فالبكاء في الواقع نحو تشفٍّ للقلب وتخلية للباطن ومثلِّل للأحقاد والضغائن ، ولذا كان أهل مكة ينهون نساءهم عن البكاء على قتلى بدر ؛ كي لا تخمد نار العداوة ولا يقعدوا عن قصد الانتقام ، كما صنعوا ذلك ، إذ هيّؤوا الأسباب لغزوة اُحُد في السنة الآتية.
وكيف كان ، فالبكاء مستند إلى رقة القلب المسبَّبة عن التناسب بين الباكيّ والمبكيّ عليه ، وكلما ازدادت المناسبة اشتد البكاء ، فيكشف ذلك عن فرط المحبة. مثلاً : إن كان المبكيّ عليه مؤمناً أو عالماً أو هاشمياً فتشتد العلاقة ، وبسببها [يشتد] البكاء ، فالبكاء على آل محمد ـ صلوات الله عليهم ـ به سبب القرابة من النبي كاشف عن فرط الولاء والمحبة ، فحسنه من جهة المكشوف عنه ، وإلا فلا خصوصية للكاشف ، ولذا كان التباكي كالبكاء من حيث إقامة الشعار وحفظ شؤونات المحبوبية ، فالتباكي في هذا المقام كالتيمم بدل اضطراري من الماء والنظر إلى المكشوف عنه لا الكاشف.
ومن هنا تندفع إشكالات كثيرة من حيث العكس والطرد ؛ فإن بكاء ابن سعد وأمثالهم في كربلا ما كان مسبَّباً عن المحبة والولاية لخصوص [الـ] عترة الطاهرة ، بل كان لقتضاء الطبيعة البشرية ، وقد قلنا : إن الغرض هو المكشوف عنه.
وكذلك الإشكال في أن خروج قطرة من العين كيف يطفئ نار جهنم ويوجب محو السيئات الكثيرة ، وأيّ مناسبة بين العمل القليل والجزاء الكثير؟ فإنّ جوابه ـ مع قطع النظر عن كون مبدأ الفيض غير متناهية فيوضاته ، ويعطي الكثير بالقليل و (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (١) ـ أن هذه الثمرات في الحقيقة على المكشوف ـ وهو الولاء والمحبة ـ لا نفس البكاء.
قوله : «أين الحسن وأين الحسين».
هذا الكلام مزيد توجّع وتحسّر ؛ على ما أشرنا إليه من أن الاستفهام ليس على حقيقته. وأمثال هذه الكلمات على الطبيعة البشرية تحريص وترغيب وبعث على الانتقام ، واستدعاء من الواحد القهار ، أو تشجيع واستغاثة إلى حضرة حجة الله عجل الله فرجه.
ولا يخفى ما في العبارة من اللطف في التعداد ، فإنّ أبناء الحسين إلى حجة العصر ثمانية ، يمكن أن تكون العبارات «صالح بعد صالح» إلى قوله «بعد الخيرة» على الترتيب
__________________
١. سورة الأنبياء ، الآية ٢٣.