موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

استبعاداً (١) للقول بلزوم بقاء الموضوع بالدقة العقلية.

ولذا تصدى المحقق النائيني (٢) قدس‌سره لتوجيه كلام الشيخ قدس‌سره في المقام ، وحاصل ما ذكره : أنّ الرافع تارةً يطلق ويراد به ما يقابل المقتضي ، فيراد به ما يمنع عن تأثير المقتضي لبقاء المقتضى بعد تاثيره في الحدوث ، سواء كان وجودياً أو عدمياً ، وهذا المعنى مراد الشيخ قدس‌سره في مقام التفصيل بين موارد الشك في المقتضي وموارد الشك في الرافع في حجية الاستصحاب ، فاذا كان شيء باقياً بنفسه إلى الأبد ـ ما لم يقع شيء موجب لارتفاعه كالنجاسة والطهارة ـ وشككنا في بقائه ، فلا محالة يكون الشك شكاً في وجود الرافع ، فيجري الاستصحاب. وإذا شككنا في بقاء شيء لاحتمال انتهاء أمده ـ لا لاحتمال وجود رافع له ـ كخيار الغبن بعد الاطلاع والتأخير في الفسخ ، فلا يجري الاستصحاب ، لكونه من موارد الشك في المقتضي. واخرى يطلق الرافع ويراد به ما يقابل المانع ، فيراد به الأمر الوجودي الذي يوجب رفع شيء عن صفحة الوجود وإعدامه بعد حدوثه ، والمانع عبارة عما يمنع عن حدوث الشيء.

وبعبارة اخرى : المانع عبارة عمّا اخذ عدمه في حدوث شيء ، والرافع عبارة عما اخذ عدمه في بقاء شيء بعد حدوثه ، كالطلاق بالنسبة إلى علاقة الزوجية. وهذا المعنى من الرافع مراد الشيخ قدس‌سره ها هنا ، والنسبة بين الرافع بهذا المعنى المقابل للمانع والرافع المقابل للمقتضي هو العموم المطلق ، لكون الرافع المقابل للمقتضي أعم من الوجودي والعدمي كما تقدّم ، بخلاف الرافع المقابل

__________________

(١) [لا يظهر من عبارة الشيخ قدس‌سره انّه في صدد الاستبعاد فلاحظ].

(٢) أجود التقريرات ٤ : ١٨٤ ـ ١٨٥ ، فوائد الاصول ٤ : ٥٧٧ ـ ٥٧٩.

٢٨١

للمانع ، فانّه مختص بالوجودي كالمانع. هذا ملخص ما ذكره في توجيه كلام الشيخ قدس‌سره.

ولكنّ الصحيح ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّه لو التزمنا بالدقة العقلية لما بقي مورد لجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، إذ الرافع التكويني في الأحكام الشرعية غير معقول ، فانّها من الاعتبارات التي وضعها ورفعها بيد الشارع ، فاذا شك في بقاء حكم شرعي بعد العلم بحدوثه لطروء تغير في موضوعه ، كان الشك راجعاً إلى اعتبار قيد في بقاء الحكم بجعل الشارع ، وبعد البناء على أخذ الموضوع بالدقة العقلية ، لا يجري الاستصحاب لا محالة.

وربّما يقال في المقام : إنّه لا بدّ من أخذ الموضوع من الدليل الشرعي ، لأنّ العقل مما لا مسرح له في الأحكام الشرعية ، وليس له التصرف في موضوعها ، وإنّما يرجع إليه في الأحكام العقلية : من الاستحالة ، والامكان وغيرهما.

وأمّا العرف فإن كان المراد من أخذ الموضوع منه أنّ موضوع الحكم الشرعي ما يفهمه العرف من الدليل الشرعي ولو بمعونة القرائن الداخلية أو الخارجية ، فلا ينبغي ذكره مقابلاً لأخذ الموضوع من لسان الدليل ، إذ المراد من الموضوع المأخوذ من الدليل ليس إلاّما يكون الدليل ظاهراً فيه بحسب فهم العرف ولو بمعونة القرائن. وإن كان المراد منه اتباع المسامحة العرفية في تطبيق الكلي على الفرد الخارجي ، فانّ العرف ـ بعد تشخيص الموضوع الكلي من لسان الدليل ـ ربما يتسامح في تطبيقه على الخارج ، فلا ينبغي الارتياب في عدم جواز الاعتماد على هذه المسامحة العرفية ، إذ العرف ليس مشرّعاً ولا يتبع نظره في قبال الدليل الشرعي ، وإنّما يتبع في تعيين مراد الشارع ، لأن خطابه وارد

٢٨٢

على طبق متفاهم العرف ، فالمتعين أخذ الموضوع من لسان الدليل الشرعي.

وهذا الذي ذكره وإن كان صحيحاً ، إلاّأ نّه خارج عن محل الكلام ولا ربط له بالمقام ، إذ الكلام في بقاء الحكم في ظرف الشك المستفاد من أدلة الاستصحاب الدالة على حرمة نقض اليقين بالشك ، من حيث إنّ جريان الاستصحاب والحكم بالبقاء متوقف على صدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن الحكم السابق ، وصدقه متوقف على بقاء الموضوع واتحاده في القضية المتيقنة والقضية المشكوك فيها ، فهل المرجع في بقاء الموضوع هو الدليل الأوّل الدال على ثبوت الحكم ـ بأن كان جريان الاستصحاب تابعاً لبقاء الموضوع المأخوذ في لسانه ـ أو الدليل الثاني الدال على الابقاء في ظرف الشك ، فانّ الموضوع فيه النقض والمضي ، فيكون جريان الاستصحاب تابعاً لصدق النقض والمضي في نظر العرف بلا لحاظ الموضوع المأخوذ في لسان الدليل الأوّل.

فالمراد من أخذ الموضوع من العرف أنّ جريان الاستصحاب تابع لصدق النقض عرفاً بلا نظر إلى الدليل الأوّل ، والمراد من أخذه من الدليل الشرعي هو الرجوع إلى الدليل الأوّل.

توضيح المقام : أنّ لسان الدليل الدال على ثبوت الحكم مختلف ، فتارةً يقول المولى مثلاً : إنّ المسافر يقصّر. واخرى يقول : إنّ المكلف إن سافر قصر ، فمفاد هذين الكلامين وإن كان واحداً بحسب اللب ، وهو وجوب القصر على المسافر ، وقد ذكرنا غير مرة (١) أنّ الوصف المأخوذ في الموضوع يرجع إلى القضية الشرطية ، وكذا القضية الشرطية ترجع إلى اعتبار قيد في الموضوع ، إلاّ أنّ لسانهما مختلف بحسب مقام الاثبات ، فانّ الموضوع في الأوّل هو عنوان

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٢٢٠ ـ ٢٢١.

٢٨٣

المسافر ، وفي الثاني عنوان المكلف مع كون السفر شرطاً لوجوب القصر عليه ، فلو سافر أحد في أوّل الوقت ووصل إلى وطنه آخره ، وشك في أنّ الواجب عليه هل هو القصر لكونه مسافراً في أوّل الوقت ، أو التمام لكونه حاضراً في آخره.

فإن كان بيان وجوب القصر على المسافر بمثل الكلام الأوّل ، لا يمكن جريان الاستصحاب فيه ، إذ الموضوع لوجوب القصر هو المسافر ، وهو حاضر حين الشك ، فلا يكون موضوع القضية المتيقنة والمشكوك فيها واحداً. وكذا لا يمكن الحكم بعدم وجوب القصر عليه تمسكاً بمفهوم الوصف ، إذ الوصف الذي ربما قيل بحجيته هو الوصف المعتمد على الموصوف ، كقولنا : المكلف المسافر يقصّر ، بخلاف الوصف غير المعتمد كما في المقام ، فانّه ليس له مفهوم اتفاقاً.

وإن كان بيان وجوب القصر بمثل الكلام الثاني ، فلا مانع من جريان الاستصحاب ، لكون الموضوع المأخوذ فيه هو المكلف ، وهو باقٍ في ظرف الشك ، ولا يمكن التمسك بمفهوم الشرط وإن كان حجةً ، إذ مفاده عدم وجوب القصر على من لم يسافر ، ولا يستفاد منه عدم وجوب القصر في مفروض المثال ، لاحتمال أن يكون السفر دخيلاً في حدوث وجوب القصر عليه فقط ، فيكون القصر واجباً عليه بعد تحقق السفر ولو بعد انعدامه كما في المثال ، وأن يكون دخيلاً في وجوب القصر حدوثاً وبقاءً ، فيكون وجوب القصر دائراً مدار وجود السفر ، فلا يجب عليه القصر في مفروض المثال ، فتصل النوبة إلى استصحاب وجوب القصر ، ولا مانع منه كما ذكرناه. هذا كله بناءً على أخذ الموضوع من الدليل الأوّل الدال على ثبوت الحكم ، فلا يمكن جريان الاستصحاب إن كان من قبيل الكلام الأوّل ، ولا مانع منه إن كان من قبيل الكلام الثاني.

٢٨٤

وأمّا إن قلنا بأنّ المرجع في بقاء الموضوع هو الدليل الثاني الدال على الابقاء في ظرف الشك ، فجريان الاستصحاب تابع لصدق نقض اليقين بالشك ، ففي موردٍ يصدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن الحكم السابق عرفاً يجري الاستصحاب ويحكم بالبقاء وإن كان الدليل الدال على ثبوت الحكم من قبيل الكلام الأوّل ، وفي موردٍ لا يصدق النقض المذكور عرفاً ، لا يجري الاستصحاب وإن كان الدليل الدال على ثبوت الحكم من قبيل الكلام الثاني ، وهذا هو الفارق بين كون الموضوع مأخوذاً من الدليل وبين كونه مأخوذاً من العرف.

وظهر بما ذكرناه ـ من تحقيق الفرق ـ أنّ الحق في المقام كون الموضوع مأخوذاً من العرف ، بمعنى أنّ جريان الاستصحاب تابع لصدق النقض عرفاً بمقتضى دليله الدال على حرمة نقض اليقين بالشك ، وقد ذكرنا أنّ الأوصاف مختلفة في نظر العرف ، فمنها ما هو مقوّم للموضوع ، فبعد انتفائه لا يصدق النقض ، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه. ومنها ما هو غير مقوّم ، فبانتفائه يصدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن الحكم السابق ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه. ولذا ذكرنا في مباحث الفقه (١) : أنّه لو قال البائع : بعتك هذا الفرس فبان كونه شاةً ، يكون البيع باطلاً ، لكون الصورة النوعية مقوّمة للمبيع. ولو قال : بعتك هذا العبد الكاتب أو بشرط أن يكون كاتباً ، فانكشف الخلاف فالبيع صحيح ، لعدم كون الوصف مقوّماً للمبيع بنظر العرف ، بل من أوصاف الكمال ، فللمشتري الخيار. هذا تمام الكلام في اعتبار الوحدة في القضية المتيقنة والمشكوك فيها.

ولنختم الكلام في الاستصحاب بذكر امور :

__________________

(١) مصباح الفقاهة ٧ : ٦٦.

٢٨٥

الأمر الأوّل : قد ذكرنا مراراً أنّ المستفاد من أدلة الاستصحاب حرمة نقض اليقين بالشك ، ولا يصدق النقض المذكور إلاّفيما إذا كان الشك متعلقاً بعين ما تعلق به اليقين ، غاية الأمر أنّ اليقين قد تعلق به حدوثاً ، والشك قد تعلق به بقاءً.

وبهذا يظهر أنّ أخبار الاستصحاب لا تشمل موارد قاعدة المقتضي والمانع ، إذ اليقين فيها متعلق بوجود المقتضي ، والشك فيها متعلق بوجود المانع ، فاذا صببنا الماء لتحصيل الطهارة من الخبث مثلاً ، وشككنا في تحقق الغسل لاحتمال وجود مانع من وصول الماء ، فلنا يقين بوجود المقتضي ـ وهو انصباب الماء ـ وشك في وجود المانع ، فعدم ترتيب آثار الطهارة لا يصدق عليه نقض اليقين بالشك ، لعدم تعلق اليقين بالطهارة ، بل بوجود المقتضي. وليست الطهارة من آثار وجوده فقط ، بل تتوقف على عدم المانع أيضاً ، والمفروض أنّه لا يقين بوجود المقتضي وعدم المانع لتكون الطهارة متيقنة. وبالجملة بعد كون اليقين متعلقاً بشيء والشك متعلقاً بشيء آخر ، لا يكون عدم ترتيب الأثر على الشك من نقض اليقين بالشك ، فلا يكون مشمولاً لأدلة الاستصحاب ، وهو ظاهر.

وقد يتمسك في موارد قاعدة المقتضي والمانع بأصالة عدم المانع ، فبعد إحراز صب الماء بالوجدان وعدم المانع بالأصل ، يحكم بوجود الطهارة.

وفيه : أنّ الأثر الشرعي ليس مترتباً على عدم الحاجب ، بل على الغسل ، ولا يمكن إثبات الغسل بأصالة عدم الحاجب إلاّعلى القول بالأصل المثبت.

وقد يتمسك لاثبات هذه القاعدة بسيرة العقلاء ، بدعوى استقرارها على الحكم بوجود المعلول بعد العلم بوجود المقتضي مع الشك في وجود المانع.

وفيه : أنّه لم يثبت لنا استقرار هذه السيرة ، بل ثبت خلافها ، فانّه لو رمى

٢٨٦

حجراً إلى أحد وشك في وجود المانع عن وصوله إليه مع العلم بأ نّه لو وصل إليه لقتله ، فهل يحكم العقلاء بتحقق القتل وجواز القصاص؟

فتحصل مما ذكرناه : أن قاعدة المقتضي والمانع ليست مشمولة لأدلة الاستصحاب ، ولم يتضح لنا دليل آخر على حجيتها.

والعمدة في المقام هو الكلام في أنّ أدلة الاستصحاب شاملة لقاعدة اليقين وموارد الشك الساري أم لا؟ وليعلم أنّ احتمال اختصاص الأخبار بقاعدة اليقين ساقط ، لكون مورد جملة منها هو الاستصحاب والشك الطارئ كصحيحتي زرارة الاولى والثانية (١) وعدّة من الروايات الاخر. ولا يمكن الالتزام بخروج المورد ، فيدور الأمر بين اختصاص الأخبار بالاستصحاب وشمولها له ولقاعدة اليقين أيضاً.

وذكر المحقق النائيني (٢) قدس‌سره ـ لاختصاصها بالاستصحاب وعدم شمولها للقاعدة ـ وجوهاً :

الوجه الأوّل : أنّ التعبد الاستصحابي ناظر إلى البقاء في ظرف الشك فيه بعد كون الحدوث محرزاً ، بخلاف القاعدة فانّ التعبد فيها إنّما هو بالحدوث بعد كونه غير محرز ، وفرض الاحراز وفرض عدمه لا يمكن جمعهما في دليل واحد.

الوجه الثاني : أنّ اليقين في القاعدة ليس مغايراً لليقين في الاستصحاب ، إذ تغاير أفراد اليقين إنّما هو بتغاير متعلقاته كعدالة زيد وقيام عمرو ، ومتعلق اليقين في القاعدة والاستصحاب شيء واحد كعدالة زيد يوم الجمعة مثلاً ، فاذا

__________________

(١) تقدّمتا في ص ١٤ ، ٥٨.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ١٨٩ ـ ١٩١ ، فوائد الاصول ٤ : ٥٨٨ ـ ٥٩٠.

٢٨٧

تيقنا بعدالة زيد يوم الجمعة وتعقبه الشك في البقاء المعبّر عنه بالشك الطارئ ، يكون مورداً للاستصحاب ، وإذا تعقّبه الشك في مطابقته للواقع المعبّر عنه بالشك الساري يكون مورداً للقاعدة ، فهذا اليقين الواحد محكوم بحرمة النقض حال وجوده في باب الاستصحاب ، ومحكوم بحرمة النقض حال عدمه في القاعدة. ولايمكن إنشاء حكم واحد على وجود الشيء وعدمه في دليل واحد ، وحيث إنّ قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» ناظر إلى جهة طريقية اليقين كما أنّها ذاتية له ، فلا يشمل موارد القاعدة ، لأنّ طريقية اليقين فيها قد زالت بتبدله بالشك الساري.

ودعوى أنّ المشتق موضوع للأعم من المتلبس والمنقضي عنه المبدأ فيشمل موارد الاستصحاب باعتبار وجود اليقين الفعلي ، وموارد القاعدة باعتبار وجود اليقين السابق.

مدفوعة بأنّ الوضع للأعم على تقدير التسليم إنّما هو في المشتقات الاصطلاحية كاسم الفاعل والمفعول وأمثالهما ، لا في الجوامد وما هو شبيه بها. والمذكور في الأخبار لفظ اليقين وهو من الجوامد ، أو شبيه بها في عدم كونه موضوعاً للقدر المشترك بين وجود صفة اليقين وعدم وجودها. نعم ، لو كان المذكور في الأخبار لفظ المتيقن ، لأمكن دعوى شموله للمتيقن باليقين السابق باعتبار كون المشتق موضوعاً للأعم من المتلبس والمنقضي عنه المبدأ.

إن قلت : لا مانع من شمول الأخبار لموارد القاعدة باعتبار وجود اليقين سابقاً ، فيكون المعنى لا تنقض اليقين الذي كان موجوداً بالشك.

قلت : هذا المعنى خلاف الظاهر ، فان ظاهر قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» هو حرمة نقض اليقين الفعلي بالشك.

٢٨٨

الوجه الثالث : أنّ المتيقن غير مقيد بالزمان في باب الاستصحاب ومقيد به في القاعدة ، فلا يمكن الجمع بينهما في دليل واحد.

توضيح ذلك : أنّ اجتماع اليقين والشك في شيء واحد ـ على نحو يكون زمانهما واحداً مع وحدة زمان متعلقهما ـ مستحيل بالضرورة ، فلا بدّ في اجتماعهما في شيء واحد من الاختلاف في الزمان ، إمّا من حيث المتعلق كما في موارد الاستصحاب ، فان متعلق اليقين هو عدالة زيد يوم الجمعة مثلاً ، ومتعلق الشك هو عدالته يوم السبت ، سواء كان حدوث اليقين والشك في زمان واحد أو في زمانين. وإمّا من حيث نفس اليقين والشك كما في موارد القاعدة ، فان متعلق اليقين والشك فيها هو عدالة زيد يوم الجمعة مثلاً ، مع كون الشك متأخراً عن اليقين زماناً ، فيكون الزمان في موارد القاعدة قيداً للمتيقن ، وفي موارد الاستصحاب ظرفاً لا قيداً ، فكيف يمكن اعتبار كون الزمان قيداً وغير قيد في دليل واحد.

هذه هي الوجوه التي ذكرها العلاّمة النائيني قدس‌سره لاختصاص الأخبار بالاستصحاب وعدم شمولها للقاعدة.

وللنظر في كل واحد منها مجال واسع ، أمّا الوجه الأوّل ، ففيه : أنّ الموضوع هو اليقين المتعقب بالشك ، وحكمه حرمة نقضه به ، وكون الحدوث محرزاً أو غير محرز مما لا دخل له في الحكم المذكور ، بل هما من خصوصيات الموارد ، إذ الشك المسبوق باليقين قد يكون متعلقاً ببقاء ما تعلق به اليقين ، فيكون حدوثه محرزاً باليقين في ظرف الشك ، وقد يكون متعلقاً بعين ما تعلق به اليقين ، فيكون حدوثه غير محرز ، لكون الشك متعلقاً بحدوثه. والاختلاف الناشئ من خصوصيات الموارد لا يمنع عن التمسك باطلاق القضية الدالة على حرمة نقض اليقين بالشك ، كما أنّ اختلاف خصوصيات موارد الاستصحاب لا يمنع عن

٢٨٩

شمول إطلاق أدلته لها ، فيكون مفاد قوله عليه‌السلام : «لا تنقض ...» هو إلغاء الشك تعبداً ، فإن كان متعلقاً بالبقاء فمفاده التعبد بالبقاء ، وإن كان متعلقاً بالحدوث فمفاده التعبد بالحدوث.

وأمّا الوجه الثاني ، ففيه : أنّ اليقين في موارد القاعدة أيضاً كان موجوداً ، فلا مانع من شمول الأخبار لها حال وجود اليقين ، فالمتيقن بوجود شيء مكلف بعدم نقض يقينه بالشك ، سواء كان الشك متعلقاً بالبقاء أو بالحدوث. وما ذكره من أن طريقية اليقين قد زالت في موارد القاعدة بتبدله بالشك ، مدفوع بأنّ الطريقية الوجدانية مفقودة في مورد الاستصحاب أيضاً ، لكون الشك متعلقاً بالبقاء ، ومجرد اليقين بالحدوث لا يكون طريقاً وجدانياً إلى البقاء كما هو ظاهر. وأمّا الطريقية التعبدية فيمكن جعلها من قبل الشارع في المقامين ، فلا فرق بين القاعدة والاستصحاب من هذه الجهة أيضاً.

وأمّا الوجه الثالث : فيرد عليه ما ذكرناه في الوجه الأوّل ، فان كون الزمان قيداً أو ظرفاً إنّما هو من خصوصيات المورد ، فتارةً يكون الشك متعلقاً بالحدوث لاحتمال كون اليقين السابق مخالفاً للواقع ، فيكون متعلق الشك واليقين واحداً حتى من حيث الزمان ، وهو معنى كون الزمان قيداً. واخرى يكون متعلقاً ببقاء ما تعلق به اليقين ، وهو معنى كون الزمان ظرفاً ، ولم يؤخذ في قوله عليه‌السلام : «لا تنقض ...» كون الزمان قيداً أو ظرفاً كي يقال : لايمكن اعتبار الزمان قيداً وغير قيد في دليل واحد ، بل الموضوع فيه هو اليقين المتعقب بالشك والحكم حرمة نقضه به ، وإطلاقه يشمل ما كان الزمان فيه قيداً أو ظرفاً ، أي ما كان الشك متعلقاً بالحدوث أو بالبقاء.

فتلخص مما ذكرناه في المقام : أنّه لا مانع من شمول جعل واحد لقاعدة اليقين والاستصحاب في مقام الثبوت. نعم ، لا يمكن شمول أخبار الباب للقاعدة

٢٩٠

في مقام الاثبات ، لأمرين : أحدهما : راجع إلى عدم المقتضي. ثانيهما : راجع إلى وجود المانع.

أمّا الأوّل : فلأن ظاهر قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» عدم جواز نقض اليقين الفعلي بالشك الفعلي ، إذ ظاهر القضايا إثبات الأحكام للموضوعات الفعلية ، بلا فرق بين كونها متكفلةً لبيان الأحكام الواقعية أو الظاهرية ، فانّ ظاهر قولنا : الخمر حرام ، إثبات الحرمة للخمر الفعلي لا لما كان خمراً في وقت وإن لم يكن خمراً بالفعل ، وكذا ظاهر قوله عليه‌السلام : «رفع عن امّتي ما لا يعلمون» (١) رفع ما هو مجهول بالفعل لا رفع ما كان مجهولاً في وقت ، فظاهر قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» حرمة نقض اليقين الفعلي بالشك. ولفظ النقض المستفاد من قوله عليه‌السلام : «لا تنقض» ظاهر في وحدة متعلق اليقين والشك من جميع الجهات حتى من حيث الزمان ، وإلاّ لا يصدق النقض.

والتحفظ على هذين الظهورين مستحيل ، لعدم إمكان اجتماع اليقين والشك الفعليين في شيء واحد من جميع الجهات حتى من حيث الزمان ، فلا بدّ من رفع اليد عن أحدهما ، ومن المعلوم أنّ رفع اليد عن الظهور الأوّل يوجب اختصاص الأخبار بموارد القاعدة ، لعدم اليقين فيها ، كما أنّ رفع اليد عن الظهور الثاني يوجب اختصاصها بالاستصحاب ، لاختلاف متعلق اليقين والشك من حيث الزمان في موارد الاستصحاب ، وحيث إنّ الإمام عليه‌السلام طبّقها على موارد اختلاف متعلق اليقين والشك من حيث الزمان ، فانّه عليه‌السلام حكم بعدم جواز نقض اليقين بالشك في جواب سؤال الراوي بقوله : «فان حرّك في

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

٢٩١

جنبه شيء وهو لا يعلم» (١) ومن المعلوم أنّ متعلق اليقين هو الطهارة قبل حركة شيء في جنبه ، ومتعلق الشك هو الطهارة بعدها ، فعلم أنّ الظهور الثاني ليس بمراد قطعاً ، فبقي الظهور الأوّل بحاله ، فلا يشمل موارد قاعدة اليقين ، لعدم وجود اليقين الفعلي فيها.

وأمّا الثاني : أي عدم شمول الأخبار للقاعدة لوجود المانع ، فلأنّ القاعدة معارضة بالاستصحاب دائماً ، إذ الشك في موارد القاعدة مسبوق بيقينين يكون باعتبار أحدهما مورداً للاستصحاب ، وباعتبار الآخر مورداً للقاعدة ، فيقع التعارض بينهما ، فاذا تيقنا بعدالة زيد يوم الجمعة مثلاً ، وشككنا يوم السبت في عدالته يوم الجمعة لاحتمال كون اليقين السابق جهلاً مركباً ، فباعتبار هذا اليقين تجري القاعدة ، ومقتضاها الحكم بعدالة زيد يوم الجمعة ، وحيث إنّه لنا يقين بعدم عدالته سابقاً وشك فيها يوم الجمعة ، يجري الاستصحاب ، ومقتضاه الحكم بعدم عدالته يوم الجمعة ، فلا محالة يقع التعارض بينهما ، فلا يمكن اجتماعهما في دليل واحد ، إذ جعل الحجية للمتعارضين بجعل واحد غير معقول. نعم ، لو دل دليل آخر ـ غير أدلة الاستصحاب ـ على حجية القاعدة ، لم يكن مانع من الأخذ به.

وتوهم أنّ التعبد بالمتعارضين مما لا يمكن ولو بدليلين ، مدفوع بأ نّه مع تعدد الدليل نخصص دليل الاستصحاب بدليل القاعدة ، بخلاف ما إذا كان الدليل واحداً ، فانّ شموله للمتعارضين مما لا معنى له. نعم ، يمكن فرض جريان القاعدة في موردٍ لا يكون فيه معارضاً بالاستصحاب ، ولكنّه نادر لا يمكن حمل الأخبار عليه.

__________________

(١) تقدّمت الرواية في ص ١٤.

٢٩٢

وظهر بما ذكرناه عدم إمكان شمول دليل واحد للاستصحاب وقاعدة المقتضي والمانع أيضاً ، مع قطع النظر عما ذكرناه سابقاً (١) ، فان قاعدة المقتضي والمانع أيضاً معارضة بالاستصحاب دائماً ، فلا يمكن شمول دليل واحد لكليهما.

الأمر الثاني : أنّه لا إشكال ولا خلاف في عدم جريان الاستصحاب مع قيام الأمارة على ارتفاع المتيقن ، بل يجب العمل بها ، وإنّما الكلام في وجه تقديم الأمارة على الاستصحاب ، وأ نّه من باب التخصيص أو الورود أو الحكومة ، فذهب بعضهم إلى أنّه من باب التخصيص ، بدعوى أنّ النسبة بين أدلة الاستصحاب وأدلة الامارات وإن كانت هي العموم من وجه ، إلاّأ نّه لا بدّ من تخصيص أدلة الاستصحاب بأدلة الأمارات وتقديمها عليها ، لأنّ النسبة المتحققة بين الأمارات والاستصحاب هي النسبة بينها وبين جميع الاصول العملية ، فلو عمل بالاصول لم يبق مورد للعمل بالأمارات ، فيلزم إلغاؤها ، إذ من الواضح أنّه لا يوجد مورد من الموارد إلاّوهو مجرى لأصل من الاصول العملية مع قطع النظر عن الأمارة القائمة فيه.

وفيه أوّلاً : أنّ أدلة الاستصحاب في نفسها بعيدة عن التخصيص ، فان ظاهر قوله عليه‌السلام : «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك» (٢) إرجاع الحكم إلى قضية ارتكازية ، وهي عدم جواز رفع اليد عن الأمر المبرم بأمر غير مبرم ، وهذا المعنى آبٍ عن التخصيص ، إذ مرجعه إلى أنّه في مورد خاص يرفع اليد عن الأمر المبرم بأمر غير مبرم ، وهو خلاف الارتكاز. ونظير المقام أدلة حرمة العمل بالظن ، فانّ مثل قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ*

__________________

(١) في ص ٢٨٦.

(٢) تقدّمت الرواية في ص ٥٨.

٢٩٣

شَيْئاً)(١) غير قابل للتخصيص ، إذ مرجعه إلى أنّ الظن الفلاني يغني عن الحق ، ولا يمكن الالتزام به كما هو ظاهر.

وثانياً : مع الغض عن إبائها عن التخصيص ، أنّ التخصيص في رتبة متأخرة عن الورود والحكومة ، لأنّ التخصيص رفع الحكم عن الموضوع ، ومع انتفاء الموضوع بالوجدان كما في الورود أو بالتعبد كما في الحكومة لا تصل النوبة إلى التخصيص ، وسنبين أنّه لا موضوع للاستصحاب مع الأمارة على وفاقه أو على خلافه.

وذهب صاحب الكفاية (٢) قدس‌سره وبعض من المحققين إلى أنّ تقديم الأمارات على الاصول من باب الورود لوجوه :

الوجه الأوّل : أنّ ذكر اليقين في قوله عليه‌السلام : «ولكن تنقضه بيقين آخر» (٣) ليس من باب كونه صفةً خاصةً ، بل من باب كونه من مصاديق الحجة ، فهو بمنزلة أن يقال : انقضه بالحجة ، وإنّما ذكر خصوص اليقين لكونه أعلى أفراد الحجة ، لكون الحجية ذاتية له وغير مجعولة ، فخصوصية اليقين مما لا دخل له في رفع اليد عن الحالة السابقة بل ترفع اليد عنها مع قيام الحجة على الارتفاع ، بلا فرق بين اليقين وغيره من الأمارات المعتبرة ، فموضوع الاستصحاب هو الشك في البقاء مع عدم قيام الحجة على الارتفاع أو البقاء ، فمع قيام الأمارة ينتفي موضوع الاستصحاب ، والورود ليس إلاّانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه.

وفيه : أنّ تصور هذا المعنى وإن كان صحيحاً في مقام الثبوت ، إلاّأنّ مقام

__________________

(١) يونس ١٠ : ٣٦ ، النجم ٥٣ : ٢٨.

(٢) كفاية الاصول : ٤٢٩.

(٣) ورد مضمونه في صحيحة زرارة الاولى وقد تقدّمت في ص ١٤.

٢٩٤

الاثبات لا يساعد عليه ، إذ ظاهر الدليل كون خصوص اليقين موجباً لرفع اليد عن الحالة السابقة ، وكون اليقين مأخوذاً من باب الطريقية مسلّم ، إلاّأنّ ظاهر الدليل كون هذا الطريق الخاص ناقضاً للحالة السابقة.

الوجه الثاني : أنّ المحرّم هو نقض اليقين استناداً إلى الشك على ما هو ظاهر قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» ومع قيام الأمارة لا يكون النقض مستنداً إلى الشك ، بل إلى الأمارة ، فيخرج عن حرمة النقض خروجاً موضوعياً ، وهو معنى الورود.

وفيه أوّلاً : أنّ دليل الاستصحاب لا يساعد على هذا المعنى ، إذ ليس المراد من قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» حرمة نقض اليقين من جهة الشك واستناداً إليه ، بحيث لو كان رفع اليد عن الحالة السابقة بداعٍ آخر ، كاجابة دعوة مؤمن مثلاً لم يحرم النقض ، بل المراد حرمة نقض اليقين عند الشك بأيّ داعٍ كان.

وثانياً : أنّ المراد من الشك خلاف اليقين ، كما ذكرناه سابقاً (١) واختاره صاحب الكفاية (٢) قدس‌سره أيضاً ، فيكون مفاد الرواية عدم جواز النقض بغير اليقين ووجوب النقض باليقين ، والنتيجة حصر الناقض في اليقين ، فيكون مورد قيام الأمارة مشمولاً لحرمة النقض لعدم كونها مفيدةً لليقين على الفرض.

الوجه الثالث : أنّ رفع اليد عن المتيقن السابق لقيام الأمارة على ارتفاعه ليس إلاّلأجل اليقين بحجية الأمارة ، إذ الامور الظنية لا بدّ وأن تنتهي إلى

__________________

(١) في التنبيه الرابع عشر في ص ٢٦٨.

(٢) كفاية الاصول : ٤٢٥ / التنبيه الرابع عشر.

٢٩٥

العلم ، وإلاّ يلزم التسلسل ، وقد ذكرنا (١) عند التعرض لحرمة العمل بالظن أنّ المراد حرمة العمل بما لا يرجع بالأخرة إلى العلم ، إمّا لكونه بنفسه مفيداً للعلم وإمّا للعلم بحجيته ، فبعد العلم بحجية الأمارات يكون رفع اليد عن المتيقن السابق لأجل قيام الأمارة من نقض اليقين باليقين ، فلا يبقى موضوع للاستصحاب.

وفيه : أنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «ولكن تنقضه بيقين آخر» كون اليقين الثاني متعلقاً بارتفاع ما تعلق بحدوثه اليقين الأوّل ، ليكون اليقين الثاني ناقضاً لليقين الأوّل ، بل بعض الأخبار صريح في هذا المعنى ، وهو قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة : «لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام» (٢) فجعل فيه الناقض لليقين بالطهارة اليقين برافعها وهو النوم. وليس اليقين الثاني في مورد قيام الأمارة متعلقاً بارتفاع ما تعلق به اليقين الأوّل ، بل بشيء آخر وهو حجية الأمارات ، فلا يكون مصداقاً لنقض اليقين باليقين ، بل من نقض اليقين بغير اليقين.

فتحصّل مما ذكرناه في المقام : أنّ تقديم الأمارات على الاستصحاب لا بدّ من أن يكون من باب الحكومة ، لما ظهر من بطلان التخصيص والورود ، وتقريب كونه من باب الحكومة يحتاج إلى بيان الفرق بين التخصيص والورود والحكومة.

فنقول : التخصيص هو رفع الحكم عن الموضوع بلا تصرف في الموضوع كقوله عليه‌السلام : «نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بيع الغرر» (٣) فانّه

__________________

(١) في الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ١٣٣.

(٢) تقدّمت الصحيحة في ص ١٤.

(٣) الوسائل ١٧ : ٤٤٨ / أبواب آداب التجارة ب ٤٠ ح ٣.

٢٩٦

تخصيص لقوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) لكونه رافعاً للحلية بلا تصرف في الموضوع بأن يقال : البيع الغرري ليس بيعاً مثلاً ، وكذا سائر أمثلة التخصيص.

ويقابله التخصص مقابلة تامة ، إذ هو عبارة عن الخروج الموضوعي التكويني الوجداني بلا إعمال دليل شرعي ، كما إذا أمر المولى بوجوب إكرام العلماء ، فالجاهل خارج عنه خروجاً موضوعياً تكوينياً بالوجدان بلا احتياج إلى دليل شرعي. وما بين التخصيص والتخصص أمران متوسطان : وهما الورود والحكومة.

أمّا الورود فهو عبارة عن انتفاء الموضوع بالوجدان لنفس التعبد لا لثبوت المتعبد به ، وإن كان ثبوته لا ينفك عن التعبد إلاّأن ثبوته إنّما هو بالتعبد ، وأمّا نفس التعبد فهو ثابت بالوجدان لا بالتعبد ، وإلاّ يلزم التسلسل ، وذلك كالأمارات بالنسبة إلى الاصول العقلية : كالبراءة العقلية والاحتياط العقلي والتخيير العقلي ، فانّ موضوع البراءة العقلية عدم البيان ، وبالتعبد يثبت البيان وينتفي موضوع حكم العقل بالبراءة بالوجدان. وموضوع الاحتياط العقلي احتمال العقاب ، وبالتعبد الشرعي وقيام الحجة الشرعية يرتفع احتمال العقاب ، فلا يبقى موضوع للاحتياط العقلي. وموضوع التخيير العقلي عدم الرجحان مع كون المورد مما لا بدّ فيه من أحد الأمرين ، كما إذا علم بتحقق الحلف مع الشك في كونه متعلقاً بفعل الوطء أو تركه ، فانّه لا بدّ من الفعل أو الترك ، لاستحالة ارتفاع النقيضين كاجتماعهما ، ومع قيام الأمارة على أحدهما يحصل الرجحان وينتفي موضوع حكم العقل بالتخيير وجداناً.

وأمّا الحكومة فهي عبارة عن انتفاء الموضوع لثبوت المتعبد به بالتعبد

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

٢٩٧

الشرعي ، وذلك كالأمارات بالنسبة إلى الاصول الشرعية التي منها الاستصحاب ، فانّه بعد ثبوت ارتفاع المتيقن السابق بالتعبد الشرعي لا يبقى موضوع للاستصحاب ، إذ موضوعه الشك وقد ارتفع تعبداً ، وإن كان باقياً وجداناً لعدم كون الأمارة مفيدةً للعلم على الفرض. وكذا سائر الاصول الشرعية فانّه بعد كون الأمارة علماً تعبدياً لما في تعبير الأئمة عليهم‌السلام عمّن قامت عنده الأمارة بالعارف والفقيه والعالم (١) لا يبقى موضوع لأصل من الاصول الشرعية تعبداً.

فتحصّل مما ذكرناه : أنّ تقديم الأمارات على الاستصحاب ليس من باب الورود ، إذ بمجرد ثبوت التعبد بالأمارة لا يرتفع موضوع التعبد بالاستصحاب ، لكونه الشك وهو باقٍ بعد قيام الأمارة على الفرض ، بل تقديمها عليه إنّما هو من باب الحكومة التي مفادها عدم المنافاة حقيقةً بين الدليل الحاكم والمحكوم عليه.

توضيح ذلك : أنّ القضايا الحقيقية متكفلة لاثبات الحكم على تقدير وجود الموضوع ، وليست متعرضة لبيان وجود الموضوع نفياً وإثباتاً ـ بلا فرق بين كونها من القضايا الشرعية أو العرفية : إخبارية كانت أو إنشائية ـ فانّ مفاد قولنا : الخمر حرام ، إثبات الحرمة على تقدير وجود الخمر ، وأمّا كون هذا المائع خمراً أو ليس بخمر ، فهو أمر خارج عن مدلول الكلام ، وحيث إنّ دليل الحاكم شأنه التصرف في الموضوع ، فلا منافاة بينه وبين الدليل المحكوم الدال على ثبوت الحكم على تقدير وجود الموضوع ، فلا منافاة بين الدليل الدال على حرمة الخمر والدليل الدال على أنّ هذا المائع ليس بخمر. وكذا لا منافاة بين

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٣٦ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١ و ٦ وغيرهما.

٢٩٨

قوله تعالى : (وَحَرَّمَ الرِّبا)(١) وبين قوله عليه‌السلام : «لا ربا بين الوالد والولد» (٢) إذ مفاد الأوّل ثبوت الحرمة على تقدير وجود الربا ، ومفاد الثاني عدم وجوده ، وبعد انتفاء الربا بينهما بالتعبد الشرعي تنتفي الحرمة لا محالة.

وكذا لا منافاة بين أدلة الاستصحاب والأمارة القائمة على ارتفاع الحالة السابقة ، فان مفاد أدلة الاستصحاب هو الحكم بالبقاء على تقدير وجود الشك فيه ، ومفاد الأمارة هو الارتفاع وعدم البقاء ، وبعد ثبوت الارتفاع بالتعبد الشرعي لا يبقى موضوع للاستصحاب. ولا فرق في عدم جريان الاستصحاب مع قيام الأمارة بين كونها قائمة على ارتفاع الحالة السابقة أو على بقائها ، إذ بعد ارتفاع الشك بالتعبد الشرعي لا يبقى موضوع للاستصحاب في الصورتين ، فكما لا مجال لجريان استصحاب النجاسة بعد قيام البينة على الطهارة ، فكذا لا مجال لجريانه بعد قيام البينة على بقاء النجاسة.

وظهر بما ذكرناه فساد ما في الكفاية (٣) من أنّ لازم القول بكون تقديم الأمارات على الاستصحاب من باب الحكومة جريان الاستصحاب فيما إذا قامت الأمارة على بقاء الحالة السابقة.

وقد يتوهم أنّ كون الأمارة حاكمةً على الاستصحاب إنّما يصح على المسلك المعروف في الفرق بين الأمارات والاصول ، من أنّه قد اخذ في موضوعها الشك ، بخلاف الأمارة فانّ أدلتها مطلقة ، فانّ الأمارة مزيلة للشك بالتعبد الشرعي ،

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٢) ورد مضمونه في الوسائل ١٨ : ١٣٥ / أبواب الربا ب ٧ ح ١ وغيره.

(٣) كفاية الاصول : ٤٢٩.

٢٩٩

فينتفي موضوع الاستصحاب. والاستصحاب لايوجب ارتفاع موضوع الأمارة ، إذ لم يؤخذ في موضوعها الشك ، بخلاف ما سلكناه من المسلك من أنّ الجهل بالواقع مأخوذ في موضوع الأمارات أيضاً على ما بيناه سابقاً (١).

وهو مدفوع بما ذكرناه في المقام لتقريب حكومة الأمارة على الاستصحاب من أنّ مفاد الحكومة عدم المنافاة حقيقة بين الدليل الحاكم والدليل المحكوم ، لأن مفاد الحاكم انتفاء موضوع المحكوم بالتعبد الشرعي ، ومفاد المحكوم ثبوت الحكم على تقدير وجود الموضوع ، فلا منافاة بينهما ، وعليه تكون الأمارة حاكمةً على الاستصحاب على المسلك المختار أيضاً ، فانّ الأمارة القائمة على ارتفاع الحالة السابقة تثبت انتفاء المتيقن السابق تعبداً ، فلا يبقى موضوع للاستصحاب.

الأمر الثالث : في تعارض الاستصحاب مع غيره ، ويقع الكلام في مراحل :

المرحلة الاولى : في تعارض الاستصحاب مع الأمارات ، وقد تقدم الكلام فيه وأنّ الأمارة حاكمة على الاستصحاب ، ولا يكون تقديمها عليه من باب التخصيص ولا من باب الورود لما تقدم ، ولا من باب التوفيق العرفي لعدم ثبوت التوفيق سوى الأوجه الثلاثة : من التخصيص والورود والحكومة.

المرحلة الثانية : في تعارض الاستصحاب مع سائر الاصول العملية ، ولا إشكال في تقدم الاستصحاب على جميع الاصول الشرعية والعقلية ، إنّما الكلام في وجه تقدمه عليها ، والظاهر أنّ تقدم الاستصحاب على الاصول العقلية من باب الورود ، لارتفاع موضوعها بالتعبد الاستصحابي ، فانّ موضوع البراءة

__________________

(١) في التنبيه الثامن ص ١٨١.

٣٠٠