة باستصحاب عدم الحدوث يوم الخميس متوقف على القول بالأصل المثبت. نعم ، لو كان الحدوث مركباً من أمرين ـ أي الوجود يوم الجمعة مثلاً ، وعدم الوجود يوم الخميس ـ لترتبت آثار الحدوث بالاستصحاب المذكور ، لكون أحد الجزأين محرزاً بالوجدان وهو الوجود يوم الجمعة ، والجزء الآخر بالأصل وهو عدم الوجود يوم الخميس ، لكنّه خلاف الواقع ، فانّ

٢١٢

الحدوث أمر بسيط وهو الوجود المسبوق بالعدم. ويجري ما ذكرناه فيما إذا شك في تقدم الارتفاع وتأخره مع العلم بأصل تحققه ، فلا مانع من جريان أصالة عدم الارتفاع إلى زمان العلم به ، ولا يمكن إثبات تأخر الارتفاع ولا حدوثه بهذا الاستصحاب إلاّعلى القول بالأصل المثبت.

وأمّا المقام الثاني : وهو ما إذا كان الشك في تقدم حادث وتأخره بالنسبة إلى حادث آخر ، كما إذا علمنا بموت الوالد وإسلام الولد وشككنا في أنّ الاسلام متقدم على الموت ليرث الولد من والده أو أنّه متأخر عنه لئلا يرث منه ، فتحقيق الكلام فيه يقتضي ذكر مقدمة وهي : ما أشرنا إليه آنفاً من أنّ الموضوع إذا كان بسيطاً لا يمكن ترتيب أثره باستصحاب يجري في ملزومه ، وإن كان الموضوع مركباً من أمرين ، فلا مانع من جريان الاستصحاب وترتيب أثر هذا الموضوع المركب إذا كان أحد الجزأين محرزاً بالوجدان والآخر بالأصل ، كما إذا شككنا في حياة الولد حين موت والده ، فانّ الموضوع للارث مركب من أمرين : موت الوالد ، وحياة الولد حين موت الوالد ، وأحد الجزأين محرز بالوجدان وهو موت الوالد ، والجزء الآخر وهو حياة الولد يحرز بالاستصحاب ، فيترتب عليه الحكم لا محالة.

وكذا الحال في موضوع جواز التقليد ، فاذا كان زيد عادلاً ولم يكن عالماً فصار عالماً ، وشككنا في بقاء عدالته ، فنحرز عدالته بالاستصحاب وعلمه بالوجدان ، فيحكم بجواز تقليده.

وكذا الكلام في متعلق الحكم ، فانّه إذا كان مركباً لا مانع من جريان الاستصحاب في أحد جزأيه مع إحراز الجزء الآخر بالوجدان ، كما هو الحال في الصلاة فانّ الواجب علينا الاتيان بها مع الستر والطهارة من الحدث والخبث مثلاً ، فباحراز الطهارة مثلاً بالأصل والباقي بالوجدان يترتب الأثر وهو جواز

٢١٣

الاكتفاء بما أتى به في مقام الامتثال.

وربّما يقال : بأنّ هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم تحقق المجموع المركب ، فاذا صلينا مع الشك في الطهارة مثلاً نستصحب عدم تحقق الصلاة مع الطهارة في الخارج.

وأجاب عنه المحقق النائيني قدس‌سره (١) بأنّ الشك في تحقق المجموع مسبب عن الشك في تحقق الجزء المشكوك فيه ، فاذا جرى الاستصحاب فيه كان حاكماً على استصحاب عدم تحقق المجموع.

وفيه : أنّ الاستصحاب السببي إنّما يكون حاكماً على الاستصحاب المسببي فيما إذا كانت السببية شرعية ، كما إذا غسلنا ثوباً متنجساً بماء شك في بقاء طهارته ، فانّ طهارة الماء سبب شرعي لطهارة الثوب المغسول به ، فباستصحاب الطهارة في الماء يرتفع الشك في طهارة الثوب ، وهذا بخلاف ما إذا كانت السببية عقلية ـ كما في المقام ـ فلا حكومة لأحد الأصلين على الآخر.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّه إذا كان عنوان المجموع المركب موضوعاً لحكم ، فهو لا محالة عنوان بسيط لا يمكن إثباته باستصحاب أحد الجزأين ، مع قطع النظر عن المعارضة كما تقدم ، وهو خارج عن محل الكلام. وأمّا إذا كانت ذوات الأجزاء دخيلة في الحكم ولم يكن لعنوان المجموع دخل فيه ، فليس لنا شك في موضوع الحكم ، إذ المفروض أنّ أحد الجزأين محرز بالوجدان ، والآخر محرز بالأصل.

إذا تمهّدت هذه المقدمة فنقول : إذا شك في تقدم حادث وتأخره بالنسبة إلى حادث آخر ، فالصور المتصورة فيه ثمان : فانّ الحادثين إمّا أن يكونا مجهولي

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٤٧.

٢١٤

التاريخ ، أو يكون تاريخ أحدهما معلوماً ، وعلى كلا التقديرين إمّا أن يكون الأثر مترتباً على الوجود الخاص من السبق واللحوق ، أو على العدم ، وعلى التقادير الأربعة : إمّا أن يكون الأثر مترتباً على الوجود والعدم بمفاد كان وليس التامتين ، أو على الوجود والعدم بمفاد كان وليس الناقصتين.

ويقع الكلام أوّلاً في مجهولي التاريخ فنقول : إذا كان الأثر للوجود بمفاد كان التامة ، كما إذا فرض أنّ الارث مترتب على تقدم موت المورّث على موت الوارث ، فلا مانع من التمسك بأصالة عدم السبق ، فيحكم بعدم الارث. وهذا واضح فيما كان الأثر لسبق أحد الحادثين على الآخر ولم يكن لسبق الحادث الآخر على هذا الحادث أثر. وأمّا إذا كان الأثر لسبق كل منهما على الآخر فيتمسك أيضاً بأصالة عدم السبق في كل منهما ، ولا معارضة بين الأصلين لاحتمال التقارن. نعم ، لو كان الأثر لسبق كل منهما على الآخر وكان لنا علم إجمالي بسبق أحدهما على الآخر ، لا تجري أصالة عدم السبق في أحدهما ، للمعارضة بأصالة عدم السبق في الآخر ، فجريان الأصل فيهما موجب للمخالفة القطعية ، وفي أحدهما ترجيح بلا مرجح.

وأمّا لو كان الأثر لسبق أحدهما على الآخر وكان لتأخره عن الآخر أيضاً أثر ، فلا مانع من جريان الاستصحاب في عدم السبق والتأخر ، ولا معارضة بينهما لاحتمال التقارن. نعم ، في مورد العلم الاجمالي بسبق أحدهما على الآخر لا مجال للرجوع إلى أصالة عدم السبق ، للمعارضة بأصالة عدم التأخر.

وأمّا إن كان الأثر للوجود بمفاد كان الناقصة ، كما إذا فرض أنّ الارث مترتب على كون موت المورّث متصفاً بالتقدم على موت الوارث ، فاختار صاحب الكفاية قدس‌سره (١) عدم جريان الاستصحاب فيه ، لعدم كون

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤١٩.

٢١٥

الوجود بمفاد كان الناقصة متعلقاً لليقين والشك ، فانّه لم يكن لنا علم باتصاف أحدهما بالسبق على الآخر ولا بعدم اتصافه به حتى يكون مورداً للاستصحاب. وهذا الكلام مخالف لما ذكره في بحث العام والخاص (١) من أنّه إذا ورد عموم بأنّ النساء تحيض إلى خمسين عاماً إلاّالقرشية ، وشككنا في كون امرأة قرشية ، فلا يصح التمسك بالعموم المذكور ، لكون الشبهة مصداقية ، إلاّأ نّه لا مانع من إدخالها في العموم للاستصحاب ، فنقول : الأصل عدم اتصافها بالقرشية ، لأنّها لم تتصف بهذه الصفة حين لم تكن موجودة ، ونشك في اتصافها بها الآن والأصل عدم اتصافها بها. هذا ملخص كلامه في مبحث العام والخاص ، وهو الصحيح على ما شيدناه في ذلك المبحث (٢) ، خلافاً للمحقق النائيني (٣) قدس‌سره فلا مانع من جريان الاستصحاب في المقام.

فنقول : الأصل عدم اتصاف هذا الحادث بالتقدم على الحادث الآخر ، لأنّه لم يتصف بالتقدم حين لم يكن موجوداً فالآن كما كان ، ولا يعتبر في استصحاب عدم الاتصاف بالسبق وجوده في زمان مع عدم الاتصاف به ، بل يكفي عدم اتصافه به حين لم يكن موجوداً ، فانّ اتصافه به يحتاج إلى وجوده ، وأمّا عدم اتصافه به فلا يحتاج إلى وجوده ، بل يكفيه عدم وجوده ، فانّ ثبوت شيء لشيء وإن كان فرع ثبوت المثبت له ، إلاّأنّ نفي شيء عن شيء لا يحتاج إلى وجود المنفي عنه ، وهذا معنى قولهم : إنّ القضية السالبة لا تحتاج إلى وجود الموضوع.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٣.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٣٦٠ وما بعدها.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٣٢٨ وما بعدها ، فوائد الاصول ٢ : ٥٣٠ وما بعدها.

٢١٦

فتحصّل مما ذكرناه : جريان الاستصحاب في هذا القسم أيضاً ، ويجري فيه ما ذكرناه في القسم الأوّل من عدم المعارضة إلاّمع العلم الاجمالي ، فلا حاجة إلى الاعادة.

وإن كان الأثر لعدم أحدهما في زمان الآخر ، فتارةً يكون الأثر للعدم بمفاد ليس التامة الذي يعبّر عنه بالعدم المحمولي. واخرى للعدم بمفاد ليس الناقصة المعبّر عنه بالعدم النعتي ، فان كان الأثر للعدم النعتي ، لا يجري الاستصحاب فيه على مسلك صاحب الكفاية (١) قدس‌سره لعدم اليقين بوجود هذا الحادث متصفاً بالعدم في زمان حدوث الآخر ، ومن الظاهر أنّ القضية إذا كانت معدولة ، فلا بدّ فيها من فرض وجود الموضوع ، بخلاف القضية السالبة كقولنا : زيد ليس بقائم ، فانّ صدقها غير متوقف على وجود الموضوع ، لأنّ مفاد القضية السالبة سلب الربط ، فلا يحتاج إلى وجود الموضوع. وأمّا معدولة المحمول فبما أنّ مفادها ربط السلب ، لزم فيه وجود الموضوع لا محالة ، هذا توضيح مراده قدس‌سره.

والانصاف أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب في هذا القسم أيضاً ، فانّه وإن لم يمكن ترتيب آثار الاتصاف بعدم وصف باستصحاب عدم ذلك الوصف ، لأ نّه لا يثبت به العدم المأخوذ نعتاً ، إلاّأ نّه يمكن ترتيب عدم الاتصاف بذلك الوصف باجراء الاستصحاب في عدم الاتصاف ، فانّ الاتصاف مسبوق بالعدم كما مرّ ، فحال القسم الثالث حال القسم الثاني في جريان الاستصحاب.

وأمّا إن كان الأثر لعدم أحدهما في زمان الآخر بنحو مفاد ليس التامة المعبّر عنه بالعدم المحمولي ، فيجري فيه الاستصحاب في نفسه على مسلك شيخنا

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٢٠.

٢١٧

الأنصاري (١) رحمه‌الله وجماعة من المحققين ، ولكنّه يسقط بالمعارضة فيما إذا كان عدم كل واحد منهما في زمان الآخر ذا أثر شرعي. وذهب صاحب الكفاية (٢) قدس‌سره إلى عدم جريان الاستصحاب في نفسه مع قطع النظر عن المعارضة ، فاذن لا ثمرة عملية فيما إذا كان عدم كل من الحادثين في زمان الآخر ذا أثر شرعي كموت المتوارثين ، لعدم جريان الاستصحاب على كل حال إمّا لأجل المعارضة ـ كما عليه الشيخ قدس‌سره وأتباعه ـ وإمّا لعدم شمول الأدلة له ـ كما عليه صاحب الكفاية قدس‌سره ـ فهو بحث علمي بحت.

نعم ، فيما إذا كان الأثر لأحدهما دون الآخر ، كان البحث ذا أثر عملي ، فانّه يجري الاستصحاب في طرف ما له أثر على مسلك الشيخ قدس‌سره لعدم المعارض ، ولا يجري على مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره وأمثلته كثيرة :

منها : ما لو علمنا بموت أخوين لأحدهما ولد دون الآخر ، وشككنا في تقدم كل منهما على الآخر ، فاستصحاب عدم موت مَن له ولد إلى زمان موت الآخر يترتب عليه إرثه منه ، بخلاف استصحاب عدم موت مَن لا ولد له إلى زمان موت الآخر ، فانّه لا يترتب عليه أثر ، لكون الوارث له ولد ولو كان موته قبل موت من لا ولد له.

ومنها : ما إذا شككنا في تقدم موت الوالد على إسلام الولد ، فانّ استصحاب عدم إسلام الولد إلى زمان موت الوالد يترتب عليه عدم إرثه منه ، بخلاف استصحاب عدم موت الوالد إلى زمان إسلام الولد ، فانّه لا يترتب عليه أثر ، إذ قد يكون الوالد حياً بالوجدان وله وارث مسلم ، ولا يترتب عليه أثر ، لأنّ

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٦٧.

(٢) كفاية الاصول : ٤٢٠ و ٤٢١.

٢١٨

الأثر مترتب على الموت عن وارث مسلم ، فكيف بالحياة الاستصحابي مع وارث مسلم ، ففي مثل هذه الأمثلة يجري الاستصحاب على مسلك الشيخ قدس‌سره في أحد الطرفين لعدم المعارض لعدم الأثر للاستصحاب في الطرف الآخر ، ولا يجري الاستصحاب على مذهب صاحب الكفاية قدس‌سره.

وملخص ما ذكره في الكفاية في توجيه عدم جريان الاستصحاب : أنّه لا بدّ في جريان الاستصحاب من اتصال زمان الشك بزمان اليقين فانّه هو المستفاد من كلمة «فاء» في قوله عليه‌السلام : «لأ نّك كنت على يقين من طهارتك فشككت» (١) فلا تشمل أدلة الاستصحاب موارد انفصال زمان الشك عن زمان اليقين ، بل ولا موارد احتمال الانفصال. أمّا موارد الانفصال اليقيني ، فعدم جريان الاستصحاب فيها واضح ، فانّه إذا تيقنا بالطهارة ثمّ بالحدث ثمّ شككنا في الطهارة ، لا مجال لجريان استصحاب الطهارة مع وجود اليقين والشك بالنسبة إليها ، لعدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين بل يجري فيه استصحاب الحدث.

وأمّا موارد احتمال الانفصال ، فلأنّ الشبهة حينئذ مصداقية ، فلا يمكن الرجوع معه إلى العموم حتى على القول بجواز التمسك به فيها ، فانّ القائل به إنّما يدّعي ذلك فيما إذا نعقد للعام ظهور وكان المخصص منفصلاً ، كما إذا دل دليل على وجوب إكرام العلماء ثمّ ورد دليل آخر على عدم وجوب إكرام الفسّاق منهم ، وشككنا في أنّ زيداً عادل أو فاسق ، وأمّا إذا كان المخصص متصلاً ومانعاً عن انعقاد الظهور في العموم من أوّل الأمر ، كما إذا قال المولى : أكرم العالم العادل وشككنا في عدالة زيد ، فلم يقل أحد بجواز التمسك بالعموم فيه.

والمقام من هذا القبيل ، لما ذكرناه من أنّ أدلة حجية الاستصحاب قاصرة

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٦ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ١.

٢١٩

عن الشمول لموارد الانفصال ، فاذالم يحرز الاتصال لم يمكن التمسك بها ، وحيث إنّ الحادثين في محل الكلام مسبوقان بالعدم ويشك في المتقدم منهما مع العلم بحدوث كل منهما ، فلم يحرز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، فلا مجال لجريان الاستصحاب.

وتوضيح ذلك يحتاج إلى فرض أزمنة ثلاثة : زمان اليقين بعدم حدوث كل من الحادثين ، وزمان حدوث أحدهما بلا تعيين ، وزمان حدوث الآخر كذلك. فنفرض أنّ زيداً كان حياً في يوم الخميس ، وابنه كان كافراً فيه ، فعدم موت المورّث وعدم إسلام الوارث كلاهما متيقن يوم الخميس ، وعلمنا بحدوث أحدهما لا بعينه يوم الجمعة وبحدوث الآخر يوم السبت ، ولا ندري أنّ الحادث يوم الجمعة هو إسلام الولد حتى يرث أباه ، أو موت الوالد حتى لا يرثه لكونه كافراً حين موت أبيه ، فان لوحظ الشك في حدوث كل من الحادثين بالنسبة إلى عمود الزمان ، يكون زمان الشك متصلاً بزمان اليقين ، فانّ زمان اليقين بالعدم يوم الخميس وزمان الشك في حدوث كل واحد من الحادثين يوم الجمعة وهما متصلان ، فلا مانع من جريان استصحاب عدم حدوث الاسلام يوم الجمعة.

إلاّ أنّه لا أثر لهذا الاستصحاب ، فان عدم إرث الولد من والده ليس مترتباً على عدم إسلامه يوم الجمعة ، بل على عدم إسلامه حين موت أبيه ، فلا بدّ من جريان الاستصحاب في عدم الاسلام في زمان حدوث موت الوالد. وزمان حدوث موت الوالد مردد بين الجمعة والسبت ، فان كان حدوثه يوم الجمعة ، فزمان الشك متصل بزمان اليقين ، وإن كان يوم السبت ، فزمان الشك غير متصل بزمان اليقين ، لأن زمان اليقين يوم الخميس على الفرض وزمان الشك يوم السبت ، فيوم الجمعة فاصل بين زمان اليقين وزمان الشك ، ومع احتمال

٢٢٠