موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

ضرار ...» (١) وقوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٢) ، وغيرهما من أدلة نفي الأحكام الضررية والحرجية ، فانّها حاكمة على الأدلة المثبتة للتكاليف بعمومها حتى في موارد الضرر والحرج ، وشارحة لها بأنّ المراد ثبوت هذه التكاليف في غير موارد الضرر والحرج.

القسم الثاني من الحكومة : أن يكون أحد الدليلين رافعاً لموضوع الحكم في الدليل الآخر وإن لم يكن بمدلوله اللفظي شارحاً له كما في القسم الأوّل ، وهذا كحكومة الأمارات على الاصول الشرعية من البراءة والاستصحاب وقاعدة الفراغ وغيرها من الاصول الجارية في الشبهات الحكمية أو الموضوعية ، فانّ أدلة الأمارات لا تكون ناظرةً إلى أدلة الاصول وشارحةً لها ، بحيث لو لم تكن الاصول مجعولة لكان جعل الأمارات لغواً ، فانّ الخبر مثلاً حجة ، سواء كان الاستصحاب حجة أم لا. ولايلزم كون حجية الخبر لغواً على تقدير عدم حجية الاستصحاب ، إلاّأنّ الأمارات موجبة لارتفاع موضوع الاصول بالتعبد الشرعي ، ولا تنافي بينهما ليدخل في التعارض.

والوجه في ذلك : أنّ كل دليل متكفلٍ لبيان حكم لا يكون متكفلاً لتحقق موضوعه ، بل مفاده ثبوت الحكم على تقدير وجود الموضوع ، وأمّا كون الموضوع محققاً أو غير محقق ، فهو خارج عن مدلول هذا الدليل ، ولذا ذكرنا في محلّه (٣) أنّ مرجع القضايا الحقيقية إلى القضايا الشرطية مقدّمها تحقق الموضوع وتاليها ثبوت الحكم ، ومن المعلوم أنّ الموضوع المأخوذ في أدلة

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٣٢ / أبواب الخيار ب ١٧ ح ٣ و ٤ و ٥.

(٢) الحج ٢٢ : ٧٨.

(٣) محاضرات في اصول الفقه ٢ : ١٣٤ ـ ١٣٥.

٤٢١

الاصول هو الشك ، وأمّا كون المكلف شاكاً أو غير شاك ، فهو خارج عن مفادها. والأمارات ترفع الشك بالتعبد الشرعي ، وتجعل المكلف عالماً تعبدياً وإن كان شاكاً وجدانياً ، فلا يبقى موضوع للُاصول.

ولا منافاة بين الأمارة والأصل ، فانّ مفاد الأصل هو البناء العملي على تقدير الشك في شيء ، ومفاد الأمارة ثبوت هذا الشيء وارتفاع الشك فيه ، ولا منافاة بين تعليق شيء على شيء وبين الحكم بعدم تحقق المعلّق عليه ، كما هو ظاهر. مثلاً مفاد البراءة الشرعية هو البناء العملي على عدم التكليف على تقدير الشك فيه ، فاذا دل خبر معتبر على ثبوت التكليف ، لم يبق شك فيه بالتعبد الشرعي باعتبار حجية الخبر ، فهو عالم بالتكليف بحكم الشارع ، فيتعين الأخذ بالخبر ، بلا منافاة بينه وبين أدلة البراءة ، وكذا الكلام في الاصول الجارية في الشبهات الموضوعية كقاعدة الفراغ مثلاً ، فانّ موضوعها الشك في صحة العمل وفساده بعد الفراغ منه ، ومع قيام البينة على الفساد يكون المكلف عالماً بالفساد بحكم الشارع ، فلا يمكن الرجوع إلى قاعدة الفراغ ، لارتفاع موضوعه بالتعبد الشرعي. ولا منافاة بينها وبين البينة أصلاً ، إذ مفاد القاعدة هو البناء العملي على الصحة على تقدير الشك في الصحة والفساد ، ومفاد البينة ثبوت الفساد ، فلا منافاة بينهما.

وظهر بما ذكرناه أنّ الدليل الحاكم يتقدم على المحكوم ولو كان بينهما عموم من وجه ، لارتفاع موضوع المحكوم في مادة الاجتماع ، بلا فرق بين أن يكون الحاكم أقوى دلالة من المحكوم أو أضعف منه ، بل لو كان المحكوم نصاً والحاكم ظاهراً ، يقدّم الحاكم على المحكوم ، لما ذكرناه من عدم التنافي بينهما ، لارتفاع موضوع المحكوم.

وأمّا التخصيص ، فالوجه في خروجه عن التعارض : أنّ حجية العام بل كل

٤٢٢

دليل متوقفة على امور ثلاثة :

الأوّل : صدوره من المعصوم عليه‌السلام.

الثاني : إثبات أنّ ظاهره مراد للمتكلم ، لاحتمال أن يكون مراده خلاف الظاهر.

الثالث : إثبات الارادة الجدية ، وأ نّه في مقام بيان الحكم جدّاً ، لاحتمال أن يكون ظاهره مراداً بالارادة الاستعمالية فقط دون الارادة الجدية ، لكونه في مقام الامتحان أو التقية مثلاً.

والمتكفل للأمر الأوّل هو البحث عن حجية الخبر ، وقد ثبتت حجية خبر العادل أو الثقة على اختلاف المباني بالتعبد الشرعي على ما هو مذكور في ذلك البحث. والأمران الآخران ثابتان ببناء العقلاء ، فمن تكلم بكلام ثمّ اعتذر بأن ظاهره لم يكن مرادي ـ مع عدم نصب قرينة على الخلاف ـ أو اعتذر بأني لم أرد ظاهره بالارادة الجدية ، وإنّما قلته امتحاناً مثلاً ، لا يقبل منه هذا الاعتذار.

وبالجملة : لاينبغي الاشكال في حجية الظهور من حيث الارادة الاستعمالية ، ومن حيث الارادة الجدية ببناء العقلاء ، ويعبّر عن الأوّل بأصالة الحقيقة ، وعن الثاني بأصالة الجهة أو أصالة الجد ، ومن المعلوم أنّ بناء العقلاء على العمل بالظواهر إنّما هو في مقام الشك في المراد الاستعمالي أو المراد الجدي ، إذ لم يتحقق بناء منهم على العمل بالظواهر مع العلم بأنّ مراد المتكلم خلاف الظاهر ، أو مع العلم بأ نّه في مقام الامتحان أو التقية ، وليست له إرادة جدية ، فلا يمكن الأخذ بالظهور مع قيام القرينة القطعية على الخلاف من الجهة الاولى أو الجهة الثانية ، بلا فرق بين كون القرينة متصلة في الكلام أو منفصلة عنه ، غاية الأمر أنّ القرينة المتصلة مانعة عن انعقاد الظهور من أوّل الأمر ، والقرينة المنفصلة كاشفة

٤٢٣

عن عدم كون الظاهر مراداً. هذا كله في القرينة القطعية.

وكذا الكلام في القرينة الظنية المعتبرة كالخبر ، فانّه أيضاً قرينة قطعية غاية الأمر أنّه ليس قرينة قطعية وجدانية ، بل قرينة قطعية تعبدية ، وغاية الفرق بين القرينة القطعية والقرينة الظنية : أنّ القرينة القطعية مقدّمة على العام مثلاً بالورود ، لارتفاع موضوع حجية العام وهو الشك بالوجدان ، إذ لا يبقى شك مع القرينة القطعية. والقرينة الظنية مقدّمة على العام بالحكومة ، لارتفاع موضوع حجيته وهو الشك بالتعبد الشرعي ، فالدليل الخاص وإن كان مخصصاً بالنسبة إلى الدليل العام ، لكنّه حاكم بالنسبة إلى دليل حجية العام ، إذ الموضوع المأخوذ في دليل الحجية هو الشك ، والدليل الخاص يرفع الشك تعبداً ، فمرجع التخصيص إلى الحكومة بالنسبة إلى دليل الحجية ، فلا منافاة بينهما على ما تقدم.

كما أنّ مرجع الحكومة إلى التخصيص ، فان مفاد قوله عليه‌السلام : «لا ربا بين الوالد والولد» (١) هو نفي حرمة الربا بينهما ، وإن كان لسانه نفي الموضوع ، فهو تخصيص بالنسبة إلى الأدلة الدالة على حرمة الربا عموماً ، لكنّه تخصيص بلسان الحكومة. وكذا الأمر في كل قرينة مع ذيها ، فانّه إن كانت القرينة قطعية ، فهي واردة على ذي القرينة ، لكونها موجبة لارتفاع موضوع حجيته بالوجدان ، وإن كانت القرينة ظنية ، فهي حاكمة على ذيها ، لكونها موجبة لارتفاع موضوع حجيته بالتعبد الشرعي. وظهر بما ذكرناه أنّه لا تنافي بين الأظهر والظاهر فضلاً عن النص والظاهر فانّ الأظهر قرينة على إرادة الخلاف من الظاهر.

فتحصّل مما ذكرناه : أنّه لا تنافي بين العام والخاص ، وأنّ الخاص يقدّم على العام من باب الحكومة بالنسبة إلى دليل حجية العام وإن كان تخصيصاً بالنسبة

__________________

(١) تقدّم مصدره في ص ٤٢٠.

٤٢٤

إلى نفس العام. وهذا هو الفارق بين التخصيص والحكومة المصطلحة ، فانّ الدليل الحاكم حاكم على نفس الدليل المحكوم في الحكومة الاصطلاحية ، بخلاف التخصيص ، إذ الخاص ليس حاكماً على نفس العام ، بل حاكم على دليل حجية العام ، على ما عرفت.

ولا يتوقف تقديم الخاص على العام على كون الخاص أظهر والعام ظاهراً ، على ما يظهر من كلام الشيخ قدس‌سره (١) فانّه علل تقديم الخاص على العام بكون الخاص نصاً أو أظهر ، فيقدّم على الظاهر وهو العام ، وذلك لما ذكرناه من أنّ موضوع حجية العام هو الشك ، وبورود الخاص يرتفع الشك ، فيسقط العام عن الحجية ولو كان في أعلى مرتبة من الظهور ، فيقدّم الخاص عليه وإن كان في أدنى مراتبه. وكذا الأمر في كل قرينة مع ذيها ، فانّ القرينة مع إحراز قرينيتها مقدّمة على ذي القرينة ولو كان ظهوره أقوى من ظهور القرينة.

وظهر بما ذكرناه أنّ ما ذكره صاحب الحدائق واحتمله صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) أخيراً من أنّه يعامل مع العام والخاص معاملة المتعارضين من الرجوع إلى المرجحات وإلى التخيير مع فقدها ليس في محله ، إذ مع وجود الخاص يرتفع موضوع حجية العام ، وبعد عدم كون العام حجة لا معنى للتعارض بينه وبين الخاص ، لأنّ التعارض هو تنافي الحجتين من حيث المدلول.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٧٥١ ، ٧٨٤.

(٢) [لعلّه يشير إلى ما في الكفاية : ٤٤٩].

٤٢٥

الكلام في الفرق بين التعارض والتزاحم

اعلم أنّ التزاحم قد يطلق على تزاحم الملاكات ، كما إذا كان في فعل جهة مصلحة تقتضي إيجابه ، وجهة مفسدة تقتضي تحريمه ، أو كان فيه جهة مصلحة تقتضي إيجابه ، وجهة مصلحة تقتضي إباحته ، فانّ الاباحة لا تلزم أن تكون ناشئة من عدم المصلحة وعدم المفسدة دائماً ، بل قد تكون ناشئة من مصلحة في الترخيص ، كما في قوله عليه‌السلام : «لولا أن أشق على امّتي لأمرتهم بالسواك» (١) يعني الترخيص في ترك السواك ، وهو الاباحة بالمعنى الأعم ، إنّما هو لمصلحة التسهيل على الامّة.

والأمر في هذا التزاحم بيد المولى ، فهو الذي يلاحظ الجهات ، ويجعل الحكم طبقاً لما هو الأقوى من الملاكات. وليس للعبد إلاّالامتثال بلا ملاحظة المصلحة أو المفسدة ، بل لو فرض أنّ المولى قد اشتبه وجعل الوجوب بزعم كون المصلحة أقوى من المفسدة ، وعلم العبد بتساويهما أو بكون المفسدة أقوى من المصلحة ، يجب عليه الامتثال بحكم العقل ، فانّه لو تركه معتذراً بكون المأمور به خالياً عن المصلحة ، لا يسمع منه الاعتذار ويكون معاقباً عند العقلاء. كما أنّ الأمر في القوانين المجعولة من قبل الحكومات كذلك ، فانّه لو خالفها أحد من الرعايا ـ اعتذاراً بوجود المفسدة أو بعدم المصلحة ـ لا يسمع منه ويكون معاقباً عند الحكّام ، وحيث إنّه ليس للمكلف دخل في هذا التزاحم ، فلا تترتب على البحث عنه ثمرة ، فهو خارج عن محل البحث. والتزاحم بهذا

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٧ و ١٩ / أبواب السواك ب ٣ ح ٤ وب ٥ ح ٣.

٤٢٦

المعنى مختص بمذهب العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ـ كما عليه المشهور منهم ـ أو في نفس الأحكام كما عليه جماعة منهم. وأمّا على مذهب الأشاعرة القائلين بعدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد أصلاً ، فلا يتصور التزاحم بهذا المعنى.

وقد يطلق التزاحم على تزاحم الأحكام في مقام الامتثال ، بأن توجه إلى المكلف تكليفان يكون امتثال أحدهما متوقفاً على مخالفة الآخر لعجزه عن امتثال كليهما ، كما إذا توقف إنقاذ الغريق على التصرف في الأرض المغصوبة ، أو كان هناك غريقان لا يقدر المكلف إلاّعلى إنقاذ أحدهما. وتحقق هذا التزاحم لا يتوقف على وجود الملاك في متعلقات الأحكام أو في نفسها ، بل يمكن تحققه حتى على مذهب الأشاعرة القائلين بعدم تبعية الأحكام للملاكات أصلاً كما هو واضح ، وهذا التزاحم هو المقصود بالبحث هنا.

وملخص الفرق بينه وبين التعارض : أنّه ليس في باب التزاحم تنافٍ بين الدليلين من حيث المدلول أصلاً ، إذ من الواضح عدم التنافي بين الدليل الدال على وجوب الانقاذ ، والدليل الدال على حرمة التصرف في الغصب. نعم ، القدرة مأخوذة في موضوع كلا الحكمين ، إمّا من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، وإمّا من جهة اقتضاء نفس التكليف ذلك ، على خلاف بيننا وبين المحقق النائيني (١) قدس‌سره وحيث إنّ المكلف لا يقدر على امتثال كلا التكليفين ـ على الفرض ـ يكون اختيار أحدهما تعييناً أو تخييراً موجباً لعجزه عن امتثال الآخر ، فيكون الحكم الآخر منتفياً بانتفاء موضوعه. ولا يلزم منه التصرف في دليله ، إذ مفاد الأدلة الشرعية مفاد القضايا الحقيقية الدالة على

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٤

٤٢٧

ثبوت الحكم عند تحقق الموضوع ، والدليل الدال على حكم لا يكون متكفلاً لبيان موضوعه من حيث التحقق والعدم ، فكون المكلف قادراً أو غير قادر خارج عن مفاد الدليل ، بل مفاده ثبوت التكليف عند تحقق القدرة ، فنفي الحكم بانتفاء موضوعه لا يكون رفع اليد عن الدليل الدال عليه.

وهذا بخلاف باب التعارض ، إذ التنافي بين الدليلين من حيث المدلول ثابت فيه ، سواء كان التنافي بينهما في تمام المدلول كما في المتباينين ، أو في بعض المدلول كالعامين من وجه ، فانّ التنافي بينهما في مادة الاجتماع فقط ، فالأخذ بأحدهما ـ للترجيح أو التخيير ـ موجب لرفع اليد عن الآخر والحكم بعدم ثبوت مدلوله ، فيكون الحكم الآخر منتفياً مع بقاء موضوعه لا بانتفائه ، فانّ الأخذ بالدليل الدال على طهارة شيء موجب لرفع اليد عن الدليل الدال على نجاسته ، فيكون الحكم بالنجاسة منفياً عن موضوعه لا منتفياً بانتفاء موضوعه ، لبقاء الموضوع بحاله.

وبعبارة اخرى : ثبوت مدلول أحد الدليلين في باب التعارض يوجب انتفاء مدلول الآخر في مقام الجعل ، بخلاف باب التزاحم ، فان ثبوت أحدهما يوجب انتفاء موضوع الآخر ، فيوجب انتفاءه في مرتبة الفعلية لانتفاء موضوعه ، لا انتفاءه في مقام الجعل ، ولذا يمكن التفكيك باعتبار الأشخاص في باب التزاحم ، كما إذا كان أحدٌ قادراً على إنقاذ كلا الغريقين ، والآخر قادراً على إنقاذ أحدهما فقط ، فيتحقق التزاحم بالنسبة إلى الثاني دون الأوّل ، بخلاف باب التعارض ، إذ لا يمكن الحكم بالنجاسة في المثال الذي ذكرناه بالنسبة إلى شخص ، وبالطهارة بالنسبة إلى آخر ، بل تقديم أحد الدليلين على الآخر للترجيح أو التخيير يوجب الحكم بمدلوله من الطهارة أو النجاسة للجميع.

وظهر بما ذكرناه ـ من أنّ التنافي بين الدليلين من حيث المدلول مأخوذ في

٤٢٨

التعارض ، وأ نّه لا تنافي بينهما في التزاحم أصلاً ـ كمال الفرق بينهما ، فلا نحتاج إلى تأسيس أصل يكون مرجعاً عند الشك في التعارض والتزاحم. وكيف يمكن تأسيس الأصل للشك بينهما ، مع عدم الجامع بينهما أصلاً ، بأن يكونا داخلين في جامع فعلم بوجوده وشك في الخصوصية. وكان المحقق النائيني قدس‌سره يقول : إنّ القول بأنّ الأصل التعارض أو التزاحم أشبه شيء بأن يقال : إنّ الأصل في الأشياء الطهارة أو صحة بيع الفضولي (١).

ثمّ إنّ المحقق النائيني (٢) قدس‌سره ذكر قسماً آخر من التزاحم وسمّاه التزاحم من غير ناحية القدرة كما في القسم السابق ، ومثّل له بما لو كان المكلف مالكاً لخمس وعشرين من الإبل في ستة أشهر ، ثمّ ملك بعيراً آخر ، فمقتضى أدلة الزكاة هو وجوب خمس شياه عند انقضاء حول الخمس والعشرين ، ووجوب بنت مخاض عند انقضاء حول الست والعشرين ، ولكن قام الدليل على أنّ المال لا يزكى في عام واحد مرتين ، فيقع التزاحم بين الحكمين من جهة هذا الدليل الخارجي ، لا من جهة عدم قدرة المكلف على امتثالهما معاً ، فلا بدّ من سقوط ستة أشهر ، إمّا من حول الخمس والعشرين ، وإمّا من حول الست والعشرين ، إذ لولا السقوط يلزم تزكية المال في ظرف ستة أشهر مرتين ، وهي الستة الوسطى من ثمانية عشر شهراً ، لكونها منتهىً لنصاب الخمس والعشرين ، ومبدءاً لنصاب الست والعشرين ، فيلزم احتسابها مرتين ووجوب الزكاة فيها مرتين. وهذا هو التزاحم من جهة الدليل الخارجي لا من جهة عدم قدرة المكلف. ولا يكون من باب التعارض ، لعدم التنافي من حيث المدلول بين

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٢.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢٧٨ ، فوائد الاصول ٤ : ٧٠٧.

٤٢٩

ما يدل على وجوب خمس شياه في الخمس والعشرين ، وما يدل على وجوب بنت مخاض في الست والعشرين ، هذا محصّل كلامه زيد في علو مقامه.

ولم يتضح لنا وجهٌ لكون هذا المثال من باب التزاحم ، فانّه من قبيل تعارض الدليلين في مسألة الظهر والجمعة بعينه ، إذ لا تنافي بين ما يدل على وجوب الظهر وما يدل على وجوب الجمعة ، لامكان الجمع بينهما ، ولكنّ التنافي بينهما إنّما هو من جهة الدليل الخارجي ، وهو الاجماع والضرورة القاضية بعدم وجوب ست صلوات في يوم واحد كما تقدم. فالصحيح إدخال المثال المذكور في التعارض دون التزاحم ، وانحصار التزاحم بما إذا كان المكلف عاجزاً عن امتثال الحكمين معاً.

ثمّ إنّه ينبغي التعرض لبعض مرجحات باب التزاحم ، فنقول : إنّهم ذكروا لترجيح أحد المتزاحمين على الآخر اموراً :

الأوّل : كون أحدهما مما لا بدل له ، فيرجّح على ما يكون له البدل ، سواء كان البدل طولياً أو عرضياً.

والأوّل كالواجب الموسع ، فاذا وقعت المزاحمة بينه وبين الواجب المضيق ، وجب ترجيح المضيق بلا لحاظ الأهمية بينه وبين الموسع ، بل ولو كان الموسع بمراتب من الأهمية بالنسبة إلى المضيّق ، كالصلاة بالنسبة إلى جواب السلام مثلاً ، فانّه لا شبهة في كونها من أهم الفرائض وعمود الدين كما في الخبر (١) ، ومع ذلك يجب تقديم جواب السلام عليها ، لما لها من البدل الطولي باعتبار الزمان.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٧ / أبواب أعداد الفرائض ب ٦ ح ١٢.

٤٣٠

الثاني : أي ما كان له البدل العرضي ، كالواجب التخييري ، فاذا وقع التزاحم بينه وبين الواجب التعييني ، وجب تقديم التعييني عليه ، والاكتفاء بالبدل العرضي للواجب التخييري ، كما إذا وجب على المكلف إحدى الكفارات الثلاث تخييراً وكان عليه دين ، ووقع التزاحم بين أدائه وبين الاطعام مثلاً ، فيجب تقديم الدين على الاطعام ، لما له من البدل العرضي وهو الصيام.

وهذا الذي ذكروه من تقديم الواجب المضيق على الموسع ، وتقديم الواجب التعييني على التخييري وإن كان مما لا إشكال فيه ، إلاّأنّ إدراج المثالين في التزاحم والحكم بأنّ التقديم المذكور إنّما هو لترجيح أحد المتزاحمين على الآخر ، ليس بصحيح ، لما ذكرناه من أنّ ملاك التزاحم أن لا يكون المكلف متمكناً من امتثال الحكمين معاً ، بحيث يكون امتثال أحدهما متوقفاً على مخالفة الآخر كمسألة إنقاذ الغريقين. والمثالان ليسا كذلك ، بداهة أنّه لا مزاحمة بين الواجب الموسع والواجب المضيق ، لقدرة المكلف على امتثال كليهما ، إذ التكليف في الواجب الموسع متعلق بالطبيعة ملغىً عنها الخصوصيات الفردية ، والمكلف قادر على امتثال التكليف بالطبيعة في ضمن الفرد غير المزاحم للواجب المضيق. نعم ، الفرد الخاص من الطبيعة مزاحم للواجب المضيق ، وليس هو الواجب ، بل الواجب هو الطبيعة ، وهو فرد منه.

وكذا الكلام في الواجب التخييري والتعييني ، فانّه لا مزاحمة بينهما ، لقدرة المكلف على امتثال كليهما ، لأنّ التكليف في الواجب التخييري أيضاً متعلق بالجامع ، وإن كان أمراً انتزاعياً ، كعنوان أحد الأمرين. ولا مزاحمة بين التكليف بالكلي والواجب التعييني ، وإنّما المزاحمة بين فرد خاص منه والواجب التعييني ، وليس هو الواجب إلاّعلى قول سخيف في الواجب التخييري ، وهو أنّ الواجب ما يختاره المكلف ، وقد تبرّأ من هذا القول كل من الأشاعرة والمعتزلة ، ونسبه

٤٣١

إلى الآخر ، فلا مزاحمة بين الواجبين في المثالين. ووجوب التقديم فيهما إنّما هو بحكم العقل ، لكون المكلف قادراً على امتثال التكليفين ، فيجب عليه امتثالهما عقلاً بتقديم المضيق والاتيان بالموسع بعده ، وباتيان الواجب التعييني والعدل غير المزاحم له من أفراد الواجب التخييري. ولا يجوز تقديم الموسع والواجب التخييري ، فانّه يوجب فوات الواجب المضيق والواجب التعييني من قبل نفسه.

المرجح الثاني : كون أحد الواجبين غير مشروط بالقدرة شرعاً ، فيقدّم على واجب مشروط بها شرعاً.

والمراد بالثاني ما يكون ملاكه متوقفاً على القدرة ، ففي صورة العجز ليس له ملاك أصلاً ، بخلاف الأوّل فانّ المراد به ما يكون ملاكه غير متوقف على القدرة ، فهو تام الملاك ولو مع العجز ، وإن كان المكلف معذوراً في فواته عقلاً ، كما إذا دار الأمر بين حفظ النفس المحترمة من الهلاك ، وبين الوضوء فانّ ملاك حفظ النفس ومصلحته غير متوقف على القدرة ، وإن كان العاجز معذوراً عقلاً ، بخلاف الوضوء فانّه مشروط بالقدرة شرعاً بقرينة مقابلة الأمر به للأمر بالتيمم المقيد بفقدان الماء. والمراد به عدم القدرة على الوضوء ، إذ من المعلوم أنّ مجرد وجدان الماء لا يرفع التكليف بالتيمم ، ولو مع عدم القدرة على الاستعمال. وبعد كون التكليف بالتيمم مشروطاً بعدم القدرة على الوضوء يكون التكليف بالوضوء مشروطاً بالقدرة لا محالة ، لأنّ التقسيم قاطع للشركة كما ذكرناه سابقاً ، فيجب تقديم حفظ النفس وينتقل من الوضوء إلى التيمم ، لأ نّه مع تقديمه لا تفوت عن المكلف مصلحة أصلاً ، فان مصلحة حفظ النفس محفوظة بالامتثال ، ومع صرف القدرة فيه ينتفي التكليف بالوضوء بانتفاء

٤٣٢

موضوعه وهو القدرة ، فليس له ملاك ليفوت ، بخلاف تقديم الوضوء ، فانّه يوجب تفويت مصلحة حفظ النفس ، لعدم كونها مشروطة بالقدرة على الفرض.

أقول : لو اعتبر في موضوع أحد التكليفين القدرة الشرعية ، بمعنى أن لا يكون المكلف بالفعل مشغول الذمة بواجب آخر لا يجتمع معه في الوجود ، فلا إشكال في تقديم ما هو غير مشروط بها على المشروط ، فانّ المفروض أنّ نفس توجه التكليف بما هو غير مشروط يمنع عن تحقق موضوع المشروط ، ولكن هذا الفرض خارج عن التزاحم ، لما ذكرناه سابقاً (١) من أنّ الملاك في التزاحم أن يكون امتثال أحد التكليفين موجباً لارتفاع موضوع الآخر ، وليس المقام كذلك فان نفس التكليف بغير المشروط رافع لموضوع المشروط وتعجيز للمكلف عنه ، ولذا ذكرنا في بحث الترتب أنّه لو لم يصرف قدرته في غير المشروط ، لا يصح المشروط ولو على القول بامكان الترتب.

وأمّا لو كانت القدرة المعتبرة في موضوع أحد التكليفين عبارة عن تمكن المكلف من الاتيان بمتعلقه خارجاً ، فلا إشكال حينئذ في فعلية المشروط ووجود المصلحة فيه لتحقق موضوعه ، كما أنّه لا إشكال في فعلية غير المشروط بها ، وبما أنّ المكلف غير متمكن من الجمع بينهما ، فلا محالة يتحقق التزاحم بينهما ، إلاّ أنّه لا دليل حينئذ على تقديم غير المشروط على المشروط ، إذ المفروض تمامية الملاك في الطرفين وعدم تمكن المكلف من استيفائهما معاً ، فلا بدّ من ملاحظة الأهمية في مقام الترجيح.

__________________

(١) في ص ٤٢٧ ـ ٤٢٨.

٤٣٣

ثمّ إنّهم رتّبوا على ما ذكر ـ من تقديم غير المشروط بالقدرة شرعاً على المشروط بها ـ أنّه لو كان عند المكلف مقدار من الماء ، ودار الأمر بين صرفه في الوضوء وصرفه في تطهير ثوبه أو بدنه ، تعيّن صرفه في تطهير الثوب ، وينتقل من الوضوء إلى التيمم ، لكونه مشروطاً بالقدرة شرعاً ، بخلاف تطهير الثوب.

ولكنّ الصحيح أنّ الكبرى المذكورة لا تنطبق على المثال المذكور لوجهين :

الوجه الأوّل : أنّ الوضوء ليس متعلقاً للتكليف النفسي وكذا تطهير الثوب كي يتوهم التزاحم بينهما ويقدّم أحدهما على الآخر للمرجّح المذكور ، بل الأمر المتعلق بهما إرشاد إلى شرطية كل منهما للصلاة ، ولذا لا يعاقب المكلف على تركهما ، بل العقاب إنّما هو على ترك الصلاة المقيدة بهما ، فالمأمور به هي الصلاة مع الطهارة المائية مشروطة بالقدرة ، ومع العجز يكون البدل هي الصلاة مع الطهارة الترابية ، فقولنا : التيمم بدل عن الوضوء مسامحة في التعبير. وكذا الأمر بالنسبة إلى التطهير ، فانّ المأمور به هي الصلاة في ثوب طاهر مع القدرة ، وفي صورة العجز يكون البدل هي الصلاة في ثوب نجس ـ كما هو الصحيح ـ أو الصلاة عرياناً ـ كما عليه المشهور ـ فلا فرق بينهما من هذه الجهة ، لاشتراط كل منهما بالقدرة ، وثبوت البدل لكل منهما مع العجز.

الوجه الثاني : أنّ المثال المذكور خارج عن باب التزاحم رأساً ، فانّ التزاحم إنّما هو فيما إذا كان هناك واجبان لا يتمكن المكلف من امتثالهما معاً ، وليس المقام كذلك ، فانّ الواجب في المقام واحد ، وهو الصلاة المقيدة بقيود : منها الطهارة من الحدث والخبث ، ومع العجز عن الاتيان بها جامعة للشرائط كما في المثال يسقط الأمر رأساً ، فانّ الأمر بالمجموع تكليف بما لا يطاق ، ووجوب الباقي يحتاج إلى دليل ، خرجنا عن ذلك في باب الصلاة بما دل على عدم سقوط

٤٣٤

الأمر بها بحال ، وعليه فيقع التعارض بين إطلاق دليل شرطية الوضوء وإطلاق دليل شرطية طهارة الثوب ، إذ لنا علم إجمالاً بوجوب الصلاة في هذا الحال ، إمّا مع الطهارة المائية في ثوب نجس ، وإمّا مع الطهارة الترابية في ثوب طاهر ، ولا ندري أنّ المجعول في الشريعة أيّهما ، وحيث إنّ مقتضى إطلاق دليل الوضوء هو الأوّل ، ومقتضى إطلاق دليل طهارة الثوب هو الثاني ، يقع التكاذب بينهما لا محالة ، فلا بدّ من الرجوع إلى مرجحات باب التعارض ، ومع فقدها يرجع إلى الأصل العملي ، وحيث إنّا نعلم بتقييد الصلاة بأحد الأمرين ، واعتبار خصوصية كل منهما مجهول يرفع بأصالة البراءة ، فالمكلف مخيّر بين صرف الماء في التطهير من الخبث ، والاتيان بالصلاة مع الطهارة الترابية ، وصرفه في الوضوء والاتيان بالصلاة في الثوب النجس أو عرياناً ، وإن كان الأوّل أحوط ، لوجود القول بالتعيين.

المرجح الثالث : كون أحد المتزاحمين أهم من الآخر ، فيجب تقديم الأهم على المهم بحكم العقل. وهذا المرجح من القضايا التي قياساتها معها ، فانّ تقديم المهم يوجب تفويت المقدار الزائد من المصلحة ، بخلاف تقديم الأهم. ومن الأمثلة الواضحة دوران الأمر بين إنقاذ ابن المولى وماله ، فانّ العقل مستقل بتقديم الأوّل. وأوضح منه دوران الأمر بين إنقاذ نفس المولى وماله. وبالجملة : لا يحتاج الترجيح بهذا المرجح إلى مؤونة الاستدلال والبيان.

المرجح الرابع : كون أحد الواجبين سابقاً على الآخر من حيث الزمان ، بأن يكون ظرف امتثال أحدهما مقدّماً على الآخر زماناً ، مع كون الوجوب فعلياً في كل منهما بنحو التعليق ، كما إذا نذر أحد صوم يوم الخميس ويوم الجمعة ، ثمّ علم بعدم قدرته على الصوم فيهما ، فيختار صوم يوم الخميس ، لكونه مقدّماً زماناً على صوم يوم الجمعة. وكذا إذا دار الأمر بين ترك القيام في صلاة الظهر

٤٣٥

وتركه في صلاة العصر لعجزه عن القيام فيهما ، فيقدّم ما هو المقدّم زماناً ـ وهو صلاة الظهر ـ ويأتي بصلاة العصر جالساً.

والوجه في هذا الترجيح ظاهر أيضاً ، فانّ الاتيان بالمقدّم زماناً يوجب عجزه عن المتأخر ، فيكون التكليف به منتفياً بانتفاء موضوعه وهو القدرة ، إذ المعتبر من القدرة في صحة التكليف عقلاً هي القدرة في ظرف الواجب ، وهي مفقودة بالنسبة إلى المتأخر بعد الاتيان بالمتقدم ، بخلاف الاتيان بالمتأخر زماناً ، فانّه لا يوجب عجزه عن المتقدم في ظرفه ، فليس معذوراً في تركه. فمن صام يوم الخميس ـ في مفروض المثال ـ يكون معذوراً في ترك الصيام يوم الجمعة لعجزه عنه فيه ، وأمّا من صام يوم الجمعة لا يكون معذوراً في تركه يوم الخميس ، لعدم عجزه عنه فيه ، كما هو واضح. ومن هنا لم يلتزم أحد بجواز ترك الصوم في أوّل شهر رمضان والاتيان به في آخره لمن لا يقدر على الصيام إلاّ في بعض أيامه.

نعم ، إذا كان الواجب المتأخر زماناً أهم من الواجب المتقدم ، يجب عليه التحفظ بقدرته على الأهم ، فلا يجوز له الاتيان بالمهم ، لأنّه يوجب عجزه عن الاتيان بالأهم في ظرفه ، كما إذا دار الأمر بين حفظ مال المولى الآن ، وحفظ نفسه غداً ، فانّ العقل في مثله مستقل بوجوب احتفاظ القدرة على حفظ نفس المولى بترك حفظ المال.

فرع

ذكر السيد قدس‌سره في العروة في مبحث مكان المصلي (١) أنّه إذا دار

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ٤٢٣ السادس من شروط مكان المصلي.

٤٣٦

الأمر بين الاتيان بالصلاة في مكان يتمكّن فيه من القيام دون الركوع والسجود لضيقه ، والاتيان بها في مكان يتمكن فيه منهما دون القيام لكون سقفه نازلاً ، فالمكلف مخير بين المكانين إذالم يتمكن من الاحتياط باتيان الصلاة فيهما. وكرّر هذا الفرع في مبحث القيام (١). واختار فيه أيضاً ما ذكره في مبحث مكان المصلي من التخيير.

وذكر المحقق النائيني قدس‌سره في حاشيته (٢) ، على أحد الموضعين : أنّه يجب تقديم القيام ، وعلى الموضع الآخر أنّه يجب تقديم الركوع والسجود. ونظره في الأوّل إلى كون القيام مقدّماً زماناً على الركوع والسجود ، وفي الثاني إلى كون الركوع والسجود أهم من القيام ، وعلى كل حال بين كلاميه تدافع ظاهر.

والتحقيق أنّ أمثال هذه المقامات ـ مما يكون الواجب فيها من الواجبات الضمنية ، لكونه جزءاً من مركب أو شرطاً ـ خارجة عن التزاحم موضوعاً ، فلو دار الأمر بين جزأين من واجب واحد ، أو بين شرطيه ، أو بين جزء وشرط منه ، لا يصح الرجوع إلى مرجحات باب التزاحم ، والوجه في ذلك : أنّ الواجب هو المركب من جميع الأجزاء والشرائط ، وبعد تعذر جزء أو شرط يسقط الوجوب رأساً ، ولا تصل النوبة إلى التزاحم ، إذ الوجوب الأوّل كان متعلقاً بالمجموع وقد سقط بالتعذر ، ووجوب الباقي يحتاج إلى دليل ، ولذالو اضطر الصائم إلى الافطار في بعض آنات اليوم ، لم يلتزم أحد من الفقهاء

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ٤٦٦ المسألة ١٧ [١٤٧٧]

(٢) العروة الوثقى (المحشّاة) ٢ : ٤٨٥ ، ٣٨٤

٤٣٧

بوجوب الامساك في الباقي من آنات هذا اليوم.

نعم ، في خصوص باب الصلاة يجب الاتيان بالباقي لما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال ، بل الضرورة قاضية بعدم جواز ترك الصلاة في حالٍ إلاّلفاقد الطهورين ، فانّه محل الخلاف بينهم.

فاذا تعذر بعض أجزاء الصلاة أو بعض شروطها وكان المتعذر متعيناً ، كما إذالم يتمكن المصلي من القيام مثلاً يجب عليه الاتيان بالباقي بلا إشكال. وأمّا إذا كان المتعذر مردداً بين جزأين ، كما في الفرع الذي نقلناه من العروة ، أو بين شرطين أو بين جزء وشرط منها ، فيكون داخلاً في باب التعارض ، إذ وجوب كلا الجزأين معلوم الانتفاء ، لعدم القدرة إلاّعلى أحدهما ، ولا ندري أنّ الواجب المجعول في هذا الحال أيّهما ، فاذن لا بدّ من الرجوع إلى الأدلة الدالة على الأجزاء والشرائط.

فإن كان دليل أحد طرفي الترديد لفظياً ودليل الطرف الآخر لبياً ، يجب الأخذ بالدليل اللفظي ، إذ الدليل اللبي يقتصر فيه بالقدر المتيقن ، وهو غير مورد المعارضة مع الدليل اللفظي ، كما إذا دار الأمر بين الاتيان بالصلاة قائماً بدون الاستقرار ، والاتيان بها جالساً معه ، فانّ الدليل على وجوب القيام لفظي ، كقوله عليه‌السلام : «من لم يقم صلبه فلا صلاة له» (١) وعلى وجوب الاستقرار لبي وهو الاجماع ، فيؤخذ بالدليل اللفظي ، ويحكم بوجوب الاتيان بالصلاة قائماً ولو بدون الاستقرار. وكذا الكلام فيما إذا كان كلا الدليلين لفظياً ، ولكن كان أحدهما عاماً والآخر مطلقاً ، فيجب الأخذ بالعام ، لكونه صالحاً لأن يكون بياناً للمطلق ، فلا تجري مقدمات الحكمة ليؤخذ بالمطلق.

وأمّا إذا كان الدليل في كليهما لبياً أو في كليهما لفظياً وكان كلاهما مطلقاً ،

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٤٨٨ / أبواب القيام ب ٢ ح ١

٤٣٨

فيتساقطان ولا بدّ من الرجوع إلى الأصل العملي ، وحيث إنّا نعلم بوجوب أحدهما في الجملة من الخارج ، فيكون المرجع أصالة عدم اعتبار خصوصية هذا وذاك ، فتكون النتيجة التخيير كما في العروة.

وأمّا إن كان الدليل في كليهما لفظياً وكان كلاهما عاماً ، فلا بدّ من الرجوع إلى المرجحات السندية ، كما يأتي (١) إن شاء الله تعالى. هذا كله فيما إذا دار الأمر بين المختلفين في النوع كالقيام والركوع.

وأمّا إذا كان الأمر دائراً بين فردين من نوع واحد ، كما إذا دار الأمر بين القيام في الركعة الاولى والركعة الثانية ، أو دار الأمر بين الركوع في الركعة الاولى والركعة الثانية ، فلا يتصور فيه تعدد الدليل لتجري أحكام التعارض ، إذ الدليل على وجوب القيام في كل ركعة واحد ، وكذا الدليل على وجوب الركوع في كل ركعة واحد.

أمّا القيام ، فالذي يظهر من دليله اختياره في الركعة الاولى ، فانّ الظاهر من قوله عليه‌السلام : «المريض يصلي قائماً فإن لم يقدر على ذلك صلى جالساً ... إلخ» (٢) وجوب القيام مع القدرة الفعلية عليه ، وأنّ المسقط له ليس إلاّالعجز الفعلي ، فيجب عليه القيام في الركعة الاولى لقدرته عليه بالفعل ، وبعد تحقق القيام في الركعة الاولى يصير عاجزاً عنه في الركعة الثانية ، فيكون معذوراً لعجزه عنه فعلاً.

وأمّا غير القيام من الركوع والسجود وغيرهما ، فحيث إنّ الدليل لا يشمل كليهما لعدم القدرة عليهما على الفرض ، ووجوب أحدهما في الجملة معلوم من

__________________

(١) في ص ٥١٤ وما بعدها.

(٢) الوسائل ٥ : ٤٨٤ و ٤٨٥ / أبواب القيام ب ١ ح ١٣ و ١٥.

٤٣٩

الخارج ، فالمرجع أصالة عدم اعتبار الخصوصية ، وتكون النتيجة التخيير.

وبما ذكرناه في المقام من الضابطة يعرف حكم كثير من الفروع المذكورة في العروة. هذا تمام الكلام في بيان موضوع التعارض وامتيازه عن التزاحم.

فلا بدّ من التكلم في حكمه ، ويقع الكلام أوّلاً في تأسيس الأصل مع قطع النظر عن الأخبار العلاجية. ولا يخفى أنّه لا ثمرة لتأسيس الأصل بالنسبة إلى الأخبار ، إذ الأخبار العلاجية متكفلة لبيان حكم تعارض الأخبار ، ولا ثمرة للأصل مع وجود الدليل. نعم ، الأصل يثمر في تعارض غير الأخبار ، كما إذا وقع التعارض بين آيتين من حيث الدلالة ، أو بين الخبرين المتواترين كذلك ، بل يثمر في تعارض الأمارات في الشبهات الموضوعية ، كما إذا وقع التعارض بين بينتين أو بين فردين من قاعدة اليد ، كما في مالٍ كان تحت استيلاء كلا المدعيين.

إذا عرفت ذلك فنقول : الأصل في المتعارضين التساقط وعدم الحجية. أمّا إذا كان التعارض بين دليلين ثبتت حجيتهما ببناء العقلاء ، كما في تعارض ظاهر الآيتين أو ظاهر الخبرين المتواترين فواضح ، إذ لم يتحقق بناء من العقلاء على العمل بظاهر كلام يعارضه ظاهر كلام آخر ، فتكون الآية التي يعارض ظاهرها بظاهر آية اخرى من المجمل بالعرض ، وإن كان مبيّناً بالذات. وكذا الخبران المتواتران.

وأمّا إن كان دليل حجية المتعارضين دليلاً لفظياً كما في البينة ، فالوجه في التساقط هو ما ذكرناه في بحث العلم الاجمالي (١) : من أنّ الاحتمالات المتصورة بالتصور الأوّلي ثلاثة : فامّا أن يشمل دليل الحجية لكلا المتعارضين ، أو

__________________

(١) راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ٤٠٥ ـ ٤٠٦.

٤٤٠