وهذا نظير قوله تعالى : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١) ، فإنه يستحيل صدور الظلم من الله سبحانه ؛ لمنافاته مقام ألوهيته .. ولكن ذلك لا يعني محدودية قدرته سبحانه ، وصيرورته عاجزا على الحقيقة. بل إن الله سبحانه قادر على كل شيء في جميع الأحوال ..
وهذا نظير قولنا : إن الأم يستحيل أن تقتل ولدها تشهّيا منها ، ما دامت تملك العقل ، والتوازن ، وعاطفة الأمومة ، كما أن الإنسان لا يقدم على شرب السم ، والمؤمن الواعي لا يقدم على أكل الميتة ، ولحم الخنزير. ولكن ذلك لا يعني العجز التكويني لهؤلاء عن ذلك كلّه ..
وهذا بالذات هو حال الأنبياء أيضا ، فإنهم لا يعصون الله ، ولا يطيعون الآثم والكفور ، لوجود المنافرة الحقيقية ، والبغض الحقيقي في نفوسهم لمثل هذه الأمور .. دون أن يكون ثمّة عجز تكويني عن ذلك.
فقول الله سبحانه لنبيّه : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) ، قد جاء خطابا إلهيا متوافقا مع مقتضيات الأحكام الظاهرية للبشر ، لأنهم مخاطبون بما يخاطب الله به غيرهم ..
ومكلفون به ما دام أنه يقع في دائرة ما تقتضيه قدراتهم البشرية ، بغض النظر عن عصمتهم ، ومع ملاحظة أن عصمتهم إنما هي اختيارية لهم.
والخلاصة : أن الأنبياء مكلفون ـ كغيرهم ـ بالاجتناب عن جميع المعاصي ، وامتثال جميع الأوامر ، ولكن ذلك لا يعني : أن يكون الأنبياء ـ بملاحظة ملكة العصمة فيهم ـ مظنة صدور ذلك منهم .. بل هو يعني : أن هذه الأمور تقع في دائرة اختيارهم ، في نطاق قدراتهم البشريّة.
__________________
(١) سورة الكهف الآية ٤٩.