ومنها أنه لقيته ـ وقد عاد من بعض غزواته ـ امرأة نغصّت عليه بلوغ مناه وشهواته ، وقالت له : يا منصور ، استمع ندائي ، فأنت من طيب عيشك وأنا في بكائي ، فسألها عن مصيبتها التي عمّتها وغمّتها ، فذكرت له أن لها ابنا أسيرا في بلاد سمّتها ، وأنها لا يهنأ عيشها لفقده ، ولا يخبو ضرام قلقلها من وقده ، وأنشد لسان حالها : [مجزوء الكامل]
يا ذلك الملك العليّ |
|
ويح الشّجيّ من الخليّ |
(١) فرحّب المنصور بها ، وأظهر الرقة بسببها ، وخرج من القابلة إلى تلك المدينة التي فيها ابنها وجاس أقطارها وتخللها ، حتى دوّخها إذ أناخ عليها بكلكله (٢) وذللها ، وأعراها من حماتها وببنود الإسلام المنصورة ظلّلها ، وخلّص جميع من فيها من الأسرى ، وجلبت عوامله إلى قلوب الكفرة كسرا ، وانقلبت عيون الأعداء حسرى ، وتلا لسان حال المرأة : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥)) [الشرح : ٥ ، ٦].
فهكذا تكون الهمة السلطانية ، والنخوة الإيمانية ، فالله سبحانه يروّح تلك الأرواح في الجنان ، ويرقى درجاتها ويعاملها بمحض الفضل والامتنان.
وقد تذكرت هنا والحديث شجون (٣) ، وبذكر (٤) المناسبات يبلغ الطلاب ما يرجون ، كتابا كتبه الأديب الكاتب أبو محمد ابن الإمام الحافظ محدث الأندلس أبي عمر بن عبد البر النّميري ، إلى المنصور بن أبي عامر ، وهو من ذرية المنصور الكبير الذي كنا نتحدث في أخباره ، يمت إليه بسلفه ومعاملتهم لمن تقدم من آبائه بتعظيم قدره وإكباره ، وهو : عمّر الله ببقاء سيدي (٥) ذي السابقتين بهجة أوطانه ، وملّكه عنان زمانه ، ومدّ عليه ظلال أمانه ، أنى أبقى الله الملك الكريم ، والسيد الزعيم ، لما أضاءت لي أهلّة مفاخركم في سماء الفخار ، وأشرقت شموس مكارمكم على مفارق الأحرار ، وأبصرت شمائلك الزهر تهدى إليك من الهمم محامدها (٦) ، ومحاسنك الغر توقظ لك من الآمال رواقدها (٧) ، أيقنت أنه بحقّ انقادت لك
__________________
(١) الشطر الثاني من البيت أخذ من بيت لأبي تمام وتمامه :
أيا ويح الشجي من الخلي |
|
وبالي الربع من إحدى بلي |
وفي ب : أيا ويح ؛ فيكون من بحر الوافر.
(٢) الكلكل : الصدر ، وأناخ عليها بكلكله : أي نال منها كثيرا.
(٣) الحديث شجون : أي أنواع وضروب ، يتصل بعضها ببعض. وشجون جمع شجن وهو الشعبة من كل شيء.
(٤) في ب : وفي ذكر.
(٥) في ب : ببقاء مولاي.
(٦) في ب : الهمم كامنها.
(٧) في ب : من الآمال نائمها.