قد كان منزله مألف الأضياف ، ومأنس الأشراف ، ومنتجع الرّكب ، ومقصد الوفد ، فاستبدل بالأنس وحشة ، وبالضياء ظلمة ، واعتاض من تزاحم المواكب ، تلاطم النّوادب ، ومن ضجيج النداء والصّهيل ، عجيج البكاء والعويل.
ومن رسالة لابن الأثير الجزري يصف دمنة دار لعبت بها أيدي الزمن ، وفرقت بين المسكن والسكن : كانت مقاصير جنّة ، فأصبحت وهي ملاعب جنّة ، وقد عميت أخبار قطّانها ، وآثار أوطانها ، حتى شابهت إحداهما في الخفاء ، الأخرى في العفاء ، وكنت أظن أنها لا تسقى بعدهم بغمام ، ولا يرفع عنها جلباب ظلام ، غير أن السحاب بكاهم فأجرى بها هوامع دموعه ، والليل شقّ عليهم جيوبه فظهر الصباح من خلال صدوعه.
وقد لمح في بعض كلامه قول الشريف الرضي من أبيات يصف فيها ما كان في الحيرة من منازل النعمان بن المنذر (١) : [الكامل]
ما زلت أطّرق المنازل باللّوى |
|
حتّى نزلت منازل النّعمان |
بالحيرة البيضاء حيث تقابلت |
|
شمّ العماد عريضة الأعطان(٢) |
ما ينفع الماضين أن بقيت لهم |
|
خطط معمّرة بعمر فاني |
شهدت بفضل الرّافعين قبابها |
|
ويبين بالبنيان فضل الباني |
ما ينفع الماضين أن بقيت لهم |
|
خطط معمّرة بعمر فاني |
يقول فيها :
ولقد رأيت بدير هند منزلا |
|
ألما من الضّرّاء والحدثان |
يغضي كمستمع الهوان تغيّبت |
|
أنصاره وخلا من الأعوان |
بالي المعالم أطرقت شرفاته |
|
إطراق منجذب القرينة عاني |
أمقاصر الغزلان غيّرك البلى |
|
حتى غدوت مرابض الغزلان |
وملاعب الإنس الجميع طوى الرّدى |
|
منهم فصرت ملاعب الجنّان |
ومنها :
__________________
(١) ديوان الشريف الرضي ج ٢ ص ٤٦٨.
(٢) شمّ : جمع أشمّ ، وهو العالي المرتفع. الأعطان : مبارك الإبل ، واحدها عطن ، كني بذلك عن الشرف واليسار.