فمثلا : لمجرد الإيضاح ، ليس لنا أن نسأل أنه تعالى : لما ذا جعل آيات سورة البقرة طوالا وآيات سورة ق قصارا؟ أو أنه لما ذا جعل النسق في السورة الفلانية بالنون والأخرى بالقاف والأخرى بالميم؟ وهكذا. فإنها كلها أمور اختيارية غير قابلة للمناقشة.
ومنها : إن قصور اللغة يمكن أن يكون هو المسئول عن كثير من الظواهر الكلامية. في حين أن التوسع في اللغة هو الحاجة الضرورية لكثير من الأمور كالقوافي الشعرية والسجع ولزوم ما لا يلزم ، كما في لزوميات المعري ومقامات الحريري وغيرها. فإذا لم يوجد في صدد معين إلّا ثلاث كلمات أو أربع اضطر المتكلم إلى حصر حديثه في نطاق ضيق أو إلى تكرار العبارات نفسها لإتمام مقصوده. وهذا هو الذي أعنيه من قصور اللغة. وهو باب واسع قد لا يقتصر على هذا المجال.
ولعل هذا هو الذي يفسر لنا عددا من ظهور النسق القرآني ، أعني نهايات الآيات ، أو الرويّ وهو ما قبل النهاية. كتكرار لفظ الناس في سورة الناس ، والتكرار في سورة «ق» و «ص» وغيرهما. ومن ذلك تغير النسق في سورة مريم بمقدار ست آيات ونحو ذلك.
فإن قلت : ولكن الله قادر على كل شيء ، فهو قادر على أن يوجد كلمات كثيرة غير مكررة لحفظ النسق.
قلت : هذا وهم. فإن القدرة وإن كانت تامة ولا نهائية في ذات الله سبحانه ، لكنها تتعلق بالممكن والمقدور. أما المستحيلات فلا تتعلق بها القدرة ، كما هو المبرهن عليه في محله من علم الكلام ، لقصور الموضوع لا لقصور الفاعل.
ومن جملة قصور الموضوع ، قصور اللغة ، فإنها ليس فيها من الكلمات ما يكفي لأجل سد الحاجة. ولا يمكن اختيار الكلمات إلّا بالمقدار المناسب مع المجتمع وما يفهمه الناس ، ولا يمكن أن نتكلم بكلام غير مفهوم باعتبار إتمام السجع أو النسق أو الرويّ ، بطبيعة الحال.