موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

وأمّا الرواية الثانية الدالة على وجوب الأخذ بالمتأخر من المتعارضين ، فموردها المكلف العالم بصدور كلا الحكمين عن الإمام عليه‌السلام المعاصر له ، ولا بدّ له من العمل بالمتأخر ، لأنّ المتقدّم لو صدر عن تقية لكان المتأخر صادراً لبيان الحكم الواقعي ، ولو كان المتأخر صادراً عن تقية يجب الأخذ به أيضاً ، لوجوب رعايتها ، فانّ الإمام عليه‌السلام أعرف بمصالح الوقت ، وهذا غير جار في حقنا ، فانّ المتقدّم والمتأخر بالنسبة إلينا على حد سواء ، إذ لا علم لنا بصدورهما ، ونحتمل أن لا يكون شيء منهما صادراً ، وعلى تقدير صدورهما واقعاً ، لا نعلم أنّ أياً منهما صدر لبيان الحكم الواقعي ليكون عملنا عليه مع عدم المقتضي للتقية في حقنا ، فلا بدّ حينئذ من الرجوع إلى مرجح آخر.

مضافاً إلى أنّه لو كان المراد في هذه الرواية كون التأخر مرجحاً لأحد المتعارضين ، لكانت منافية لجميع أخبار الترجيح ، ضرورة تأخر صدور أحد المتعارضين عن الآخر ، فلا بدّ من طرح هذه الرواية ، إذ لو عمل بها لم يبق مورد للعمل بأخبار الترجيح. نعم ، مجهولي التاريخ خارج عن مفاد هذه الرواية ، ولكن لا يعمل بسائر الترجيحات فيهما ، لأنّا نعلم بتأخر أحدهما عن الآخر وقد اشتبه علينا المتأخر ، فيكون من باب اشتباه الحجة بغير الحجة ، فلا يمكن الأخذ بواحد منهما.

اللهمّ إلاّأن يقال : إنّ بقاء جميع الأخبار العلاجية بلا مورد على تقدير العمل بهذه الرواية قرينة على اختصاص هذه الرواية بصورة العلم بتاريخ المتعارضين ، وأمّا مع الجهل بالتاريخ كان المرجع بقية الروايات ، فلا يلزم حينئذ طرح هذه الرواية لمنافاتها معها.

الأمر الثاني : أنّه لو شك في اعتبار مرجّح وعدمه ، فعلى تقدير تمامية دلالة

٥٠١

أخبار التخيير يجب الأخذ بما فيه احتمال الترجيح ، لدوران الأمر فيه بين التعيين والتخيير ، وقد ذكرنا في محلّه (١) أنّ مقتضى الأصل ـ عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير ـ هو الثاني ، إلاّفي موردين : أحدهما باب التزاحم عند احتمال أهمية أحد المتزاحمين. ثانيهما دوران الحجة بين التعيين والتخيير كما في المقام ، هذا إذالم يكن في أخبار التخيير إطلاق ، وإلاّ فيتمسك به في رفع الشك في اعتبار المرجح.

وأمّا على تقدير عدم تمامية أخبار التخيير وسقوط المتعارضين عن الاعتبار رأساً مع عدم وجود المرجّح لأحدهما ـ على ما سنذكره (٢) إن شاء الله تعالى ـ فلا يمكن الأخذ بواحد منهما. أمّا الفاقد لما يحتمل كونه مرجحاً فللعلم بعدم كونه حجة ، كما هو ظاهر. وأمّا الواجد له ، فللشك في حجيته والأصل عدمها.

الأمر الثالث : أنّه بعد البناء على لزوم الترجيح ، وقع الكلام بين الأعلام في اعتبار الترتيب بين المرجحات وعدمه ، وقسّمها الشيخ (٣) قدس‌سره على ثلاثة أقسام :

منها : ما يكون مرجّحاً لصدور أحد المتعارضين ككون الرواية مشهورة.

ومنها : ما يكون مرجّحاً لجهة صدوره ، ككون إحدى الروايتين مخالفة للعامة.

ومنها : ما يكون مرجّحاً لمضمونه بمعنى مطابقة المضمون للواقع ، ككون

__________________

(١) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٥١٩ وما بعدها.

(٢) في ص ٥٠٨ ـ ٥١١.

(٣) فرائد الاصول ٢ : ٧٨٣.

٥٠٢

إحداهما موافقة للكتاب. ونسب إلى الوحيد البهبهاني قدس‌سره (١) أنّه ذهب إلى تقديم الترجيح بجهة الصدور ، وهو مخالفة العامة ، إذ مع كون أحد المتعارضين مخالفاً للعامة نقطع بأنّ الآخر الموافق لهم إمّا غير صادر عن المعصوم أو صدر عن تقية. وذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) أن إطلاقات أخبار الترجيح غير ناظرة إلى بيان الترتيب بين المرجحات ، بل هي واردة لبيان أصل الترجيح وأنّ هذا مرجّح وذاك مرجّح ، فلا وجه للالتزام برعاية الترتيب.

وذكر جماعة منهم المحقق النائيني (٣) قدس‌سره أنّ ما كان مرجّحاً للصدور كالشهرة يقدّم على مرجّح جهة الصدور والمضمون. وما كان مرجّحاً لجهة الصدور يقدّم على مرجّح المضمون ، فمثل مخالفة العامة يقدّم على الترجيح بموافقة الكتاب ، وذكر في وجه ذلك : أنّ اعتبار مرجّح جهة الصدور فرع اعتبار صدور المتعارضين ، إذ مع عدم إحراز الصدور لا تصل النوبة إلى ملاحظة جهة الصدور ، كما أنّ اعتبار مرجّح المضمون فرع اعتبار صدورهما لبيان الحكم الواقعي ، فما ذكرناه هو مقتضى الترتيب الطبيعي بين المرجحات.

هذه هي الأقوال التي ذكرها الأعلام في المقام ، وللنظر في جميعها مجال واسع.

أمّا ما ذكره الوحيد البهبهاني قدس‌سره ففيه : أنّ مجرد كون إحدى الروايتين مخالفة للعامة لا يوجب القطع بأنّ الخبر الموافق لهم لم يصدر أو صدر

__________________

(١) الفوائد الحائرية : ٢٢٠ الفائدة ٢١.

(٢) كفاية الاصول : ٤٥٤.

(٣) فوائد الاصول ٤ : ٧٨٠ ـ ٧٨١.

٥٠٣

عن تقية ، لأنّ الأحكام المتفق عليها بين الفريقين كثيرة في نفسها ، فيحتمل كون الخبر الموافق لهم صادراً عن المعصوم لبيان الحكم الواقعي ، وكون الخبر المخالف لهم غير صادر أو صدر عن غير جد.

وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره ففيه : أنّ مقتضى ظاهر صحيحة الراوندي تقديم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بمخالفة العامة ، فلا عبرة مع موافقة الكتاب بمخالفة العامة وعدمها.

وأمّا ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره ففيه : أنّه مجرد استحسان لا يصلح لرفع اليد عن ظهور الرواية في تقديم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بمخالفة العامة.

الأمر الرابع : أنّه هل يجب الاقتصار على المرجحات المنصوصة ، أو يتعدى إلى غيرها مما يكون أحد المتعارضين معه أقرب إلى الواقع؟

ذهب الشيخ قدس‌سره (١) إلى التعدي وذكر في وجه ما ذهب إليه وجوهاً :

منها : أن في جعل الإمام عليه‌السلام ـ مثل الأصدقية والأوثقية مرجحاً لإحدى الروايتين ـ دلالة على أنّ المناط في الترجيح بهما كونهما موجبة لأقربية إحدى الروايتين للواقع ، فيتعدى إلى كل ما فيه هذا المناط.

ومنها : أنّ الإمام عليه‌السلام علل وجوب الأخذ بالرواية المجمع عليها بكونها مما لا ريب فيه ، ومن الظاهر أن عدم الريب فيها ليس إلاّإضافياً بمعنى أنّ المشهور بالنسبة إلى الشاذ النادر لا ريب فيه ، لا أنّه في نفسه مما لا ريب فيه ، وإلاّ لكان الخبر الشاذ مما لا ريب في كذبه ، فيكون داخلاً في بيّن الغي ،

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٧٨٠ ـ ٧٨١.

٥٠٤

وهو خلاف ظاهر الاستشهاد ، فانّ الإمام عليه‌السلام أدرجه في المشتبه ، فعلى هذا تدل المقبولة بعموم التعليل على أنّ كل خبرين ليس في أحدهما ريب بالنسبة إلى الآخر يلزم الأخذ به ، فالمنقول باللفظ مثلاً مما لا ريب فيه بالنسبة إلى المنقول بالمعنى فيجب الأخذ به.

ومنها : أنّ تعليل الإمام عليه‌السلام الأخذ بمخالفة العامة بأنّ الرشد في خلافهم ، يدل على أنّ كل خبرين يكون في أحدهما الرشد غالباً يجب الأخذ به ، فانّه ليس الأخذ بمخالف العامة بحيث يكون فيه الرشد دائماً ، لكثرة الأحكام المتفق عليها الفريقان في نفسها.

وللنظر في جميع ما ذكره وجهاً للتعدي مجال واسع.

أمّا ما ذكره من أنّ في جعل الأوصاف مرجحة للرواية دلالة على التعدي ، ففيه : ما عرفت من عدم دلالة المقبولة على كون الأوصاف من مرجحات الخبرين المتعارضين فضلاً عن دلالتها على أنّ ذكر الأوصاف مثال لما يوجب أقربية أحد المتعارضين إلى الصدق.

وأمّا ما ذكره من أن تعليل الأخذ بالمجمع عليه بكونه مما لا ريب فيه يدل على أنّه كلّما لم يكن في أحد الخبرين ريب بالاضافة إلى الآخر يجب الأخذ به ، ففيه : ـ مضافاً إلى ما تقدّم (١) من ضعف سند المقبولة ـ أنّه لا يمكن حمل قوله عليه‌السلام : «مما لا ريب فيه» على نفي الريب بالاضافة ، فانّه يوجب تقديم إحدى الروايتين على الاخرى إذا كانت الوسائط فيها أقل من وسائط الاخرى ولو بواحد ، ولا أظن أن يلتزم به أحد ، فلا بدّ من أن يكون المراد من قوله

__________________

(١) في ص ٤٩١.

٥٠٥

(عليه‌السلام) : «مما لا ريب فيه» ما لا يكون فيه ريب حقيقة ، فيكون المراد كونه مقطوع الصدور كما ذكرناه سابقاً (١). ولا ينافيه فرض الريب في الخبر الشاذ المعارض له وعدم إدخاله في بيّن الغي ، لاحتمال أن يكون هو الصادق ، وإنّما كان الخبر المجمع عليه صادراً عن تقية.

وإن شئت قلت : الاجماع في الرواية يوجب دخولها في السنة القطعية ، فلا بدّ من طرح كل خبر يدل على خلافه ، لما عرفت (٢) من أنّ مخالف الكتاب والسنّة لا يكون حجة ، وهذا غير ترجيح إحدى الروايتين على الاخرى في مقام المعارضة لوجود المرجح فيها كما لا يخفى.

وأمّا ما ذكره من أن تعليل الأخذ بمخالف العامة ـ بأنّ الرشد في خلافهم ـ يدل على لزوم ترجيح كل ما فيه مزية على الآخر ، ففيه : أنّ التعليل المذكور لم يوجد في رواية ، وإنّما هو في عبارة الكافي التي نقلناها سابقاً (٣). نعم ، وقع في المرفوعة ما يرادفه ، وهو قوله عليه‌السلام : «فانّ الحق فيما خالفهم» ولكن قد عرفت (٤) ضعف سندها وعدم صحة الاعتماد عليها. وذكر أيضاً في المقبولة لفظ ففيه الرشاد ، ولكنّه ليس بعنوان التعليل ، بل بعنوان الحكم حيث قال عليه‌السلام : «ما خالف العامة ففيه الرشاد» أي يجب الأخذ به ، فلا تعليل فيه حتى يؤخذ بعمومه. ولو سلّم ظهوره في التعليل فلا إشكال في أنّ الرشد في مخالفة العامة غالبي ، حيث إنّهم اعتمدوا كثيراً في استنباط الأحكام الشرعية

__________________

(١) في ص ٤٩٥.

(٢) في ص ٤٨٤.

(٣) في ص ٤٩٤.

(٤) في ص ٤٨٦.

٥٠٦

على الاستحسانات والأقيسة ، واستغنوا بذلك عن المراجعة إلى الأئمة عليهم‌السلام ووقعوا في مخالفة الأحكام الشرعية كثيراً ، فحينئذ لا مانع من التعدي إلى كل مزية تكون موجبة للرشد غالباً. ولكنّ الصغرى لهذه الكبرى غير متحققة ، إذ ليس في المرجحات ما يكون موجباً لغلبة مطابقة الواقع.

الأمر الخامس : أنّه لو وقع الاختلاف في تفسير رواية لا ينبغي الريب في أنّه غير داخل في التعارض ، فانّ تعدد التفسير لا يوجب تعدد الحديث حتى يكون مشمولاً لقوله عليه‌السلام : «إذا جاءكم حديثان مختلفان ...» إلخ.

أمّا لو اختلفت النسخ كما إذا روى الكليني قدس‌سره الخبر بنحوٍ ورواه الشيخ قدس‌سره بنحو آخر مع وحدة السند ، أو كان الخبر في بعض نسخ التهذيب مثلاً بلفظ ، وفي بعضها الآخر بلفظ آخر ، فيظهر من المحقق الهمداني في كتاب صلاته : أنّ ذلك لا يكون من باب تعارض الخبرين ، بل من باب اشتباه الحجة بغيرها ، للعلم بعدم صدور كليهما عن الإمام عليه‌السلام.

ولكنّ التحقيق هو التفصيل في المقام والالتزام بأن اختلاف رواية الكافي والتهذيب مثلاً داخل في تعارض الخبرين ، فانّهما خبران والعلم بعدم صدور كليهما لا يضر بتعدد الخبر ، كما في سائر موارد التعارض ، فيكون المقام نظير ما إذا حكم الإمام عليه‌السلام بحكم في مجلسٍ وخرج عنه راويان ثمّ اختلفا فروى أحدهما حكمه بنحو والآخر بنحو آخر ، وأمّا إن كان الاختلاف في نسخ كتاب واحد ، فالأمر كما ذكره ، فانّا لا ندري في هذه الصورة أنّ ما أخبرنا به الشيخ قدس‌سره مثلاً أيّهما. نعم ، لو احرزت الوثاقة في كل من ناسخي الكتاب لا يبعد دخوله في المتعارضين كالقسم الأوّل.

٥٠٧

بقي الكلام في الأخبار التي استدل بها على التخيير بين المتعارضين ، ولم نجد منها إلاّثمان روايات :

منها : ما عن فقه الرضا عليه‌السلام : «والنفساء تدع الصلاة أكثره مثل أيام حيضة وهي عشرة أيام ، وتستظهر بثلاثة أيام ثمّ تغتسل. فاذا رأت الدم عملت كما تعمل المستحاضة ، وقد روي ثمانية عشرة يوماً ، وروي ثلاث وعشرين يوماً وبأيّ هذه الأحاديث اخذ من جهة التسليم جاز» (١).

ودلالة هذه الرواية وإن كانت تامة إلاّأ نّه قد ذكرنا في بحث الفقه (٢) أنّه لم تثبت حجية الكتاب المذكور ، فلا يمكن الاعتماد على الروايات المذكورة فيه.

ومنها : ما في ذيل المرفوعة من قوله عليه‌السلام بعد فرض الراوي كلا الخبرين موافقاً للاحتياط أو مخالفاً له : «إذن فتخير أحدهما فتأخذ به ودع الآخر» (٣).

وفيه : ما تقدّم من عدم صحة الاعتماد على هذه الرواية لضعفها من جهات. مضافاً إلى أنّ حكم الإمام عليه‌السلام فيها بالتخيير إنّما هو بعد فرض الراوي الشهرة في كل من المتعارضين ، فيكون موردها الخبرين المقطوع صدورهما على ما ذكرناه (٤) من أنّ المراد بالشهرة هو معناها اللغوي ، وحكم الإمام عليه‌السلام بالتخيير فيما إذا كان كل من المتعارضين قطعي الصدور

__________________

(١) المستدرك ٢ : ٤٧ / أبواب النفاس ب ١ ح ١.

(٢) مصباح الفقاهة ١ : ١٣.

(٣) تقدّم سندها والخدشة فيه في ص ٤٨٦.

(٤) في ص ٤٩٥.

٥٠٨

لا يدل على التخيير فيما إذا كان كل منهما ظنياً من حيث الصدور كما هو محل الكلام. وتوهم أنّ المورد لا يكون مخصصاً قد تقدم دفعه فلا نعيد.

ومنها : ما رواه أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي عن الحسن بن الجهم عن الرضا عليه‌السلام «قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ، ولا نعلم أيّهما الحق؟ قال عليه‌السلام : فاذالم تعلم فموسّع عليك بأ يّهما أخذت» (١).

وهذه الرواية من جهة الدلالة لا بأس بها ، إلاّأ نّها مرسلة لا يعمل بها.

ومنها : ما رواه أيضاً مرسلاً عن الحارث بن مغيرة عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة ، فموسّع عليك حتى ترى القائم ، فتردّ عليه» (٢).

وهذه الرواية ـ مضافاً إلى ضعف سندها بالارسال ـ لا دلالة لها على حكم المتعارضين كما ترى ، ومفادها حجية أخبار الثقة إلى ظهور الحجة.

ومنها : ما رواه الكليني قدس‌سره عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن عثمان ابن عيسى وحسن بن محبوب جميعاً عن سماعة عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه : أحدهما يأمر بالأخذ والآخر ينهاه ، كيف يصنع؟ قال عليه‌السلام : يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه» (٣).

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٢١ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٠.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤١.

(٣) الكافي ١ : ٦٦ / باب اختلاف الحديث ح ٧ ، الوسائل ٢٧ : ١٠٨ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٥.

٥٠٩

ومورد هذه الرواية دوران الأمر بين المحذورين حيث إنّ أحد الخبرين يأمر والآخر ينهى ، والعقل يحكم فيه بالتخيير بين الفعل والترك ، وقول الإمام عليه‌السلام : «فهو في سعة ... إلخ» لا يدل على أزيد منه.

ومنها : ما رواه الشيخ قدس‌سره باسناده عن أحمد بن محمّد عن العباس ابن معروف عن علي بن مهزيار قال : «قرأت في كتاب لعبدالله بن محمّد إلى أبي الحسن عليه‌السلام اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبدالله عليه‌السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم صلّهما في المحمل ، وروى بعضهم لا تصلّهما إلاّعلى الأرض ، فوقّع عليه‌السلام : موسّع عليك بأية عملت» (١).

ومورد هذه الرواية هو التخيير في نافلة الفجر بين الاتيان بها في المحمل ، والاتيان بها على الأرض ، وقد حكم الإمام عليه‌السلام في الحقيقة بجواز الاتيان بها في المحمل ، فانّ ظاهر حكمه عليه‌السلام بالتخيير أنّ التخيير واقعي ، إذ لو كان الحكم الواقعي غيره لكان الأنسب بيانه ، لا الحكم بالتخيير بين الحديثين ، ولا إطلاق لكلام الإمام عليه‌السلام ولا عموم حتى يتمسك بهما ويتعدى عن مورد الرواية إلى غيره.

ومنها : مكاتبة محمّد بن عبدالله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان (أرواحنا فداه) على ما في احتجاج الطبرسي ، وقد سئل في هذه المكاتبة عن استحباب التكبير بعد التشهد الأوّل وعدمه ، إلى أن قال عليه‌السلام «في الجواب عن ذلك حديثان ، أمّا أحدهما فاذا انتقل من حالة إلى اخرى فعليه التكبير ، وأمّا الآخر فانّه روي أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٢٨ / ح ٥٨٣ ، الوسائل ٢٧ : ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٤.

٥١٠

جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير. وكذلك التشهد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأ يّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً» (١).

ومورد هذه الرواية خارج عن محل الكلام ، فانّ النسبة بين الخبرين اللذين دلت هذه الرواية على التخيير بينهما هي العموم المطلق ، ومقتضى الجمع العرفي هو التخصيص والحكم بعدم استحباب التكبير في مورد السؤال ، فحكم الإمام عليه‌السلام بالتخيير إنّما هو لكون المورد من الامور المستحبة ، فلا بأس بالأخذ بكل من الخبرين ، إذ مقتضى التخصيص وإن كان عدم استحباب التكبير ، إلاّأنّ الأخذ بالخبر والاتيان بالتكبير أيضاً لا بأس به ، لأنّ التكبير ذكر في نفسه.

وبالجملة : لا بدّ من الاقتصار على مورد الرواية ، إذ ليس في كلام الإمام عليه‌السلام إطلاق أو عموم يوجب التعدي عن موردها إلى غيره.

ومنها : مرسلة الكافي حيث قال : وفي رواية اخرى «بأ يّهما أخذت من باب التسليم وسعك» (٢).

وهذه المرسلة إن كانت إحدى الروايات السابقة ، فلا حاجة إلى الجواب المستقل عنها ، وإن كانت غيرها ، فهي مرسلة لا يمكن الاعتماد عليها.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام : أنّ التخيير بين الخبرين المتعارضين عند فقد المرجّح لأحدهما مما لا دليل عليه ، بل عمل الأصحاب في الفقه على

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٢١ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٣٩.

(٢) الكافي ١ : ٦٦ / باب اختلاف الحديث ، ذيل الحديث ٧ ، الوسائل ٢٧ : ١٠٨ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٦.

٥١١

خلافه ، فانّا لم نجد مورداً أفتى فيه بالتخيير واحد منهم فراجع.

ولا يخفى أنّ البحث عن كون التخيير بين المتعارضين بدوياً أو استمرارياً ساقط بناءً على ما ذكرناه من سقوط كلا المتعارضين عن الحجية مع فقد المرجح لأحدهما كما هو ظاهر ، وعلى تقدير تسليم تمامية أدلة التخيير ، فهل التخيير ابتدائي أو استمراري.

اختار صاحب الكفاية قدس‌سره (١) الثاني لوجهين :

أحدهما : التمسك باستصحاب بقاء التخيير الثابت قبل الأخذ بأحدهما.

ثانيهما : التمسك باطلاقات أدلة التخيير ، فانّ مقتضاها ثبوته ولو بعد الأخذ بأحدهما.

وفي كلا الوجهين ما لا يخفى ، أمّا الأوّل ففيه أوّلاً : عدم حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية على ما تقدم الكلام فيه في بحث الاستصحاب (٢). وثانياً : أنّ استصحاب بقاء التخيير في نفسه لا يجري ، لأنّ التخيير الثابت قبل الأخذ بأحدهما عبارة عن تفويض الشارع أمر الحجية إلى المكلف ، بأن يجعل ما ليس حجة في حقه حجة ، إذ لا يكون أحد من الخبرين المتعارضين حجة قبل الأخذ ، وهذا المعنى من التخيير غير قابل للبقاء بعد الأخذ بأحدهما ، فانّه بعد الأخذ بأحدهما تتعيّن عليه الحجة ، فليس له التخيير في سلب الحجية عن الحجة ، فيجري استصحاب بقاء حجية المأخوذ به بلا معارض.

وأمّا الثاني ففيه : أنّ خطابات التخيير متوجهة إلى المكلف الذي جاءه

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٤٦.

(٢) في ص ٤٢ وما بعدها.

٥١٢

الحديثان المختلفان ولم يأخذ بشيء منهما ، فانّ المخاطب بقوله عليه‌السلام : «بأ يّهما أخذت فموسّع عليك» هو الذي لم يأخذ بواحد من الخبرين ، فلا تشمل من أخذ بأحدهما. وبعبارة اخرى : هذا التخيير تخيير في تعيين الحجة لمن لا تكون عنده حجة معيّنة ، فلا يثبت لمن تعيّنت له الحجة.

المقام الثاني : فيما إذا كان التعارض بين دليلين بالعموم من وجه ، ولم يتعرض له الأصحاب إلاّبعض المتأخرين. فقد يقال بأ نّه يؤخذ بالدليلين في مادتي الافتراق ، ويتساقطان في مادة الاجتماع. وقد يقال بأ نّه يرجع في مادة الاجتماع إلى مرجحات جهة الصدور والمضمون دون مرجحات الصدور ، فانّ الرجوع إليها يوجب طرح أحدهما رأساً حتى في مادة الافتراق ، أو التبعيض في السند والالتزام بصدوره في مادة الافتراق دون مادة الاجتماع ، وكلا الأمرين مما لا يمكن الذهاب إليه ، أمّا الأوّل فلأنّ طرح أحدهما في مادة الافتراق طرح للحجة بلا معارض. وأمّا الثاني فلأ نّه لايعقل التعبد بصدور كلام واحد بالنسبة إلى بعض مدلوله دون البعض الآخر. وأمّا التفكيك في جهة الصدور أو المضمون فلا مانع منه ، بأن يقال : صدور هذا الخبر بالنسبة إلى بعض مدلوله لبيان الحكم الواقعي ، وبالنسبة إلى البعض الآخر للتقية. وكذا التفكيك في المضمون ، بأن يقال : بعض مدلول هذا الخبر متعلق للارادة الجدية دول البعض الآخر للتخصيص أو التقييد.

أقول : إذا كانت النسبة بين المتعارضين هي العموم من وجه ، فامّا أن يكون العموم في كل منهما مستفاداً من الوضع ، أو من الاطلاق ، أو في أحدهما من الوضع ، وفي الآخر من الاطلاق. أمّا القسم الأخير فقد سبق الكلام فيه (١) عند

__________________

(١) في ص ٤٥٣ ـ ٤٥٤.

٥١٣

البحث عن دوران الأمر بين التخصيص والتقييد.

وأمّا القسمان الأوّلان فتحقيق الحال فيهما يحتاج إلى بيان مقدمة وهي : أنّ الحكم الشرعي المتعلق بالكلام قد يتعدد بتعدد الدال دون المدلول ، بأن تكون وحدة الحكم وتعدده دائراً مدار وحدة الدال وتعدده من دون أن يكون لوحدة المدلول وتعدده دخل فيهما ، كما في حرمة الكذب ، فانّ الكذب لا يتعدد بتعدد المدلول ، فاذا أخبر زيد بأنّ عندي درهماً ، وأخبر عمرو بأنّ عندي عشرة دراهم ، ولم يكن عندهما شيء من الدرهم ، فقد صدر من كل منهما كذب واحد ، وارتكب كل منهما حراماً واحداً ، وإن كان مدلول كلام عمرو متعدداً ، والسر فيه : أنّ الكذب عبارة عن كلام خبري لا يكون مطابقاً للواقع ، ومن الظاهر أنّ وحدة الكلام لا تنثلم بتعدد المدلول.

وقد يتعدد الحكم بتعدد المدلول من دون تعدد الدال كما في الغيبة ، فاذا قال زيد : إنّ عمراً فاسق ، فقد اغتاب غيبة واحدة ، ولو قال : إنّ عمراً وخالداً فاسقان ، فقد اغتاب غيبتين وارتكب حرامين ، فانّ الغيبة عبارة عن كشف ما ستره الله من عيوب المؤمن ، وهو كشف عيب مؤمنين ولو بكلام واحد.

والفرق بين القسمين : أنّه لا يمكن التبعيض باعتبار المدلول في الأوّل ، فاذا قال زيد : عندي درهمان ، وكان عنده درهم واحد ، لا يصح القول بأن إخباره صدق وكذب ، بل كذب ليس إلاّ ، بخلاف القسم الثاني ، فانّه لا مانع من التفكيك فيه باعتبار المدلول ، فاذا قال زيد : إنّ عمراً وخالداً فاسقان ، يمكن أن يقال : إن هذا الكلام غيبة ومحرّمة بالنسبة إلى عمرو لا بالنسبة إلى خالد ، لكونه متجاهراً.

إذا عرفت ذلك فهل حجية الكلام من قبيل الأوّل حتى لا يمكن التفكيك

٥١٤

باعتبار المدلول ، أو من قبيل الثاني ليمكن التفكيك؟ الظاهر هو الثاني ، ألا ترى أنّه لو قامت بينة على أنّ ما في يد زيد ـ وهي عشرة دراهم ـ لعمرو ، ثمّ قامت بينة اخرى على أنّ خمسة منها لبكر ، لا إشكال في أنّه يؤخذ بالبيّنة الاولى ، ويحكم بأنّ خمسة دراهم مما في يد زيد لعمرو ، وتتعارض مع البينة الثانية في الخمسة الباقية. وكذلك لو قامت بيّنة على أنّ هذين المالين لزيد وأقرّ زيد بأن أحدهما ليس له ، يؤخذ بالبينة في غير ما أقرّ به من المالين.

وبالجملة : لا وجه بعد سقوط بعض المدلول عن الاعتبار لسقوط بعضه الآخر ، وليس هذا تفكيكاً في المدلول من حيث الصدور ، بل تفكيك في المدلول من حيث الحجية. ولا يقاس المقام ـ أي الدلالة التضمنية ـ على الدلالة الالتزامية التي ذكرنا سابقاً أنّها تسقط عن الحجية عند سقوط الدلالة المطابقية ، وذلك لأنّ الدلالة الالتزامية فرع للدلالة المطابقية وتابعة لها ثبوتاً وإثباتاً تبعية المعلول لعلته ، بخلاف المقام فانّ دلالة اللفظ على بعض مدلوله ليست تابعة لدلالته على بعضه الآخر لا ثبوتاً ولا إثباتاً ، فلو قامت بيّنة على كون قباء وعباء لزيد ، واعترف زيد بعدم كون القباء له ، لا يلزم منه عدم كون العباء أيضاً له ، لعدم كون ملكية العباء تابعة لملكية القباء لا ثبوتاً ولا إثباتاً. وعلى هذا ففيما إذا كان التعارض بين الدليلين بالعموم من وجه يؤخذ بكل منهما في مادة الافتراق ، ويرجع إلى المرجّحات المنصوصة في مادة الاجتماع ويؤخذ بما فيه الترجيح على الآخر. والقول بعدم إمكان الرجوع إلى مرجّحات الصدور لأنّ السند لا يتبعض فاسد ، لما عرفت من أنّه ليس تفكيكاً في الصدور ، بل تفكيك في الحجية باعتبار المدلول.

وبعبارة اخرى : نتعبد بصدوره دون عمومه ، لامكان أن يكون الكلام صادراً عن الإمام عليه‌السلام على غير وجه العموم بقرينة لم تصل إلينا ، هذا فيما إذا

٥١٥

كان العموم في كل منهما بالوضع.

وأمّا إذا كان العموم في كل منهما مستفاداً من الاطلاق ، فتسقط الروايتان في مادة الاجتماع من الأوّل ، بلا حاجة إلى الرجوع إلى المرجحات ، وذلك لأنّ الاطلاق بمعنى اللا بشرط القسمي المقابل للتقييد غير داخل في مدلول اللفظ ، إذ اللفظ موضوع للماهية المهملة التي يعبّر عنها باللا بشرط المقسمي ، فلا يروي الراوي عن الإمام عليه‌السلام إلاّبثبوت الحكم للطبيعة المهملة. وأمّا إطلاقه فهو خارج عن مدلول اللفظ ، ويثبت بحكم العقل بعد تمامية مقدمات الحكمة. وعلى هذا فلا تعارض بين الخبرين باعتبار نفس مدلوليهما ، فانّه لا تنافي بين الحكم بوجوب إكرام العالم على نحو الاهمال ، وحرمة إكرام الفاسق كذلك ليقع التعارض بين الخبرين الدالين عليهما. ولا سبيل للعقل إلى الحكم بأنّ المراد منهما وجوب إكرام العالم ولو كان فاسقاً ، وحرمة إكرام الفاسق ولو كان عالماً ، فانّه حكم بالجمع بين الضدين. والحكم بالاطلاق في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيسقط الدليلان معاً في مادة الاجتماع ، ويرجع إلى دليل آخر من عموم أو إطلاق ، ومع فقده يكون المرجع هو الأصل العملي.

تنبيه :

قد عرفت من مباحثنا السابقة أنّ الخبر الواحد إذا كان مخالفاً لظاهر الكتاب أو السنّة القطعية وكانت النسبة بينهما التباين ، يطرح الخبر ولو لم يعارضه خبر آخر بمقتضى الأخبار الكثيرة الدالة على عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنّة وأ نّه زخرف وباطل (١). وأمّا إن كانت النسبة بينهما العموم المطلق ، فلا

__________________

(١) قد تقدّم ذلك في ص ٤٨٤.

٥١٦

ينبغي الاشكال في تخصيص الكتاب والسنّة به ما لم يكن خبر آخر معارضاً له ، وإلاّ فيطرح ويؤخذ بالخبر الموافق للكتاب والسنّة بمقتضى أخبار الترجيح.

وأمّا إن كانت النسبة بينهما العموم من وجه فإن كان العموم في كل منهما بالوضع ، يؤخذ بظاهر الكتاب والسنّة ، ويطرح الخبر بالنسبة إلى مورد الاجتماع ، لأ نّه زخرف وباطل بالنسبة إلى مورد الاجتماع بمقتضى ما ذكرناه من التفكيك في الحجية باعتبار مدلول الكلام ، وإن كان العموم في كل منهما بالاطلاق ، يسقط الاطلاقان في مورد الاجتماع ، لما ذكرناه من أنّ الاطلاق غير داخل في مدلول اللفظ ، بل الحاكم عليه هو العقل ببركة مقدمات الحكمة التي لا يمكن جريانها في هذه الصورة ، وذكرنا أنّ المستفاد من الكتاب ذات المطلق لا إطلاقه كي يقال : إنّ مخالف إطلاق الكتاب زخرف وباطل.

ومن هنا يظهر أنّه لو كان العموم في الخبر وضعياً ، وفي الكتاب أو السنّة إطلاقياً ، يقدّم عموم الخبر في مورد الاجتماع ، بعد ما ذكرناه سابقاً من عدم تمامية الاطلاق مع وجود العموم الوضعي في قباله.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، فانّه المبدأ وإليه المعاد.

٥١٧
٥١٨

الإجتهاد والتقليد

٥١٩
٥٢٠