موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

بستر العورتين ، ولا يجوز لبس الحرير مع كون المنوب عنه امرأة ، لأن هذه أحكام جعلت للمباشر للصلاة ، سواء كانت لنفسه أو لغيره.

ومن أحكام الحيثية الثانية وجوب مراعاة تكليف المنوب عنه من حيث القصر والاتمام ، فاذا شك في صحة العمل الصادر عن النائب مع عدم إحراز قصد النيابة ، فالرجوع إلى أصالة الصحة لا يفيد بالنسبة إلى الحكم بفراغ ذمة الميت ، إذ مفادها صحة هذا العمل ولا يثبت بها قصد النيابة عن الميت. نعم ، يحكم باستحقاق النائب للُاجرة بمقتضى أصالة الصحة ، لأن مورد الاجارة هو العمل الصحيح ، وأصل العمل محرز بالوجدان وصحته بأصالة الصحة ، انتهى ملخّصاً.

أقول : التفكيك بين الحكم بفراغ ذمة الميت واستحقاق الاجرة غريب جداً ، فانّ مورد الاجارة ليس هو الاتيان بالعمل الصحيح مطلقاً ، بل الاتيان به نيابةً عن الميت ، ولا يثبت بأصالة الصحة قصد النيابة باعتراف منه قدس‌سره فكيف يحكم باستحقاق الاجرة لجريان أصالة الصحة. فالصحيح عدم الفرق بينهما في عدم ترتبهما على أصالة الصحة إلاّمع إحراز قصد النيابة.

ثمّ إنّ طريق إحراز هذا القصد إخبار العامل ليس إلاّ ، فانّ العلم الوجداني به وقيام البينة عليه متعذر ، لكونه أمراً قلبياً لا يعلمه إلاّالعامل ، فهل يكفي إخباره مطلقاً لانحصار الطريق فيه ، أو بشرط العدالة ، أو بشرط الوثاقة؟ وجوه.

أمّا اعتباره مطلقاً ولو كان فاسقاً غير متحرز عن الكذب ، فلم يدل عليه دليل. واعتبار الاخبار مطلقاً في موارد مخصوصة لانحصار الطريق فيه مختص بموارد النص ، كما في إخبار المرأة عن كونها طاهراً أو حائضاً أو حاملاً أو غير ذلك ، فلا وجه للتعدي عن مورد النص إلى غيره.

٤٠١

وأمّا اعتبار العدالة ، فلم يدل عليه دليل أيضاً ، فالمتعين هو الاكتفاء باخبار العامل إذا كان ثقة ، لما ذكرناه في بحث حجية الخبر (١) من استقرار السيرة العقلائية على العمل بخبر الثقة ولم يردع عنه الشارع.

الجهة الثامنة : قد ذكرنا في بعض تنبيهات الاستصحاب (٢) أنّه لا أصل لما هو المشهور بينهم من حجية مثبتات الأمارات دون الاصول ، إذ لم يدل دليل على حجية المثبت من الأمارات أيضاً إلاّفي باب الاخبار ، لاستقرار سيرة العقلاء على الأخذ باللوازم في باب الاخبار على ما تقدم ، فالبحث عن كون أصالة الصحة من الأمارات أو من الاصول مما لا تترتب عليه ثمرة ، لعدم قيام السيرة على الحمل على الصحة بالنسبة إلى اللوازم ، سواء كانت من الأمارات أو من الاصول.

مضافاً إلى وضوح عدم كونها من الأمارات ، إذ ليس لها جهة كاشفية عن الواقع أصلاً ، غاية الأمر أنّ ظاهر حال المسلم في مقام الامتثال كاشف عن أنّه لايقدم إلاّعلى الاتيان بما هو صحيح عنده ، لا أنّه كاشف عن الصحة الواقعية ، وقد ذكرنا (٣) أنّ مفاد أصالة الصحة هو ترتيب آثار الواقع ، لا الحمل على الصحة عند العامل.

وبالجملة : عدم جواز الأخذ باللوازم في أصالة الصحة مما لا إشكال فيه ، ولا يحتاج إلى ذكر أمثلة ، إلاّأنّ الشيخ قدس‌سره (٤) ذكر في المقام أمثلة

__________________

(١) راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ٢٢٨.

(٢) وهو التنبيه الثامن ، راجع ص ١٨٦.

(٣) في الجهة الثالثة ص ٣٩١.

(٤) فرائد الاصول ٢ : ٧٢٨.

٤٠٢

ثلاثة ونحن نتبعه بذكرها.

المثال الأوّل : ما إذا شك في أنّ الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك كالخمر والخنزير ، أو بعين معيّنة من أعيان ماله ، فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته ، لجريان أصالة الصحة في البيع ، لكونه لازماً لصحة البيع.

أقول : ما ذكره من عدم الحكم بخروج العين عن ملكه مما لا إشكال فيه ، إلاّ أن ابتناء ذلك على عدم حجية أصالة الصحة بالنسبة إلى اللوازم ليس على ما ينبغي ، إذ المثال المذكور ليس مورداً لجريان أصالة الصحة أصلاً ، لما ذكرناه سابقاً (١) من أن جريانها متوقف على إحراز قابلية الفاعل والمورد ، فمع احتمال وقوع البيع على الخمر والخنزير لا مجال لجريان أصالة الصحة.

المثال الثاني : ما نقله عن العلامة (٢) قدس‌سره وهو ما إذا اختلف المؤجر والمستأجر ، فقال المؤجر : آجرتك الدار مثلاً كل شهر بكذا ، وقال المستأجر : آجرتني سنة بكذا ، فالمؤجر يدعي فساد الاجارة ، لعدم تعيين المدة ، والمستأجر يدعي صحتها ، ففي تقديم قول المستأجر نظر.

ومحل استشهاد الشيخ قدس‌سره هو قول العلامة : ففي تقديم قول المستأجر نظر ، إذ الوجه في تقديمه أصالة الصحة ، وكون منافع الدار في هذه السنة للمستأجر لازم عقلي لصحة الاجارة المذكورة ، للعلم بأنّ الاجارة المرددة بين ما يقوله المؤجر وما يقوله المستأجر لو كانت صحيحة ، لوقعت على ما يقوله المستأجر.

__________________

(١) في الجهة الخامسة ص ٣٩٨.

(٢) راجع قواعد الأحكام ٢ : ٣١٠.

٤٠٣

وتحقيق هذا البحث يقتضي التكلم في مقامين : المقام الأوّل : في صحة الاجارة وفسادها فيما إذا قال المؤجر آجرتك كل شهر بدرهم. المقام الثاني : في حكم الاختلاف المذكور على القول بالصحة وعلى القول بالفساد.

أمّا المقام الأوّل : فالمشهور فيه فساد الاجارة ، لعدم تعيين المدة وهو شرط في صحة الاجارة. وذهب بعضهم إلى صحتها بالنسبة إلى الشهر الأوّل ، وفسادها بالنسبة إلى غيره ، وهو التحقيق. أمّا الفساد بالنسبة إلى غير الشهر الأوّل ، فلعدم معلومية المدة ، بل ربما تكون غررية ، كما إذا اختلفت الاجرة في الشهور كما في المشاهد المشرفة ، فان إجارة الدار في أيام الزيارة ليست متساوية مع غيرها. وأمّا الصحة بالنسبة إلى الشهر الأوّل ، فلأن عقد البيع والاجارة وأمثالهما وإن كان بحسب اللفظ واحداً ، إلاّأ نّه بحسب اللب ينحل إلى عقود متعددة بتعدد المتعلق ، فقوله : آجرتك الدار كل شهر بدرهم ، ينحل إلى إجارات متعددة بتعدد الشهور ، فلا مانع من صحة الاجارة بالنسبة إلى الشهر الأوّل ، لكون المدة معلومة ، ولا يضرّ بها بطلان الاجارة بالنسبة إلى غيره.

ولذا ذكرنا (١) أن بيع ما يَملك وما لا يَملك وبيع ما يُملك وما لا يُملك صحيح بالنسبة إلى ما يَملك وما يُملك. والأوّل كما إذا باع مناً من الحنطة من ماله ، ومناً من الحنطة من مال زيد بدرهمين ، وقال : بعتك منّين من الحنطة كل منّ بدرهم ، فلم يمضه زيد. والثاني كما إذا باع شاة وخنزيراً ، وقال : بعتك الشاة والخنزير كل واحدة منهما بدرهم ، فالبيع من هذه الجهة نظير العام الاستغراقي ينحل إلى بيوع متعددة بحسب تعدد أفراد المبيع ، بل ينحل بحسب أجزاء مبيع واحد على تقدير تساوي الأجزاء من حيث القيمة.

__________________

(١) مصباح الفقاهة ٤ : ٣٩٠ ، ٥ : ٥.

٤٠٤

وأمّا المقام الثاني : فعلى القول بالفساد يكون المؤجر مدعياً للفساد والمستأجر مدعياً للصحة ، ولا وجه لتقديم قول المستأجر ، لعدم إحراز وقوع الاجارة على السنة ليحكم بصحتها بمقتضى أصالة الصحة. وجريانها في الاجارة على إجمالها لا يثبت وقوعها على السنة وكون منفعة الدار للمستأجر فيها ، إلاّعلى القول بالأصل المثبت ولا نقول به ـ كما تقدّم (١) ـ فيحكم بتقديم قول المؤجر وفساد الاجارة إلاّأن يثبت المستأجر صحتها.

وأمّا على القول بصحة الاجارة بالنسبة إلى الشهر الأوّل ، فيكون المؤجر أيضاً مدعياً للصحة ، فيدخل في باب التداعي ، إذ المؤجر يدعي فرداً من الاجارة الصحيحة ، والمستأجر يدعي فرداً آخر منها ، فلو لم تقم البينة من طرف أصلاً ، تصل النوبة إلى التحالف ، فيتحالفان وتنفسخ الاجارة بالتحالف ، نظير ما إذا اختلف البائع والمشتري في المثمن مع الاتفاق على صحة البيع ، أو اختلفا في الثمن ، فبعد التحالف ينفسخ البيع ، ويردّ كل من الثمن والمثمن إلى مالكه. وأمّا التقييد بقوله هنا ـ بعد قوله : فالأقوى صحة العقد في الشهر الأوّل ـ على ما في جامع المقاصد (٢) وإن لم يكن في عبارة الشيخ قدس‌سره ، فلم يتضح لنا إلى الآن وجهه.

المثال الثالث : ما نقله الشيخ أيضاً عن العلامة قدس‌سره وهو ما إذا اختلف المؤجر والمستأجر في تعيين المدة أو الاجرة ، فادعى المستأجر التعيين وأنكره المؤجر ، واستشكل في تقديم قول المستأجر لأصالة الصحة ، ثمّ قال :

__________________

(١) في التنبيه الثامن من تنبيهات الاستصحاب ص ١٨١.

(٢) جامع المقاصد ٧ : ٣٠٨.

٤٠٥

والأقوى التقديم فيما لم يتضمن دعوى. وقال في جامع المقاصد (١) في شرح هذه العبارة : إنّ المستأجر إن ادعى تعيين المدة أو الاجرة باجرة المثل أو أزيد منها : لم يتضمن قوله دعوى شيء سوى صحة الاجارة ، فيقدّم قوله بمقتضى أصالة الصحة ، وإن ادعى التعيين بأقل من اجرة المثل يكون مدعياً لشيء زائد على صحة الاجارة يكون ضرراً على المؤجر ، فلا وجه لتقديم قوله ، إذ الزائد المذكور من لوازم صحة الاجارة ، وليست أصالة الصحة حجةً بالنسبة إلى اللوازم كما ذكرنا.

وردّه المحقق النائيني (٢) قدس‌سره أنّه لو ادعى المستأجر التعيين باجرة المثل أو أزيد ، لا مجال لجريان أصالة الصحة ، لعدم ترتب أثر عليها ، فانّ اجرة المثل ثابتة في ذمة المستأجر ، سواء كانت الاجارة صحيحة أم فاسدة. أمّا في صورة الصحة فواضح. وأمّا مع الفساد ، فلقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.

أقول : ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره يتم فيما إذا كان اختلاف المؤجر والمستأجر بعد انقضاء المدة. وأمّا لو كان اختلافهما في أثناء المدة فلا يكون جريان أصالة الصحة لغواً ، فانّه لو استأجر داراً في شهر مثلاً ، واختلفا في الاجرة في أثناء الشهر ، فادعى المستأجر تعيين الاجرة وأنكره المؤجر ، فأصالة الصحة وإن كانت بالنسبة إلى ثبوت اجرة المثل غير مثمرة ، إلاّأ نّها تثمر بالنسبة إلى تسليم العين ، فعلى تقدير جريانها ليس للمؤجر مطالبة العين المستأجرة إلى انقضاء المدة ، وللمستأجر الانتفاع بها في بقية المدة ، بخلاف ما إذا

__________________

(١) جامع المقاصد ٧ : ٣١٠.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢٥٣ ، فوائد الاصول ٤ : ٦٦٩.

٤٠٦

حكمنا بعدم جريانها ، إذ عليه للمؤجر مطالبة العين وعلى المستأجر تسليمها ، والظاهر أنّ مورد كلام العلامة هو ما إذا كان الاختلاف قبل انقضاء المدة ، فالوجه في شرح مراده هو ما ذكره في جامع المقاصد.

الجهة التاسعة : في حكم معارضة أصالة الصحة مع الاستصحاب ، وهي المقصود بالبحث هنا ، فنقول : الاستصحاب المعارض بأصالة الصحة إمّا حكمي ، وإمّا موضوعي. أمّا الاستصحاب الحكمي ، فلا ينبغي الاشكال في تقديم أصالة الصحة عليه ، كما إذا شك في صحة بيع لاحتمال الاختلال في شرط من شروطه مع إحراز قابلية الفاعل والمورد ، فلا مجال للتمسك بالاستصحاب الحكمي ـ أي استصحاب عدم الانتقال المعبّر عنه بأصالة الفساد ـ بل المتعين هو الحكم بالصحة لأصالة الصحة.

ولا تترتب على البحث عن أنّ تقديمها على الاستصحاب الحكمي هل هو من باب الحكومة أو التخصيص ثمرة عملية ، فلا نتعرض للتكلم في هذه الجهة ، إذ بعد استقرار السيرة على الحمل على الصحة في مثل المثال المذكور تكون أصالة الصحة مقدّمةً على الاستصحاب ، سواء كان من باب الحكومة أم التخصيص ، فلا فائدة في البحث عن هذه الجهة.

وأمّا الاستصحاب الموضوعي ـ كما إذا شك في صحة بيع لكون المبيع خمراً سابقاً ، وشك في انقلابه خلاً حين البيع ـ فلا إشكال في جريان الاستصحاب الموضوعي ، فيحكم ببقائه على الخمرية بالتعبد ، فلا يبقى شك في فساد البيع ، لكونه واقعاً على ما هو خمر بحكم الشارع. وكذالو شك في صحة بيعٍ لاحتمال كون أحد المتبائعين غير بالغ ، فبأصالة عدم بلوغه يحرز كون البيع صادراً من غير البالغ ، فيحكم بفساده ، ولا مجال لجريان أصالة الصحة في مثله ، لا لتقديم

٤٠٧

الاستصحاب الموضوعي عليها ، بل لعدم جريانها في نفسها مع قطع النظر عن الاستصحاب المذكور ، لما ذكرناه (١) من أنّها متوقفة على إحراز قابلية الفاعل والمورد ، فمع الشك في قابلية المورد ـ كما في المثال الأوّل ـ أو في قابلية الفاعل ـ كما في المثال الثاني ـ لا تجري أصالة الصحة ، لعدم تحقق السيرة على الحمل على الصحة إلاّبعد إحراز القابلية ، فهي غير جارية ولو لم يجر الاستصحاب أيضاً ، فعدم جريان أصالة الصحة في هذه الأمثلة إنّما هو لعدم المقتضي ، لا لوجود المانع.

واعلم أنّ المحقق النائيني (٢) قدس‌سره ذكر في المقام أنّه على القول بكون أصالة الصحة من الأمارات ، والاستصحاب من الاصول لا إشكال في تقديمها عليه. وعلى القول بالعكس لا إشكال في العكس ، وأطال الكلام في تقديم أحدهما على الآخر على القول بكون كليهما من الأمارات أو من الاصول.

وظهر بما ذكرناه أنّ هذه التفصيلات لا ترجع إلى محصل ، لأنّا ذكرنا أنّ الدليل على أصالة الصحة هي السيرة ، ففي كل مورد جرت السيرة فيه على الحمل على الصحة ، فلا محالة تكون أصالة الصحة جاريةً ومقدمةً على الاستصحاب ولو على القول بكونها من الاصول والاستصحاب من الأمارات ، إذ تحقق السيرة على الحمل على الصحة كالنص المخصص لدليل الاستصحاب ، وفي موردٍ لم يحرز قيام السيرة على الحمل على الصحة فيه ـ كما في موارد الشك في القابلية ـ يقدّم الاستصحاب عليها حتى على القول بكونها من الأمارات والاستصحاب من الاصول ، لعدم جريانها في نفسها ، لا لمعارضة الاستصحاب

__________________

(١) في الجهة الخامسة ص ٣٩٣.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢٥٤ وما بعدها ، راجع أيضاً فوائد الاصول ٤ : ٦٦٩ وما بعدها.

٤٠٨

كما ذكرناه آنفاً ، فعلى القول بكونها من الأمارات تكون حينئذ من الأمارات غير المعتبرة ، ولا إشكال في تقديم الأصل عليها ، هذا تمام الكلام في أصالة الصحة ومعارضتها مع الاستصحاب.

الكلام في تعارض الاستصحاب مع قاعدة اليد

وملخص الكلام فيه : أنّه إن قلنا بكون قاعدة اليد في عرض سائر الأمارات وفي رتبتها ، فلا إشكال في تقديمها على الاستصحاب ، لكونه متأخراً عن سائر الأمارات ، بناءً على كونه منها ، فضلاً عن القول بكونه من الاصول. وإن قلنا بتأخر قاعدة اليد عن سائر الأمارات ، وأ نّها في رتبة الاستصحاب ، فلابدّ من تقديمها على الاستصحاب أيضاً ، لورود أدلتها في موارد الاستصحاب ، فانّ الغالب العلم بكون ما في أيدي الناس مسبوقاً بكونه ملكاً للغير ، إلاّفي المباحات الأصلية ، بل يمكن جريان استصحاب عدم الملكية فيها أيضاً على وجه ، فلا بدّ من تخصيص الاستصحاب بها ، وإلاّ يلزم حمل أدلة قاعدة اليد على الموارد النادرة ، بل يلزم المحذور المنصوص ، وهو اختلال السوق.

نعم ، لا مانع من الرجوع إلى الاستصحاب في موردين ، لا لتقدمه على قاعدة اليد ، بل لعدم جريان القاعدة بنفسها لقصور المقتضي.

المورد الأوّل : ما إذا تقارنت اليد بالاقرار ، كما إذا اعترف ذو اليد بكون المال ملكاً للمدعي ، وادعى انتقاله إليه بالشراء أو الهبة ، فينقلب ذو اليد مدعياً والمدعي منكراً ، فيحكم بكون المال للمدعي بمقتضى الاستصحاب ، إلاّأن يثبت ذو اليد انتقاله إليه. ولا مجال للأخذ بقاعدة اليد ، لعدم الدليل عليها مع

٤٠٩

اقتران اليد بالاعتراف ، فانّ الدليل عليها هي السيرة ، ورواية حفص بن غياث (١) الدالة على الحكم بالملكية على ما في أيدي المسلمين ، المعلل بأ نّه لولا ذلك لما قام للمسلمين سوق. أمّا السيرة فلم يحرز قيامها في المقام ، أي فيما إذا اقترنت اليد بالاعتراف. وأمّا الرواية فلا إطلاق لها يشمل المقام ، إذ لا يلزم تعطيل السوق لو لم يؤخذ بها في مثل المقام.

المورد الثاني : ما إذا كانت اليد مسبوقة بكونها غير يد ملك ، كما إذا كانت أمانية أو عدوانية ، بأن كان المال في يده بالاجارة أو العارية أو غصباً فادعى الملكية ، فلا يمكن الأخذ بقاعدة اليد ، بل يحكم ببقاء ملكية المالك بمقتضى الاستصحاب ، لا لتقدمه على قاعدة اليد ، بل لما ذكرناه من عدم المقتضي للقاعدة مع قطع النظر عن الاستصحاب ، إذ لم يحرز قيام السيرة في المقام ، ولا يكون مشمولاً للرواية المتقدمة على ما ذكرناه في المورد الأوّل ، فلا حاجة إلى الاعادة.

__________________

(١) نقل في الوسائل عن محمّد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه ، وعلي بن محمّد القاساني جميعاً عن القاسم بن يحيى عن سليمان بن داود عن حفص بن غياث عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : «قال له رجل : إذا رأيت شيئاً في يد رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال عليه‌السلام : نعم ، قال الرجل : أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له فلعله لغيره؟ فقال أبو عبدالله عليه‌السلام : أفيحل الشراء منه؟ قال : نعم ، فقال أبو عبدالله عليه‌السلام : فلعله لغيره فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك ثمّ تقول بعد الملك : هو لي وتحلف عليه ، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك ، ثمّ قال أبو عبدالله عليه‌السلام : لو لم يجز هذالم يقم للمسلمين سوق» [الوسائل ٢٧ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣ / أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ٢٥ ح ٢].

٤١٠

هذا ، وذكر المحقق النائيني (١) قدس‌سره أنّ الوجه في تقديم الاستصحاب على قاعدة اليد في هذا المورد أنّ أدلة قاعدة اليد مختصة بموارد الجهل بحال اليد ، بأن لايعلم كونها مالكية أو غير مالكية ، واليد في المقام غير مالكية سابقاً ، وبعد الشك في صيرورتها مالكية يحكم ببقائها على ما كانت بمقتضى الاستصحاب ، فيحرز كونها غير مالكية بالتعبد ، فلا يبقى موضوع لقاعدة اليد ، لكون موضوعها اليد المجهولة حالها على ما ذكرناه ، فتقديم هذا الاستصحاب ـ أي أصالة عدم صيرورة اليد مالكية ـ على قاعدة اليد إنّما هو لكونه أصلاً موضوعياً جارياً في موضوع قاعدة اليد. والاستصحاب الذي تكون قاعدة اليد مقدّمة عليه هو الاستصحاب الجاري في مدلول قاعدة اليد ـ أي الملكية ـ لا في نفسها.

وفيه : أنّ لسان أدلة قاعدة اليد مطلق لم يؤخذ فيه قيد كون اليد مجهولة الحال. نعم ، لا مجال للأخذ بقاعدة اليد مع العلم بكون اليد غير مالكية ، كما أنّ الأمر في جميع الأمارات كذلك ، فانّه لا يمكن الأخذ بها مع العلم بمخالفتها للواقع.

فالصحيح في تقديم الاستصحاب على قاعدة اليد في هذا المورد هو ما ذكرناه من عدم تمامية المقتضي لها مع قطع النظر عن الاستصحاب ، بحيث لا يمكن الأخذ بها ولو فرض عدم جريان الاستصحاب ، بل لا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر.

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٩٧ ـ ١٩٨ ، فوائد الاصول ٤ : ٦٠٤ ـ ٦٠٦.

٤١١

الكلام في تعارض الاستصحاب مع القرعة

والذي يستفاد من مجموع الروايات الواردة في القرعة ومواردها أنّها جعلت في كل مورد لا يعلم حكمه الواقعي ولا الظاهري ، وهذا المعنى هو المراد من لفظ المشكل في قولهم : «إنّ القرعة لكل أمر مشكل» وإن لم نعثر على رواية بهذا اللفظ ، وهو المراد أيضاً من لفظ المشكل المذكور في متون الكتب الفقهية ، فانّ المراد من قولهم : هو مشكل أو فيه إشكال ، عدم العلم بالحكم الواقعي ، وعدم الاطمئنان بالحكم الظاهري لجهة من الجهات ، لا عدم العلم والاطمئنان بالحكم الواقعي فقط ، إذ الاشكال بهذا المعنى موجود في جميع الأحكام الفقهية سوى القطعيات.

وبالجملة : مورد القرعة نظراً إلى مورد الروايات الواردة فيها هو اشتباه الحكم الواقعي والظاهري ، فالمراد من المجهول في قوله عليه‌السلام في رواية : «كل مجهول ففيه القرعة» (١) هو المجهول المطلق ، أي المجهول من حيث الحكم الواقعي والظاهري.

وظهر بما ذكرناه أنّه يقدم الاستصحاب على القرعة تقدم الوارد على المورود ، إذ بالاستصحاب يحرز الحكم الظاهري ، فلا يبقى للقرعة موضوع بعد كون موضوعه الجهل بالحكم الواقعي والظاهري على ما ذكرناه ، بل يقدّم على القرعة أدنى أصل من الاصول كأصالة الطهارة وأصالة الحل وغيرهما مما ليس له نظر إلى الواقع ، بل يعيّن الوظيفة الفعلية في ظرف الشك في الواقع ، إذ بعد تعيين الوظيفة الظاهرية تنتفي القرعة بانتفاء موضوعه.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٥٩ ـ ٢٦٠ / أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٣ ح ١١.

٤١٢

وظهر بما ذكرناه أيضاً أنّه لا أساس لما هو المعروف في ألسنتهم : من أنّ أدلة القرعة قد تخصصت في موارد كثيرة ، وكثرة التخصيص صارت موجبة لوهنها ، فلا يمكن الأخذ بها إلاّفي موارد انجبر ضعفها بعمل الأصحاب فيها.

وذلك لأنّ الموارد التي لم يعمل فيها بالقرعة إنّما هو لعدم اشتباه الحكم الظاهري فيها ، لجريان قاعدة من القواعد الظاهرية ، لا لأجل تخصيص أدلة القرعة ، فلم تثبت كثرة التخصيص فيها الموجبة لوهنها.

نعم ، قد يعمل بالقرعة في بعض الموارد مع جريان القاعدة الظاهرية ، للنص الخاص الوارد فيه ، كما إذا اشتبه غنم موطوء في قطيع ، فانّه ورد نص (١) دال على أنّه ينصّف القطيع ويقرع ثمّ يجعل نصفين ويقرع وهكذا إلى أن يعيّن الموطوء ، فيجتنب عنه دون الباقي ، ولولا النص الخاص لكان مقتضى القاعدة هو الاحتياط والاجتناب عن الجميع.

وتحصل مما ذكرناه : عدم جواز الرجوع إلى القرعة في الشبهات الحكمية أصلاً ، إذ المرجع في جميع الشبهات الحكمية هي الاصول العملية التي مفادها أحكام ظاهرية ، فانّ الشبهة الحكمية إن كانت لها حالة سابقة ، فالمرجع فيها هو الاستصحاب ، وإلاّ فإن كان الشك في التكليف فيرجع إلى قاعدة البراءة ، وإن كان الشك في المكلف به ، فلا بدّ من الاحتياط. وأمّا التخيير في موارد دوران الأمر بين المحذورين فهو داخل في البراءة ، إذ معنى التخيير البراءة عن الوجوب والحرمة على ما ذكرناه في محلّه (٢).

فالمورد الوحيد للقرعة هي الشبهات الموضوعية التي لايعلم حكمها الواقعي ،

__________________

(١) الوسائل ٢٤ : ١٦٩ و ١٧٠ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣٠ ح ١ و ٤.

(٢) في الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ٣٨١ وما بعدها.

٤١٣

ولا تجري فيها قاعدة من القواعد الظاهرية ، كما إذا تداعى رجلان في مال عند ثالث معترف بأ نّه ليس له ولم يكن له حالة سابقة ، فانّه ليس مورداً لقاعدة اليد ولا الاستصحاب ولا غيرهما من القواعد ، فلا بدّ من الرجوع إلى القرعة.

بقي شيء : وهو أنّ المستفاد من أدلة القرعة اختصاصها بموارد اشتباه الواقع ، بأن يكون له تعيّن واشتبه على المكلف ، كما في المثال الذي ذكرناه ، ويدل عليه قوله عليه‌السلام : «ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلى الله ، ثمّ اقترعوا إلاّخرج سهم المحق» (١) وقوله عليه‌السلام في ذيل رواية بعد قول الراوي : إنّ القرعة تخطئ وتصيب : «كل ما حكم الله به فليس بمخطئ» (٢).

فلا يرجع إلى القرعة في مورد لا تعيّن له في الواقع أيضاً ، كما إذا طلّق أحد إحدى زوجاته بلا قصد التعيين ، بأن يقول إحدى زوجاتي طالق ، فعلى القول بصحة هذا الطلاق لا يمكن الرجوع إلى القرعة لتعيين المطلقة. هذا إذالم يرد نص خاص ، وإلاّ فلا مانع من الرجوع إلى القرعة وإن كان المورد مما ليس له تعيّن واقعي كما ورد النص ـ في رجل قال : أوّل مملوك أملكه فهو حر ، فورث ثلاثة ـ أنّه يقرع بينهم ، فمن أصابه القرعة اعتق (٣).

هذا تمام الكلام في بحث الاستصحاب وما يلحق به ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الأطهار المعصومين.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨ / أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٣ ح ٤.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٢٥٩ ـ ٢٦٠ / أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٣ ح ١١.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٢٥٧ / أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٣ ح ٢.

٤١٤

التعادل والترجيح

٤١٥
٤١٦

الكلام في التعادل والترجيح

ولا يخفى أنّ هذا البحث من أهم المسائل الاصولية لثبوت التعارض بين جملة من الأدلة ، فلا وجه لجعله خاتمةً لعلم الاصول ـ كما عن بعض ـ المشعر بكونه خارجاً عنه كمبحث الاجتهاد والتقليد. ولا بدّ من التكلم في موضوع التعارض وتعريفه أوّلاً ، وفي حكمه من التساقط أو الأخذ بأحدهما تعييناً أو تخييراً ثانياً.

فنقول : التعارض تنافي مدلول دليلين بالتناقض ، كما إذا دلّ أحدهما على وجوب شيء ، والآخر على عدم وجوبه ، أو بالتضاد كما إذا دلّ أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمته. ويرجع التضاد أيضاً إلى التناقض باعتبار الدلالة الالتزامية ، فانّ الدليل على الوجوب ينفي الحرمة بالالتزام وبالعكس ، فيكون أحدهما دالاً على الوجوب بالمطابقة والآخر على عدمه بالالتزام ، وكذا بالنسبة إلى الحرمة.

فاذن صحّ أن يقال : إنّ التعارض تنافي مدلولي دليلين بالتناقض ، غاية الأمر أنّ التناقض بينهما قد يكون باعتبار المدلول المطابقي فيهما ، وقد يكون باعتبار المدلول المطابقي في أحدهما والالتزامي في الآخر على ما ذكرناه.

ثمّ إنّ التنافي بين مدلولي دليلين إمّا ذاتي وإمّا عرضي. والمراد بالتنافي الذاتي

٤١٧

ما كان التنافي بينهما باعتبار مفهومهما العرفي بالمطابقة أو بالالتزام على ما ذكرناه.

والمراد بالتنافي العرضي ما كان التنافي بينهما من جهة أمر خارج عن مدلولهما العرفي ، كالعلم الاجمالي بعدم مطابقة أحدهما للواقع ، كما إذا دلّ دليل على وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة تعييناً ، والآخر على وجوب صلاة الظهر فيه كذلك ، فانّه لا منافاة بينهما بحسب المفهوم العرفي ، لامكان وجوب كلتيهما ، إلاّ أنّا نعلم بالضرورة من الدين عدم وجوب صلوات ست في يوم واحد ، فلأجل هذا العلم يكون الدليل الدال على وجوب صلاة الجمعة نافياً لوجوب صلاة الظهر بالالتزام ، والدليل على وجوب صلاة الظهر نافياً لوجوب صلاة الجمعة كذلك.

وظهر بما ذكرناه من معنى التعارض : أنّ موارد التخصص والورود والحكومة والتخصيص خارجة عن التعارض ، لعدم التنافي بين مدلول دليلين في هذه الموارد.

أمّا مورد التخصص ، فخروجه عن التعارض واضح ، فانّ التخصص هو خروج موضوع أحد الدليلين عن موضوع الآخر بالوجدان ، فلا مجال لتوهم التنافي بين الدليلين أصلاً ، فاذا دل دليل على حرمة الخمر مثلاً ، لا مجال لتوهم التنافي بينه وبين ما يدل على حلية الماء ، إذ الماء خارج عن موضوع الخمر بالوجدان.

وكذا الورود ، فانّه أيضاً عبارة عن الخروج الموضوعي بالوجدان ، غاية الأمر أنّ الخروج المذكور من جهة التعبد الشرعي ، توضيح ذلك : أنّه بالتعبد الشرعي يتحقق أمران : أحدهما تعبدي والآخر وجداني. أمّا الأمر التعبدي فهو ثبوت المتعبد به ، فانّه ليس بالوجدان بل بالتعبد. وأمّا الأمر الوجداني فهو نفس التعبد ، فانّه ثابت بالوجدان لا بالتعبد وإلاّ يلزم التسلسل ، ولذا ذكرنا في

٤١٨

محلّه (١) أنّ حجية كل أمارة ظنية لا بدّ من أن تنتهي إلى العلم الوجداني ، وإلاّ يلزم التسلسل.

مثلاً إذا تعبدنا الشارع بحجية خبر العادل فحجية الخبر تعبدي ، وأمّا نفس التعبد فهو ثابت بالوجدان ، فالورود هو الخروج الموضوعي بنفس التعبد الثابت بالوجدان ، كما في موارد قيام الدليل الشرعي بالنسبة إلى الاصول العقلية ، كالبراءة والاشتغال والتخيير ، فانّ موضوع حكم العقل بالبراءة عدم البيان ، إذ ملاك حكمه بها هو قبح العقاب بلا بيان ، وقيام الدليل الشرعي يكون بياناً ، فينتفي موضوع حكم العقل بالوجدان ، ببركة التعبد بحجية هذا الدليل.

وكذا الكلام بالنسبة إلى الاشتغال والتخيير ، فان موضوع حكم العقل بالاشتغال احتمال الضرر ، وموضوع حكمه بالتخيير التحير في مقام العمل ، كما في دوران الأمر بين المحذورين ، وبعد قيام الحجة الشرعية لا يبقى احتمال الضرر ولا التحير ليكون مورداً لحكم العقل بدفع الضرر المحتمل ، أو حكمه بالتخيير من جهة اللا حرجية. وهذا مبني على كون التخيير أصلاً في مقابل البراءة والاحتياط ، وأمّا بناءً على كونه راجعاً إلى البراءة ، وأنّ العقل يحكم بقبح العقاب على مخالفة خصوصية كل من التكليفين مع عدم بيانها ، فهو ليس أصلاً برأسه ، وقد مضى الكلام فيه (٢). وأمّا إن كان الخروج الموضوعي بثبوت المتعبد به لا بنفس التعبد ، فهو قسم من الحكومة على ما نتكلم فيه قريباً إن شاء الله تعالى.

وأمّا الحكومة فهي على قسمين :

__________________

(١) راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ١١.

(٢) في الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ٣٨١ ـ ٣٨٦.

٤١٩

القسم الأوّل : ما يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحاً للمراد من الدليل الآخر ، سواء كان مصدّراً بكلمة مفسّرة من نحو أي وأعني ، أم لم يكن مصدّراً بها ولكن كان لسانه شارحاً بحيث لو لم يكن الدليل المحكوم موجوداً لكان الدليل الحاكم لغواً ، كقوله عليه‌السلام : «لا ربا بين الوالد والولد» (١) فانّه شارح للدليل الدال على حرمة الربا ، إذ لو لم يرد دليل على حرمة الربا ، لكان الحكم بعدم الربا بين الوالد والولد لغواً.

ثمّ إنّ الدليل الحاكم الشارح للمراد من الدليل المحكوم قد يكون ناظراً إلى عقد الوضع كما في المثال الذي ذكرناه ، فانّ قوله عليه‌السلام : «لا رِبا بين الوالد والولد» ناظر إلى موضوع الحكم في الأدلة الدالة على حرمة الربا ، وأنّ المراد منه غير الربا بين الوالد والولد ، فيكون نافياً للحكم بلسان نفي الموضوع ، للعلم بتحقق الموضوع فيما إذا تعاملا مع الزيادة ، فالمقصود نفي حرمة الربا بينهما بلسان نفي الموضوع. وكذا قوله عليه‌السلام : «لا سهو للإمام إذا حفظ عليه من خلفه» (٢) بالنسبة إلى قوله عليه‌السلام : «إذا شككت فابن على الأكثر» (٣) وكذا بالنسبة إلى الأدلة الدالة على بطلان الصلاة بالشك. والمراد بالسهو في هذه الرواية وأمثالها هو الشك.

وقد يكون ناظراً إلى عقد الحمل ، كما في قوله عليه‌السلام : «لا ضرر ولا

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٣٥ / أبواب الربا ب ٧ ح ١ و ٣ (فيهما : ليس بين الرجل وولده ربا).

(٢) الوسائل ٨ : ٢٤١ ـ ٢٤٢ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٤ ح ٨ (باختلاف يسير).

(٣) ورد مضمونه في الوسائل ٨ : ٢١٢ ـ ٢١٣ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٨ ح ١ و ٣.

٤٢٠