موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

التنبيه الثامن

في البحث عن الأصل المثبت ، وأ نّه هل تترتب بالاستصحاب الآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية أو العادية للمتيقن؟ ولا يخفى أنّ مورد البحث ما إذا كانت الملازمة بين المستصحب ولوازمه في البقاء فقط ، لأنّه لو كانت الملازمة بينهما حدوثاً وبقاءً ، كان اللازم بنفسه متعلق اليقين والشك ، فيجري الاستصحاب في نفسه بلا احتياج إلى الالتزام بالأصل المثبت.

وأمّا إذا كانت الملازمة في البقاء فقط ، فاللازم بنفسه لا يكون مجرىً للاستصحاب ، لعدم كونه متيقناً سابقاً ، فهذا هو محل الكلام في اعتبار الأصل المثبت وعدمه ، وذلك كما إذا شككنا في وجود الحاجب وعدمه عند الغسل ، فبناءً على الأصل المثبت يجري استصحاب عدم وجود الحاجب ، ويترتب عليه وصول الماء إلى البشرة ، فيحكم بصحة الغسل مع أنّ وصول الماء إلى البشرة لم يكن متيقناً سابقاً ، وبناءً على عدم القول به ، لا بدّ من إثبات وصول الماء إلى البشرة من طريق آخر غير الاستصحاب ، وإلاّ لم يحكم بصحة الغسل. وحيث إنّ المشهور حجية مثبتات الأمارات دون مثبتات الاصول ، فلا بدّ من بيان الفرق بين الأصل والامارة ، ثمّ بيان وجه حجية مثبتات الأمارة دون الأصل ، فنقول :

المشهور بينهم أنّ الفرق بين الاصول والأمارات أنّ الجهل بالواقع والشك فيه مأخوذ في موضوع الاصول دون الأمارات ، بل الموضوع المأخوذ في لسان أدلة حجيتها هو نفس الذات بلا تقييد بالجهل والشك ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ

١٨١

جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...)(١) فانّ الموضوع للحجية بمفاد المفهوم هو إتيان غير الفاسق بالنبأ من دون اعتبار الجهل فيه ، وكذا قوله عليه‌السلام : «لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا» (٢) فان موضوع الحجية فيه هو رواية الثقة بلا تقييد بأمر آخر ، هذا هو المشهور بينهم.

وللمناقشة فيه مجال واسع ، لأنّ الأدلة الدالة على حجية الأمارات وإن كانت مطلقةً بحسب اللفظ ، إلاّأ نّها مقيدة بالجهل بالواقع بحسب اللب ، وذلك لما ذكرناه غير مرة (٣) من أنّ الاهمال بحسب مقام الثبوت غير معقول ، فلا محالة تكون حجية الأمارات إمّا مطلقة بالنسبة إلى العالم والجاهل ، أو مقيدة بالعالم ، أو مختصة بالجاهل. ولا مجال للالتزام بالأوّل والثاني ، فانّه لا يعقل كون العمل بالأمارة واجباً على العالم بالواقع ، وكيف يعقل أن يجب على العالم بوجوب شيء أن يعمل بالأمارة الدالة على عدم الوجوب مثلاً ، فبقي الوجه الأخير ، وهو كون العمل بالأمارة مختصاً بالجاهل ، وهو المطلوب.

فدليل الحجية في مقام الاثبات وإن لم يكن مقيداً بالجهل ، إلاّأنّ الحجية مقيدة به بحسب اللب ومقام الثبوت ، مضافاً إلى أنّه في مقام الاثبات أيضاً مقيد به في لسان بعض الأدلة كقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٤) فقد استدل به على حجية الخبر تارةً ، وعلى حجية فتوى المفتي اخرى ، وكلاهما من الأمارات وقيّد بعدم العلم بالواقع. فلا فرق بين الأمارات

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ٦.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٤٩ و ١٥٠ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٤٠ (باختلاف يسير).

(٣) راجع على سبيل المثال محاضرات في اصول الفقه ١ : ٥٣٤.

(٤) النحل ١٦ : ٤٣ والأنبياء ٢١ : ٧.

١٨٢

والاصول من هذه الجهة. فما ذكروه ـ من أنّ الجهل بالواقع مورد للعمل بالأمارة وموضوع للعمل بالأصل ـ مما لا أساس له.

وذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) وجهاً آخر : وهو أنّ الأدلة الدالة على اعتبار الأمارات تدل على حجيتها بالنسبة إلى مدلولها المطابقي ومدلولها الالتزامي ، فلا قصور من ناحية المقتضي في باب الأمارات ، بخلاف الاستصحاب فانّ مورد التعبد فيه هو المتيقن الذي شك في بقائه ، وليس هذا إلاّالملزوم دون لازمه ، فلا يشمله دليل الاستصحاب ، فاذا قُدّ رجل تحت اللحاف نصفين ولم يعلم أنّه كان حياً ، فباستصحاب الحياة لا يمكن إثبات القتل ، لأن مورد التعبد الاستصحابي هو المتيقن الذي شك في بقائه وهو الحياة دون القتل. وكذا غيره من الأمثلة التي ذكرها الشيخ (٢) قدس‌سره.

ولا يمكن الالتزام بترتب الآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية أو العادية ، لأجل القاعدة المعروفة ، وهي أنّ أثر الأثر أثر على طريقة قياس المساواة ، لأن هذه الكلية مسلّمة فيما كانت الآثار الطولية من سنخ واحد ، بأن كان كلّها آثاراً عقلية ، أو آثاراً شرعية ، كما في الحكم بنجاسة الملاقي للنجس ونجاسة ملاقي الملاقي وهكذا ، فحيث إنّ لازم نجاسة الشيء نجاسة ملاقيه ولازم نجاسة الملاقي نجاسة ملاقي الملاقي وهكذا ، فكل هذه اللوازم الطولية شرعية ، فتجري قاعدة أنّ أثر الأثر أثر ، بخلاف المقام فانّ الأثر الشرعي لشيء لا يكون أثراً شرعياً لما يستلزمه عقلاً أو عادةً ، فلا يشمله دليل حجية الاستصحاب.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤١٤ ـ ٤١٦ / التنبيه السابع من تنبيهات الاستصحاب.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٦٦٠ و ٦٦٤.

١٨٣

وفيه : أنّ عدم دلالة أدلة الاستصحاب على التعبد بالآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية أو العادية وإن كان مسلّماً ، إلاّأنّ دلالة أدلة حجية الخبر على حجيته حتى بالنسبة إلى اللازم غير مسلّم ، لأنّ الأدلة تدل على حجية الخبر ـ والخبر والحكاية من العناوين القصدية ـ فلا يكون الاخبار عن الشيء إخباراً عن لازمه ، إلاّإذا كان اللازم لازماً بالمعنى الأخص ، وهو الذي لا ينفك تصوّره عن تصور الملزوم ، أو كان لازماً بالمعنى الأعم مع كون المخبر ملتفتاً إلى الملازمة ، فحينئذ يكون الاخبار عن الشيء إخباراً عن لازمه.

بخلاف ما إذا كان اللازم لازماً بالمعنى الأعم ولم يكن المخبر ملتفتاً إلى الملازمة ، أو كان منكراً لها ، فلا يكون الاخبار عن الشيء إخباراً عن لازمه ، فلا يكون الخبر حجةً في مثل هذا اللازم ، لعدم كونه خبراً بالنسبة إليه ، فاذا أخبر أحد عن ملاقاة يد زيد للماء القليل مثلاً ، مع كون زيد كافراً في الواقع ، ولكنّ المخبر عن الملاقاة منكر لكفره ، فهو مخبر عن الملزوم وهو الملاقاة ، ولا يكون مخبراً عن اللازم وهو نجاسة الماء ، لما ذكرناه من أنّ الاخبار من العناوين القصدية ، فلا يصدق إلاّمع الالتفات والقصد ، ولذا ذكرنا في محلّه (١) وفاقاً للفقهاء أنّ الاخبار عن شيء يستلزم تكذيب النبي أو الإمام عليهم‌السلام لا يكون كفراً إلاّمع التفات المخبر بالملازمة.

وبالجملة : إنّ ما أفاده قدس‌سره في وجه عدم حجية المثبت في باب الاستصحاب متين ، إلاّأنّ ما ذكره في وجه حجيته في باب الأمارات من أنّ الاخبار عن الملزوم إخبار عن لازمه فتشمله أدلة حجية الخبر غير سديد ، لما عرفت.

__________________

(١) شرح العروة ٣ : ٥٣.

١٨٤

وذكر المحقق النائيني (١) قدس‌سره وجهاً ثالثاً : وهو أنّ المجعول في باب الأمارات هي الطريقية واعتبارها علماً بالتعبد ، كما يظهر ذلك من الأخبار المعبّرة عمّن قامت عنده الأمارة بالعارف كقوله عليه‌السلام : «من نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ...» (٢) فيكون مَن قامت عنده الأمارة عارفاً تعبدياً بالأحكام ، فكما أنّ العلم الوجداني بالشيء يقتضي ترتب آثاره وآثار لوازمه ، فكذلك العلم التعبدي الجعلي ، بخلاف الاستصحاب ، فانّ المجعول فيه هو الجري العملي على طبق اليقين السابق ، وحيث إنّ اللازم لم يكن متيقناً ، فلا وجه للتعبد به ، فالفرق بين الأمارة والأصل من ناحية المجعول.

وفيه أوّلاً : عدم صحة المبنى ، فانّ المجعول في باب الاستصحاب أيضاً هو الطريقية واعتبار غير العالم عالماً بالتعبد ، فانّه الظاهر من الأمر بابقاء اليقين وعدم نقضه بالشك ، فلا فرق بين الأمارة والاستصحاب من هذه الجهة ، بل التحقيق أنّ الاستصحاب أيضاً من الأمارات ، ولا ينافي ذلك تقديم الأمارات عليه ، لأن كونه من الأمارات لا يقتضي كونه في عرض سائر الأمارات ، فانّ الأمارات الاخر أيضاً بعضها مقدّم على بعض ، فانّ البينة مقدّمة على اليد ، وحكم الحاكم مقدّم على البينة ، والاقرار مقدّم على حكم الحاكم. وسيأتي (٣) وجه تقديم الأمارات على الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

وثانياً : أنّا ننقل الكلام إلى الأمارات ، فانّه لا دليل على حجية مثبتاتها. وما ذكره من أنّ العلم الوجداني بشيء يقتضي ترتب جميع الآثار حتى ما كان

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٣٠ ، فوائد الاصول ٤ : ٤٨٧ ـ ٤٨٩.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٣٦ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١.

(٣) في ص ٢٩٣.

١٨٥

منها بتوسط اللوازم العقلية أو العادية ، فكذا العلم التعبدي ، غير تام لأنّ العلم الوجداني إنّما يقتضي ذلك ، لأنّه من العلم بالملزوم يتولد العلم باللازم بعد الالتفات إلى الملازمة ، فترتب آثار اللازم ليس من جهة العلم بالملزوم ، بل من جهة العلم بنفس اللازم المتولد من العلم بالملزوم ، ولذا يقولون : إنّ العلم بالنتيجة يتولد من العلم بالصغرى والعلم بالكبرى ، فانّ العلم بالصغرى هو العلم بالملزوم ، والعلم بالكبرى هو العلم بالملازمة ، فيتولد من هذين العلمين العلم الوجداني باللازم وهو العلم بالنتيجة ، بخلاف العلم التعبدي المجعول ، فانّه لا يتولد منه العلم الوجداني باللازم وهو واضح ، ولا العلم التعبدي به لأنّ العلم التعبدي تابع لدليل التعبد ، وهو مختص بالملزوم دون لازمه لما عرفت من أنّ المخبر إنّما أخبر عنه لا عن لازمه.

فالذي تحصّل مما ذكرناه في المقام : أنّ الصحيح عدم الفرق بين الأمارات والاستصحاب ، وعدم حجية المثبتات في المقامين ، فانّ الظن في تشخيص القبلة وإن كان من الأمارات المعتبرة بمقتضى روايات خاصة (١) واردة في الباب ، لكنّه إذا ظنّ المكلف بكون القبلة في جهة ، وكان دخول الوقت لازماً لكون القبلة في هذه الجهة لتجاوز الشمس عن سمت الرأس على تقدير كون القبلة في هذه الجهة ، فلا ينبغي الشك في عدم صحة ترتيب هذا اللازم وهو دخول الوقت ، وعدم جواز الدخول في الصلاة. نعم ، تكون مثبتات الأمارة حجةً في باب الاخبار فقط ، لأجل قيام السيرة القطعية من العقلاء على ترتيب اللوازم على الاخبار بالملزوم ولو مع الوسائط الكثيرة ، ففي مثل الاقرار والبينة وخبر العادل يترتب جميع الآثار ولو كانت بوساطة اللوازم العقلية أو العادية ، وهذا

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٠٧ / أبواب القبلة ب ٦ ح ١ وغيره.

١٨٦

مختص بباب الاخبار وما يصدق عليه عنوان الحكاية ، دون غيره من الأمارات.

بقي أمران لا بدّ من التنبيه عليهما :

الأمر الأوّل : أنّه لو قلنا بحجية الأصل المثبت في نفسه بمعنى ترتب الآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية أو العادية ، فهل يكون معارضاً باستصحاب عدم تلك اللوازم لكونها مسبوقةً بالعدم فتكون الاصول المثبتة ساقطة عن الحجية لابتلائها بالمعارض دائماً أم لا؟

ذكر الشيخ (١) قدس‌سره أنّه على تقدير القول بحجية الأصل المثبت لا معنى لمعارضته باستصحاب عدم اللازم ، لكون استصحاب بقاء الملزوم حاكماً على استصحاب عدم اللازم ، فانّ استصحاب بقاء الملزوم على تقدير حجية الأصل المثبت يرفع الشك في اللازم ، فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب فيه ، فانّ الآثار الشرعية الثابتة بتوسط اللوازم العقلية أو العادية ، تكون حينئذ كالآثار الشرعية التي ليست لها واسطة في عدم معقولية المعارضة بين استصحاب بقاء الملزوم واستصحاب عدم اللازم ، فلو تمّ التعارض هنا ، لتم هناك أيضاً ، لكونها أيضاً مسبوقةً بالعدم ، فكما أنّ استصحاب الطهارة في الماء يرفع الشك في نجاسة الثوب المغسول به ، ولا مجال لجريان استصحاب النجاسة كي يقع التعارض بينه وبين استصحاب طهارة الماء ، فكذا الحال في الآثار الشرعية مع الوسائط العقلية أو العادية على القول بحجية الأصل المثبت ، هذا.

والصحيح في المقام : هو التفصيل فان اعتبار الأصل المثبت يتصور على أنحاء :

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٦١.

١٨٧

الأوّل : أن نقول باعتباره من جهة القول بأن حجية الاستصحاب لأجل إفادته الظن بالبقاء ، وأنّ الظن بالملزوم يستلزم الظن باللازم لا محالة ، وعليه فلا معنى للمعارضة بين الاستصحابين ، لأنّه بعد حصول الظن باللازم بجريان الاستصحاب في الملزوم لايبقى مجال لاستصحاب عدم اللازم ، ولايمكن حصول الظن بعدمه من الاستصحاب المذكور ، لعدم إمكان اجتماع الظن بوجود شيء مع الظن بعدمه ، فما ذكره الشيخ قدس‌سره صحيح على هذا المبنى.

الثاني : أن نقول بحجية الأصل المثبت لأجل أنّ التعبد بالملزوم بترتيب آثاره الشرعية يقتضي التعبد باللازم بترتيب آثاره الشرعية أيضاً ، فتكون اللوازم كالملزومات مورداً للتعبد الشرعي ، ولا معنى للتعارض على هذا المبنى أيضاً ، فانّه بعد البناء على تحقق اللازم تعبداً لا يبقى شك فيه حتى يجري الاستصحاب في عدمه. فما ذكره الشيخ قدس‌سره من الحكومة وإن كان صحيحاً على هذا المبنى أيضاً ، إلاّأنّ إثبات هذا المعنى على القول بحجية الأصل المثبت دونه خرط القتاد.

الثالث : أن نقول به من جهة أنّ التعبد بالملزوم المدلول عليه بأدلة الاستصحاب عبارة عن ترتب جميع آثاره الشرعية حتى الآثار مع الواسطة ، فان هذه الآثار أيضاً آثار للملزوم ، لأن أثر الأثر أثر. وعلى هذا المبنى يقع التعارض بين الاستصحابين ، لأنّ اللازم على هذا المبنى ليس بنفسه مورداً للتعبد بالاستصحاب الجاري في الملزوم ، وحيث كان مسبوقاً بالعدم فيجري استصحاب العدم فيه ، ومقتضاه عدم ترتب آثاره الشرعية ، فيقع التعارض بينه وبين الاستصحاب الجاري في الملزوم في خصوص هذه الآثار.

وبعبارة اخرى : على هذا المبنى لنا يقينان : يقين بوجود الملزوم سابقاً ، ويقين بعدم اللازم سابقاً ، فبمقتضى اليقين بوجود الملزوم يجري الاستصحاب

١٨٨

فيه ، ومقتضاه ترتيب جميع آثاره الشرعية حتى آثاره التي تكون مع الواسطة ، وبمقتضى اليقين بعدم اللازم يجري استصحاب العدم فيه ، ومقتضاه عدم ترتيب آثاره الشرعية التي كانت آثاراً للملزوم مع الواسطة ، فيقع التعارض بين الاستصحابين في خصوص هذه الآثار.

فتحصّل مما ذكرناه : أنّه لا يمكن القول باعتبار الأصل المثبت ، من جهة عدم المقتضي لعدم دلالة أدلة الاستصحاب على لزوم ترتيب الآثار مع الواسطة العقلية أو العادية ، ومن جهة وجود المانع والابتلاء بالمعارض على تقدير تسليم وجود المقتضي له.

الأمر الثاني : أنّه استثنى الشيخ قدس‌سره (١) من عدم حجية الأصل المثبت ما إذا كانت الواسطة خفيةً بحيث يعدّ الأثر أثراً لذي الواسطة في نظر العرف ـ وإن كان في الواقع أثراً للواسطة ـ كما في استصحاب عدم الحاجب ، فان صحة الغسل ورفع الحدث وإن كان في الحقيقة أثراً لوصول الماء إلى البشرة ، إلاّأ نّه بعد صب الماء على البدن يعدّ أثراً لعدم الحاجب عرفاً.

وزاد صاحب الكفاية (٢) مورداً آخر لاعتبار الأصل المثبت ، وهو ما إذا كانت الواسطة بنحو لا يمكن التفكيك بينها وبين ذي الواسطة في التعبد عرفاً ، فتكون بينهما الملازمة في التعبد عرفاً ، كما أنّ بينهما الملازمة بحسب الوجود واقعاً ، أو كانت الواسطة بنحو يصح انتساب أثرها إلى ذي الواسطة ، كما يصح انتسابه إلى نفس الواسطة ، لوضوح الملازمة بينهما.

ومثّل له في هامش الرسائل (٣) بالعلة والمعلول تارةً وبالمتضايفين اخرى ،

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٦٤ و ٦٦٥.

(٢) كفاية الاصول : ٤١٥ و ٤١٦.

(٣) درر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٣٥٥ و ٣٦٠.

١٨٩

بدعوى أنّ التفكيك بين العلة والمعلول في التعبد مما لا يمكن عرفاً ، وكذا التفكيك بين المتضايفين ، فاذا دلّ دليل على التعبد بابوّة زيد لعمرو مثلاً ، فيدل على التعبد ببنوّة عمرو لزيد ، فكما يترتب أثر ابوّة زيد لعمرو كوجوب الانفاق لعمرو مثلاً ، كذا يترتب أثر بنوّة عمرو لزيد كوجوب إطاعة زيد مثلاً ، لأنّه كما يجب على الأب الانفاق للابن ، كذلك يجب على الابن إطاعة الأب ، والأوّل أثر للُابوّة ، والثاني أثر للبنوّة مثلاً ، أو نقول : إنّ أثر البنوّة أثر للُابوّة أيضاً ، لوضوح الملازمة بينهما ، فكما يصح انتساب وجوب الاطاعة إلى البنوّة ، كذا يصح انتسابه إلى الابوّة أيضاً. وكذا الكلام في الاخوّة ، فاذا دلّ دليل على التعبد بكون زيد أخاً لهند مثلاً ، فيدل على التعبد بكون هند اختاً لزيد ، لعدم إمكان التفكيك بينهما في التعبد عرفاً ، أو نقول يصح انتساب الأثر إلى كل منهما لشدة الملازمة بينهما ، فكما يصح انتساب حرمة التزويج إلى كون زيد أخاً لهند ، كذا يصح انتسابها إلى كون هند اختاً لزيد ، وهكذا سائر المتضايفات.

أقول : أمّا ما ذكره الشيخ قدس‌سره من كون الأصل المثبت حجةً مع خفاء الواسطة لكون الأثر مستنداً إلى ذي الواسطة بالمسامحة العرفية ، ففيه : أنّه لا مساغ للأخذ بهذه المسامحة ، فانّ الرجوع إلى العرف إنّما هو لتعيين مفهوم اللفظ عند الشك فيه أو في ضيقه وسعته مع العلم بأصله في الجملة ، لأن موضوع الحجية هو الظهور العرفي ، فالمرجع الوحيد في تعيين الظاهر هو العرف ، سواء كان الظهور من جهة الوضع أو من جهة القرينة المقالية والحالية ، ولا يجوز الرجوع إلى العرف والأخذ بمسامحاتهم بعد تعيين المفهوم وتشخيص الظهور اللفظي ، كما هو المسلّم في مسألة الكر فانّه بعد ما دلّ الدليل على عدم انفعال الماء إذا كان بقدر الكر الذي هو ألف ومائتا رطل ، ولكنّ العرف يطلقونه

١٩٠

على أقل من ذلك بقليل من باب المسامحة ، فانّه لا يجوز الأخذ بها والحكم بعدم انفعال الأقل ، بل يحكم بنجاسته.

وكذا في مسألة الزكاة بعد تعيين النصاب شرعاً بمقتضى الفهم العرفي من الدليل لا يمكن الأخذ بالمسامحة العرفية ، ففي مثل استصحاب عدم الحاجب إن كان العرف يستظهر من الأدلة أنّ صحة الغسل من آثار عدم الحاجب مع صب الماء على البدن ، فلا يكون هذا استثناءً من عدم حجية الأصل المثبت ، لكون الأثر حينئذ أثراً لنفس المستصحب لا للازمه ، وإن كان العرف معترفاً بأنّ المستظهر منها أنّ الأثر أثر للواسطة ـ كما هو الصحيح ـ فان رفع الحدث وصحة الغسل من آثار تحقق الغسل لا من آثار عدم الحاجب عند صب الماء ، فلا فائدة في خفاء الواسطة بعد عدم كون الأثر أثراً للمستصحب ، فهذا الاستثناء مما لا يرجع إلى محصّل.

وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من حجية الأصل المثبت فيما إذا لم يمكن التفكيك في التعبد بين المستصحب ولازمه عرفاً ، أو كانت الواسطة بنحو يعدّ أثرها أثراً للمستصحب لشدة الملازمة بينهما ، فصحيح من حيث الكبرى ، فانّه لو ثبتت الملازمة في التعبد في موردٍ ، فلا إشكال في الأخذ بها ، إلاّ أنّ الاشكال في الصغرى ، لعدم ثبوت هذه الملازمة في موردٍ من الموارد ، وما ذكره في المتضايفات من الملازمة في التعبد مسلّم إلاّأ نّه خارج عن محل الكلام ، إذ الكلام فيما إذا كان الملزوم فقط مورداً للتعبد ومتعلقاً لليقين والشك ، كما ذكرنا في أوّل هذا التنبيه (١) ، والمتضايفان كلاهما مورد للتعبد الاستصحابي ، فانّه لا يمكن اليقين بابوّة زيد لعمرو بلا يقين ببنوّة عمرو لزيد ، وكذا سائر المتضايفات ، فيجري الاستصحاب في نفس اللازم بلا احتياج إلى القول بالأصل المثبت. هذا إن كان مراده عنوان المتضايفين كما هو الظاهر.

__________________

(١) في ص ١٨١.

١٩١

وإن كان مراده ذات المتضايفين ، بأن كان ذات زيد وهو الأب مورداً للتعبد الاستصحابي ، كما إذا كان وجوده متيقناً فشك في بقائه وأردنا أن نرتّب على بقائه وجود الابن مثلاً ، بدعوى الملازمة بين بقائه إلى الآن وتولد الابن منه ، فهذا من أوضح مصاديق الأصل المثبت ، ولا تصح دعوى الملازمة العرفية بين التعبد ببقاء زيد والتعبد بوجود ولده ، فانّ التعبد ببقاء زيد وترتيب آثاره الشرعية كحرمة تزويج زوجته مثلاً وعدم التعبد بوجود الولد له بمكان من الامكان عرفاً ، فانّه لا ملازمة بين بقائه الواقعي ووجود الولد ، فضلاً عن البقاء التعبدي.

وأمّا ما ذكره من عدم إمكان التفكيك في التعبد بين العلة والمعلول ، فإن كان مراده من العلة هي العلة التامة ففيه : ما ذكرنا في المتضايفين من الخروج عن محل الكلام ، لعدم إمكان اليقين بالعلة التامة بلا يقين بمعلولها ، فتكون العلة والمعلول كلاهما متعلقاً لليقين والشك ومورداً للتعبد بلا احتياج إلى القول بالأصل المثبت.

وإن كان مراده العلة الناقصة ـ أي جزء العلة ـ بأن يراد بالاستصحاب إثبات جزء العلة مع ثبوت الجزء الآخر بالوجدان ، فبضم الوجدان إلى الأصل يثبت وجود المعلول ويحكم بترتب الأثر ، كما في استصحاب عدم الحاجب فانّه بضم صب الماء بالوجدان إلى الأصل المذكور ، يثبت وجود الغسل في الخارج ويحكم برفع الحدث ، ففيه : أنّه لا ملازمة بين التعبد بالعلة الناقصة والتعبد بالمعلول عرفاً ، كيف ولو استثني من الأصل المثبت هذالما بقي في المستثنى منه شيء ، ويلزم الحكم بحجية جميع الاصول المثبتة ، فانّ الملزوم ولازمه إمّا أن يكونا من العلة الناقصة ومعلولها ، وإمّا أن يكونا معلولين لعلة ثالثة ، وعلى كلا التقديرين يكون استصحاب الملزوم موجباً لاثبات اللازم بناءً على الالتزام

١٩٢

بهذه الملازمة ، فلا يبقى مورد لعدم حجية الأصل المثبت.

فالذي تحصّل مما ذكرناه : عدم حجية الأصل المثبت مطلقاً ، لعدم دلالة أخبار الباب على أزيد من التعبد بما كان متيقناً وشك في بقائه ، فلا دليل على التعبد بآثار ما هو من لوازم المتيقن.

ثمّ إنّه قد تمسك جماعة من القدماء في عدّة من الفروع بالأصل المثبت ، إمّا لأجل الالتزام بحجيته ، وإمّا لأجل عدم الالتفات إلى عدم شمول الأدلة له ، فانّ مسألة عدم حجية الأصل المثبت من المسائل المستحدثة ، ولم تكن معنونة في كلمات القدماء.

وكيف كان ينبغي لنا التكلم في جملة من هذه الفروع التي نسب إليهم التمسك فيها بالأصل المثبت.

الفرع الأوّل : ما إذا لاقى شيء نجساً أو متنجساً ، وكان الملاقي أو الملاقى رطباً قبل الملاقاة ، فشككنا في أنّ الرطوبة كانت باقية حين الملاقاة أم لا ، فتمسكوا باستصحاب الرطوبة وحكموا بنجاسة الملاقي ، فان قلنا بكون موضوع التنجس بالملاقاة مركباً من الملاقاة والرطوبة في أحد الطرفين ، فلا إشكال في جريان استصحاب الرطوبة ولا يكون من الأصل المثبت ، لأنّ أحد جزأي الموضوع محرز بالوجدان وهو الملاقاة ، والجزء الآخر محرز بالأصل وهو الرطوبة ، فيترتب الأثر حينئذ وهو الحكم بنجاسة الملاقي ، وإن قلنا بأن موضوعه هي السراية وأ نّه لا يحكم بنجاسة الملاقي ولو مع العلم بالرطوبة إذا كانت ضعيفة غير موجبة للسراية ، فلا مجال لاستصحاب الرطوبة ، لكونه من الأصل المثبت ، فانّ الأثر الشرعي على هذا المبنى مترتب على السراية ، وهو شيء بسيط ولم يكن متيقناً حتى يكون مورداً للتعبد الاستصحابي ، بل هو من

١٩٣

اللوازم العادية لبقاء الرطوبة ، فالحكم بالنجاسة لاستصحاب الرطوبة متوقف على القول بالأصل المثبت.

والصحيح من الوجهين هو الثاني ، لأنّه لم يرد بيان من الشارع يستفاد منه موضوع التنجس ، فلا محالة يكون بيانه موكولاً إلى العرف ، ومن الظاهر أنّ العرف لا يحكم بالقذارة العرفية إلاّفي مورد السراية ، هذا كلّه في غير الحيوان.

وأمّا في الحيوان كما إذا وقع ذباب على النجاسة الرطبة فطار ووقع في الثوب أو في إناء ماء مثلاً ، وشككنا في بقاء رطوبتها حين الملاقاة ففيه تفصيل ، فانّه إن قلنا بأنّ الحيوان لا ينجس أصلاً كما هو أحد القولين ، فان كانت الرطوبة باقيةً حين الملاقاة ، صار الثوب أو إناء الماء نجساً لملاقاته هذه الرطوبة لا لأجل ملاقاته للذباب ، فاذا شك في وجودها فلا مجال للتمسك باستصحابها ، لكونه من أوضح مصاديق الأصل المثبت ، حتى على القول بكون الموضوع مركباً من الملاقاة والرطوبة ، لعدم إحراز ملاقاة النجاسة حينئذ ، لاحتمال جفاف الرطوبة ، فلا تكون هناك نجاسة حتى تتحقق ملاقاتها. واستصحاب الرطوبة لا يثبت ملاقاة النجاسة إلاّعلى القول بالأصل المثبت.

وبعبارة اخرى : بناءً على القول بعدم تنجس الحيوان ، لايمكن الحكم بنجاسة الملاقي في مفروض المثال حتى على القول بكون موضوع التنجس هي الملاقاة ورطوبة أحد المتلاقيين ، فانّ ملاقاة النجس غير محرزة بالوجدان لينضم إليها إحراز الرطوبة بالأصل ، فلا بدّ من إثبات الملاقاة بجريان الاستصحاب في الرطوبة ، ولا ينبغي الشك في أنّه من أوضح مصاديق الأصل المثبت.

وأمّا إذا قلنا بأنّ الحيوان ينجس بملاقاة النجاسة ولكنّه يطهر بزوال العين وجفاف الرطوبة بلا احتياج إلى الغسل ، للسيرة القطعية بعدم غسل الحيوانات

١٩٤

مع العلم بنجاستها بملاقاة دم النفاس حين الولادة ، ولجملة من الروايات (١) الدالة على طهارة الطير بعد زوال عين النجاسة عن منقاره ، فان كان الملاقي له في مفروض المثال يابساً كالثوب والبدن ، فالكلام فيه هو الكلام في غيره من أنّ جريان الاستصحاب وعدمه منوط بالقول بكون الموضوع مركباً أم بسيطاً ، فلا حاجة إلى الاعادة. وإن كان الملاقي له رطباً ، كما إذا وقع الذباب المذكور في ظرف الماء أو على الثوب الرطب مثلاً ، فلاينبغي الاشكال في جريان الاستصحاب حتى على القول بكون موضوع التنجس هو السراية ، لأنّ الملاقاة مع رطوبة

__________________

(١) نقل في الوسائل عن الكليني قدس‌سره عن أحمد بن إدريس ومحمّد بن يحيى جميعاً عن محمّد بن أحمد عن أحمد بن الحسن بن فضال عن عمرو بن سعيد عن مصدق بن صدقة عن عمار بن موسى عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال «سئل عمّا تشرب منه الحمامة؟ فقال عليه‌السلام : كل ما أكل لحمه فتوضأ من سؤره واشرب ، وعن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب؟ فقال عليه‌السلام : كل شيء من الطير يتوضأ مما يشرب منه ، إلاّأن ترى في منقاره دماً ، فان رأيت في منقاره دماً ، فلا توضأ منه ولا تشرب».

ونقله عن الشيخ قدس‌سره باسناده عن محمّد بن يعقوب وزاد «وسئل عن ماء شربت منه الدجاجة؟ قال عليه‌السلام : إن كان في منقارها قذر لم يتوضأ منه ولم يشرب ، وإن لم يعلم أنّ في منقارها قذراً ، توضأ منه واشرب».

وعن محمّد بن الحسن باسناده عن محمّد بن أحمد بالاسناد ، وذكر الزيادة وزاد : «وكل ما يؤكل لحمه فليتوضأ منه وليشربه». «وسئل عمّا يشرب منه باز أو صقر أو عقاب؟ فقال عليه‌السلام : كل شيء من الطير يتوضأ مما يشرب منه ، إلاّأن ترى في منقاره دماً ، فلا تتوضأ منه ولا تشرب» [الوسائل ١ : ٢٣٠ ـ ٢٣١ / أبواب الأسئار ب ٤ ح ٢ و ٣ و ٤].

١٩٥

الملاقي محرزة بالوجدان ، والسراية أيضاً كذلك على الفرض ، وتحرز نجاسة الملاقى بالأصل ، فانّ المفروض أنّ الحيوان كان نجساً وشك في بقاء نجاسته ، لاحتمال طهارته بالجفاف ، فيحكم ببقاء نجاسته للاستصحاب ، ويترتب عليه الحكم بنجاسة الملاقي.

وظهر بما ذكرناه أنّ ما ذكره المحقق النائيني (١) قدس‌سره ـ من عدم الفرق بين القول بعدم نجاسة الحيوان والقول بطهارته بزوال العين في جريان الاستصحاب وعدمه ـ ليس على ما ينبغي ، بل التحقيق ما ذكرناه من عدم جريانه على القول الأوّل ، وجريانه على القول الثاني إذا كان الملاقي رطباً. وأمّا إذا كان يابساً فجريانه مبني على القول بكون الموضوع مركباً على ما تقدّم تفصيله في غير الحيوان.

الفرع الثاني : ما إذا شك في يوم أنّه آخر شهر رمضان ، أو أنّه أوّل شهر شوال ، فلا ريب في أنّه يجب صومه بمقتضى استصحاب عدم خروج شهر رمضان ، أو عدم دخول شهر شوال ، وهل يمكن إثبات كون اليوم الذي بعده أوّل شهر شوال ، ليترتب عليه أثره كحرمة الصوم مثلاً بهذا الاستصحاب أم لا؟ فيه تفصيل.

فانّا إذا بنينا على أنّ عنوان الأوّلية مركب من جزأين : أحدهما وجودي ، وهو كون هذا اليوم من شوال. وثانيهما عدمي ، وهو عدم مضي يوم آخر منه قبله ، ثبت بالاستصحاب المذكور كون اليوم المشكوك فيه أوّل شوال ، لأنّ الجزء الأوّل محرز بالوجدان ، والجزء الثاني يحرز بالأصل ، فبضميمة الوجدان إلى الأصل يتم المطلوب.

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٣٨.

١٩٦

وأمّا إذا بنينا على أنّ عنوان الأوّلية أمر بسيط منتزع من وجود يوم من الشهر غير مسبوق بيوم آخر منه ، كعنوان الحدوث المنتزع من الوجود المسبوق بالعدم ، وغير مركب من الوجود والعدم السابق ، لم يمكن إثبات هذا العنوان البسيط بالاستصحاب المذكور ، إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، فانّ الأوّلية بهذا المعنى لازم عقلي للمستصحب ، وغير مسبوق باليقين ، وحيث إنّ التحقيق بساطة معنى الأوّلية بشهادة العرف ، لا يمكن إثباتها بالاستصحاب المزبور.

وقد ذكر المحقق النائيني (١) قدس‌سره أنّ إثبات كون المشكوك فيه أوّل شوال ، وإن لم يمكن الاستصحاب لكونه مثبتاً ، إلاّأ نّه يثبت لأجل النص (٢) الدال على ثبوت العيد برؤية الهلال ، أو بمضي ثلاثين يوماً من شهر رمضان ، فكلما مضى ثلاثون يوماً من شهر رمضان ، فيحكم بكون اليوم الذي بعده يوم العيد.

وهذا الجواب وإن كان صحيحاً ، إلاّأ نّه مختص بيوم عيد الفطر ، لاختصاص النص به ، فلا يثبت به أوّل شهر ذي الحجة مثلاً ، بل لا يثبت غير اليوم الأوّل من سائر أيام شوال ، فاذا كان أثر شرعي لليوم الخامس من شهر شوال مثلاً ، لم يمكن ترتيبه عليه ، لعدم النص فيه ، إلاّأن يتمسك فيه بعدم القول بالفصل.

ولكنّا في غنى عن هذا الجواب ، لامكان إثبات عنوان الأوّلية بالاستصحاب بنحو لا يكون من الأصل المثبت ، بتقريب أنّه بعد مضي دقيقة من اليوم الذي

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٣٩ ، فوائد الاصول ٤ : ٤٩٩ و ٥٠٠.

(٢) كما في الوسائل ١٠ : ٢٦٤ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ١١.

١٩٧

نشك في أوّليته ، نقطع بدخول أوّل الشهر ، لكنّا لا ندري أنّه هو هذا اليوم ليكون باقياً ، أو اليوم الذي قبله ليكون ماضياً ، فنحكم ببقائه بالاستصحاب ، وتترتب عليه الآثار الشرعية كحرمة الصوم مثلاً.

ولا اختصاص لهذا الاستصحاب باليوم الأوّل ، بل يجري في الليلة الاولى وفي سائر الأيام من شهر شوال ومن سائر الشهور لو كان لما في البين أثر شرعي ، فاذا شككنا في يومٍ أنّه الثامن من شهر ذي الحجة أو التاسع منه ، حكمنا بكونه اليوم الثامن ، بالتقريب المزبور. وكذلك نحكم بكون اليوم الذي بعده هو التاسع منه ، لأنّه بمجرد مضي قليل من هذا اليوم نعلم بدخول اليوم التاسع ونشك في بقائه ، فنستصحب بقاءه ، وتترتب عليه آثاره.

وتوهّم أنّ الاستصحاب المزبور لا يترتب عليه الحكم بكون اليوم المشكوك فيه يوم عرفة أو يوم العيد في المثال الأوّل ، فانّه لازم عقلي للمستصحب وهو كون يوم عرفة أو يوم العيد باقياً ، وليس هو مما تعلق به اليقين والشك كما هو ظاهر مدفوع بما بيّناه في جريان الاستصحاب في نفس الزمان ، وحاصله : أنّا لا نحتاج في ترتب الأثر الشرعي إلى إثبات كون هذا اليوم هو يوم عرفة أو يوم العيد ، بل يكفي فيه إحراز بقائه بنحو مفاد كان التامة ، فراجع (١).

الفرع الثالث : ما إذا شك في وجود الحاجب حين صبّ الماء لتحصيل الطهارة من الحدث أو الخبث ، كما إذا احتمل وجود المانع عن وصول الماء إلى البشرة حين الاغتسال ، أو احتمل خروج المذي بعد البول ومنعه عن وصول الماء إلى المخرج ، فربما يقال فيه بعدم الاعتناء بهذا الشك ، نظراً إلى جريان أصالة عدم الحاجب ، ولكنّه غير سديد ، إذ من الواضح أنّ الأثر الشرعي وهو

__________________

(١) راجع ص ١٤٨ ـ ١٥٠.

١٩٨

رفع الحدث أو الخبث مترتب على وصول الماء إلى البشرة وتحقق الغسل خارجاً ، وهو لا يثبت بالأصل المزبور إلاّعلى القول بحجية الأصل المثبت.

وقد ذكر بعضهم : أنّ عدم وجوب الفحص عن الحاجب غير مستند إلى الاستصحاب ليرد عليه ما ذكر ، بل هو مستند إلى السيرة القطعية الجارية من المتدينين على عدم الفحص.

ويرد عليه أوّلاً : أنّه لم تتحقق هذه السيرة ، فان عدم الفحص من المتدينين لعلّه لعدم التفاتهم إلى وجود الحاجب ، أو للاطمئنان بعدمه ، فلم يعلم تحقق السيرة على عدم الفحص مع احتمال وجود الحاجب.

وثانياً : أنّه مع فرض تسليم تحقق السيرة لم يعلم اتصالها بزمان المعصوم عليه‌السلام لتكون كاشفة عن رضاه ، فلعلها حدثت في الأدوار المتأخرة لأجل فتوى جمع من الأعلام به تمسكاً بأصالة عدم الحاجب كما صرح به في بعض الرسائل العملية.

فالتحقيق وجوب الفحص في موارد الشك في وجود الحاجب حتى يحصل العلم أو الاطمئنان بعدمه.

الفرع الرابع : ما إذا وقع الاختلاف بين الجاني وولي الميت ، فادعى الولي موته بالسراية ، وادعى الجاني موته بسبب آخر كشرب السم مثلاً ، وكذا الحال في الملفوف باللحاف الذي قدّ نصفين ، فادعى الولي أنّه كان حياً قبل القد ، وادعى الجاني موته ، فنسب إلى الشيخ (١) قدس‌سره التردد ، نظراً إلى معارضة أصالة عدم سبب آخر في المثال الأوّل ، وأصالة بقاء الحياة في المثال الثاني

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٦٣.

١٩٩

بأصالة عدم الضمان في كليهما. وعن العلامة قدس‌سره (١) القول بالضمان. وعن المحقق (٢) اختيار عدم الضمان.

والتحقيق أن يقال : إنّه إن قلنا بأنّ موضوع الضمان هو تحقق القتل ـ كما هو الظاهر ـ لترتب القصاص والدية في الآيات والروايات (٣) عليه ، فلا بدّ من الالتزام بعدم الضمان في المقام ، لأصالة عدمه ، ولا يمكن إثباته بأصالة عدم سبب آخر ولا باستصحاب الحياة ، إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، فانّ القتل لازم عادي لعدم تحقق سبب آخر ولبقاء حياته.

وإن قلنا بأنّ الموضوع له أمر مركب من الجناية وعدم سبب آخر في المثال الأوّل ، ومن الجناية والحياة في المثال الثاني ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب وإثبات الضمان ، فانّ أحد جزأي الموضوع محرز بالوجدان والآخر بالأصل ، لكن هذا خلاف الواقع ، لعدم كون الموضوع مركباً من الجناية وعدم سبب آخر ولا من الجناية والحياة ، بل الموضوع شيء بسيط وهو القتل. فما ذكره المحقق قدس‌سره من عدم الضمان هو الصحيح ، وأمّا العلامة قدس‌سره فلعله قائل بحجية الأصل المثبت.

وأمّا التردد المنسوب إلى الشيخ قدس‌سره فلا وجه له أصلاً ، فانّه على تقدير القول بالأصل المثبت لا إشكال في الحكم بالضمان كما عليه العلامة قدس‌سره ، وعلى تقدير القول بعدم حجيته لا إشكال في الحكم بعدمه كما عليه

__________________

(١) تحرير الأحكام ٢ : ٢٦١.

(٢) شرائع الاسلام ٤ : ١٠١.

(٣) البقرة ٢ : ١٧٨ والإسراء ١٧ : ٣٣ والوسائل ٢٩ : ٥٢ / أبواب القصاص ب ١٩ وغيره.

٢٠٠