موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-20-9
الصفحات: ٦٣١

وتممه الشارع؟ وقد ظهر ـ مما ذكرناه (١) في وجه تقديمها على الاستصحاب ـ كونها من الأمارات.

ولكنّه لا تترتب ثمرة على هذا النزاع ، إذ لا إشكال في تقدمها على الاستصحاب وإن قلنا بكونها من الاصول ، ولا في تأخرها عن الأمارات وإن قلنا بكونها منها ، فاذا شككنا ـ بعد الفراغ من صلاة المغرب مثلاً ـ بين الثلاث والأربع ، وقامت بينة على كونها أربع ، فلا إشكال في تقديم البينة على قاعدة الفراغ والحكم بفسادها. فاذن لا ثمرة بين القول بكونها من الاصول ، والقول بكونها من الأمارات.

وتوهّم ظهور الثمرة بينهما بالنسبة إلى اللوازم ، لحجية مثبتات الأمارات دون الاصول ، فاذا شككنا بعد الفراغ من الصلاة في إتيان الوضوء قبلها ، يحكم بصحة الصلاة المأتي بها لقاعدة الفراغ ، وبوجوب الوضوء للصلاة الباقية على القول بكونها من الاصول ، بخلاف القول بكونها من الأمارات ، فانّه لا يجب الوضوء حينئذ للصلاة الآتية أيضاً ، إذ لازم صحة الصلاة المأتي بها كونه متطهراً.

مدفوع بما ذكرناه في بحث الأصل المثبت (٢) من أنّه لا فرق بين الأمارات والاصول من هذه الجهة أصلاً ، ولا حجية لمثبتات الأمارات أيضاً إلاّفي باب الألفاظ ، لاستقرار سيرة العقلاء على الأخذ باللوازم في الاقرار ونحوه من الألفاظ ، لا لما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ الإخبار عن الملزوم إخبار عن اللازم ، لما ذكرناه سابقاً من أنّ الإخبار من العناوين القصدية ،

__________________

(١) في ص ٣١٥ ـ ٣١٦.

(٢) في ص ١٨٢ وما بعدها.

٣٢١

فلا يكون الإخبار عن الملزوم إخباراً عن اللازم إلاّمع العلم بالملازمة والالتفات إليها.

فالمتحصل مما ذكرناه في المقام : أنّه لا ثمرة بين القول بكون القاعدة من الاصول ، والقول بكونها من الأمارات.

الجهة الثالثة : في أنّ مورد بعض النصوص الواردة في قاعدة الفراغ وإن كان هو الطهارات والصلاة ، إلاّأ نّه نتعدى عنها لأمرين : الأوّل : العموم الوارد في موثقة ابن بكير من قوله عليه‌السلام : «كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو» (١). الثاني : عموم التعليل في بعض الأخبار كقوله عليه‌السلام : «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك» (٢) وكقوله عليه‌السلام : «وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك» (٣) فلا مانع من جريان قاعدة الفراغ في الطواف وغيره ، بل لا مانع من جريانها في العقود والايقاعات ، بل في المعاملات بالمعنى الأعم الشامل للعقود والايقاعات وغيرهما كالتطهير من الخبث ، فتجري قاعدة الفراغ في الجميع بمقتضى عموم الدليل على ما ذكرناه ، هذا كله في قاعدة الفراغ.

وأمّا قاعدة التجاوز ، فقد وقع الكلام بين الأعلام في أنّها مختصة بباب الصلاة ، أو أنّها من القواعد العامة ، ولا اختصاص لها بالصلاة؟ فذكر شيخنا الأنصاري (٤) وجماعة من الفقهاء أنّها من القواعد العامة ، إلاّأ نّه قد خرج عنها الوضوء للنصوص الخاصة الدالة على وجوب غسل العضو المشكوك فيه وما

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٣ ح ٣.

(٢) ، (٣) تقدّمت مصادرهما في ص ٣١٦.

(٤) فرائد الاصول ٢ : ٧٠٩ و ٧١٢.

٣٢٢

بعده ، وقد الحق بالوضوء الغسل والتيمم لتنقيح المناط أو للاجماع على ما يأتي التعرض له قريباً (١) إن شاء الله تعالى. واختار المحقق النائيني (٢) قدس‌سره اختصاصها بالصلاة ، وأنّ عدم جريانها في الطهارات الثلاث إنّما هو بالتخصص لا بالتخصيص.

ونحن نذكر مقدمةً لهذا البحث أمراً آخر ، وهو أنّ قاعدتي الفراغ والتجاوز هل هما قاعدة واحدة يعبّر عنها بقاعدة الفراغ تارةً وبقاعدة التجاوز اخرى ، أو قاعدتان مجعولتان بالاستقلال؟ إذ على تقدير كونهما قاعدة واحدة لا نحتاج إلى البحث عن كون قاعدة التجاوز قاعدة عامة أو مختصة بالصلاة بعد الفراغ من كون قاعدة الفراغ من القواعد العامة على ما تقدم.

فنقول : استدلوا على كونهما قاعدتين مجعولتين بالاستقلال بوجوه :

الوجه الأوّل : أنّ المجعول في قاعدة الفراغ مخالف للمجعول في قاعدة التجاوز بحيث لا يمكن الجمع بينهما في جعل واحد ، وذلك لأنّ المجعول في قاعدة الفراغ هو البناء على الصحة والتعبد بها بعد فرض الوجود ، والمجعول في قاعدة التجاوز هو البناء على الوجود والتعبد به مع فرض الشك فيه. وبعبارة اخرى : مورد التعبد في قاعدة الفراغ مفاد كان الناقصة ، ومورد التعبد في قاعدة التجاوز مفاد كان التامة ، فلا يمكن الجمع بينهما في دليل واحد ، إذ لا يمكن اجتماع فرض الوجود مع فرض الشك في الوجود في دليل واحد.

وأجاب عنه الشيخ (٣) قدس‌سره بأنّ المجعول في قاعدة الفراغ أيضاً هو

__________________

(١) في ص ٣٤٥.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢١٧ ، فوائد الاصول ٤ : ٦٢٦.

(٣) فرائد الاصول ٢ : ٧١٥.

٣٢٣

البناء على وجود الصحيح ، فان مفادها التعبد بوجود الصحيح ، فيكون مورد التعبد فيها أيضاً مفاد كان التامة ، فلا فرق بين القاعدتين من هذه الجهة.

وأورد عليه المحقق النائيني (١) قدس‌سره بوجهين : الأوّل : أنّ إرجاع قاعدة الفراغ إلى التعبد بوجود الصحيح خلاف ظاهر أدلتها ، فان ظاهر قوله عليه‌السلام : «كل ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكراً فأمضه ولا إعادة عليك» (٢) هو الحكم بصحة ما مضى من الصلاة والطهور ، فيكون مفادها التعبد بصحة الموجود لا التعبد بوجود الصحيح. ووجود الصحيح وإن كان لازماً لصحة الموجود ، إلاّأنّ مفاد الأدلة هو التعبد بالثاني.

الثاني : أنّ الارجاع المذكور على تقدير التسليم إنّما يصح في باب التكليف ، فانّ همّ العقل فيه هو إفراغ الذمة منه. ووجود العبادة الصحيحة ـ ولو بالتعبد ـ كافٍ في الحكم بالفراغ ، بخلاف المعاملات فانّ الآثار المجعولة على نحو القضايا الحقيقية إنّما تترتب على صحة شخص المعاملة المشكوك فيها ، فلا يكفي في ترتب الأثر التعبد بوجود معاملة صحيحة ، بل لا بدّ من إحراز صحة المعاملة الشخصية ولو بالتعبد. فلا يتم إرجاع قاعدة الفراغ إلى التعبد بوجود الصحيح في باب المعاملات على فرض تسليم تماميته في العبادات.

أقول : أمّا اعتراضه الأوّل فمتين ، لأن ظاهر قوله عليه‌السلام : «كلّ ما مضى من صلاتك ـ إلى قوله عليه‌السلام ـ فأمضه» هو الحكم بصحة ما مضى ، فارجاعه إلى الحكم بوجود الصحيح خلاف الظاهر.

وأمّا اعتراضه الثاني فلا يرجع إلى محصّل ، لأنّ مفاد قاعدة الفراغ ـ على

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢١٢ وراجع أيضاً فوائد الاصول ٤ : ٦٢٠ ـ ٦٢١.

(٢) الوسائل ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٦.

٣٢٤

تقدير الارجاع المذكور ـ هو الحكم بوجود الصحيح مما تعلق به الشك ، وهو كافٍ في ترتب الأثر ، فاذا باع زيد داره من عمرو بثمن معيّن ، وشك في صحة هذه المعاملة وفسادها ، كان مقتضى قاعدة الفراغ ـ بعد الارجاع المذكور ـ هو الحكم بوجود بيع صحيح يكون المبيع فيه الدار بالثمن المعيّن. والتعبد بوجود هذا البيع كافٍ في ترتب الأثر وإن لم تثبت صحة هذه المعاملة الشخصية الخارجية ، كما هو الحال في العبادات ، فانّه على تقدير الشك في صحة صلاة الظهر بعد الفراغ منها يحكم بوجود صلاة الظهر صحيحةً بمقتضى قاعدة الفراغ بعد الارجاع المذكور ، وهو كافٍ في حكم العقل بالفراغ وإن لم تثبت صحة الصلاة الشخصية. ولولا أنّ مفاد قاعدة الفراغ هذا المعنى ، لما كان للحكم بالفراغ مجال ، إذ لو كان مفادها هو الحكم بوجود صلاة صحيحة مطلقة ولو غير صلاة الظهر ، لم يكن مجال للحكم بالفراغ من صلاة الظهر في مفروض المثال ، فلا فرق بين العبادات والمعاملات من هذه الجهة ، فالعمدة هو الاعتراض الأوّل.

والتحقيق : أنّ الاستدلال المذكور ساقط من أصله ، لما ذكرناه مراراً (١) من أنّ معنى الاطلاق هو إلغاء جميع الخصوصيات لا الأخذ بجميعها ، فاذا جعل حكم لموضوعٍ مطلق معناه ثبوت الحكم له بالغاء جميع الخصوصيات ، كما إذا جعلت الحرمة للخمر المطلق مثلاً فانّه عبارة عن الحكم بحرمة الخمر بالغاء جميع الخصوصيات من كونه أحمر أو أصفر أو مأخوذاً من العنب أو من التمر وغيرها من الخصوصيات ، لا الحكم بحرمة الخمر مع لحاظ الخصوصيات والاحتفاظ بها ، بمعنى أنّ الخمر بما هو أحمر حرام ، وبما هو أصفر حرام ، وهكذا.

__________________

(١) راجع على سبيل المثال محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٥١٢.

٣٢٥

وحينئذ لا مانع من جعل قاعدة كلية شاملة لموارد قاعدة الفراغ وموارد قاعدة التجاوز بلا لحاظ خصوصيات الموارد ، بأن يكون موضوع القاعدة مطلق الشك في شيء بعد التجاوز عنه بلا لحاظ خصوصية كون الشك متعلقاً بالصحة أو بالوجود ، فيكون المجعول عدم الاعتناء بالشك في الشيء بعد التجاوز عنه بلا لحاظ كون الشك متعلقاً بالوجود أو بالصحة وغيرهما من خصوصيات المورد.

بل يمكن أن يقال : إنّ وصف الصحة من الأوصاف الانتزاعية التي ليس في الخارج بازائها شيء ، إذ هو منتزع من مطابقة المأتي به للمأمور به ، فالشك في الصحة دائماً يرجع إلى الشك في وجود جزء أو شرط ، فلا مانع من جعل قاعدة شاملة لموارد الشك في الوجود وموارد الشك في الصحة ، لكون الشك في الصحة راجعاً إلى الشك في الوجود ، فتكون قاعدة الفراغ راجعة إلى قاعدة التجاوز.

وقد يستشكل في ذلك : بأن إرجاع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز إنّما يصح فيما إذا كان الشك في الصحة ناشئاً من الشك في وجود الجزء ، بخلاف ما إذا كان ناشئاً من الشك في وجود الشرط ، كالطهارة من الحدث بالنسبة إلى الصلاة ، إذ لو شككنا في صحة صلاة الظهر مثلاً بعد الفراغ منها للشك في تحقق الطهارة من الحدث ، كان مقتضى قاعدة الفراغ ـ بعد إرجاعها إلى قاعدة التجاوز ـ هو التعبد بوجود الطهارة من الحدث ، ولازمه جواز الدخول في صلاة العصر من غير حاجة إلى تحصيل الطهارة ، ولا يمكن الالتزام به ولم يقل به أحد ، ولا يلزم ذلك على تقدير كون قاعدة الفراغ غير قاعدة التجاوز ، إذ مقتضاها حينئذٍ الحكم بصحة صلاة الظهر لا الحكم بوجود الطهارة من الحدث.

والجواب عن هذا الاشكال يحتاج إلى توضيح معنى الجزئية والشرطية ،

٣٢٦

وهو أنّ الجزء عبارة عما تعلق به الأمر منضماً إلى سائر الأجزاء ، فانّ الأمر بالكل ينبسط إلى أوامر متعددة متعلقة بكل واحد من الأجزاء ، بخلاف الشرط فانّه لا يكون متعلقاً للأمر ، كيف وقد يكون غير مقدور للمكلف كالوقت ، فمعنى اشتراط المأمور به بشرط ، هو تعلق الأمر بالطبيعة المقيدة بوجوده على نحو يكون التقيد داخلاً والقيد خارجاً ، فمعنى اشتراط الصلاة بالطهارة هو تعلق الأمر بايجادها مقترنةً مع الطهارة.

إذا عرفت ذلك يظهر لك الجواب عن الاشكال المذكور ، فان مورد التعبد هو اقتران صلاة الظهر بالطهارة لا وجود الطهارة ، وهو وإن كان لازماً لاقتران الصلاة بها ، إلاّأ نّه لا يثبت اللوازم بهذه القاعدة كالاستصحاب ، فلا يلزم من إرجاع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز التعبد بوجود الطهارة وعدم الاحتياج إليها بالنسبة إلى الصلاة الآتية.

الوجه الثاني : ما ذكره المحقق النائيني (١) قدس‌سره ، وهو أنّ مورد قاعدة الفراغ هو الشك في صحة الكل ، كالشك في صحة الصلاة بعد الفراغ منها ، ومورد قاعدة التجاوز هو الشك في وجود الجزء ، فجعل قاعدة الفراغ يحتاج إلى لحاظ الكل بالاستقلال ، ولحاظ الجزء بالتبع وبالتصور التبعي الاندكاكي ، وجعل قاعدة التجاوز يحتاج إلى لحاظ الجزء باللحاظ الاستقلالي ، فالجمع بين القاعدتين يستلزم تعلق اللحاظ الاستقلالي والتبعي بشيء واحد ، وهو مما لا يمكن.

ويمكن الجواب عنه بوجوه :

الأوّل : أنّه لا اختصاص لقاعدة الفراغ بالشك في صحة الكل ، بل تجري

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢١٢ ـ ٢١٣ ، فوائد الاصول ٤ : ٦٢١ ـ ٦٢٢.

٣٢٧

عند الشك في صحة الجزء أيضاً ، ولعله المشهور ، فعلى تقدير تعدد القاعدتين أيضاً يلزم تعلق اللحاظ الاستقلالي والتبعي بالجزء في جعل نفس قاعدة الفراغ ، فما به الجواب على تقدير التعدد يجاب به على تقدير الاتحاد أيضاً.

الثاني : أنّ الجمع بين القاعدتين ممكن بالغاء الخصوصيات على ما ذكرناه ، فانّ لحاظ الكل والجزء بما هما كل وجزء يستلزم اجتماع اللحاظ الاستقلالي والتبعي في الجزء ، بخلاف لحاظهما مع إلغاء خصوصية الجزئية والكلية ، بأن يلاحظ لفظ عام شامل لهما كلفظ الشيء ، ويحكم بعدم الاعتناء بالشك فيه بعد الخروج عن محلّه ، فانّه لا محذور فيه أصلاً.

الثالث : ما ذكرناه أخيراً من أنّ الشك في صحة الصلاة مثلاً بعد الفراغ منها يكون ناشئاً من الشك في وجود الجزء أو الشرط ، فيكون مورداً لقاعدة التجاوز ، ويحكم بوجود المشكوك فيه ، فلا حاجة إلى جعل قاعدة الفراغ مستقلاً.

الوجه الثالث : أنّ الجمع بين القاعدتين يستلزم استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمعنى العنائي وهو لا يجوز ، وذلك لأنّ التجاوز عن الشيء في مورد قاعدة الفراغ هو التجاوز الحقيقي ، إذ الشك متعلق بصحته مع العلم بوجوده ، فيصدق التجاوز عنه حقيقة. بخلاف التجاوز في مورد قاعدة التجاوز ، فانّه لا يصدق التجاوز الحقيقي عن الشيء مع الشك في وجوده ، فلا بدّ من إعمال عناية بأن يكون المراد من التجاوز عن الشيء هو التجاوز عن محله على طريقة المجاز في الكلمة أو في الاسناد أو في الحذف ، بأن يراد من الشيء محله ، أو يسند التجاوز إليه بالاسناد المجازي ، أو يقدّر المضاف وهو لفظ المحل ، فالجمع بين القاعدتين في جعل واحد يستلزم الجمع بين المعنى الحقيقي والعنائي ، وهو لا يجوز.

ويظهر الجواب عن هذا الاستدلال مما ذكرناه من أنّ الشك في الصحة دائماً

٣٢٨

ناشئ من الشك في وجود الجزء أو الشرط ، فالتجاوز في مورد قاعدة الفراغ أيضاً هو التجاوز عن محل الشيء المشكوك فيه ، سواء كان جزءاً أو شرطاً ، فلا فرق بين قاعدة الفراغ والتجاوز من هذه الجهة ، ولا يلزم الجمع بين المعنى الحقيقي والعنائي.

الوجه الرابع : ما ذكره المحقق النائيني (١) قدس‌سره أيضاً ، وهو أنّ الجمع بين القاعدتين في جعل واحد يستلزم التدافع بينهما فيما إذا شك في جزء بعد الدخول في جزء آخر ، ولا يلزم ذلك لو كانتا مجعولتين بالاستقلال ، بيان ذلك : أنّه إذا شك في الركوع مثلاً بعد الدخول في السجود ، كان مقتضى مفهوم قاعدة الفراغ الاعتناء بالشك والاتيان بالمشكوك فيه ، لكونه قبل الفراغ من الصلاة. وقد صرّح بهذا المفهوم في قوله عليه‌السلام : «إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» (٢) ومقتضى منطوق قاعدة التجاوز عدم الاعتناء بهذا الشك ، لكونه شكاً بعد الدخول في الغير ، وبعد التجاوز عن محل المشكوك فيه على الفرض ، وهذا هو التدافع. وأمّا على تقدير كون القاعدتين مجعولتين بالاستقلال فلا محذور ، إذ يقدّم منطوق قاعدة التجاوز على مفهوم قاعدة الفراغ بالحكومة أو بالتخصيص ، لأن أدلة قاعدة التجاوز واردة في موارد مفهوم قاعدة الفراغ ، فلو لم تقدّم قاعدة التجاوز على مفهوم قاعدة الفراغ ، لم يبق لقاعدة التجاوز مورد ، وبعد تقديم قاعدة التجاوز والحكم بتحقق الركوع في مفروض المثال لا يلزم محذور أصلاً.

والجواب عنه : أنّ الشك في صحة الصلاة في مفروض المثال مسبب عن

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢١٣ ، فوائد الاصول ٤ : ٦٢٢.

(٢) الوسائل ١ : ٤٦٩ ـ ٤٧٠ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٢.

٣٢٩

الشك في وجود الركوع ، لما ذكرناه من أنّ الشك في الصحة دائماً ناشئ من الشك في وجود الجزء أو الشرط ، فبعد الحكم بوجود الركوع لقاعدة التجاوز ، لا يبقى شك في صحة الصلاة حتى يكون مورداً لمفهوم قاعدة الفراغ ، ويقع التدافع بينه وبين منطوق قاعدة التجاوز. وكذا الحال في الشك في صحة كل جزء لأجل الشك في وجود جزء آخر ، فانّ الشك في تحقق الركوع في المثال يوجب الشك في صحة السجود ، إذ يشترط في السجود وقوعه بعد الركوع ، فالشك في صحة السجود وإن كان مورداً لمفهوم قاعدة الفراغ ويجب الاعتناء به لكونه قبل الفراغ ، إلاّأ نّه حيث يكون مسبباً عن الشك في تحقق الركوع ، ومقتضى قاعدة التجاوز التعبد بوجوده ، وبه يرتفع الشك في صحة السجود ، فان صحة السجود من الآثار الشرعية للتعبد بوجود الركوع.

والذي تحصّل مما ذكرناه في المقام إمكان كون القاعدتين قاعدةً واحدةً بارجاع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز ، لرجوع الشك في الصحة إلى الشك في الوجود على ما ذكرناه.

والتزم المحقق النائيني (١) قدس‌سره بوحدة القاعدتين على عكس ما ذكرناه ، وأرجع قاعدة التجاوز إلى قاعدة الفراغ ، بيانه : أنّ قاعدة الفراغ قاعدة كلية ، ومفادها عدم الاعتناء بالشك في صحة المركب بعد الفراغ منه ، ولا اختصاص لها بباب دون باب. وقاعدة التجاوز قاعدة مجعولة في خصوص باب الصلاة ، ومفادها عدم الاعتناء بالشك في جزء بعد التجاوز عنه والدخول في جزء آخر ، فأدلة قاعدة التجاوز قد ألحقت الجزء بالكل في عدم الاعتناء بالشك فيه بعد الدخول في الجزء الآخر في خصوص باب الصلاة ، فهي حاكمة

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢١٦ ـ ٢١٧ ، فوائد الاصول ٤ : ٦٢٣ ـ ٦٢٥.

٣٣٠

على أدلة قاعدة الفراغ على نحو توسعة الموضوع وإلحاق الجزء بالكل ، فيكون مورد قاعدة التجاوز من صغريات قاعدة الفراغ بالتنزيل والتعبد الشرعي.

مثلاً قد استفدنا من موثقة ابن أبي يعفور (١) أنّ الشك في الشيء إذالم يكن بعد الفراغ منه يجب الاعتناء به ، لكن صحيحة زرارة (٢) وموثقة إسماعيل بن جابر (٣) الدالتان على عدم الاعتناء بالشك في الجزء بعد الدخول في الجزء الآخر

__________________

(١) نقل في الوسائل عن محمّد بن الحسن عن المفيد عن أحمد بن محمّد عن أبيه عن سعد ابن عبدالله عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن عبدالكريم بن عمرو عن عبدالله بن أبي يعفور عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال (عليه‌السلام): «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشيء إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» [الوسائل ١ : ٤٦٩ ـ ٤٧٠ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٢].

(٢) نقل في الوسائل عن محمّد بن الحسن باسناده عن أحمد بن محمّد عن أحمد بن محمّد ابن أبي نصر عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبدالله عن زرارة قال : «قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : رجل شك في الأذان وقد دخل في الاقامة؟ قال عليه‌السلام : يمضي. قلت : رجل شك في الأذان والاقامة وقد كبّر؟ قال عليه‌السلام : يمضي. قلت : رجل شك في التكبير وقد قرأ؟ قال عليه‌السلام : يمضي. قلت : شك في القراءة وقد ركع؟ قال عليه‌السلام : يمضي. قلت : شك في الركوع وقد سجد؟ قال عليه‌السلام : يمضي على صلاته ، ثمّ قال عليه‌السلام : يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشككت فليس بشيء» [الوسائل ٨ : ٢٣٧ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٣ ح ١].

(٣) وفي الوسائل أيضاً عن محمّد بن الحسن باسناده عن سعد عن أحمد بن محمّد عن

٣٣١

في خصوص الصلاة قد دلتا على أنّ حال أجزاء الصلاة حال المركبات المستقلة في عدم الاعتناء بالشك فيها فيما إذا كان الشك بعد الدخول في الجزء الآخر ، وعليه يكون التجاوز عن محل الجزء المشكوك فيه بمنزلة التجاوز عن المركب ، هذا ملخص كلامه قدس‌سره.

وفيه : أنّه لا وجه لتخصيص قاعدة الفراغ بالشك في صحة الكل ، لشمول أدلتها للشك في صحة الجزء أيضاً بعد الفراغ منه ، كما إذا شك في صحة التكبير بعد الدخول في القراءة ، فانّ مثل قوله عليه‌السلام في موثقة ابن بكير : «كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو» (١) يشمل الشك في صحة الجزء أيضاً ، لأن لفظ الشيء يعم الجزء والكل. ولو قلنا بكون قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز قاعدتين مستقلتين ، لم يكن الميز بينهما باختصاص قاعدة الفراغ بالشك في الكل واختصاص قاعدة التجاوز بالشك في الجزء ، بل الفرق بينهما إنّما هو باختصاص قاعدة الفراغ بالشك في الصحة مع فرض الوجود ، واختصاص قاعدة التجاوز بالشك في الوجود دون الصحة. وإن كان التحقيق رجوع الشك في الصحة أيضاً إلى الشك في الوجود ، ولذا التزمنا بامكان كونهما قاعدة واحدة.

وأمّا موثقة ابن أبي يعفور ، فلا يصح الاستدلال بها لقاعدة الفراغ ، لأنّ الضمير في قوله عليه‌السلام : «وقد دخلت في غيره» إن كان راجعاً إلى الشيء ،

__________________

أبيه عن عبدالله بن المغيرة عن إسماعيل بن جابر قال «قال أبو جعفر عليه‌السلام : إن شك في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شك في السجود بعد ما قام فليمض. كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» [الوسائل ٦ : ٣١٧ ـ ٣١٨ / أبواب الركوع ب ١٣ ح ٤].

(١) الوسائل ٨ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٣ ح ٣.

٣٣٢

كان مفادها قاعدة التجاوز في باب الوضوء ، وهو خلاف الاجماع والنصوص (١) الدالة على عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء. وإن كان راجعاً إلى الوضوء كان مفادها قاعدة الفراغ كما ذكره.

والظاهر رجوعه إلى الشيء كسائر الروايات المذكورة فيها التجاوز عن الشيء المشكوك فيه ، ولا أقل من تساوي احتماله مع احتمال الرجوع إلى الوضوء ، فلا يكون ظاهراً في الرجوع إلى الوضوء ، فهي مجملة ساقطة عن مقام الاستدلال بها.

ولو سلّمنا كونه ظاهراً أو صريحاً في الرجوع إلى الوضوء ، فكان مفادها قاعدة الفراغ أصلاً وعكساً ، بمعنى عدم وجوب الاعتناء بالشك بعد الفراغ من الوضوء ووجوب الاعتناء به قبل الفراغ منه ، فيقع التعارض بينها عكساً وبين الروايات الدالة على قاعدة التجاوز ، فانّها بعمومها تدل على عدم الاعتناء بالشك في جزء بعد الدخول في جزء آخر ، فلا وجه لجعل أدلة قاعدة التجاوز حاكمةً على أدلة قاعدة الفراغ.

فتحصّل مما ذكرناه في المقام : إمكان أن يكون المجعول أمراً واحداً يسمى بقاعدة الفراغ تارةً وبقاعدة التجاوز اخرى ، بارجاع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز ، لا العكس على ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره. هذا كله في مقام الثبوت والامكان.

وأمّا مقام الاثبات والوقوع ، فهل المستفاد من الأدلة كون المجعول أمراً واحداً أو أمرين؟ فلا بدّ من النظر إلى الأدلة والبحث عن مفادها.

__________________

(١) راجع الوسائل ١ : ٤٦٩ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ١.

٣٣٣

فنقول : أمّا الروايات الواردة في قاعدة الفراغ فهي كثيرة يختص بعضها بالطهارات وبعضها بالصلاة. وهناك روايتان : إحداهما (١) خاصة بالطهارة والصلاة. ثانيتهما (٢) : لا تختص بمورد ، بل هي شاملة للطهور والصلاة وغيرهما. والظاهر من لفظ المضي في هذين الخبرين هو مضي الشيء المشكوك فيه حقيقة ، وحمله على مضي محل المشكوك فيه بتقدير لفظ المحل أو من باب الاسناد المجازي يحتاج إلى القرينة ، فيكون مفادهما عدم الاعتناء بالشك في شيء بعد مضي هذا الشيء المشكوك فيه ، ولا يصدق المضي إلاّبعد الوجود ، فانّه من الواضحات المعروفة أنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، فيكون مفادهما قاعدة الفراغ فقط دون قاعدة التجاوز. نعم ، لا نضايق عن دلالتهما على قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الجزء أيضاً ، كما إذا شك في صحة التكبير مع العلم بوجوده لشمول لفظ الشيء للكل والجزء كما تقدم.

وبالجملة : لو كنا وهذين الخبرين لم نستفد منهما قاعدة التجاوز أصلاً ، إلاّ أنّه هناك روايتان تدلان على قاعدة التجاوز : الاولى صحيحة زرارة. الثانية :

__________________

(١) نقل في الوسائل عن محمّد بن الحسن باسناده عن سعد بن عبدالله عن موسى بن جعفر عن أبي جعفر عن الحسن ابن الحسين اللؤلؤي عن الحسن بن علي بن فضال عن عبدالله بن بكير عن محمّد بن مسلم قال : «سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : كل ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكراً فأمضه ، ولا اعادة عليك فيه» [الوسائل ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٦].

(٢) وفي الوسائل أيضاً عن محمّد بن الحسن عن الحسين بن سعيد عن صفوان عن ابن بكير عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال (عليه‌السلام): «كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو» [الوسائل ٨ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٢٣ ح ٣] وهي موثقة.

٣٣٤

موثقة إسماعيل بن جابر ، وقد تقدمت الاشارة إليهما (١) عند نقل كلام المحقق النائيني قدس‌سره. ومن المعلوم أنّ المراد من الخروج من الشيء المشكوك فيه المذكور في الصحيحة هو الخروج عن محله ، إذ لا يصدق الخروج عن الركوع مثلاً مع فرض الشك في وجوده ، فالمراد هو الشك في وجوده مع الخروج عن محله. وكذا المراد من التجاوز عن الشيء المشكوك فيه المذكور في الموثقة هو التجاوز عن محله ، فيكون مفادهما قاعدة التجاوز بمعنى عدم الاعتناء بالشك في شيء بعد التجاوز عن محله.

فتحصّل مما ذكرناه : أنّ المستفاد من ظواهر الأدلة كون القاعدتين مجعولتين بالاستقلال ، وأنّ ملاك إحداهما غير ملاك الاخرى ، فانّ ملاك قاعدة الفراغ هو الشك في صحة الشيء مع إحراز وجوده ، وملاك قاعدة التجاوز هو الشك في وجود الشيء بعد التجاوز عن محله ، وإذن لا بدّ من البحث عن كل واحدة منهما منفردة من حيث كونهما من القواعد العامة ، أو مختصة بباب دون باب ، ومن حيث الشرائط ، إذ يمكن أن تكون إحداهما من القواعد العامة ، والاخرى مختصة بباب دون باب. وكذا يمكن أن يعتبر في إحداهما ما لا يعتبر في الاخرى.

فنقول : أمّا قاعدة الفراغ فقد تقدم (٢) كونها من القواعد العامة فلا نعيد. وأمّا قاعدة التجاوز فاستظهر المحقق النائيني قدس‌سره من الأدلة اختصاصها بالصلاة كما تقدم (٣).

وربّما يقال في وجه الاختصاص : إنّ دليل قاعدة التجاوز هي صحيحة

__________________

(١) في ذيل الصفحة ٣٣١ ـ ٣٣٢ فراجع.

(٢) في ص ٣٢٢.

(٣) في ص ٣٢٣ ، ٣٣٠.

٣٣٥

زرارة وموثقة إسماعيل بن جابر (١) ، ولا يستفاد العموم منهما.

أمّا الصحيحة ، فلأنّ المذكور فيها لفظ الشيء مع التنكير في قوله عليه‌السلام : «إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره ...» وهو مطلق لا يستفاد منه العموم إلاّبجريان مقدمات الحكمة.

وأمّا الموثقة ، فلأنّ المذكور فيها وإن كان من ألفاظ العموم وهو لفظ «كل» في قوله عليه‌السلام : «كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ...» إلاّأن عمومه تابع لما يراد من مدخوله على ما ذكره صاحب الكفاية (٢) قدس‌سره فان اريد منه خصوص شيء من أجزاء الصلاة ، فالمراد من لفظ «كل» عموم الحكم لجميع أجزاء الصلاة. وإن اريد منه الطبيعة المطلقة ـ أي مطلق ما يطلق عليه الشيء ـ فالمراد من لفظ «كل» عموم الحكم لجميع أفراده ، فاستفادة عموم الأفراد منه يحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة في مدخوله ، وهي غير جارية في المقام ، إذ من جملة المقدمات عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ، وهو موجود في الصحيحة والموثقة ، وهو الشك في الأذان بعد الدخول في الإقامة ، إلى آخر ما ذكره في الصحيحة من الفروض. وكذلك الحال في الموثقة ، فانّ المذكور فيها الشك في الركوع بعد الدخول في السجدة ، والشك في السجود بعد القيام ، ومع هذا لا يمكن التمسك بالاطلاق.

وفيه أوّلاً : أنّ وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب غير مانع من التمسك بالاطلاق ، فانّ المانع هو القرينة على التعيين ، ومجرد وجود القدر المتيقن لا يوجب التعيين مع إطلاق الحكم عند التخاطب ، ولذا تسالم الفقهاء على

__________________

(١) تقدّمتا في ص ٣٣١ ـ ٣٣٢.

(٢) كفاية الاصول : ٢١٧.

٣٣٦

التمسك بالاطلاق مع وجود القدر المتيقن في موارد كثيرة منها : الرواية (١) الدالة على عدم جواز الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، مع كون مورد السؤال هو الثعالب والفنك والسنجاب ، فهل يظن فقيه أو متفقه عدم جواز التمسك باطلاق قوله عليه‌السلام : «وإن كان غير ذلك مما قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كل شيء منه فاسد» لوجود القدر المتيقن ، وهو الحيوانات المذكورة في السؤال.

وبالجملة : وجود القدر المتيقن لا يمنع من التمسك بالاطلاق مع كون الكلام ظاهراً في أنّ الإمام عليه‌السلام في صدد بيان ضابطة كلية.

وثانياً : أنّه على فرض تسليم عدم جريان مقدمات الحكمة لا مانع من التمسك بموثقة إسماعيل بن جابر ، إذ العموم فيه وضعي لا يحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة. وما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره ـ من أنّ استفادة

__________________

(١) نقل في الوسائل عن محمّد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن بكير قال : «سأل زرارة أبا عبدالله عليه‌السلام عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر ، فأخرج عليه‌السلام كتاباً زعم أنّه إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله ، فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شيء منه فاسد ، لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلي في غيره مما أحل الله أكله ، ثمّ قال عليه‌السلام : يا زرارة هذا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاحفظ ذلك يا زرارة. فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شيء منه جائز ، إذا علمت أنّه ذكي وقد ذكاه الذبح ، وإن كان غير ذلك مما قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كل شيء منه فاسدة ذكاه الذبح أو لم يذكّه» [الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ١].

٣٣٧

العموم من لفظ «كل» يحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة في مدخوله ـ قد أبطلناه في مبحث العام والخاص (١) بما ملخصه : أنّ لفظ «كل» موضوع للعموم ، فيكون قرينة على أنّ المراد من مدخوله مطلق الشيء لا خصوص الصلاة ، فاستفادة العموم من قوله عليه‌السلام : «كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ...» لا يحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة.

فتحصّل : أنّ قاعدة التجاوز ليست مختصة بباب الصلاة ، بل تجري في كل مركب شك في أحد أجزائه بعد الدخول في الجزء الآخر إلاّالوضوء للنص الخاص (٢) ، وفي إلحاق الغسل والتيمم به ـ في عدم جريان قاعدة التجاوز ـ كلام نتعرض له قريباً (٣) إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّه يعتبر في قاعدة التجاوز الدخول في الغير ، لكونه مأخوذاً فيها في صحيحة زرارة وموثقة إسماعيل بن جابر المتقدمتين (٤) ، مضافاً إلى أنّه لو لم يذكر الدخول في الغير فيهما لأمكن استفادة اعتباره منهما ، وذلك لأنّ المذكور فيهما هو الخروج عن الشيء والتجاوز عنه ، ولا يتصور الخروج عن الشيء حقيقة والتجاوز عنه كذلك مع فرض الشك في وجوده ، فلا محالة يكون المراد الخروج عن محله والتجاوز عنه من باب الاسناد المجازي ، أو باعتبار تقدير المحل. ولا يتحقق الخروج أو التجاوز عن محل الشيء المشكوك فيه إلاّبعد الدخول في غيره ، فيكون ذكر الدخول في الغير ـ بعد الخروج في الصحيحة

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٣٠٥ وما بعدها.

(٢) يأتي ذكره في ص ٣٤٤.

(٣) في ص ٣٤٥.

(٤) في ص ٣٣١ ـ ٣٣٢.

٣٣٨

وبعد التجاوز في الموثقة ـ قيداً توضيحياً من العطف التفسيري ، فاعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز مما لا ينبغي الارتياب فيه.

إنّما الكلام في اعتباره في قاعدة الفراغ ، والكلام فيه يقع في مقامين : الأوّل : في المقتضي ، والبحث عن شمول إطلاق الدليل لموارد عدم الدخول في الغير. الثاني : في المانع ، والبحث عمّا يصلح لتقييد الدليل وتخصيصه بموارد الدخول في الغير بعد الالتزام باطلاقه.

أمّا المقام الأوّل : فقد قيل بعدم إطلاق الأدلة ، واستدل له بوجوه :

الوجه الأوّل : أنّ المطلق منصرف إلى الأفراد الغالبة ، فلا يشمل الفرد النادر ، والغالب في الشك في الصحة بعد الفراغ هو الشك بعد الدخول في الغير.

وفيه : أنّ الممنوع هو اختصاص الحكم بالفرد النادر لا شموله له ، إذ كون الفرد نادراً لا يوجب خروجه عن الطبيعة المطلقة ، ولذا لا مجال لتوهم اختصاص الحكم بعدم جواز الصلاة في أجزاء غير المأكول بأجزاء الحيوانات التي يبتلي المكلف بها غالباً ، فانّ إطلاق قوله عليه‌السلام : «وإن كان مما قد نهيت عن أكله ، فالصلاة في كل شيء منه فاسد» (١) يشمل الحيوانات النادرة أيضاً كالكركدن مثلاً.

الوجه الثاني : أنّ شمول الاطلاق في مثل قوله عليه‌السلام في موثقة ابن بكير : «كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو» (٢) للشك قبل الدخول في الغير يحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة على ما تقدم نقله عن صاحب

__________________

(١) تقدّمت الرواية في ص ٣٣٧.

(٢) تقدّمت الرواية في ص ٣٣٤.

٣٣٩

الكفاية قدس‌سره.

وقد تقدّم الجواب عن هذا الوجه عند التكلم في كون قاعدة التجاوز من القواعد العامة (١) ، فلا حاجة إلى الاعادة.

الوجه الثالث : ما ذكره المحقق النائيني (٢) قدس‌سره واعتمد عليه ، وهو أنّ شمول الحكم لجميع أفراد الطبيعة إنّما هو فيما إذا كانت الطبيعة غير مشككة في الصدق كالماء ، فانّ صدقه على ماء البحر والمطر والبئر وغيرها من أفراد الماء على حد سواء ، فالحكم بأنّ الماء طاهر يشمل جميع الأفراد ، بخلاف ما إذا كانت الطبيعة مشككة في الصدق كالحيوان ، فان صدقه على الانسان لا يخلو من خفاء في نظر العرف ، مع كونه عبارة عن جسم ذي حياة ، والانسان كذلك ، لكن صدقه عليه لا يخلو من خفاء عرفاً ، ولذالو خوطب إنسان ب : يا أيّها الحيوان لتضجر ، ولا تشمله الأدلة الدالة على عدم جواز الصلاة في شعر ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات ، فالانسان تجوز الصلاة في شعره قطعاً مع كونه حيواناً لا يؤكل لحمه.

والمقام من هذا القبيل ، فان صدق المضي على المضي مع عدم الدخول في الغير لا يكون في رتبة صدقه مع الدخول في الغير ، فلا يكون المضي مع عدم الدخول في الغير مشمولاً لأدلة قاعدة الفراغ.

وفيه : أنّ مجرد التشكيك ليس مانعاً من شمول الاطلاق لجميع الأفراد.

نعم ، التشكيك بالظهور والخفاء يوجب اختصاص الحكم بالظاهر دون الخفي

__________________

(١) راجع ص ٣٣٥ ـ ٣٣٨.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

٣٤٠